الأربعاء 25 / جمادى الأولى / 1446 - 27 / نوفمبر 2024
10- الأصفهانية، التأسيس. (القواعد 140-151)
تاريخ النشر: ٠٢ / محرّم / ١٤٣٣
التحميل: 5309
مرات الإستماع: 3203

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فقال المؤلف -رحمه الله-: الفاضل إذا تأمل غاية ما يذكره المتكلمون والفلاسفة من الطرق العقلية وجد الصواب منها يعود إلى بعض ما ذُكر في القرآن من الطرق العقلية، وفي طرق القرآن من تمام البيان والتحقيق أمور عظيمة لا يقاربها بيان ولا تحقيق.

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فلما كان المتكلمون ومن يتلقون عنهم من أهل الفلسفة يزعمون أنهم أصحاب العقول، والحجج العقلية، ومن ثَمّ فإنهم جعلوا ذلك مقدماً على الوحي.

قول شيخ الإسلام -رحمه الله-: "الفاضل...، إلى آخره"، وقد ذكر هذا الكلام عند قول الأصفهاني صاحب الرسالة التي يشرحها شيخ الإسلام وعرفنا أنها على طريقة المتكلمين، ذكرها عند قوله: "فالدليل على وجوده الممكنات؛ لاستحالة وجودها بنفسها، واستحالة وجوده بممكن آخر ضرورةَ استغناء المعلول بعلته عن كل ما سواه، وافتقار الممكن إلى علته"[1].

أنا أوردت هذا لسببين:   

الأمر الأول: هذا نموذج من هذا المتن المختصر في العقيدة لدى المتكلمين، يحفظونه ويستشرحونه، ولما جاء شيخ الإسلام أصروا عليه أن يشرحه، فكتبهم بهذه الطريقة -نسأل الله العافية- أبعد ما تكون عن الوحي الذي جاء به النبي ﷺ، كأنك تقرأ في كتب الفلسفة، والمنطق، هذه عقائدهم.

الأمر الثاني: هذا الكلام كما ترون بهذا الغموض؛ حيث يجبُن عامة الناس عن تفسيره، ولربما لم يفهموا منه شيئاً، ويظن الظان أن تحته شيئًا، وليس تحته شيء، يعني غاية ما هنالك من هذا الكلام الذي يذكره هذا المتكلم من الأشاعرة إثبات وجود واجب، وهذه قضية تعتبر مسلّمة من المسلمات، لابد من وجودٍ واجب، ووجود ممكن، إما واجب وإما ممكن، أنا لا أقصد الآن إزعاجكم بمثل هذا الكلام الذي ليس تحته شيء، لكن هذا الكلام الذي يقرؤه من يقرؤه ويظن أن تحته من المعاني الشيء الكثير ليس تحته شيء، يريد أن يثبت أنه لابد من وجودٍ واجب، أي ووجود يقابله وهو الوجود الممكن، نحن وجودنا يعتبر وجودًا ممكنًا، ووجود الخالق وجود واجب، طيب إذا أثبت وجود الواجب هل هذه قضية ينازع فيها الناس؟ ما ينازع فيها أحد، فهو يثبت أن الماء ماء.

إذا كان هؤلاء من الأساطين في العلوم الكلامية الذين يقول الواحد منهم: "لقد خضت البحر الخضم، وخلّيت أهل الإسلام وعلومهم ودخلت فيما نهوني عنه"[2]، وقال أحدهم عند الموت: "أموت وما علمت شيئاً إلا أن الممكن يفتقر إلى الواجب، ثم قال: الافتقار وصف عدمي أموت وما علمت شيئاً"[3].

يقول: ما عرفت شيئاً، عرفت أن المعدوم يفتقر إلى الموجد، مع أن المعدوم غير موجود، إذن ما علمت شيئاً، هذا غاية ما توصل إليه بعد الخوض، كما قيل عن الغزالي، يقول عنه شيخ الإسلام وقاله غيره أيضاً: "دخل في بطن الفلاسفة، ثم أراد أن يخرج منهم فما قدر"[4]، وإذا قرأت كلامه في بعض القضايا المتصلة بالاعتقاد فإنه يوافق أهل وحدة الوجود في ظاهر كلامه، ويوافق الفلاسفة في كثير منه، ثم رجع بعد ذلك في آخر حياته، كما رجع الجويني، وفي وصية الرازي ما يدل على رجوعه، له وصية جيدة ومفيدة تدل على رجوعه، وهو الذي اشتهر عنه النقل، وإن كان ذلك من قول غيره:

نِهايةُ إقدامِ العُقولِ عِقالُ وغاية سعي العالمين ضلالُ
وأرواحنا في وحْشةٍ من جسومنا وغاية دنيانا أذًى ووبال
ولم نستفد من بحثنا طولَ عمرنا سـوى أنْ جمعـنا فيه قيل وقالوا[5].

هذه النتيجة، -نسأل الله العافية- فهذا الذي توصل إليه هؤلاء، وهم جبال في العلوم الكلامية، فكيف بمن قرأ كُتيّبين، أو ثلاثة كتيبات من دار الساقي أو من دار الجمل ونحوهما مترجمة، أو لبعض المنحرفين العرب وظن أنه قد أخذ بأزمّة الدلائل العقلية، ووصل إلى ما لم يصل إليه أهل زمانه، ثم بدأ يحكِّم عقله في المنقول -في الوحي- ويرى أنه في غنى عن علماء المسلمين، وعن علومهم، ويعيب على من يأتي، ويحضر الدروس، ويقول: لا تؤجِّر عقلك لهؤلاء، عندك عقل تفكر فيه، والعمر تسع عشرة سنة؟.

هذه أبواب من الضلالة، ما عادت المسألة شهوة عابرة يعافسها الإنسان، ثم قد يندم ويتوب، الآن شُبه وضلالات قد تكون راسخة في نفوس هؤلاء يصعب استخراجها، وتتحول شهواتهم وانحرافاتهم السلوكية إلى نوع فلسفات يبررون بها ضعفهم وقعودهم عن طاعة الله وطاعة رسوله ﷺ ويتبجحون، ويجاهرون بالمعاصي؛حيث صاروا يستحلونها، فهذه ورطة ينبغي للإنسان أن يتوقاها، وأن يحذر منها.

فالمقصود أن شيخ الإسلام يقول هذا الكلام ليس تحته شيء، ومن ثَمّ يذكر هذا الكلام الذي هو في غاية الأهمية: أن الفاضل إذا تأمل غاية ما يذكره المتكلمون والفلاسفة من الطرق العقلية وجد الصواب منها يعود إلى بعض ما ذكر في القرآن من الطرق العقلية؛ ولهذا ذكرت لكم مراراً أنك تجد الكلام الكثير، والتفصيل الطويل الذي يوجد ما يدل عليه وزيادة في جملة من القرآن، وتقوم عليه مدارس غربية من الفلسفات المعاصرة، وهذه المدارس قد تختلف فيما بينها، والقضية ملخصة في كتاب الله بربع آية، مثل قوله تعالى: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا ۝ وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9-10]، مدارس، ما هي التزكية هل هي شيء ظاهر، أو في الشيء الباطن؟ زكى نفسه يعني، يقول: وفي طرق القرآن من تمام البيان والتحقيق أمور عظيمة لا يقاربها يبان ولا تحقيق.

فعليكم بالعلوم النقلية الكتاب والسنة، والعناية بها، ودراستها، وفهمها، وتدبرها، واستشراحها، فالصيد في جوف الفراء، العلم فيها، وكما يقول الشافعي -رحمه الله-: "جميع ما تقوله الأمة -يعني العلماء- فهو شرح للسنة، وكل ما في السنة فهو شرح للقرآن، وكل ما في القرآن فهو شرح لأسماء الله وصفاته"[6].

فمن أراد العلم الحقيقي فعليه بهذه العلوم المعصومة الكتاب، وما صح من سنة رسول الله ﷺ هذا هو العلم.

قال -رحمه الله-: الصفة إذا قامت بمحل عاد حكمها إلى ذلك المحل، فكان هو الموصوف بها، ولا يعود إلى غيره، واشتُق لذلك المحل من تلك الصفة اسم إذا كانت تلك الصفة مما يُشتق لمحلها منها اسم، ولا يشتق الاسم لمحل لم يقم به تلك الصفة.

هذا يرد فيه شيخ الإسلام -رحمه الله- على من قال: إن الصفات الفعلية كالكلام تقوم بغيره، فالمعتزلة يقولون: خلق الكلام في الشجرة، فموسى سمعه من الشجرة، سمع كلاماً مخلوقاً، هكذا يقولون بناء على أصلهم في مسألة تعدد القدماء، ولما ناظرهم في ذلك الأشاعرة، الأشاعرة تورطوا فادعوا أن الكلام في المعنى قديم، وأن الألفاظ حادثة، والقديم: قالوا: لا تبعّض فيه، ولا تعاقب، ولا انقضاء، وهو معنى واحد قائم في النفس، هكذا زعموا.

