الأربعاء 25 / جمادى الأولى / 1446 - 27 / نوفمبر 2024
11 - ابن القيم ومن إعلام الموقعين. القواعد 869-874‏
تاريخ النشر: ١٣ / شوّال / ١٤٣٣
التحميل: 3612
مرات الإستماع: 4224

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فنحمد الله -تبارك وتعالى- أن بلغنا وإياكم رمضان، ونحمده -تبارك وتعالى- أن أتم علينا نعمته بإكمال العدة، ونحمد الله -تبارك وتعالى- على جميع آلائه ونعمه المتعاقبة التي نعرف بعضها، ويخفى علينا أكثرها.

وكل ذلك يستوجب المزيد من الشكر والإقبال على الله -تبارك وتعالى- بطاعته وعبادته، والتوبة من جميع الذنوب صغيرها وكبيرها، وأن يكون الإنسان بعد هذه المواسم في حال من الطاعة، والقيام بوظائف العبودية؛ لأن الإنسان لا يخلوا بعد رمضان من أن يكون قد أدرك مغفرة الله بأحد الوعود الثلاثة: من قام رمضان إيماناً، واحتساباً غُفر له ما تقدم من ذنبه[1]، ومن قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غُفر له ما تقدم من ذنبه، ومن صام رمضان إيماناً واحتساباً غُفر له ما تقدم من ذنبه[2].

فمن وُفق وحصل له شيء من هذا فاللائق ألّا يعود إلى التقصير والذنوب والمعاصي، وإذا حُرم البعيد فينبغي أن يبكي على نفسه وأن لا يعود إلى ما كان سبباً للحرمان، بل يتباعد من ذلك غاية التباعد، ويحذر من أسباب الخذلان وحرمان المغفرة والتوفيق.

نبدأ هذا الدرس بالمجموعة الثانية من كتب الحافظ ابن القيم -رحمه الله، وهذه المجموعة تبدأ بكتاب مُلِئ من العلم، وقد يتحير الناظر فيه لكثرة ما حواه من الأصول والفروع، وما في مضامين ذلك من الحجج والدلائل النقلية والعقلية، يجد فيه طالب العلم ما يبهر العقول، فإنه يذكر على المسألة عشرات الأدلة، ويتفنن في عرضها وإيرادها وسياقها غاية التفنن، ويبدع في مناقشة حجج المخالفين، وينصفهم غاية الإنصاف، وتجد هذه المسائل في غاية التناسق في هذا الكتاب، بعضها يأخذ بحُجَز بعض، فيقودك الكلام على مسألة إلى الكلام على مسألة ترتبط بها بنوع من الارتباط بطريقة لا تشعر بفصل بين هذا وهذا، فلا أقول: أنت في حديقة غناء، وإنما أقول ما هو أبلغ وأعظم من ذلك: أنت في هذا الكتاب في جنات كثيرة الأشجار والثمار.

وقد تكلم أهل العلم في وصف هذا الكتاب بأشياء، ولكن هذا الكتاب في الجملة لا يستغني عنه طالب العلم بحال من الأحوال، كما لا يستغني عنه المُفتي، ومن ابتُلي بهذا النوع من الوظائف الشرعية.

وكذلك أيضاً القاضي فإنه يزيد على المفتي بالإلزام، فالقضاة والمفتون بحاجة ماسة إلى دراسة هذا الكتاب، هذا فضلاً عن سائر طلاب العلم، فيجدون فيه من التأصيل لاسيما في القضايا التي نحتاج إليها اليوم حاجة ماسة مما يُلبس به كثير من الناس، قضايا تتعلق بتعظيم النصوص.

وقضايا تتعلق بتعظيم أقوال الصحابة ، وبيان منزلة الصحابة.

وقضايا تتعلق بالرأي، وأنواع الرأي، وحجم الرأي، وحدود هذا الرأي.

وقضايا تتعلق بأصول من مسائل مهمة، وقضايا يكثر الشغبُ عليها في مثل هذه الأيام، مثل: تغير الفتوى بتغير الزمان، ومثل: سد الذرائع، وما إلى ذلك من أصول في غاية الأهمية.

وهذا الكتاب طُبع أكثر من طبعة، ويقع في أربعة مجلدات كبار.

ما يتعلق باسم هذا الكتاب:

هذا الكتاب بعضهم يضبطه هكذا: "إعلام الموقعين عن رب العالمين"، بكسر الهمزة، وبهذا اشتهر عند كثير من أهل العلم، ولكن ذلك ليس محل اتفاق، ومنهم من يضبطه بالفتح "أعلام الموقعين عن رب العالمين"، ولكل فريق من الحجج ما يستند إليه في ضبط اسم هذا الكتاب مع أن الخطب يسير.

فالذين يقولون مثلاً بأنه بالفتح "أعلام الموقعين"، يقولون: إن الأعلام جمع عَلَم، فذكر في هذا الكتاب كبار أهل الفُتيا والقضاء من الصحابة والتابعين، فيكون الكتاب: "أعلام الموقعين عن رب العالمين"، هؤلاء الكبار من الصحابة وسلف الأمة ممن سرد جماعة منهم في كتابه هذا.

وهذا الكتاب يتضمن كثيراً -كما سبق- من الأصول والمسائل الفرعية، وذلك غالب مضامين الكتاب، فهذا حمل الكثيرين على القول بأن اسم الكتاب: "إعلام الموقعين عن رب العالمين"، يعني: يُعلمهم بهذه الأصول والضوابط التي تُبنى عليها الفُتيا والحكم والقضاء، فهؤلاء يوقِّعون عن رب العالمين، يقولون: هذا حكم الله في هذه المسألة، سواء كان القائل بذلك هو المفتي، أو كان الحاكم والقاضي، فهو يقول: "إعلام الموقعين عن رب العالمين" بما ينبني عليه الحكم والقضاء والفُتيا، وهذا هو الأشهر والأليق لتسمية هذا الكتاب.

وقد تكلم بعض المعاصرين على ذلك ومنهم الشيخ بكر أبو زيد -رحمه الله، وكأنه يميل إلى أن التسمية اللائقة بالكتاب هي بالكسر "إعلام الموقعين عن رب العالمين"، فالمُوقِّع هو المفتي أو القاضي هنا، يعني: كأنه إخبار الموقعين من القضاة والمفتين عن رب العالمين بأحكام أفعال العبيد مثلاً، ولكنه لم يستبعد الفتح "أعلام الموقعين"، وذكر توجيهاً له، يعني بدلاً من التوجيه الأول: وهو أن ابن القيم ذكر مجموعة من الأعلام، مع أن هؤلاء قليل في الكتاب، يعني: هم في صفحات قليلة في أول الكتاب، والكتاب في أربعة مجلدات كِبار، فمن غير المعقول أن يكون اسم الكتاب "أعلام الموقعين" باعتبار أن ذلك جمع علَم، بسبب أنه ذكر جملة من كبار المفتين والقضاة في أول الكتاب فيما لا يزيد عن عشرين صفحة.

فالشيخ بكر أبو زيد وجّه هذا توجيهاً آخر على الفتح "أعلام الموقعين"، فهو يقول: إن ذلك يمكن أن يتوجه باعتبار أن العَلَم يقال فيه: أعلام الطريق، أعلام الأرض، يعني: هناك معالم تُعرف بها الطريق، علامات تكون بمنزلة الهداة للمسافرين في الطريق، فيقول: يمكن أن يُحمل الفتح على هذا "أعلام الموقعين عن رب العالمين" وذلك أن العلَم في اللغة هو ما يُنصب في الفلوات للاهتداء به، وما يُجعل على الطرق من المنارات والمعالم ليُستدل به على الأرض.

فبهذا الاعتبار يكون الكتاب "أعلام الموقعين" يعني الأحكام التي تصدر عن القضاة والمفتين الموقعين عن رب العالمين، فهي أعلام لهم تدلهم وتهديهم إلى الطريق السوي والمَشرع الروي، فهذا باعتبار أن غالب مادة الكتاب ليست في أعلام القضاة والعلماء الذين تصدروا للفُتيا، هذا توجيه آخر للفتح.

إذن الفتح له توجيهان: جمع علَم، العالم الذي يوقع عن رب العالمين، والثاني: أنه المعالم التي يُهتدى بها، وبعضهم يقول: "إعلام الموقعين"، وهذا عليه الأكثر وعرفتم معناه، وبعضهم يقول: "أعلام الموقعين"، وبهذا يتضح التوجيه.

وفي بعض المواضع بعض أهل العلم سموه باسم آخر مقارب: "معالم الموقعين عن رب العالمين"، سماه بهذا جماعة من أهل العلم في كتبهم ومصنفاتهم، "معالم الموقعين عن رب العالمين"، وابن القيم -رحمه الله- ذكره في عدة مواضع من كتبه يختصر يقول: المعالم، ما يقول: الإعلام، وإنما يقول: المعالم، كأنه اختصار لـ"معالم الموقعين عن رب العالمين"، ويمكن كما يقول الشيخ بكر أو زيد -رحمه الله- أن يكون للكتاب اسمان، المؤلف يُسمي كتابه أحياناً باسمين، وهذا كثير، وبعضهم يضع ذلك على طُرة الكتاب، فهذا ما يتعلق بالتسمية.

أما ما يتعلق بموضوع الكتاب فقد ذكرت مضامينه على سبيل الإجمال، ولكن الكتاب حقيق وحري بأن يتعرف طالب العلم على مضامينه بشيء من البسط قليل، وإن كان لا يمكن أن تفي بذلك هذه الدقائق في صدر هذا المجلس.

هذا الكتاب أكثره مسائل أصولية، وفيه قضايا كثيرة فروعية فقهية، فيه كلام كثير في مضامينه على أسرار الشريعة، وأنها قواعد مطردة، وأن الغالب عليها أنها مُعللة مُدركة الحكمة، وأنها موافقة -يعني النصوص- للعقل، وأنها لا تخالفه بوجه من الوجوه، قد مضى كلام شيخ الإسلام كثيراً في هذه القضايا، هي توافق العقل الصحيح، والقلب السليم، والذوق الجيد، وكذلك منهج السلف الصالح ، من أصحاب النبي ﷺ والتابعين، فإنهم يجرون على هذا النسق، ولهذا قال شيخ الإسلام بأنه لا يوجد حتى من فتاوى الصحابة وأقوال الصحابة الثابتة عنهم ما يخالف صريح العقل الصحيح فضلاً عن النصوص، حتى أقوال الصحابة.

ولكن هناك بيّن ملحظاً مهماً أن هؤلاء الذين يتوهمون مخالفة العقل أن العقل الذي يظنونه صحيحاً هو عقل فاسد، وكذلك ما يتوهمون أنه يخالف القياس هو في الواقع القياس الذي توهموه هم، وظنوا أنه صحيح، والواقع أنه قياس فاسد، شيخ الإسلام فصل في هذه القضية بكلام بديع لاسيما في كتابه "درء تعارض العقل والنقل"، ابن القيم تكلم أيضاً على هذه القضية بعينها في هذا الكتاب بكلام متين جزل في غاية النفع.  

هذا الكتاب لو أردنا أن نستعرض بعض مضامينه فنجد أنه يتحدث عن المسائل الأصولية والقضايا الفروعية المتعلقة بها التي يعتد بها أهل السنة والجماعة، على اختلاف مذاهبهم، ويناقش ذلك بمناقشات عالية رفيعة متينة، وذكر في أول الكتاب جملة من الفصول، تحدث عن الفتوى، وخطر الفتوى، وأنها توقيع عن الله -تبارك وتعالى، وتكلم على أول من وقّع عنه -تبارك وتعالى، وهو الرسول ﷺ، ثم الصحابة، وفصّل فيهم، وأن فيهم من هو مُكثر من الفُتيا، وفيهم من هو مُقل أو متوسط، ثم من صارت إليه الفُتيا من التابعين، ثم من فقهاء الأمصار في المشرق والمغرب.

ثم تكلم عن أصول مذهب الإمام أحمد -رحمه الله، الأصول الخمسة التي بنى عليها الإمام أحمد مذهبه، وشرح هذه الأصول، وتكلم عليها، واحتج لها، وأطال في الكلام على ذلك، وهذه الأصول هي النص من الكتاب والسنة، وما أفتى به الصحابة، فإذا اختلفوا في فتاويهم فإلى الأقرب منها إلى الكتاب والسنة، ثم الأخذ بالحديث المُرسل وبالضعيف -يعني غير شديد الضعف- إذا لم يكن في الباب شيء يدفعه، ثم القياس، هذه أصول مذهب أحمد -رحمه الله، يعني: يقدم الأثر والنص على القياس، ويجعل القياس في الآخر.

ثم بعد ذلك عقد فصولاً في كراهة العلماء التسرع في الفُتيا والجرأة عليها، وخطر ولاية القضاء، وخطر القول على الله بغير علم، فهذا الكتاب يحتاج أن يُدرس بكامله من أوله إلى آخره.

وهناك فرق بين من ابتُلي بالقضاء وبين من يسعى له، وهناك طالب تُجرى له مقابلة في كلية الشريعة ما الذي جعلك تختار كلية الشريعة؟

قال: من أجل أن أتوظف في القضاء، فبعض الناس يعتبر هذا من الطموح، من الأول جاء إلى كلية الشريعة من أجل أن يتوظف في القضاء، فرق بين من ابتُلي وبين من يسعى إلى هذا ويدرس في كلية الشريعة ليكون قاضياً، يظن أن المسألة سهلة.

الشاهد: تكلم ابن القيم -رحمه الله- أيضاً على كلام الأئمة حينما يطلقون الكراهة ماذا يقصدون به، يقول: يُكره كذا، باب ما جاء في كراهية النبيذ، باب ما جاء في كراهية أشياء محرمة، فبين أنهم يقصدون التحريم، وتكلم على أدواتهم، تكلم على كلامهم في أدوات الفُتيا وما يُطلب لها، وفي شروط الفُتيا، وهل تجوز الفُتيا بالتقليد؟، وتحريم الإفتاء في دين الله بالرأي إلا ما كان منه مقبولاً محموداً، وهو رأي الصحابة والرأي المفسر للنصوص، والذي تواطأت عليه الأمة، وتلقاه الخلف عن السلف، فإن لم يجد المُفتي أو القاضي ذلك اجتهد رأيه ونظر إلى أقرب ذلك من الكتاب والسنة، وأقضية الصحابة ، هذا هو الرأي الذي سوغوه، وسيأتي كلامٌ عليه -إن شاء الله.

وساق المصنف خطاب عمر بن الخطاب لأبي موسى الأشعري في القضاء وشرحه جملة جملة، واستغرق هذا ما يقرب من مجلدين، بشرح بديع في غاية النفاسة، لا يُستغنى عنه بحال من الأحوال، فكل جملة يشرحها ويورد الآثار والنصوص والقواعد والمسائل والأمثلة والتطبيقات على ذلك، بحر لا ساحل له، وذلك حينما كان يتكلم على الرأي المقبول وغير المقبول حيث جعل الرأي أربعة أنواع، فأورده في الأخير منها.

وكذلك أيضاً في شرحه لكتاب عمر في القضاء يذكر عناوين، ومسائل، وفصولا كثيرة جدًّا في ثنايا شرح خطاب عمر ، يعني: تصور ذكر فيه ما يزيد على أربعمائة مسألة، أو عنوان، أو فصل، وهذا شيء كبير جدًّا، وهذه المسائل كل واحدة أنفس من الثانية، فيها من العلم الشيء الكثير، فهذا فضل الله يؤتيه من يشاء، حتى ظن بعض أهل العلم أن الكتاب هذا في شرح خطاب عمر، يعني: بعض العلماء عبّر وصرح بهذا، قال: كتاب إعلام الموقعين لابن القيم الذي شرح فيه خطاب عمر بن الخطاب لأبي موسى الأشعري، مع أن الكتاب ليس محصوراً في هذا، وأنت حينما تقرأ في مضامين الكتاب وشرح خطاب عمر تضيع في ثناياه؛ لأنه يدخل من فصل إلى فصل، ومن مسألة إلى مسألة، مسائل كِبار، تظن أنه خصص هذه الفصول مستقلة، والواقع أنها داخلة تحت شرح خطاب عمر لأبي موسى الأشعري .