وهذا من أبطل الباطل، وهو أبطل من قول المعتزلة، فهنا يرد عليهم بقضية عقلية واقعية دل عليها أيضاً النقل، والوحي، وهي مدركة لدى الناس أجمعين، فحينما يقال: فلان متكلم أو يتكلم فالكلام يقوم به، لا أن كلامه يقوم بهذه السارية، وحينما يقال: بأن فلانًا ينزل، أو يغضب، أو يرضى أو نحو ذلك من الأوصاف، فإن ذلك لا يعني أن هذه الصفات تقوم بغيره، حينما يقال: إنه رحيم، يرحم، ليس معنى ذلك أن رحمته موجودة في غيره، فالذين قالوا هذا هم المعتزلة بناء على الأصل الفاسد عندهم لما ناظروا الفلاسفة وألزمهم أولئك أنهم إن أثبتوا الصفات فيلزم منه تعدد القدماء، والقديم لازم أن يكون واحدًا، فما عرفوا كيف يجيبونهم، وأهل السنة يقولون: الصفات ملازمة للذات لا تنفك عنها، ولا يقال: إن الصفات هي الذات ولا غير الذات، وإنما يقال: الصفات ملازمة للذات ولا يمكن أن نتصور ذاتًا بلا صفات، لو أردت أن تصف العدم فإنك تنفي عنه جميع الأوصاف، كما يقولون في صفة الله . فالجهمية المحضة يقولون: لا يتكلم، ولا يسمع، ولا يبصر، ولا فوق، ولا تحت، ولا خارج العالم ولا داخله، ولا، ولا، العدم، ليس للعدم معنى غير هذا، فشيخ الإسلام -رحمه الله- يرد عليهم، وذكر أربع مسائل هنا، اثنتان عقليتان، واثنتان سمعيتان، لغويتان:  

الأولى: أن الصفة إذا قامت بمحل عاد حكمها إلى ذلك المحل فكان هو الموصوف بها، قامت الصفة بمحل، الكلام قام بزيد، فزيد يوصف بأنه متكلم، الجناية قامت بعمرو، فعمرو هو الجاني.

وهذه قضية يقر بها أيضاً أهل المنطق في منطقهم، في أصلها يعني، ويقر بها من تابعهم من الأصوليين في كتب الأصول حتى إن صاحب المراقي يقول:

فما كسارقٍ لدى المؤسس حقيقةٌ في حالة التلبُّس

المؤسس يعني الرازي.

حقيقةٌ في حالة التلبُّس: يعني حال التلبس بالسرقة، فهم يقرون بهذا في كتب الأصول، فإذا قيل: سارق فهذه صفة حقيقية قامت بهذا، فقيل عنه: سارق، اسم فاعل؛ وذلك من قبيل الوصف -الصفات المشتقة، لكن إذا جاءوا للعقيدة قالوا كلاماً آخر.

الثانية: قال: ولا يعود إلى غيره، إذا قام الكلام بزيد ما نقول: الذي يوصف بالكلام هو عمرو، إذا قامت هذه الجناية بزيد لا نقول: إن الجاني هو عمرو، وإنما من قامت به، واشتُق لذلك المحل من تلك الصفة اسم إذا كانت تلك الصفة مما يشتق لمحلها منه اسم فيقال: متكلم، يقال: سارق، يقال: جانٍ، زانٍ، يُشتق له منها اسم، طبعاً لا يقصد هنا أن الله يشتق له من الصفات أسماء، وإنما أسماء الله مشتقة منها الصفات، أسماء الله لا تشتق لا نسميه نحن، فباب الوصف أوسع من باب الاسم، فما كل صفة لله منها اسم من صفاته -تبارك وتعالى- الفعلية مثلاً النزول في ثلث الليل الآخر، المجيء في يوم القيامة: وَجَاءَ رَبُّكَ [الفجر: 22]، هل نقول: إن الله هو النازل والجائي، أو نحو ذلك؟    

الجواب: لا، الله يتكلم، فلا نقول: الله من أسمائه المتكلم؛ لأن الأسماء توقيفية,  يعني: أن ذلك إنما يُتلقى من الوحي لا نسميه بغير ما سمى به نفسه، فدائرة الأسماء أضيق من دائرة الصفات، ودائرة الصفات أضيق من دائرة الأفعال، ودائرة الخبر أوسع من دائرة الصفة والاسم؛ ولهذا ممكن أن نقول ونحن نعبر في التفسير مثلاً: إن الله يحقق هذا المعنى ويقرر هذه القضية، ويدفع الوهم عن نفس السامع مثلاً، ما يأتي إنسان ويقول: يحقق، يدفع، وأين الدليل من الكتاب أو من السنة؟

نقول له: باب الخبر أوسع من باب الوصف، وباب الوصف أوسع من باب التسمية، ذكرت هذا؛ لأن كثيرًا من الإخوان يسألون عن هذه القصية، هل لنا أن نعبر أو لا؟ الأسماء هل هي مأخوذة من الصفات، أو الصفات مأخوذة من الأسماء؟

المهم أن هذا هو الأمر الثاني العقلي أنه لا يعود إلى غيره، هذه قضية يقر بها العقلاء، هاتان قضيتان عقليتان.

يقول: وقضيتان سمعيتان وهما الثالثة والرابعة، وقال: واشتُق لذلك المحل من تلك الصفة اسم إذا كانت تلك الصفة مما يشتق لمحلها منها اسم، فالله يقول: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهمَا [المائدة: 38]، تُقطع يدُ واحدٍ آخر؟ تقطع يد من تلبس بالسرقة، الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا [النور:2] من تلبس بهذا الفعل.

الرابعة: ولا يشتق الاسم لمحل لم يقم به تلك الصفة، هاتان الأخيرتان هما قضيتان سمعيتان لغويتان، يعني: تُعرف في لغة العرب، يعني: كيف الأسماء في اللغة والأوصاف المشتقة، الأسماء: أعلام محضة زيد وعمرو الذي سماه به أبوه في غير أسماء الله، وأسماء القرآن، وأسماء النبي ﷺ، باقي الأسماء أسماؤنا نحن هي مجرد أعلام محضة، لا تدل على معانٍ فينا، فقد يُسمَّى الرجل بصالح وليس كذلك، لكن الأوصاف المشتقة اسم الفاعل، واسم المفعول، والصفة المشبهة، تقول: زيد ضارب، من الذي فعل الضرب وصدر منه؟ هو زيد، زيد مضروب من الذي وقع عليه الضرب؟هو زيد، لا يمكن أن يكون ذلك قام بغيره.

تقول: زيد مثلاً يمشي، أو ماشٍ، زيد قائم، زيد ساجد، راكع، مصلٍّ، هذه أوصاف، لا يمكن أن يوصف بها من لم تقم به، هذه قضية في اللغة، وإلا فكيف يقال: راكع، ساجد، نائم؟، نحن نتحدث بهذا، أنتم تظنون أن هذه المعاني ضخمة، ولربما الإنسان ينقبض منها ويظن أنها غير مفهومة وتحتاج إلى جهد، لا، ليس كذلك، هذا مما نتعاطاه نحن، يتعاطاه الطفل الصغير، لكن ابتلينا بمثل هذه العبارات -عبارات المتكلمين- فكان لابد من تقريبها، وإيضاحها؛ حتى يتبين لك أنه ما تحتها شيء، عبارات كبيرة، ولكن ما تحتها شيء، وإلا فهو مما يتعاطاه الناس، ويعرفه العجائز والأطفال، فهذا نموذج يسير، وكتب شيخ الإسلام مثل: "الأصفهانية"، ومثل: "درء التعارض"، ومثل: "نقض تأسيس الرازي"، و"الرد على المنطقيين"، وأمثال هذه الكتب مليئة بهذه الحجج العقلية.     

بعض العلماء المعاصرين يقول: إنه قرأ مفصل الاعتقاد من الفتاوى المجلد الأول أربع مرات، يقول: وفي كل مرة أفهم أشياء ما فهمتها، وبقيت أشياء لم أفهمها، حدثني أحد العلماء بهذا يقول: قرأته مع فلان، عالم آخر، علماء كبار في السن شابوا في العلم، وتخصص أحد هؤلاء في العقيدة، يعني: عُرف واشتهر بالعقيدة، ويقول: قرأت مفصل الاعتقاد أربع مرات، كل مرة نستخرج أشياء ما فهمناها من قبل، وبقيت أشياء لم نفهمها، لاحظ العقول، أقصد من هذا أن علماء أهل السنة والجماعة عندهم من العلوم الجمة العقلية والنقلية ما لا يقادر قدره، وذلك يرجع إلى بعض المعاني التي في الكتاب والسنة. 