فمثلاً من المسائل التي طول فيها تحت شرح خطاب عمر: البينة على المدعي واليمين على من أنكر[3]، هذه تكلم فيها وفصل فيها تفصيلاً بديعاً لا تكاد تجده في غير هذا الكتاب، يعني: الناس في كثير من الأحيان يقولون: البينة على المدعي واليمين على من أنكر، كما هو في الحديث، لكن ابن القيم له فقه في هذا الحديث وفهم لا تصل إليه كثير من الأفهام.

فتكلم وأطال في الكلام على البينة وبيّن غلط كثير من المتأخرين في تفسيرها، وتكلم على نصاب الشهادة هل لابد من شاهدين دائماً، وإذا لم يوجد ضاع الحق، وتكلم على الشهادة بالزنا، وتكلم على حكم شهادة العبد وبيّن أنها مقبولة، وتكلم على الحكم بشهادة الواحد إذا ظهر صدقه، وتكلم على الشاهد واليمين، يعني الاكتفاء بشاهد ويمين أو شاهد من غير يمين إذا ظهر صدقه.

وتكلم على مسألة اليمين أنها تكون مع الأقوى من الطرفين، وساق أمثلة وأدلة وشواهد على هذا، يعني: اليمين تكون مع الأقوى، الآن لماذا قال النبي ﷺ: البينة على المُدعي واليمين على من أنكر، البنية على المُدعي ليست اليمين، اليمين على من أنكر، لماذا اليمين على من أنكر؟، يعني الآن هذا ادعى أن هذا الكأس له، أيهما أقوى المُدعي أو من كان بيده الكأس؟، من كان بيده أقوى، فاليمين توجهت في حقه، لكن أحياناً تكون جهة المُدعي أقوى، وذكر ابن القيم -رحمه الله- أمثلة على ذلك، بمسائل، مسألة القسامة اليمين على من فيها -فيها خمسون يمينًا-؟، على المدعين؛ لوجود قرينة وهي اللوث، اللعان من الذي يبدأ بالأيمان؟، الزوج هو المُدعي هو الذي يبدأ فجعلها في جانبه، ثم المرأة إذا أرادت أن تتخلص حلفت، فإن نكلت أقيم عليها الحد، وذكر أمثلة لذلك.  

وتكلم على أن الحكم أصلاً لا يتوقف على وجود شاهدين ذكرين في كل الحالات، وأنه أحياناً تُقبل شهادة النساء حتى في الجنايات، في الحمامات، وفي الأعراس والأماكن التي لا يحضرها إلا النساء، وتكلم على شهادة الصبيان وأنها في الأماكن التي لا يوجد فيها إلا أطفال وحصل فيها جناية قبل أن يتفرقوا، بحيث لا يُلقنون بحيث يُقبل كلامهم لو قالوا: إن الذي قتل فلانًا هو فلان، الذي شج فلانًا هو فلان، فيُقبل كلام هؤلاء الأطفال الصغار، وتكلم على مسائل من هذا القبيل، وتعرض للحاكم وصفاته، القاضي وما يشترط فيه، وأنه يجب تولية الأصلح للمسلمين، وسرد أدلة على هذا الكلام.

ثم تكلم على مسائل تتعلق بالصلح، والقاضي وما يسعى إليه من الصلح، ولا يكون القاضي فيه مع القوي فيهضم الضعيف، ويضيع حق الضعيف بحجة الصلح.

ثم تكلم وذكر أمثلة على الصلح مما جرى على يد النبي ﷺ أشياء كثيرة جدًّا، وبين أنواع الحقوق، وكذلك أيضاً تكلم على الشهادة عند كلامه على خطاب عمر : "المسلمون عدول بعضهم على بعض"[4].

فبين من الذي تُرد شهادته، وتكلم على شهادة القريب لقريبه أو عليه، ومنع شهادة الأصول للفروع والعكس، وتكلم على شهادة الأخ لأخيه، وأمور أخرى يُحتاج إليها في موضوع الشهادة.

ثم رجع إلى موضوع القياس، هو كان يتكلم على الرأي وجاء لقضية خطاب عمر، وفي ثنايا خطاب عمر أشياء تتعلق بالقياس كقول عمر: "ثم الفهم الفهم فيما أُدلي إليك مما ورد عليك مما ليس في قرآن ولا سنة، ثم قايس الأمور عند ذلك واعرف الأمثال" [5] .

فبدأ يؤصل القياس بكلام بديع نفيس، وأطال في ذلك جدًّا، يعني: كلامه في القياس لربما يصل إلى ستمائة صفحة، يعني: يمكن أن يفرد في مجلد مستقل، وبعض العلماء يعني كأنه جعل الكتاب في موضوع القياس، والواقع أن القياس هو جدول من بحر هذا الكتاب، وكذلك لما كان يتكلم على كلام عمر حينما يقول: "قايس الأمور واعرف الأمثال"[6]، إلى آخره استطرد في بيان السر في ضرب الأمثال، وجاء بالأمثال التي في القرآن وشرحها شرحاً بديعاً، لم أجد أنفس من كلام ابن القيم، وما يتشوش فكري ويرهقني أكثر مما يحصل حينما أجد كلاماً كثيراً لابن القيم في كتب كثيرة، فلا أستطيع أن أترك هذا الكلام، ولا أستطيع أن ألخصه، ويشق عليّ في الوقت نفسه أن أورده بطوله، فيبقى الإنسان متحيراً، كلام بديع في غاية النفاسة في الأمثال.

وتكلم على السر في ضرب الأمثال، ومن هنا انطلق إلى مسألة الرؤى، وتعبير الرؤى؛ لأنها مرتبطة بموضوع الأمثال، وأن الرؤى هي عبارة عن أمثال مضروبة يضربها الملَك، كما سيأتي، يضربها للرائي.

ثم ذكر قواعد في تعبير الرؤى، وأصولا، وكليات لمن يريد أن يُعبر، وذكر شواهد على ذلك من السنة النبوية بل ومن القرآن أيضاً، واعتبر أن علم الأمثال في القرآن هو تأصيل لباب الرؤى، وأن من فهم الأمثال في القرآن يعرف أصول التعبير.

ثم ذكر أشياء كثيرة جدًّا -يعني سيأتي طرف منها قليل -إن شاء الله تعالى- سأورده على سبيل المثال- من معرفة النظير بنظيره، يعني: يقول: إذا رأيت كذا فهو معناه كذا، إذا رأيت شرب كذا فهذا يعني كذا، إذا رأيت النار فهذا معناه كذا، في الرؤيا، إذا رأيت الحية فمعناها كذا، إذا رأيت القمر فمعناه كذا.

وذكر أشياء كثيرة مما يتعلق بتعبير الرؤى، وكل ذلك يربطه بموضوع القياس وإلحاق النظير بالنظير، وأن الشريعة لا تفرق بين المتماثلين.

ثم قاده هذا الكلام إلى مسألة معرفة مراد المتكلم، ومعهود المتكلم، وأن يُحمل كلامه على معهوده سواء كان المتكلم هو الشارع، أو كان المتكلم غيره من الفقهاء وغيرهم، حتى عموم الناس، يعني: في مسائل المحاكمة، في مسائل يُرجع إلى معهوده في كلامه ماذا يقصد بهذا، ما هي اصطلاحاتهم حينما يعبرون بمثل هذه الكلمة في عُرفهم، في بلدهم، في قريتهم، في قبيلتهم، في لهجتهم، ما هو معهودهم، فكل ذلك لابد من معرفته، ولهذا يقولون: القاضي إذا ذهب إلى بلد، أو ناحية يجب أن يعرف معهود هؤلاء، وعادتهم واصطلاحهم، وعُرفهم إذا عبروا بكذا ماذا يقصدون، ومن ثَمّ يستطيع أن يحكم.

ثم بعد ذلك تكلم على أشياء وأصول يعني عندما تحدث عن القياس والرأي إلى آخره، تكلم على إحاطة أوامر الشريعة والنصوص بأفعال المكلفين، وبجميع الحوادث؛ لأن هناك أشياء تُلحق مباشرة تُنزل عليها أنواع الاستدلال الستة، وتُستنبط منها الأحكام التي هي دلالة المطابقة، والإيماء من المنطوق، وكذلك المفهوم بنوعية الموافقة، والمخالفة، وكذلك أيضاً القياس، فيُلحق المسكوت عنه بالمنطوق، ومن ثَمّ فإن كل النوازل، وكل الحوادث إلى قيام الساعة لها أحكام مضبوطة في الشريعة الإسلامية، لا توجد أشياء تحتاج إلى استحداث قوانين وضعية يرجع الناس إليها ويتحاكمون إليها وتكون شرعاً لهم، ليسوا بحاجة إلى هذا، فالشريعة أحاطت بكل شيء، والله عليم حكيم.