فمن رام العلم فليسلك طريقه، وليس العلم بعبارات مزوقة يرددها الإنسان ليس تحتها حقيقة، أقول ذلك؛ لأن الكثيرين فتنوا ببعض الكتابات، فقرأ أربع روايات، ثم قرأ أربعة كتيبات، ثم صار يكتب بتويتر والفيس بوك أشياء قد تكون كفراً وهو لا يدري، هذه فتنة في هذه الأيام، نسأل الله أن يحفظنا وإياكم من مضلات الفتن.

قال -رحمه الله-: التمييز بين الصادق والكاذب له طرق كثيرة فيما هو دون دعوى النبوة، فكيف بدعوى النبوة؟ ومعلوم أن من ادعى النبوة إما أن يكون من أكمل الناس وأفضلهم، وإما أن يكون من أنقص الناس وأرذلهم.

هذا الكلام هنا ذكره شيخ الإسلام -رحمه الله- في الرد على قول المصنف صاحب الكتاب الأصلي الأصفهاني بأن النبوة تعرف بالمعجزة، وهذه مسألة مهمة أرجو أن تتنبهوا لها؛ لكثرة ما يقع من الخلط والخطأ فيها، وبإذن الله أنها تنفعكم في قراءاتكم وفي دراساتكم حتى إنك تجد في كثير من كتب أهل السنة، وكتب المعاصرين بالذات في تعريف المعجزة ما يوافقون به تعريف المتكلمين، أليسوا يقولون: إن المعجزة أمر خارق للعادة، مقرون بالتحدي مع دعوى النبوة؟ هذا تعريف المتكلمين للمعجزة.

فالأصفهاني لما ألف هذه الرسالة في العقيدة من القضايا المتصلة بالاعتقاد قضية النبوة والوحي، وطريق إثبات النبوة عند المتكلمين هو المعجزة، فشيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- يرد على كلامه، فيقول: إن القضية لا تقتصر على هذا.

ودعوني أقرب لكم القضية؛ لأنها مهمة بعض الشيء مما قد يخرج قليلاً عما ذكره شيخ الإسلام، قولهم هنا: إن المعجزة هي أمر خارق للعادة، أول شيء تسمية المعجزة هذه تسمية حادثة ليست في الكتاب ولا في السنة، وإنما كانت تسمى الآية، آيات الأنبياء: وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ [الإسراء:101]، وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ [القمر: 2]، وَلَقَدْ جَاءَهمْ مِنَ الْأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ [القمر: 4]، فهذه يقال لها: آيات الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- وهي التي يقول لها المتقدمون: دلائل النبوة.

دلائل النبوة، وآيات الأنبياء على نوعين اثنين:    

النوع الأول: ما يكون خارقاً للعادة، وهذه التي سماها المتأخرون بالمعجزة، مثل: انشقاق القمر، وعصا موسى، وناقة صالح -عليهم الصلاة والسلام- ونزول القرآن، هذا القرآن هو معجزة خارقة للعادة، تحدى الله به، فهذه خوارق، هذا النوع الأول من آيات الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام-.

النوع الثاني: ما ليس بخارق أصلاً، أشياء كثيرة جدًّا دلائل النبوة غير الخوارق مثل: مجرد رؤية وجهه، مجرد ما يراه يقول: عرفت أن وجهه ليس بوجه كذاب[7]، قال هذا عبد الله بن سلام لما هاجر النبي ﷺ إلى المدينة، جاء إليه، يقول: مجرد ما رأيت وجهه عرفت أنه ليس بوجه كذاب ﷺ فهذا من دلائل النبوة.

سؤالات هرقل المعروفة لما سأل أبا سفيان ومن معه، هذه السؤالات التي سأله إياها، هل سأله عن معجزة واحدة؟ أبداً ما سأله عن معجزة واحدة، سأل عما يدعو إليه، وسأل عن نسبه، وهل كان في أباه مِن ملِك؟ وهل يرتد أصحابه سخطة لدينهم بعد أن دخلوا فيه؟ وسأل عن حالهم معه هل يدال عليهم أو يدالون عليه؟ هذه ما فيها ولا معجزة، ما سأل عن معجزة، ثم لما سمع الإجابة قال: إن كان كما تقول فسيملك ما تحت قدميّ[8].   

فهذه السؤلات هي عن دلائل النبوة من النوع الثاني الذي هو من الدلائل غير المعجزات، ما يدعو إليه، يدعو إلى صلة الرحم، البر، الإحسان، وما إلى ذلك من المعاني الكريمة، يدعو إلى التوحيد، فهذا كله من دلائل نبوته، وحسان يقول:

لو لم تكن فيه آياتٌ مبيِّنةٌ كانت بديهته تأتيك بالخبرِ[9]

بمجرد ما تقع العين عليه تعرف أنه ليس بوجه كذاب، وإذا كان الناس يعرفون الصادق من الكاذب من الناس، وتمتد القلوب والنفوس إلى من تعرف صدقه، وتنفر وتنقبض ممن عرفوا كذبه، فكيف بالأنبياء الذين هم أئمة الصادقين -عليهم الصلاة والسلام-؟

إذا كان في أتباع الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- من ترى فيه من نضارة الوجه، وحسن السمت والهدي، واستقامة الظاهر، والعمل والحال مما ينبئ عن استقامة وصلاح الاعتقاد، وسلوك الصراط المستقيم، فكيف برؤية نبي من الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام-؟ لو كانت الوجوه تشرق بالنور الحقيقي لأضاءوا الدنيا.

فالمقصود أن هذه من دلائل النبوة، لا يُحتاج إلى المعجزة؛ ولهذا يقولون: هل جاء هود ﷺ بمعجزة من المعجزات؟ يقولون: لأنه ما ذُكر، ولأن قومه قالوا: مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ [هود: 53]، نقول: لا يلزم أنه ما جاءهم بمعجزة، فالنبي ﷺ يقول: ما من الأنبياء نبي إلا أعطي ما مثله آمن عليه البشر[10].

يعني: أنه أمرٌ يُلقمهم الحجة، فكون أنهم يقولون: مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ هم مكابرون، وكونها لم تذكر لا يعني أنها غير موجودة، وبعضهم -كما تجدون في شرح الطحاوية- يقول: إن آية هود ﷺ أنه تحداهم وهو رجل واحد، وقال لهم: فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ ۝ إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا [هود: 55-56]، واحد يتحدى أمة، نقول: هذا من دلائل النبوة، ولكن ليس من المعجزات؛ لأنه يمكن لأحد أتباع الأنبياء أن يقوم ويتحدى كل الناس أليس كذلك؟.

إذن صار عندنا آيات الأنبياء ودلائل النبوة على نوعين: معجز، وغير معجز، وإذا كانت الدلائل على هذين النوعين فالمعجز هو خارق للعادة، يكون على يد نبي أو تابع لنبي، هذه الجملة الأخيرة المعطوفة "أو تابع لنبي" هذه هي التي سماها المتأخرون بكرامات الأولياء، أمور خارقة للعادة تقع للأولياء، والواقع أنها تابعة لمعجزات الأنبياء؛ لأنها ما وقعت لهؤلاء الأولياء إلا لاتباعهم للأنبياء، فكل ما يقع لأتباع الأنبياء من الكرامات فذلك من دلائل نبوة الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام-.

كرامات الأولياء أمور خارقة يقصدون بها وقعت لأتباع الأنبياء، هي في الواقع عائدة إلى معجزات الأنبياء؛ لأن الله أيدهم بذلك، لكن لا مشاحة في الاصطلاح، يعني كون هذه الخاصة بالنبي تسمى معجزة، والتي تكون لتابعه كرامة لا إشكال إذا فُهم المعنى، اصطلاح ولا مشاحة في الاصطلاح.

لكن قول هؤلاء من المتكلمين: "المعجزة أمر خارق للعادة، مقرون بالتحدي" فقولهم: "مقرون بالتحدي" هذه مشهورة جدًّا وتقرءونها في الكتب، وهي غير صحيحة، وهذه جاءت ودخلت من قِبل المتكلمين.