وتكلم على أخطاء أصحاب القياس، وتعرض إلى مسألة أصل الاستصحاب، ومعناه، وأقسام الاستصحاب، وذكر أخطاء أهل القياس الخمسة.

ثم بعد ذلك بدأ يرد على الذين أنكروا القياس، يعني: تكلم على الذين بالغوا في القياس، وذكر أخطاءهم، ثم تحدث عن الطرف الآخر من الظاهرية الذين أنكروا القياس، وبدأ يتعقب حجج هؤلاء ويرد عليها، ويبدع في مناقشتها.

وتكلم في هذا الكتاب على أشياء كثيرة كمسألة تحريم الفتوى بغير علم مثلاً، هذه من المسائل المهمة أصّلها، ودلل عليها، وبين أن هذا حرام، وأن الواجب على من لا يعرف أن يقول: لا أدري، وذكر أمثلة على هذا في قول: لا أدري، والسلف وكيف كانوا يُكثرون من ذلك، وأن هذه طريقتهم.

ثم بعد ذلك قاده هذا إلى الكلام على مسألة التقليد، يعني: إذا قال: لا أدري، طيب ما الحل؟، ما العمل؟، هل يقلد غيره أم ماذا يفعل؟

فتكلم على مسألة التقليد، وفصل فيها فلم يُحرم التقليد مطلقاً، ولم يُبحه مطلقاً، بل جعل التقليد على أنواع، وفصل في هذه الأنواع، فمنه ما هو حرام، ومنه ما هو سائغ، وفرق بين الاتباع والتقليد، يعني: كونه أنه يسأل عالماً ويقف على حجته غير الذي يأخذ بالقول دون نظر إلى الحجة، فهذا وسط بين المجتهد وبين المقلد المحض.

وذكر كلام الذين يشددون أو الذين يطالبون الناس بالتقليد، وذكر ما عندهم من حجج ورد عليهم، وأطال جدًّا وأسهب في الكلام على هذه القضية، حجج دعاة التقليد، ولا زالت هذه الأشياء تُردد إلى اليوم فتجد الجواب عنها في كتابه هذا.

وتكلم على وجوب إعمال النصوص، وأن القياس إنما يُعمل به للضرورة، وأنه يُرد المتشابه إلى المحكم لا العكس.

وذكر ثلاثة وسبعين مثالاً لمن أبطل السنن بظاهر القرآن تمسكاً بالمتشابه في رد المحكم، وذكر مأخذ أصحاب أو أتباع المتشابه  فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ [سورة آل عمران:7]، بكلام بديع، وسيأتي بعضه -إن شاء الله تعالى- في ثنايا ما نذكره من هذه الضوابط والأصول والفوائد في هذا الكتاب، وهذه مسألة يُحتاج إليها اليوم لكثرة المُلبسين في هذا الوقت، سواء كان أولئك ممن يسمون أنفسهم بالتنويريين، ومن لف لفهم من الرماديين الذين هم لا فارض ولا بكر عوان بين ذلك، لا أبيض ولا أسود، ليس بصاحب سنة وهدي، واستقامة واتباع للنصوص، وليس بليبرالي محض صِرف، ولكنه رمادي بين بين، يعور بين الغنمين، كالشاة العوراء، فمثل هؤلاء يُلبسون ويتكلمون، ويوردون شبهات ويشككون في المحكمات ويقولون: هذا الحديث يعارض ظاهر القرآن، يعني: إما يتكلمون في المحكم -كما سيأتي- بإيجاد عبارة أو نحو ذلك تجعله من المتشابه في نظرهم ودعواهم، أو أنهم يضربون السنة بالقرآن، فيقولون: هذا يعارض القرآن فإذن هذا لا يقبل، ولا نسلم به، فتكلم على هؤلاء، وتكلم على مسألة الزيادة على النص، وأن السنة مع القرآن على ثلاث أحوال:

تارة تكون موافقة له، وتارة تكون شارحة ومفصلة، وتارة تأتي بأحكام جديدة، وتكلم على العُرف وحُجية العُرف، وتكلم على تغير الفتوى بحسب الزمان والمكان والأحوال والنيات والعوائد بكلام مفصل في غاية النفاسة.

وتكلم في ثناياه على مسائل كثيرة وأمثلة وتطبيقات في مسائل المُحلل وغيره.

وتكلم على الحيل، وذكر أنواعها، وذكر أمثلة كثيرة لها، وذكر الأدلة على بطلان الحيل، وتكلم على المقاصد والاعتقادات، وأنها معتبرة في التصرفات كما هي معتبرة في العبادات، وقد مضى شيء من هذا من كلامه في كتابه الذي قبله وهو بدائع الفوائد.

وتكلم على مسألة مهمة أو أصل مهم، وهو مسألة سد الذرائع ووظف هذا في المنع من الحيل؛ لأن هذه الحيل تبطل أصول الشريعة وفروعها، يعني: هو مروق من الشريعة بالحيل، التخفف منها، ومن التكاليف بهذه المخارج التي يُحتال بها على التمرد على الشرع والتنصل من الأحكام، وأن الأخذ بسد الذرائع قطع لطريق الحيل، وأورد على مسألة سد الذرائع تسعة وتسعين دليلاً، وقال: أكتفي بهذا موافقة للتسعة والتسعين اسماً التي لله من أحصاها دخل الجنة، تيمناً بذلك، فمن أحصى هذه الأدلة في رد الحيل دخل الجنة بإذن الله[7]؛ لأنه يكون -يقصد من لزم ذلك، وعمل بمقتضاه- قد لزم الصراط المستقيم، هذا مراده.

وتكلم على أدلة من جوز الحيل، وأكثر في الاستدلال على بيان تحريمها، مع بيانه لمعنى الحيلة، واشتقاقها وأقسامها، وأمثلة كل قسم، وغير ذلك من التفصيلات.

ثم تكلم أيضاً على مسائل الخلاف، ومسائل الاجتهاد، وقول من قال: إن مسائل الخلاف لا إنكار فيها، ففرّق بين مسائل الخلاف ومسائل الاجتهاد، فمسائل الخلاف يُنكَر فيها، فهي ليست على ميزان واحد، لكن مسائل الاجتهاد هي التي يقال: لا إنكار فيها، وبين ضابط المسألة الاجتهادية، متى تكون المسألة اجتهادية، بكلام نفيس.

وكذلك أيضاً ذكر أمثلة للحيل كثيرة جدًّا في سائر الأبواب في الفقه وغيره، من شاء فليراجع ذلك.

وهكذا تكلم على حُجية أقوال الصحابة ، وتكلم على فوائد تتعلق بالفُتيا، فذكر سبعين فائدة تتعلق بذلك، فوائد نادرة، وفي غاية النفاسة.

وتكلم في أواخر الكتاب على فتاوى النبي ﷺ، وسرد كثيراً منها، وهكذا أيضاً في أواخر هذا الكتاب تكلم فيه على أبحاث نفسية لابد للمفتي من معرفتها والوقوف عليها.

هذا ما يتعلق بهذا الكتاب، وأنا أعرف أن هذا لا يفي بحقه، ولكن أرجو أن يكون قد قرب المراد، والشيخ محمد رشيد رضا -رحمه الله- له ثلاثة أسطر ونصف تكلم فيها على هذا الكتاب يقول: "إنه لم يؤلف أحد من المسلمين مثل هذا الكتاب، في حكمة التشريع، ومسائل الاجتهاد والتقليد والفتوى، وما يتعلق بذلك كبيان الرأي الصحيح والفاسد، والقياس الصحيح والفاسد، ومسائل الحيل وغير ذلك من الفوائد التي لا يستغني عن معرفتها عالم من علماء المسلمين"[8] .

لعل هذا يكفي في التعريف بهذا الكتاب، ونبدأ الآن القراءة بما اختاره وانتخبه الشيخ عبد الرحمن بن سعدي -رحمه الله، ويُعلَّق على ما يحتاج إلى تعليق.

الحمد لله، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد:

فغفر الله لنا ولشيخنا وللحاضرين.

قال المؤلف -رحمه الله: ومن "إعلام الموقعين" التبليغ عن الله ورسوله نوعان:

تبليغ ألفاظ الكتاب والسنة، والقائمون بذلك هم القُراء والحُفاظ، وتبليغ معانيهما، والقائمون بذلك هم الأئمة والفقهاء. 

القُراء والحُفاظ، حُفاظ السنة يعني، فالقُراء يبلغون ألفاظ القرآن، والحُفاظ يبلغون ألفاظ السنة، هؤلاء الذين يبلغون الألفاظ، القوالب اللفظية، والذين يبلغون المعاني هم الفقهاء الذين يستنبطون من هذه النصوص التي ينقلها الحفاظ فيستخرجون منها الأحكام، ويبلغونها، ويقولون: هذا هو حكم الشرع.

قال: وتبليغ معانيهما، والقائمون بذلك هم الأئمة والفقهاء، والتبليغ يعتمد العلمَ بما يبلِّغ، والصدق فيه، فيكون عالماً بما بلغ صادقاً فيه، ويكون مع ذلك حسن الطريقة مرضي السيرة.

يعني هذه أشياء تُطلب فيمن يبلغ عن الله ، لابد من علم، وصدق، وحسن طريقة، يكون مرضي السيرة، ولذلك نحن نعرف مثلاً في أخبار الأئمة في جمع السنة أن أحدهم يذهب ليأخذ عن فلان فينظر إلى صلاته مثلاً، فإذا رأى صلاته ليست كما ينبغي ترك كما هو مدون في أخبارهم، فكانوا ينظرون إلى هدي الرجل، وإلى حاله وإلى دينه، فإن رأوه رقيق الدين مثلاً لم يأخذوا عنه، كذلك في تلقي الأحكام فإن الفقيه والعالم والمفتي ونحو ذلك والقاضي ينبغي أن يكون متين الديانة، أن يكون على قدر من الورع والخوف من الله ، ومراعاة حدود الله -تبارك وتعالى، ولهذا نقول حينما يقال للناس: تسألون من؟

نقول: هذا الذي يبلغ عن الله الأحكام يطلب فيه أمران:

الأمر الأول: العلم فيما يتكلم فيه، ويفتي فيه، أن يكون من أهل العلم، من تثق بعلمه.

والأمر الثاني: الدين، والتقوى، والورع؛ لأنه إذا كان عنده علم وليس عنده دين -رقيق الدين- فإن ذلك يعني أنه قد لا يتقي الله بهذه الفُتيا، يبحث عن الجاه، يبحث عن رضا الجماهير، ما يريد أن يقول: حرام؛ من أجل أن يكون له شعبية في القنوات؛ لأن أصحاب القنوات ما يريدون أحدًا يقول: بدعة وحرام وما يجوز، هذا لا ينبغي، يريدون فتاوى عصرية مرنة تنويرية، فيكون هذا الذي يفتي لا يقول لهم: حرام، ولكن يقول لهم: هذه مسألة تحتمل، من أهل العلم من رخص في هذا ومنهم من منع، ونحن أيها الإخوة والأحبة ليتنا نتوقف عند محكمات الشريعة وأصولها، والقضايا التي لا يتطرق إليها خلاف فنتمسك به، وأما ما وراء ذلك من المسائل التي اختلفوا فيها فهذا أمر فيه سعة، فما يمنعه هذا العالم يسوغه العالم الآخر، طبعاً أنا لا أقصد هذا، أنا لا أتبناه -معاذ الله، لكن أنا أحكي على لسان هؤلاء ماذا يقولون للناس، مثل هذا لا يُسأل، ولا يُستفتى، إنما لابد أن يكون عنده من الورع والدين ما يمنعه، فهو يتمثل وقوفه بين يدي الله ، ولا ينظر إلى الناس وأنْ يكثر المتابعون له في تويتر، أو البرنامج الفلاني في القناة الفلانية، فهذا فعل من لا يتقي الله -تبارك وتعالى، هؤلاء لا يغنون عنه من الله شيئًا، أبداً، كل هؤلاء لا يدفعون عنه عذاب الله ونقمته. 

فلابد أن يكون حسن الطريقة، مرضي السيرة، صاحب اتباع وسنة، ولهذا يقول ابن القيم -رحمه الله- في ذكر صفة هذا مما لم يذكره الشيخ عبد الرحمن بن سعدي -رحمه الله- يقول: "عدلاً في أقواله وأفعاله، متشابه السر والعلانية في مدخله ومخرجه وأحواله"[9]، يعني: بعض الناس قد تجده لربما أمام الناس على حال من الاستقامة والاتزان، ولكنه حينما يخلو مع من لربما تسقط الكُلفة معهم يألفهم، ولا يتكلف لهم، أو يسافر معهم أو يسافر معه بعض الناس ويرون أحواله، فيرون لونًا من السفه، وقلة المبالاة، وقلة ملاحظة حدود الله ، وقلة الخوف منه، والترخص الشديد بحيث لا يمكن أن تبرر مثل هذه التصرفات، وإذا ذُكِّر وقيل له: كيف؟، لا يجوز، هذا كذا، يعبر أحياناً بعبارات غير لائقة: لا تصير حنبليًّا يا شيخ، هنا ما يسعك إلا مذهب أبو حنيفة، بعضهم هكذا يذكرها على سبيل المزاح، لكن واقعه يدل على هذا، وهذه مشكلة، لابد أن يكون مستوي السريرة والعلانية في أحواله كلها، ومدخله ومخرجه، فلهذا من أراد أن يُبرئ ذمته فعليه أن يتأكد ويتحرى، ويسأل من تبرأ الذمة بسؤاله، علم، وورع وخوف وتقوى، لابد من هذين الأمرين.

قال -رحمه الله: هل للمقلد أن يفتي؟،فيه ثلاثة أقوال: المنع، والجواز، والثالث: أنه يجوز ذلك عند الحاجة، وعدم العالم المجتهد، وهو أصح الأقوال،وعليه العمل.

ماذا يقصد بالمقلد هنا؟، هل يقصد العامي؟، هل للعامي أن يفتي؟ طبعاً لا، لا أحد يقول بهذا إطلاقاً، هو لا يتكلم عن العامي، تجد في كتب أصول الفقه في أواخرها في الكلام على الفُتيا والتقليد والاجتهاد إلى آخره مسائل تتعلق بالتقليد، فيقولون: المقلد، من هو المقلد؟  

من يأخذ قول الغير بلا دليل، مثلاً يأخذ قول غيره بلا حجة، بلا دليل، يعني: لا يتبع الدليل، فمن هو هذا المقلد؟، هذا المقلد طالب علم، فهم يسألون مثلاً عمن حفظ زاد المستقنع عن ظهر قلب كالفاتحة، وحافظ القرآن، وحافظ ألفية ابن مالك مثلاً، وحافظ ألفية العراقي، ولربما قرأ كثيراً من الكتب على الشيوخ، لكنه لا يتجاوز مثلاً عبارة صاحب الزاد، هذا قد تجد له دروسًا، قد يُدرِّس هذا الكتاب -زاد المستقنع- قد يُدرسه أربعين سنة، ويكرره ويردده، وتخرج عليه ربما آلاف الطلاب، وهو لا يتجاوز ذلك، بمعنى أنه لا يقف عند الدليل، وإذا قيل له: هذه مسألة خلاف الدليل، قال: نحن عندنا كلام صاحب الزاد، أو إذا ارتقى قال: صاحب مثلاً كشاف القناع، أو صاحب شرح منتهى الإرادات، أو صاحب الإنصاف، هذه كتب الحنابلة دون أن يرتقي إلى النظر في الأدلة والحجج، وكلام السلف الصالح وما إلى ذلك، هذا يسمونه مقلدًا، حافظ الزاد، ولذلك تجد في كلام أهل العلم: هل من حفظ الزاد يسوغ له أن يفتي أو لا؟

فإذا سئل هذا ماذا سيقول؟، هو سيفتي بما يكرره ويدرسه من هذا المتن، ولذلك تجد هؤلاء المقلدة لا يذكرون الأدلة، وإذا ذُكرت عندهم الأدلة نفروا في الغالب، وقد رأيت من هذا أشياء في بعض المجالس سواء كان عند من يقرءون في بعض كتب المذهب -مذهب الحنابلة، أو عند غيرهم، يقرءون وتُشرح لهم العبارة تُفك العبارة فقط، فإذا قيل: الدليل على خلاف هذا، النبي ﷺ يقول كذا وكذا، جلسوا ينظرون إليك بنظر إنكار، شيء ما عهدوه، وهذا الحضور بهذه الطريقة غير مرغوب فيه، لا تعترض، ولا تناقش، ولا تذكر دليلا.