نعطيكم أمثلة: مقرون بالتحدي، فهذه الأمور الخارقة للعادة هل كلها كانت مقرونة بالتحدي تسبيح الطعام، تكثير الطعام مع أصحابه، وأحياناً لا يوجد أحد كما في حديث جابر في صحيح مسلم أن النبي ﷺ مال عن الطريق وهو في سفر، فتبعه جابر بإداوة، أو نحو ذلك؛ ليقدم للنبي ﷺ شيئاً يحتاج إليه إذا قضى حاجته، فالنبي ﷺ لم يشعر بجابر، فلم يجد شيئاً يستتر به فإذا شجرتان بشاطئ الوادي، فانطلق رسول الله ﷺ إلى إحداهما، فأخذ بغصن من أغصانها، فقال: انقادي عليّ بإذن الله فانقادت معه كالبعير المخشوش، الذي يصانع قائده، حتى أتى الشجرة الأخرى، فأخذ بغصن من أغصانها، فقال: انقادي عليّ بإذن الله، فانقادت معه كذلك، حتى إذا كان بالمَنصف مما بينهما لَأَم بينهما -يعني جمعهما- فقال: التئما عليّ بإذن الله فالتأمتا[11]، ثم قضى حاجته، جابر يقول: فخشيت أن يراني فأسرعت، ثم لما قضى حاجته قال: ارجعا فرجعت كل شجرة مكانها، فهذه معجزة، لكن هل كانت بحضرة الناس؟ أبداً، هل كانت للتحدي؟ أبداً، هذه في خاصته ﷺ واطلع عليها جابر ولو لم يطلع عليها جابر لم نعلم بها -والله أعلم-فما كل المعجزات يقصد بها التحدي.

تكثير الطعام[12]، قصعة تكفي لأهل الخندق جميعاً، جيش يكفيهم طعام من عَناق -صغير المعز- وبرمة من الخبز، أو الطعام، أو الثريد، يكفي جيشًا، ويبقى كما هو.  

إناء اللبن، فحديث أبي هريرة، هؤلاء يدخلون يشربون جميعاً يدير عليهم هذا الإناء[13]، ثم بعد ذلك يبقى لم يتغير إن لم يكن في زيادة، هذه ليست للتحدي.

فما كل المعجزات يقصد بها التحدي، فقولهم: مقرون بالتحدي هذا كلام غير صحيح، أحياناً يكون مقرونًا بالتحدي، وأحياناً لا يكون مقروناً بالتحدي، لكن لماذا قال المتكلمون: مقرون بالتحدي؟

الذي جعلهم يقولون هذا الكلام؛ كونهم لا يفرقون بين الخوارق، ما كان من قبيل المعجزات، وما كان من قبيل خوارق السحرة، فقالوا: هذا يلتبس بخوارق السحرة، إذن ما العمل؟ قالوا: نقول: مقرون بالتحدي، قيل: يمكن للساحر أن يتحدى؟ قالوا: مع دعوى النبوة، لا يلزم أن يكون مع دعوى النبوة قد تأتي خوارق للنبي كما مثلتُ وليست مقرونة لا بالتحدي، ولا مع دعوى النبوة في الحال، لكن الذي جعلهم يقولون مثل هذا الكلام أنهم لا يفرقون في الخوارق بين معجزات الأنبياء وبين خوارق السحرة.    

والواقع أن الفرق كما بين السماء والأرض في حال تلك الخوارق، وفي حال أصحابها، ومَن جرت على أيديهم؛ فإذا نظرت إليها من حيث هي فما يجري على يد السحرة ليس بخارق لعادة جنس البشر، يمكن أن يأتي ساحر آخر يفعل مثله أو أسوأ منه، أليس كذلك؟ الآن اجتمع السحرة ليقابلوا موسى ﷺ كما طلب فرعون، هذا بناء على أن موسى في دعواهم الكذابة ساحر، ومن ثَمّ فسيقابلون هذا السحر فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ [طه: 58]، فجاءوا بالحبال والعصيّ مادام أن عصا موسى هي الآية وتحولت إلى حية، قالوا: نحن سنأتي بحبال وعصي وننظر كيف تكون الحيات، فجاءت عصا موسى بشيء لا قبل لهم به، وهم علماء بالسحر بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ [الشعراء: 37]، يعني متمرس، كبار السحرة وليسوا السحرة الصغار، سحّار، عليم بالسحر، فلما جاءت هذه الحية ضخمة جدًّا تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ [الأعراف: 117]، فورًا سجدوا وخضعوا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ ۝ رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ [الأعراف: 121، 122]، وتوعدهم فرعون، فقالوا له: لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ۝ إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّه خَيْرٌ وَأَبْقَى [طه: 72، 73]، وذكروا هذا الكلام العجيب في هذا الموقف الكبير، لمّا رأوا آية موسى عرفوا أن هذا خارق لعادة جميع البشر، هذا الفرق، أما خوارق السحرة فقد يأتي ساحر آخر يفعل مثله، وأكثر منه، إذن خوارق السحرة ليست خارقة لعادة جنس البشر، وإنما خارقة لعادة غيرهم، يعني: غير السحرة، أنا أراها خارقة، لكن الساحر الآخر يقول: هذه قديمة، أعمل لك أحسن منها، أليس كذلك؟  

أما حال الساحر فهو أبعد ما يكون، كلما تمرس بالسحر كلما كان أكثر ولوغاً وتمرغاً في الشر والفساد، والمنكر، والرذيلة، والوحل بجميع أنواعه، فالساحر عكس النبي، النبي في اتجاه، والساحر على الضد تماماً، فحال الساحر وما يدعو إليه، وما يشتغل به إلى غير ذلك هي أسوأ الأحوال، وكلما انغمس أكثر في السوء والشر كان ذلك أكثر إمعاناً في السحر، آيات الأنبياء عكس هذا تماماً، فهم لم يفرقوا بين آيات الأنبياء -معجزات الأنبياء- وبين خوارق السحرة، كلها خوارق عندهم، فقالوا: هذا يلتبس، إذن لابد من تحدٍّ، ولابد أن يكون مقروناً بدعوى النبوة، ونقول: لا يلزم ذلك. فهذا يُحتاج إليه في دراساتكم، في قراءاتكم، ولهذا لو أردنا أن نقول: ما معنى المعجزة عند أهل السنة؟

نحن نقول: آيات الأنبياء إجمالاً ليس المعجزات فقط: هي ما يظهره الله  على أيدي أنبيائه ورسله -عليهم الصلاة والسلام- من دلائل صدقهم، هذا بالنسبة لآيات الأنبياء.

وفيما يتعلق بالنوع الخاص الذي هو المعجز منها نقول: ما يظهره الله على أيدي الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- من خوارق العادات الدالة على صدقهم، لا نقول: مقرونة بالتحدي، أو دعوى النبوة، أو غير ذلك.

هي في الأصل راجعة لهذا، نزيد مثلاً: ما يظهره الله على أيدي الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- أو بعض أتباعهم من الخوارق مما يدل على صدق الأنبياء.

وإذا أردنا أن نعرِّف الكرامة لوحدها فنقول: ما يظهره الله من الخوارق للعادة على يد بعض أتباع الأنبياء تأييداً لهم، وهذا التأييد نوعان:

النوع الأول: هو في الحقيقة تأييد لما هم عليه من الحق، هذا في مقام المناظرة، مع أنهم لا يطلبونها، لكن قد تقع على أيديهم، مثل: لما رمى الأسود العنسي أبا مسلم الخولاني في النار ولم يحترق[14]، فهذا كان من جنس آية إبراهيم  فهذا يدل على صحة ما هو عليه من اتباع النبي ﷺ.

النوع الثاني: هو التأييد لهم هم، يعني كما قال شيخ الإسلام: إن الكرامات تكون أكثر بعد عصر الصحابة ؛ وذلك لأنهم بحاجة إلى مزيد من التثبيت، فقد يجوعون في مكان، وقد يعطشون، وقد يحصل لهم مكروه، فينجيهم الله بأمر خارق للعادة.

فكما يقول شيخ الإسلام -رحمه الله-: "التمييز بين الصادق والكاذب له طرق كثيرة، فيما هو دون دعوى النبوة، فكيف بدعوى النبوة؟"[15]، يعني: تنظر ماذا يقول، إلى ماذا يدعو، وتنظر إلى حاله وهيئته، ومن يتصل به، وما إلى ذلك، يقول: "ما من أحد ادعى النبوة من الكذابين إلا وقد ظهر عليه من الجهل والكذب والفجور، واستحواذ الشياطين عليه ما ظهر لمن له أدنى تمييز، وما من أحد ادعى النبوة من الصادقين إلا وقد ظهر عليه من الصدق والعلم والبر وأنواع الخيرات ما ظهر لمن له أدنى تمييز"[16].

فهنا يقول: ومعلوم أن من ادعى النبوة إما أن يكون من أكمل الناس وأفضلهم، وإما أن يكون من أنقص الناس وأرذلهم، مثل مسيلمة الكذاب، فضيحة إلى آخر الدهر، -نسأل الله العافية- إذا ذُكر ذُكر الكذب معه، وإذا سمعت قرآنه كما قال أبو بكر " أشهد أن هذا لم يخرج من إل"[17]، أي: رب، لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً [التوبة: 8]، أحد المعاني: يعني لا يرقبون فيهم الله.

"والطاحنات طحنًا فالعاجنات عجنًا، فالخابزات خبزًا، فاللاقمات لقمًا"، هذا قرآن مسيلمة الكذاب، سورة الفيل: "الفيل ما الفيل، وما أدراك ما الفيل، له خرطوم طويل، وذيل قصير"، ما شاء الله من الحقائق العلمية، والمعاني البلاغية، والإعجاز الرفيع.

فينبغي أن يدفن رأسه في التراب، -نسأل الله العافية- كيف تجرّأ على هذه الحماقات؟ وكيف فضح نفسه؟ ولذلك بعض الأدباء الذين حاولوا كابن المقفع، وبعض الفلاسفة مثل: الكندي لما طُلب منهم أن يحاكوا القرآن احتبسوا أياماً في بيوتهم، الكندي يقول: "فتحت المصحف فظهرت لي سورة المائدة، فنظرت في أول آية فوجدت أمراً، ونهياً، وتحليلاً، وتحريماً"، أمور مجتمعة في آية واحدة، يقول: "فهذا لا يمكن أن يؤتى بمثله"[18]، يقوله لتلامذته لما قالوا: هات لنا مثل القرآن، وأما ابن المقفع أو المتنبي أو من حاولوا فهؤلاء كانوا مباشرة يتلفون ما كتبوا، ولم يخرجوه فيفتضحوا.

قال -رحمه الله-: والكذاب يظهر في نفس ما يأمر به وما يخبِر عنه، وما يفعله ما يَبين به كذبه من وجوه كثيرة، والصادق يظهر في نفس ما يأمر به، وما يخبر عنه، ويفعله، يَظهر به صدقه من وجوه كثيرة.

وهذه تابعة للتي قبلها، وقد ذكرتُ مضامينها في الكلام السابق، معرفة الصادق من الكاذب.

قال -رحمه الله-: فمن عرف الرسول وصدقه ووفاءه ومطابقة قوله لعمله علم علماً يقيناً أنه ليس بشاعر، ولا كاهن، ولا كاذب.

هذا ذكره بعد قوله -تبارك وتعالى-: هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ ۝ تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ [الشعراء: 221، 222]، فالرسل -عليهم الصلاة والسلام- هم أصدق الناس، وأبر الناس؛ ولهذا كان النبي ﷺ يلقب بمكة قبل الوحي والنبوة بالصادق الأمين.

وأما الشياطين؛ فإنهم يتنزلون على كل أفاك أثيم, أفاك: كثير الإفك، والإفك: هو الكذب المبالغ فيه، يعني: كأنه يقلب الحقائق كما قال الله: وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى [النجم: 53]، وقرى قوم لوط "أفَكَها" يعني: قلبها الله عليهم، فالذي يقلب الحقائق يقال له: أفّاك، يعني أبلغ من كذاب، أعظم من كذاب، فالشياطين تتنزل على الأفاكين، أهل الآثام والإجرام، أما الرسل -عليهم الصلاة والسلام- فكانوا بخلاف ذلك؛ ولهذا قالوا: يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا [هود: 62]، أحد المعنيين المشهورين فيها: "مرجوًّا" يعني: لرجاحة عقلك، وحسن نظرك، ولما تتمتع به من أوصاف وأخلاق وأعمال كنا نرجوك أن تكون في حال من السيادة والريادة، ثم جئتنا تدعي أنك نبي يوحى إليك، هذه سيرة الأنبياء قبل النبوة، هم خيار قومهم.

قال -رحمه الله-: والنبوة مشتملة على علوم وأعمال لابد أن يتصف الرسول بها، وهي أشرف العلوم وأشرف الأعمال، فكيف يشتبه الصادق فيها بالكاذب؟ والعالِم لا يخلو من آثار النبوة والرسالة، ومحمد ﷺ قد جمع الله فيه أكمل الصفات وأفضلها التي يوصف بها الأنبياء في نفسه وأخلاقه، وفي دينه وشريعته وما جاء به، وفي آياته وبراهينه المتنوعة التي هي أكثر وأقوى وأوضح من جميع البراهين اليقينية الدالة على صدقه، وصحة ما جاء به.  

يعني: أن مضامين الرسالة، ومزاولات الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- تدل على حالهم، وصدقهم، وصحة دعوى النبوة منهم عليهم الصلاة والسلام؛ لأن هذا ذَكَره بعد أن قرر أن الناس يميزون بين الصادق والكاذب في الفنون، والعلوم، والمعارف، والصناعات، والمهن، حتى الأمور اليسيرة، يعني النجارة، والحدادة، والطب، والزراعة، وما إلى ذلك الناس يميزون فيه بين الدعيّ والأصيل.

يقول: الناس لا يخفى عليهم مثل هذه الأمور، فمن ادعى مثلاً دعوة كاذبة تبيّن صدقه من كذبه، تبيّن حاله، إذا ادعى الفقه مثلاً وليس من الفقه في شيء ينكشف، إذا ادعى أنه طبيب وهو نجار أو سباك ينكشف، إذا جئت للأضحية برجل قد ربط في وسطه حزاماً وضع ساطورًا، وسكينًا، ومسنًّا، وقال: أنا جزار، ثم جاء ولا يعرف كيف يذبح الأضحية، ولا يعرف كيف يسلخ، وكادت تموت بين يديه من غير ذبح، هذا يُظهر أنه فعلاً جزار، أو يُظهر أنه نجار أو سباك أو نحو ذلك؟ ينكشف ولابد.

فالشاهد أن الناس يميزون هذا في الصناعات، والعلوم، فكيف بالنبوة؟ يأتي رجل أمي، ويتحدى العالمين إلى قيام الساعة، ويأتي لهم بهذا العلم الجم، والأحكام، والقوانين، والنظم الذي تضمنها هذا الوحي، ويقول: هذا من عند الله  وليس بكلامي، ثم بعد ذلك يعجزون، ويتوقفون جميعاً إلى اليوم، وإلى أن تقوم الساعة، لا أحد استطاع أن يأتي بمثل هذا القرآن، أين البلغاء عبر القرون والعصور المتطاولة؟فهذا لا يخفى، لا يشتبه، فيقول: هذا كله مما تعرف به النبوة، هو يريد أن يناقش قول المصنف بأن النبوة لابد لها من معجزة، وأن المعجزة أمر خارق للعادة، وأنه ما تثبت النبوة إلا بالمعجزة، هو يقول: هناك أشياء كثيرة يعرف بها صدق الصادق من غيره، ولو لم تكن من قبيل خوارق العادات، فهو يناقش قضية أنه لابد من معجزة لإثبات النبوة، هذا الشرط الذي عند المتكلمين، ويقول لهم: ليس الأمر بهذا الإطلاق ، و إنما المسألة فيها تفصيل أكثر من هذا.

قال -رحمه الله-: ومن تأمل ما جاء به علم أن مثل هذا لا يصدر إلا عن أعلم الخلق، وأصدقهم، وأبرهم، وأن مثل هذا يمتنع صدوره عن كاذب متعمد للكذب، مفترٍ على الله بالكذب الصريح، أو مخطئ جاهل ضال، يظن أن الله أرسله ولم يرسله؛ لأن فيما أخبر به وما أمر به من الأحكام، والإتقان، وكشف الحقائق وهدي الخلائق وبيان ما يعلمه العقل جملة، ويعجز عن معرفته تفصيلاً ما يَبِين أنه من العلم والخبرة، والمعرفة في الغاية التي باين بها أعلم الخلق وأكملهم.

هذا ذكره شيخ الإسلام -رحمه الله- بعد أن ذكر أن أهل الكلام مقصرون -هم عند أنفسهم هم أهل الحجج والبراهين والتقريرات القطعية- فهو يقول: هم مقصرون في حجج الاستدلال على ما يجب تقريره من التوحيد والنبوة تقصيراً كثيراً جدًّا، ماذا يبقي بعد التوحيد والنبوة؟

حجج الاستدلال التي يوردونها يقول: ناقصة، كما أنهم كثيرًا ما يخطئون فيما يذكرونه من المسائل، ومن لم يعرف الحقائق يظن أن ما ذكروه هو الغاية في أصول الدين، والنهاية في دلائله ومسائله، فيورثه ذلك مخالفة الكتاب والسنة بل وصريح العقل في مواضع، ويورثه استضعافاً لكثير من أصولهم، وشكًّا فيما ذكروه من أصول الدين واسترابة، بل قد يورثه ترجيحاً لأقوال من يخالف الرسل من متفلسفة، وصابئين، ومشركين ونحوهم، حتى يبقى في الباطن منافقاً زنديقاً، وفي الظاهر متكلماً يذب عن النبوات، ولهذا قال أحمد وغيره: علماء الكلام زنادقة"[19]، لماذا قال ذلك الإمام أحمد؟ لأن هذا الجدل، وهذه العلوم الكلامية، وهذا النقص في النظر جعلهم في حال من القلق؛ ولهذا كان أحدهم عند الموت يقول لبعض من دخل عليه وهو يبكي: "أتدري ما تعتقد؟ قال: نعم، وقال: وأنت مطمئن به؟ قال: نعم، قال: فوالله ما أدري ما أعتقد، والله ما أدري ما أعتقد، والله ما أدري ما أعتقد"[20]

وأحسن منه ما نقل عن الجويني لما قال: "أموت على عقيدة عجائز نيسابور"[21].