بل بعضهم كانوا يقرءون في كتاب في صحيح مسلم، فحضر أحد الإخوان وبدأ يسأل عن بعض الجمل، قراءة فقط، سرداً، فغضب عليه الشيخ، وقال: لسنا بأهل أن نتكلم على معاني الحديث، نحن نقرأ للبركة فقط، هؤلاء يقال لهم مقلدة، يعني: يأخذ مثلاً في المالكية مختصر خليل، حافظ مختصر خليل ليس عاميًّا صِرفًا لا يفهم، فهو فاهم يشرحه حرفاً حرفاً، يحفظه كالفاتحة، في الشافعية مثلاً: متن أبي شُجاع، في الأحناف مثلاً: حافظ الهداية.

فمثل هؤلاء وبعضهم -كما كان الشيخ محمد بن عبد الوهاب يكتب لبعضهم يناصحهم- يفتخر يقول: يفتي على المذهبين، بمعني: حافظ هذا المتن على المذهب، وحافظ ذاك المتن ودرسه على أهله، وأتقنه، لكن لا يتعداه، فكلام ابن القيم هنا، وكلام علماء الأصول حينما يقولون: هل للمقلد أن يفتي؟، ما يقصدون الجاهل العامي الذي في الشارع، إنما يقصدون من حفظ هذه الأشياء ولا يتجاوز ذلك إلى الأدلة والنظر فيها، وهذا عمّ وطمّ في البلاد الإسلامية كما هو معروف، والدولة العثمانية كان لها موقف في هذا أثّر وسبّب انتشار القوانين الوضعية كما هو معلوم؛ لأنهم أوقفوا باب الاجتهاد، وقالوا: قد مضى ذلك من قرون ليس هناك أحد مؤهلا للاجتهاد في مشارق الأرض ومغاربها، انتهى الاجتهاد، وأُقفل بابه، البقية مقلدة لا يخرجون عن المذهب، فصارت مسائل كثيرة تستجد تحتاج إلى حُكم ليست موجودة في هذه الكتب والمتون الفقهية، فاستُحدثت القوانين الوضعية، فصاروا يرجعون إلى أشياء مرقعة من الشرع ومن القوانين التي هي في الواقع تخالف الشرع في كثير من الأحيان.

قال: "فيه ثلاثة أقوال"، يعني: لأصحاب أحمد -رحمه الله، "الأول: المنع"، وقد عزاه ابن القيم -رحمه الله- إلى أكثر الحنابلة، ولجمهور الشافعية أن هذا المقلد لا يجوز له أن يفتي، حافظ للزاد، حافظ لمختصر خليل، جاء أحد وسأله، قال: أنا توضأت بنبيذ يصح أو لا يصح يا شيخ؟، هؤلاء يقولون: يسكت لا يتكلم، ولا يفتي، لا يقول: يقول الخليل كذا، أو يقول صاحب الزاد كذا، لا.

والقول الثاني: الجواز وليس على إطلاقه، وهذا قال به ابن بطة الحنبلي كما هو معروف لكنه قيده فيما يتعلق بنفسه خاصة، يعني: يفتي نفسه فيما ينزل به، يعني القضايا التي يلابسها هو يفتي نفسه، يعني: هذا نسميه طالب علم، يسمى شيخًا عند الناس، لكنه مقلد، فمثل هذا الجواز الذي يذكره هنا هو مقيد عند ابن بطة من الحنابلة بأن يكون ذلك في خاصة نفسه، هو فقط دون غيره، هذا الجواز.

والثالث: أنه يجوز ذلك عند الحاجة وعدم العالم المجتهد، وهو أصح الأقوال، وعليه العمل، يقصد: الآن في بلد ما يوجد أحد إلا هذا الذي حافظ هذا ويدرسه، فقيه يُعتبر، لكنه لا يخرج عن المذهب، يسمونه فقيهًا في المذهب.

فالقول الثالث أنه يجوز للحاجة إذا ما وُجد أحد يفتي، فلا يبقى الناس في عَماية تامة، فشمعة خير من ظلام دامس، هذا الذي ذهب إليه ابن القيم -رحمه الله، بل بعضهم قال أكثر من هذا كما يقول ابن بشران من الحنابلة: "ما أعيب على رجل حفظ خمس مسائل -من مذهب أحمد مثلاً، من كلام الإمام أحمد، من أقوال الإمام أحمد- استند بعض سواري المسجد يفتي بها"[10]، لا أنه يفتي باستنباطاته هو، لا، لكن هذه المسائل إذا سُئل عنها قال: قال الإمام أحمد كذا، ولذلك هذا الذي يسمونه المقلد حينما يفتي ماذا يقول؟ لا يقول: هذا حلال وهذا حرام، وإنما يقول: قال فلان، وإذا كان لا يحفظ متناً لكنه حافظ فتاوى على قول ابن بشران هنا فيُسأل فيقول: قال سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز -رحمه الله- كذا، قال فضيلة الشيخ محمد صالح العثيمين كذا، وينقل للناس الفتوى، هل يسوغ أو لا يسوغ؟

بعض العلماء قال: لا يسوغ، هذه الفتوى قد يكون لها ملابسات ولا يستطيع أن يُنزلها هو التنزيل الصحيح، وبعضهم يقول: لا، إذا ضبطها يستطيع أن ينقلها من غير تصرف، وبهذا تدرك وتعرف وتفهم الفرق بين طالب العلم الذي درس العلم الشرعي من مأخذه، درس علوم الآلة أصول الفقه والنحو وما إلى ذلك، وفرغ وقته وجهده للعلم الشرعي، ودرس كلام الفقهاء، وشروح الحديث، والتفسير وما إلى ذلك، وبين من لم يتيسر له هذا، فنظر في كلام أهل العلم، نظر مثلاً في شرحهم للكتاب الفلاني في الفقه، أو نظر إلى فتاواهم، واطلع عليها أو على كثير منها، ففرق بين هذا وهذا، ولذلك يظن بعض الشباب أنه سيسبق الشافعي -رحمه الله- ويقول: أنا أريد أن أجمع بين الطب وأكون فقيهًا، الشافعي ما استطاع، أنا أريد أن أدرس في التخصص الفلاني في الكيمياء، أو الرياضيات، أو الفيزياء وأكون عالمًا في الشريعة، نقول: هذه ما استطاعها الشافعي، هؤلاء ما عرفوا العلم، العلم يحتاج أن تتفرغ له، وأن يُدرس، وأن يؤخذ من مأخذه الصحيح، يدرس الإنسان علوم الآلة ويتجذر ويتعمق فيها حتى تكون له قدرة على النظر في الأقوال، والحجج والأدلة، ومناقشتها، والترجيح، ومأخذ هذه المسألة، والاستدلال وما إلى ذلك، ليست المسألة قفزًا ثم بعد ذلك يقول: قال فلان، وقال فلان، أو قراءة في فتوى شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله، أو فتوى اللجنة الدائمة أو نحو ذلك، ويقول: أنا في مدة وجيزة حصّلت علماً كثيراً، ليس هذا هو مأخذ العلم، فهذا العلم يحتاج إلى وقت طويل، يحتاج إلى جهد، يحتاج إلى تفرغ، يحتاج إلى عكوف، يحتاج إلى دراسة، يحتاج إلى ذهن، يحتاج إلى حفظ، يحتاج إلى صبر، ولا يؤخذ بدورة ولا بدروس عابرة متقطعة بين حين وآخر، مجموع الدروس في السنة كاملة لا يتعدى عشرين درساً، لا يؤخذ العلم بهذه الطريقة ولا يمكن، لكن يكون الإنسان على اطلاع، على إلمام، يكون قريبًا من الخير، قريبًا من مجالس الذكر، يتعرف على الأحكام الشرعية في الجملة، يتعرف على العقيدة، يتعرف على ما ينبغي وما يلزمه من الأحكام، وما إلى ذلك، يكون على بصيرة من أمر دينه، لكن يريد أن يكون مفتيًا وقاضيًا وعالمًا وفقيهًا، لا، هذا يحتاج من الإنسان أن يبذل نفسه للعلم، يتفرغ للعلم، ولا يستطيع أن يجمع بين صنعتين إطلاقاً، الدراسة تحتاج إلى جهد كبير ووقت طويل، وعملٌ بعدها مُضنٍ لا يرجع منه إلا في آخر النهار، ثم بعد ذلك يريد أن يكون عالماً في العلم الشرعي، هذا لا يكون، هذه التي يسميها علماء النفس -إن صح قولهم- أحلام اليقظة.   