والآخر الذي يقول: "أضع الملحفة على وجهي وأستلقي، وأقابل أقوال هؤلاء بأقوال هؤلاء، حجج هؤلاء بحجج هؤلاء حتى يستبين الصبح، ولم يترجح لي شيء"[22]، حيرة؛ وذلك لنقص علومهم، ولهذا يقول الإمام أحمد بأن علماء الكلام زنادقة، وما ارتدى أحد بالكلام إلا كان في قلبه غل على أهل الإسلام؛ لأنهم بنوا أصلهم على أصول فاسدة.

وهكذا من درس اليوم أو اشتغل بالفلسفات الغربية دون بصر بما جاء به الرسول ﷺ، الذين يدمنون قراءة الكتب أصلية، أو مترجمة، ثم يظهرون لنا على الشاشات على أنهم مفكرون، وأهل رأي، وخبراء، ومعرفة بالواقع أو بالسياسة أو ما إلى ذلك مما نسمع ويأتي بضلالات وحماقات وأشياء كبار وطوام فيجعل غاية ما هنالك مثلاً هو الحرية، الحرية قبل كل شيء، يجعل هذه الحرية مقدسة من غير قيد، حرية مطلقة، الحرية الغربية.

هؤلاء درسوا هذه الفلسفات الغربية -هذا من درس منهم- وتشربوها فصار في قلب الواحد منهم غل على أهل الإسلام؛ ولذلك تجد هؤلاء غالباً الواحد منهم أكثر من يكرهه ويعاديه هم العلماء الذين على منهاج النبوة، على منهج السلف الصالح ، هؤلاء هم أول عدو، فدائماً يلمزهم، ويغمزهم، ويصرح تارة، ويلمح تارة، كأنه ما في الدنيا أحد يحتاج الى أن يُبيَّن حاله من الضلال والانحراف -إن وُجد- إلا هؤلاء العلماء، ويُستضاف في قنوات، ويكتب في مقالات، وله مريدون، وله جمهور كبير، وأتباع، تجدهم في صفحته، ونحو ذلك، وتعليقات، وشكراً على مرورك، وشكراً على هذا التحرير والتقرير البديع، أي تحرير وتقرير بديع؟ هو مضاد لما جاء به الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- تماماً.

فكيف يقال هذا؟ وكيف يقبل مثل هذا الكلام؟ يعني أشياء تجدها عجيبة جدًّا، وتقول: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم، كيف الله وزع الهدى والضلال، والعقل وخلافه على البشر، كما وزع الأرزاق:وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ [البقرة: 93]، -فنسأل الله العافية- فيتشرب الإنسان الضلالة، فلا تخرج من قلبه.

فهؤلاء علماء الكلام، هذه العلوم الكلامية القديمة الفلسفات الغربية اليوم هي متفرعة عنها، فالآن العلوم الكلامية الجديدة هي هذه الفلسفات الغربية التي ابتلينا بها، وصار كثير من المثقفين يظن أنه يحصل، ويبدع، ويتميز إذا تقمص شيئاً من ذلك، والله المستعان.

قال -رحمه الله-: وفيه من الرحمة والمصلحة والهدى والخير ودلالة الخلق على ما ينفعهم ومنع ما يضرهم ما يبين أن ذلك صدر عن راحم بارٍّ، يقصد غاية الخير والمنفعة للخلق، ومن تم عمله وتم حسن قصده امتنع أن يكون كاذباً على الله يدعي هذه الدعوى العظيمة، وكذلك الأنبياء -صلوات الله عليهم-.

يعني: شيخ الإسلام الآن هو يقرر ما سبق أن المتكلمين يقولون: إن النبوة لا يمكن أن تثبت إلا بالمعجزة، فهو يقول: دلائلهم ناقصة، وقصّروا في إثبات الوحدانية والنبوة والوحي بهذه العلوم الكلامية والحجج في الاستدلال الناقصة تارة، وغير الصحيحة تارة أخرى، فهو يقرر هذا، ويقول: انظروا مضامين ما جاء به الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- يدل على صدقهم، يقول بأن الهدى والرحمة والمصلحة إلى آخره، هذا الذي يأتي به الأنبياء، ويدعون إليه، ويظهر من أوصافهم وأخلاقهم لا يمكن أن يكون هذا الذي يقوله ويأتي به كاذباً على الله وهو أبر الناس، ويدعوهم إلى البر والمعروف، والخير والرحمة وما إلى ذلك.

يقول شيخ الإسلام: إن هذه الطريق في إثبات النبوة يسلكها كل أحد، يعني: هذه لا تحتاج إلى معرفة خصائص النبوة أولاً، فلا تحتاج إلى دراسة، لا نحتاج أن ندرُس نقول: من هو النبي؟ متى يكون نبيًّا؟ ماذا يطلب منه؟ نلقي دروساً، أو دورات في مواصفات النبي، لا، يقول: هذه على البديهة يدركها كل أحد، الناس العامة إذا رأوه عرفوا أن هذا صادق أمين، أن هذا لا يمكن أن يكذب على الله ، ينظرون فيما جاء به، ويقولون: ما تدعو إليه حق وخير، ولا يمكن أن يصدر على يد الكذابين الأفاكين الذين يكذبون على الله ويفترون، فيقول: هذا مدرك لدى الجميع، هناك أشياء تحتاج من الإنسان إلى دراسة لربما، ولكن من الأشياء ما يكون على البديهة، هذه الطريق يعرفها ويسلكها في معرفة النبوة كل أحد.

قال -رحمه الله-: إذا استقرأ الإنسان ما علمه مما يجده في نوع الإنسان من أن كل من عظُم ظلمه للخلق وضرره لهم كانت عاقبته عاقبة سوء، وأُتبع اللعنة والذم، ومن عظُم نفعه للخلق وإحسانه إليهم كانت عاقبته عاقبة خير استدل بما عَلم على ما لم يعلم.

يعني هذه القضية كلية، الآن يقول بالاستقراء، إذا استقرأ الإنسان فإنه يعرف أن من كانت سيرته السوء، والشر، والظلم، والتعدي على الخلق، وما إلى ذلك، أن عاقبته تكون إلى سوء، والعكس بالعكس، فيقول: يستدل بهذا، يعني تستدل بما علمت على ما لم تعلم، يستدل بما علم على ما لم يعلم، ما الذي يستدل به مما علم؟

مثلاً: هو علم حالات معينة استقرأها في الواقع المعاصر، أو في الماضي فكل من يأتي فإنه يعرف حاله ومآله من خلال ما عرف، فيحكم بما عرف في السابق على ما لم يعرف، يعتبِر هذا بهذا.

فيقول: "استدل بما علم على ما لم يعلم"، وقد ذكر قبله ما يدل على صفات الأنبياء -عليهم الصلاة السلام- وما إلى ذلك، وصفات النبي ﷺ في القرآنأنه مثلاً: بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [التوبة: 128]، وأنه ﷺ: وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا ۝ وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا [الأحزاب: 45، 46]، وما إلى ذلك من صفاته ﷺ.

فيقول: هذه الأوصاف التي ذكرها الله في القرآن كونه بالمؤمنين رءوف رحيم، وأنه علمه الكتاب والحكمة، وعلمه ما لم يعلم، مثل هذا في القرآن كثير، وما فُطر فيه من المخلوقات دل على ذلك، يعني: ما فُطر في نفوس الناس يدل على ذلك، وفي نفس الإنسان عبرة تامة؛ فإن مَن نظر في خلق أعضائه من المنافع له، وما في تركيبها من الحكمة والمنفعة، مثل: كون ماء العين مالحاً لماذا؟ من أجل أن شحمة العين لا تتعفن، صمغة الأذن مرة؛ من أجل أن تقتل الحشرات التي تحاول الدخول إلى الرأس، ماء الفم عذب؛ ليسوغ الطعام، وكون الغدد اللعابية موزعة في أجزاء الفم؛ من أجل أن اللعاب يأتي من جميع النواحي، ما يكون من ناحية واحدة والباقي يصله بعد حين، فلا يستطيع أن يمضغ، فالغدد اللعابية في كل هذه الأماكن، وإذا جاء الطعام رآه الإنسان أو نحو ذلك وجد رائحته بدأت تزيد في الإفراز، فإذا انقضى جف اللعاب. 

وقل مثل ذلك: في كون العين بهذا التجويف، وفي أعلى منطقة؛ ليرى الأشياء، لو كانت العين في الساق أو في الركبة أو نحو ذلك، تكون معرضة للإصابات، وماذا عسى أن يرى؟

فهذه كلها تدل على حكمة الله  وعلى رحمته، وفيها من الآيات ما يبهر العقول، أن الخالق متصف بهذه الصفات، عليم، وحكيم، ورحيم، وقدير، وما إلى ذلك.

فيقول: هذه الأمور التي نشاهدها تدل على أمور أخرى، فهكذا بالنسبة للنبي ﷺ يقول: إذا عرفنا حاله فإننا نستدل بذلك على ما غاب؛ ولهذا قالت خديجة -رضي الله عنها- لما جاء النبي ﷺ ترعد فرائصه بعد ما نزل عليه: "كلا، والله لا يخزيك الله، إنك لتصل الرحم، وتقري الضيف، وتحمل الكَلّ، وتكسب المعدوم"[23]. فعرفت أن من اتصف بهذه الصفات الله لا يخزيه.

ولما عرضته على ورقة بن نوفل قال: "هذا الناموس الذي جاء به موسى"، فما رأى ولا معجزة، لكن هو عارف أنه صادق، وأنه لا يمكن أن يكذب على الله، ما كان ليتحرز من الكذب على الناس -كما قال هرقل- ثم يجترئ فيكذب على الله -تبارك وتعالى- فيستدل بما عَلم على ما لم يعلم، وشيخ الإسلام يريد أن يقرر هذا المعنى، يريد أن يقول لهؤلاء: النبوة لا تقتصر في إثباتها على المعجزة، ورقة بن نوفل ما رأى معجزة، وخديجة رضي الله عنها قالت هذا الكلام قبل أن ترى معجزة.

قال -رحمه الله-: كذلك سنته في الأنبياء الصادقين وأتباعهم من المؤمنين، وفي الكذابين والمكذبين بالحق أن هؤلاء ينصرهم، ويبقي لهم لسان صدق في الآخرين، وأولئك ينتقم منهم، ويجعل عليهم اللعنة.

قال بعد هذا الكلام: "حتى يُعلم أن الدولة ذات الظلم، والجبن، والبخل سريعة الانقضاء"[24]، وهذه الأوصافالثلاثة في هذا العصر تنطبق أكثر على هؤلاء الذين في سوريا الذين يقتلون الناس ويؤذونهم، ويتسلطون عليهم ويظلمونهم، فنسأل الله أن يعجل بهم.

فالمقصود أن العاقبة السيئة تكون للمجرمين والظالمين، وأن العاقبة الحسنة تكون للمؤمنين والمتقين: وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهمُ الْوَارِثِينَ ۝ وَنُمَكِّنَ لَهمْ فِي الْأَرْضِ [القصص: 5، 6]، فهذه سنته -تبارك وتعالى- التي لا تغالب، وإن تطاول الزمان على الناس، وظنوا أنهم لا ينصرون، فإن ألطاف الله أقرب مما يتوقعون.

قال -رحمه الله-: إذا عُلم أن محمداً رسول الله، وأن الله مصدقه في قوله: إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا  [الأعراف: 158]، فالرسول هو المخبر عن المرسل بما أمره أن يخبر به، عُلم بذلك أنه صادق فيما يخبر به عن الله.

شيخ الإسلام يذكر هذا الكلام، وهو الوجه السادس من الوجوه التي ذكرها تعليقاً على قول الأصفهاني فيما يسمونه بالقضايا السمعية، مثل: عذاب القبر، والجنة والنار، والصراط، وما إلى ذلك، أن هذه الأمور أخبر بها النبي ﷺ وهو الصادق، فيلزم صدقه، يسمونها قضايا سمعية، شيخ الإسلام يناقشهم من كل وجه، فهو تارة يقول لهم: هذه يوجد من أثبتها بطريق العقل أيضاً مع أن السمع جاء بها، وليس كما تتوهمون، يقول: مسألة البعث وجد من أثبتها بالعقل، والجزاء، والعقاب، وما إلى ذلك.

فشيخ الإسلام يقول بأن مثل هذه الأمور ثابتة، يقول: "إذا عُلم أن محمداً رسول الله، وأن الله مصدقه في قوله: إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا [الأعراف: 157]، فالرسول هو المخبر عن المرسل بما أمره أن يخير به، عُلم بذلك أنه صادق فيما يخبر به".

يريد أن يقول: إذا كنت تثبت أنه رسول، فينبغي أن تقبل التفاصيل، فإذا اعترضت على واحدمنها تقول: هذا ما دخل عقلي، هذا يناقض العقل، أو إذا جاء أحد وأنكر عذاب القبر، عذاب القبر ثابت عن النبي ﷺ نقول له: أنت تثبت أنه رسول أو لا؟

فإذا قال: إنه يثبت أنه رسول، نقول: إنه قال بأن الناس يعذبون في قبورهم[25]، فعليك أن تذعن، وأن تقبل مثل هذا، وتصدق به؛ لأنك قبلت أنه رسول مخبر عن الله، وقد أخبرنا بهذا الخبر.

إذا أخبرنا الصادق المصدوق بأن المرأة لها نصف الميراث مثلاً، هذا أخبرنا به الرسول ﷺ عن الله في القرآن، أوحى الله إليه بذلك، لو جاء واحد وقال: هذه قضية لا يقبلها العقل في العصر الحديث، المرأة مثل الرجل، لا فرق، لا في الميراث، ولا في غير الميراث، نقول له: تؤمن أنه رسول أو لا؟ يعني الأصفهاني يقول: لأنه أخبرنا الصادق، نحن نقول: أخبرنا الصادق ودل العقل على بعض هذا، فليس كل قضية دل عليها العقل لكن بعض الأشياء كنصف الميراث للمرأة لو جئنا نناقشها عقليًّا فهي متجهة كل الاتجاه، مُدرَكة، المرأة تستقبل وتخْزِن، والرجل ينفق ويبذل، المرأة ينفق عليها وليها من أب أو زوج وجوباً، وهي لا يجب عليها النفقة، المرأة يدفع لها المهر، والرجل يجمع حتى يدفع المهر والمرأة تختزنه، الرجل ينفق عليها إذا تزوجها، وهي تخزن مالها لا يجب عليها فيه إلا الزكاة، فإذا أُعطوا الميراث مَن الأحق في التفضيل الذي يخزن المال أو الذي يُطالَب بأنواع النفقات من دفع المهور، أو النفقات الأخرى عليها، وعلى غيرها، من ينفق عليها -ولو كانت غنية- وجوباً؟فالذي ينفق ويبذل غير الذي يخزن المال، ففضل عليها فكان لها نصف الميراث، هذا من الناحية العقلية، هذا هو العدل؛ ولذلك الإسلام ليس بدين مساواة، وإنما دين عدل، خطأ أن يقال: الإسلام دين مساواة، الإسلام جاء بالمساواة؟ الإسلام ما جاء بالمساواة، المساواة أحياناً تكون ظلمًا، وإنما هو دين العدالة.   

يقول: بأنه إذا عرف الإنسان أنه رسول الله، وآمن يجب أن يؤمن بكل التفاصيل، فإذا لم يذعن بذلك، قال: لا، أنا لا أثبت أنه رسول الله، هنا نحتاج أن نثبت له أنه رسول الله، نرتقي معه إلى هذا المستوى، هذا في المناظرة، لو جاء وقال: لا، أنا أثبت أنه رسول الله، لكن هذا الحديث أنا لا أقبله، أنا أقول: مدسوس في صحيح البخاري، هذا يحتاج أن نعطيه أربع دورات عن تدوين السنة، وجهود العلماء في ذلك، ودورة عن صحيح البخاري، والإمام البخاري وشروطه في الصحيح، ونعطيه دورة أخرى أيضاً فيما يتصل بقضية التصحيح والتضعيف، والحكم على الروايات، وما إلى ذلك، أربع دورات نحتاج إليها حتى توجد أرضية بيننا وبينه، لغة تفاهم، لغة مشتركة يفهم عنا إذا تكلمنا، لكن إذا لم توجد هذه الأرضية تقول له: في صحيح البخاري، يقول لك: صحيح البخاري جاء واحد ودسه فيه، فحتى نعلمه أنه ما جاء أحد دسه في صحيح البخاري فلابد من قاعدة للمناظرة والمجادلة والمناقشة، نعلمه كيف جُمعت السنة وخدمت، وكيف يُحكم على الروايات فيها، والدقة المتناهية في ذلك، فهذه طريق المناظرة مع هؤلاء الناس.