فبعض الناس يطول نفسُه فيدرك أنها أحلام يقظة بعد سنين، بعد عشر سنوات، بعد اثنتي عشرة سنة، ثلاث عشرة سنة، وبعضهم يدرك هذا بعد ثلاث سنوات أو أربع سنوات، ففرق بين التخصص في العلم الشرعي فهذا يحتاج إلى تفرغ، وبين كون الإنسان يتعلم ويحضر مجالس العلم، ودروس العلم، ويتعلم ما يحتاج إليه، فهذا على خير عظيم، ويكون على بصيرة في دينه وتحفه الملائكة، ويؤجر على هذا، ويكون في عبادة، ولا يكون مُعْرِضاً -نسأل الله العافية- يعني يتعلم دين الله -تبارك وتعالى.   

نرجع إلى هذا الكلام في مسألة المقلد، وهل له أن يفتي أو لا؟، الشيخ محمد الأمين الشنقيطي -رحمه الله- تكلم في تفسير سورة "محمد" بكلام مفصل طويل جدًّا في "أضواء البيان" على مسألة التقليد، وهو كلام نفيس حاصله أنه جعل التقليد ثلاثة أنواع[11]: نوع جائز بالإجماع، وهو تقليد العامي لمن أفتاه، العامي يسأل العالم ويفتيه يقول: يجوز أو لا يجوز، فهذا نوع من التقليد جائز بالإجماع، ولا زال الناس يسألون العلماء منذ عهد الصحابة إلى عصرنا هذا بلا إشكال، ولا يحتاج العامي أن يقول: اذكر لي الحجة والدليل الذي استندت إليه ورجحت هذا القول، فهذا النوع الأول.

النوع الثاني: وهو تقليد العالم، الإنسان الذي عنده قدرة على فهم الأحكام واستنباط واستخراج الأحكام من الأدلة فيُلغي فهمه ويقلد غيره، هذا ظهر له الحكم فقلد غيره، فهذا لا يجوز، يتبين له الدليل والحكم ومع ذلك يأبى إلا أن يقلد المذهب، أو غير المذهب ممن يتعصب له.

النوع الثالث: وهو أن يقلد العامي شخصاً بعينه لا يقلد غيره، فهذا ذكر أنه من بدع القرن الرابع الهجري، وأن ذلك لم يكن موجوداً في عهد الصحابة والسلف الصالح ، يتخذون شخصاً معيناً لا يقلدون غيره، فهو يقول: إن العامي لا مذهب له أصلاً، يعني: أحياناً يأتيك بعض العوام يكتب لك برسالة سؤالا يقول: ما حكم تغطية الوجه، المرأة تسأل: ما حكم تغطية الوجه مع العلم أني شافعية؟، نحن نقول لها: العامي لا مذهب له، هي لا تعرف مذهب الشافعية أصلاً ما هو، فهذا العامي لا مذهب له، إنما مذهبه مذهب من أفتاه، فلا يصح أن يخصص أحداً بعينه فيقول: أنا أقلد فلانًا فقط، هذا لم يكن على عهد سلف الأمة .   

هناك نوع من الجائز رابع ما ذكره وهو: تقليد العالم المجتهد غيره إذا ضاق به الوقت، أو لم يتبين له الحكم، ما ترجح عنده شيء، أو ضاق الوقت، أحياناً تأتي نازلة ما يوجد وقت أنه يبحث وينظر في الأدلة، لابد الآن ينتهي، فيمكن أن يقلد، يقلد من يعتقد أنه الأعلم وصاحب الدين والورع وما إلى ذلك، يقول مثلاً: آخذ بقول شيخ الإسلام في هذه المسألة الآن، حتى أحررها وأبحثها، لكن الآن لابد أن أتخذ موقفاً، فهنا يجوز له التقليد، العالم المجتهد يجوز أن يقلد غيره؛ لأنه لا يُلمّ بكل المسائل، ستأتيه مسائل وتعرض له قضايا لا يتبين له فيها حكم إما لضيق الوقت، وإما لأن عَطَنه ضاق عنها، يعني: لم يصل فيها إلى شيء، وهذا يحصل للعلماء؛ لأنه لا يحيط بكل الأحكام أحدٌ بعد النبي ﷺ، حتى كبار الصحابة خفيت عليهم أشياء، فهذا التفصيل في مسألة التقليد.

قال -رحمه الله: الرأي ثلاثة أقسام: رأي باطل، ورأي صحيح، ورأي هو موضع اشتباه، والسلف استعملوا الرأي الصحيح وعملوا به، وذموا الباطل ومنعوا من العمل به، والثالث سوغوه عند الاضطرار.

هذا كلام مهم في الرأي، فالرأي هو ما يراه القلب بعد الفكر والتأمل وطلب معرفة وجه الصواب مما تتعارض فيه الأمارات؛ لأن الرأي لا يكون في اتباع النص، ولا يكون أيضاً في القضايا التي لا تتعارض فيها الأمارات، مسائل الحساب مثلا هل هذه تحتاج إلى رأي سواء البديهيات أو غير البديهيات، لو قلنا: الواحد نصف الاثنين هذا من البديهيات أم لا؟، فهل هذا يقال: رأي؟ هذا ليس برأي، وهكذا لو أتينا وقلنا مثلاً: إن أربعمائة وسبعة وتسعين تقسيم ثلاثة عشر، فهذه تحتاج إلى إعمال ذهن لكن ما فيها تعارض أمارات، فالنتيجة التي تخرج حتمية، أليس كذلك؟ فلهذا لا يقال لهذه النتيجة بأنها رأي، إنما الرأي في الشيء الذي يكون محل نظر، ويحتاج إلى فكر وتأمل، ومعرفة وجه الصواب في مثل هذا مما تتعارض فيه الأمارات.

فلو نظرت إلى الرأي: مثلاً الكلام في تفسير القرآن بالرأي، أو الكلام في دين الله بالرأي، لما تنظر مثلاً في "تفسير ابن جرير الطبري" في أول الكتاب ذكر فصلين أو بابين في هذا الكتاب في مقدمته، الأول ذكر فيه النصوص الواردة في التحذير من تفسير القرآن بالرأي، الفصل الثاني ذكر فيه أشياء تدل على الجواز، فبعض الناس يقف على بعض الآثار في المنع مثلاً والتحذير فيقول: لا يجوز إعمال الرأي في دين الله ، ولا يجوز اتباع الرأي ولا القول بالرأي، بينما لو نظر في الأدلة الأخرى عرف أن الرأي قد يقال فيه.

وتجد في مثل كتاب: "جامع بيان العلم وفضله" لابن عبد البر، ذكر أشياء وآثارًا ونصوصاً كثيرة فيما يتعلق بالرأي والقول بالرأي واتباع الرأي، وتجدون أشياء من هذا القبيل في بعض كتب السنة سواء في مقدماتها أو في غيرها في ثناياها، وهكذا في بعض كتب الاعتقاد التي تسمى كتب السنة.

فالمقصود أن الرأي ليس على وزان واحد، فهنا يقول: "الرأي ثلاثة أقسام: رأي باطل"، فهذا هو مقصود السلف الذي ذموه وحذروا منه، وحرموا القول به، والفُتيا والقضاء وذموا أهله وعابوهم وشنعوا عليهم، هذا النوع الذي هو الرأي الباطل، وسيأتي بيانه.