ثم ذكر هذا الذي بعده، قال: فتكذيبه في الأمور المعينة كتكذيبه في أصل الرسالة، لو كذّب في أمر مما جاء به، وقال: ما في عذاب قبر، كأنه كذبه في أصل الرسالة، يعني معناها أنه ليس بصادق فيما ينقله عن ربه -تبارك وتعالى-.  

ورد شيخ الإسلام على تأسيس الرازي في كتاب اسمه: "بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية"، والكتاب طبع طبعة قديمة، اعتنى به الشيخ محمد بن القاسم -رحمه الله- في مجلدين كبار، وقد وَجد بعضه وجد النصف تقريباً فطبعه، وكانت توجد له مخطوطة كاملة للكتاب، ثم بعد ذلك يسر الله فحُقق في رسائل جامعية، في جامعة الإمام، وطبع في مجمع الملك فهد لطباعة المصحف بهذه الطبعة الأنيقة الجميلة كما ترون، بتحقيق وعناية ومقابلة على النسخ الخطية، وتوضيح لعبارات المؤلف، وما إلى ذلك، فهذه الطبعة كاملة، وجد فيها النصف الآخر الذي كان مفقوداً، والحمد الله.

فشيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- ألف هذه الرسالة "بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية" وأصل ذلك أنه لما جاءه رجل من أهل حماة، جاء إلى شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- وطلب منه أن يكتب له عقيدة، فأحاله إلى غيره، فالرجل أصر فقال: لابد أن يكون ذلك منك، يقول: كتبتها في جلسة أو قعدة بين الظهر والعصر، فكتب له الرسالة الحموية التي نقيم بها دورة لمدة أسبوعين في كل يوم، كتبها له في هذا الوقت القصير، ثم بعد ذلك انتشرت، وقام بعض القضاة، وغير القضاة من المتكلمين في الرد عليها، فوقف شيخ الإسلام على رد لأجلِّ واحد منهم، وهو قاضٍ من الأشعرية، وقف عليه، ونظر فيه وهم أن يرد عليه، والحموية كان كتبها بُعيد سنة تسعين وستمائة في الآيات والنصوص الواردة في الصفات.

هذا أصل الرسالة الحموية، فجاء هؤلاء وردوا عليه، وفيه معارضات، فكتب جواباً على ذلك وبسطه في أربعة مجلدات مخطوطة، لو حققت قد لا تقل عن ثمانية، هذا اسمه "جواب الاعتراضات المصرية على الفتيا الحموية"، وللأسف هذا الكتاب فُقد، فهذا الكتاب رد به على المعارض من المتكلمين على الفتوى الحموية.

يقول شيخ الإسلام: فرأيت أن هؤلاء من المتكلمين، والذين يردون عليّ أنهم لا يبنون ما عندهم على ما يستقلون به من العلم والأصول، والقواعد التي يردون بها، وإنما هم يقتاتون على بضاعة مَن قبلهم، ينقلون الكلام الذي قاله من قبلهم، فعمد شيخ الإسلام إلى نقض أصولهم التي يستندون إليها ويرجعون إليها، ويبنون عليها مذاهبهم وكلامهم، كما هي عادة شيخ الإسلام لما نقض أصول الرافضة في كتابه "منهاج السنة" لما رد فيه على "منهاج الكرامة" كما سيأتي -إن شاء الله تعالى-وقال: "يصلح أن يسمي هذا منهاج الندامة"[26]، لابن المطهر الرافضي.

فهو يقول: إنهم يعمدون إلى كتب هؤلاء، يقول: وأجلّ هذه الكتب التي يعتمدون عليها كتاب الرازي، وذكر منزلة الرازي عند هؤلاء المتكلمين أنه إمامهم، وأنه يعتبر في كتابه: "تأسيس التقديس" -أي الرازي- قد جمع جملة ما يعولون عليه من الأصول والردود أيضاً على أهل السنة والجماعة، والصفات الثابتة في الكتاب والسنة، فشيخ الإسلام لما رأى الوضع بهذه الطريقة، وتقديس هؤلاء للرازي حيث يسمونه الإمام المطلق، وكذلك أيضاً يقولون: بأنه مجدد الإسلام، ويجعلونه بمنزلة الصدِّيق الثاني، وغير ذلك مما يقولونه عنه، وأنهم يرون أنه فوق الغزالي والجويني، ورءوس المتكلمين هؤلاء، فشيخ الإسلام لما رأى مثل هذا، وهذه الألقاب والأوصاف التي يضيفونها عليه وعلى كتبه؛ قام بالرد على كتاب الرازي، "تأسيس التقديس"، بهذا الكتاب العظيم: "بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية"، كتاب حافل من أجلّ كتب شيخ الإسلام، ومن أنفعها، ومن أعظمها، وأشرفها، مليء بالفوائد في الأصول، والقواعد، والتفسير، والتحقيقات العلمية في الحديث، وفي غيره، حتى إنك تجد -كان هذا في النسخة الخطية في النصف الثاني الذي ما طبع، لما وجدت نسخة في جامعة الملك سعود مصورة- أكثر من مائتين وتسعين صفحة فقط في حديث الصورة: إن الله خلق آدم على صورته[27]، تحقيق بديع، هذا فقط في حديث الصورة.

وتكلم عن القضايا الأخرى كمسألة رؤية الله ، وهل رأيت ربي في أحسن صورة، وكلام أهل العلم عليه من أهل السنة من المحدثين وغيرهم، وأصّل في هذه القضايا تأصيلاً طويلاً، وتكلم على قضايا أخرى في الصفات، وما يذكره المتكلمون من التحيز إلى غير ذلك، وأبطل أصولهم في هذا الكتاب الجليل العظيم.

  1. شرح العقيدة الأصفهانية (ص:50).
  2. مجموع الفتاوى (4/ 73).
  3. درء تعارض العقل والنقل (3/ 262).
  4. مجموع الفتاوى (4/ 164).
  5. انظر: درء تعارض العقل والنقل (1/ 160)، ومجموع الفتاوى (4/ 73).
  6. انظر: الإتقان في علوم القرآن (4/ 28).
  7. أخرجه الترمذي، في أبواب صفة القيامة والرقائق والورع عن رسول الله ﷺ، برقم (2485)، وابن ماجه، أبواب إقامة الصلوات والسنة فيها، باب ما جاء فيمن أيقظ أهله من الليل، برقم (1334)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة، برقم (569).
  8. أخرجه البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ[سورة آل عمران:64]، برقم (4553)، ومسلم، كتاب الجهاد والسير، باب كتاب النبي ﷺ إلى هرقل يدعوه إلى الإسلام، برقم (1773).
  9. المجالسة وجواهر العلم (7/ 328).
  10. أخرجه البخاري، كتاب فضائل القرآن، باب كيف نزل الوحي، وأول ما نزل، برقم (4981)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب وجوب الإيمان برسالة نبينا محمد ﷺ إلى جميع الناس، ونسخ الملل بملته، برقم (152).
  11. أخرجه مسلم، كتاب الزهد والرقائق، باب حديث جابر الطويل وقصة أبي اليسر، برقم (3012).
  12. أخرجه البخاري، كتاب المغازي، باب غزوة الخندق وهي الأحزاب، برقم (4101).
  13. أخرجه البخاري، كتاب الرقائق، باب كيف كان عيش النبي ﷺ وأصحابه، وتخليهم من الدنيا، برقم (6452).
  14. سير أعلام النبلاء (4/ 8-9).
  15. شرح العقيدة الأصفهانية (ص:138).
  16. المصدر نفسه.
  17. انظر: مجموع الفتاوى (17/ 239).
  18. انظر: تفسير القرطبي (6/ 31).
  19. انظر: درء تعارض العقل والنقل (7/ 157)، ومجموع الفتاوى (6/ 243)، ومنهاج السنة النبوية (2/ 139).
  20. انظر: الرد على المنطقيين (ص:327)، ومجموع الفتاوى (9/ 228).
  21. انظر: الفتاوى الكبرى لابن تيمية (6/ 616)، وبيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية (1/ 407-408)، ومجموع الفتاوى (4/ 73).
  22. درء تعارض العقل والنقل (1/ 165).
  23. أخرجه البخاري، كتاب مناقب الأنصار، باب هجرة النبي ﷺ وأصحابه إلى المدينة، برقم (3905)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب بدء الوحي إلى رسول الله -ﷺ، برقم (160).
  24. شرح العقيدة الأصفهانية (ص:214).
  25. أخرجه البخاري، كتاب الدعوات، باب التعوذ من عذاب القبر، برقم (6366)، ومسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب استحباب التعوذ من عذاب القبر، برقم (586).
  26. منهاج السنة النبوية (1/ 21).
  27. أخرجه البخاري، كتاب الاستئذان، باب بدء السلام، برقم (6227)، ومسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب يدخل الجنة أقوام أفئدتهم مثل أفئدة الطير، برقم (2841).

مواد ذات صلة