النوع الثاني: وهو الرأي الصحيح، هذا الذي سوغ السلف العمل والقضاء والحكم والفُتيا به عند الاضطرار، لكنهم لم يلزموا أحداً بذلك، ما جعلوه بمنزلة النص أنه يجب الأخذ به، وتحرم مخالفته، ويكون مخالفه مذموماً ملوماً مُعرضاً للعقوبة، لا، ما أفرطوا فيه، ولم يفرعوا عليه كما فعل المتأخرون، واعتاضوا به عن النصوص، كما يقال: مدرسة أهل الرأي، فالمبالغة فيه والإسراف فيه والتفريع عليه والإعراض عن النصوص والاشتغال بالرأي هذا هو المذموم، والنوع الثالث: وهو الرأي الذي يكون موضع اشتباه.

قال: "والسلف استعملوا الرأي الصحيح وعملوا به وذموا الباطل ومنعوا من العمل به، والثالث سوغوه عند الاضطرار". 

قال -رحمه الله: فالرأي الباطل الرأي المخالف للنص، والكلام في الدين بالخرص.

يعني هذا الآن ينتظم الرأي الباطل، كل ما يخالف النص فهو باطل، هذه قضية مفروغ منها، الكلام في الدين بالخرْص والظن يعني مع التفريط والتقصير في معرفة النصوص وفهمها والاستنباط، استنباط الأحكام منها، فهو لا يكلف نفسه البحث عن الأدلة، والنظر فيها، واستفراغ الوسع في استخراج الأحكام منها، فهذا يعتبر تفريطًا وهذا لا يجوز، ولذلك تجد بعض الناس لربما يسارع في كل قضية يُسأل عنها، يقول: هذا ما يجوز، يقال له: هذا ورد فيه حديث في الصحيحين واضح وصريح في المسألة، فيفاجَأ بمثل هذا الكلام، يعني ليس بدليل خفيٍّ أو خفِيَ مأخذه، دليل واضح في غاية الوضوح، وفي الصحيحين لا يخفى على طالب علم، ومع ذلك تجده يسارع يقول: لا، هذا لم يرد فيه شيء، لم يرد فيه دليل، هذا من كلام بعض العوام وليس له أصل، وهو ورد في حديث ثابت صحيح!، فمثل هذا يكون مذموماً، يتكلم في الدين بالخرص، وهذا قد يقع لبعض العوام، وقد يقع لبعض أهل العلم الذين قد يحصل لهم شيء من الترهل، إما لكثرة الانشغال بالوظائف من القضاء وغيره، فينشغل عن العلم دهراً طويلاً فينسى العلم، فإذا سئل الناس يسألونه لأنه يعتبر في نظرهم قامة من قامات العلم على عهد مضى، فيُستصحب هذا الحكم فيه فلا يزال الناس يسألونه وهو بعيد العهد من العلم، حتى إنك قد تجد الرجل يسأل ولده وهو في أولى كلية يقول له: ابحث لي، راجع لي، هو نسي العلم ونسي البحث ولا يجد وقتاً لذلك، فيُسأل ويتصل الناس به ويفتيهم بالفتاوى العجيبة الغريبة، تسمع أشياء غريبة، فهذا لا يجوز، فهذا من الكلام في الدين بالخرص.

قال -رحمه الله: والرأي المتضمن تعطيل أسماء الله وصفاته وأفعاله بالمقاييس الباطلة التي وضعها أهل البدع.

يعني هؤلاء عندهم أصول يحاكمون إليها النصوص، وقد مضى كلام طويل على هذه القضايا في ثنايا الكلام على كتب شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله، عندهم أصول، عندهم قضايا، عندهم قواعد يرجعون إليها ويحاكمون النصوص إليها، فكل نص أوهم التشبيه عندهم فهو مؤول أو مفوَّض، فمثل هؤلاء بآرائهم بمقاييسهم الفاسدة التي يحاكمون إليها النصوص هؤلاء على انحراف، ورأيهم هذا باطل، ولا يجوز الوقوف عنده ولا سؤال أمثال هؤلاء، فهؤلاء أصحاب المذاهب المنحرفة من الأشعرية، وأنواع الجهمية، كالمعتزلة وغيرهم، لهم أصول ولهم قواعد، ولهم علوم يدرسونها، وفلسفات، وعلم المنطق وما إلى ذلك، هذا كله رأي باطل يردون به النصوص من الكتاب والسنة فيعطلونها.

قال -رحمه الله: والرأي الذي أُحدثت به البدع.

هذا هو النوع الرابع أُحدثت به البدع وغُيرت به السنن، وهو يقول بعد هذا: إن هذه الأنواع الأربعة من الرأي اتفق السلف والأئمة على ذمها، وأنها ليست من الدين، هذه الأنواع الأربعة من الرأي بالاتفاق، يأتي النوع الخامس أيضاً.

قال -رحمه الله: والقول بالاستحسان والظنون، والاشتغال بحفظ المعضلات، ورد الفروع بعضها على بعض قياساً دون ردها إلى أصولها.

هذا نقله عن ابن عبد البر -رحمه الله- حافظ المغرب، وابن عبد البر ذكره في كتابه: "جامع بيان العلم وفضله" فقد تكلم على الرأي، وابن عبد البر -رحمه الله- عزا ذلك إلى جمهور أهل العلم، أن الرأي المذموم في الآثار المرفوعة والموقوفة، يعني: الآثار المرفوعة إلى النبي ﷺ، والآثار المنقولة عن السلف الصالح في ذم الرأي حملها ابن عبد البر على القول بالاستحسان، والظنون، والاشتغال بحفظ المعضلات ورد الفروع بعضها على بعض قياساً دون ردها إلى أصولها، يعني: على طريقة أهل الرأي المعروفة التي تقابل طريقة أهل الحديث والأثر، فهؤلاء هم الذين يشتغلون بعُضَل المسائل والأغلوطات وصعاب المسائل، ويولدون ذلك من بعض، ويسألون عن أشياء يعني لم تقع، أو نادرة الوقوع، ولا يُظن أنها تقع، فيتكلفون هذه التكلفات.

وتكلم على مسألة المسائل غير الواقعة وفصّل فيها في قوله تعالى: لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ [سورة المائدة:101]، هل هي المسائل القدرية الكونية مثل الذي قال: من أبي؟، عندما غضب النبي ﷺ وقال: سلوني، لما أكثروا عليه من المسائل، فقام عبد الله بن حذافة وقال: من أبي؟ فقال: أبوك حُذافة[12]، هذه مسألة قدرية، يعني: من أبي في علم الله وقدره وحكمه القضائي؛ لأنه كان يُشكَّك في نسبته لأبيه، أو كانت في المسائل الشرعية، يُسأل عن مسائل على خلافٍ في معنى قوله:  وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ  [سورة المائدة:101]، هل النهي في وقت نزول القرآن فيكون كما جاء في الحديث:إن أعظم المسلمين جُرماً من سأل عن شيء لم يُحرَّم، فحُرِّم من أجل مسألته[13]، لكن بعد وفاة النبي ﷺ أُمن هذا فيسوغ السؤال.

وبعضهم يقول: المقصود بذلك الأسئلة المتكلفة فهي مذمومة على الإطلاق، وبعضهم يقول غير هذا، والمسألة فيها تفصيل وتكلم عليها جمع من أهل العلم كابن عبد البر وابن رجب أيضاً، وتكلم عليها أيضاً ابن القيم في مثل هذا الكتاب، فالمسألة فيها تفصيل وقد ذكرت شيئاً من هذا في كتاب فقه الرد على المخالف.

فهنا المسائل المتكلفة، ومن الأمثلة على المسائل المتكلفة: الذي سأل عمر قال: لو أن أحدًا وطِئ بدابته مثلاً على دجاجة ميتة فخرجت منها بيضة، ففقست عنده البيضة فرخاً، هل الفرخ يحل أكله أو لا؟، يعني: يعتبر أنه متولد من ميت، البيضة خرجت من دجاجة ميتة ففقس الفرخ عنده، فقال له عمر: من أين أنت؟، قال: من أهل العراق، قال: فعل الله بأهل العراق[14].   

يعني: كانت تأتيهم هذه المسائل المتكلفة من قِبلهم غالباً، فالشاهد أن هذه مسائل نادرة الوقوع، مسائل متكلفة، فهذا مذموم، إنما يُسأل عما يكون غالباً، عما يقع، عما يُظن وقوعه بظن غالب، وحذيفة كان يسأل النبي ﷺ عن أشياء لم تقع، وأقره النبي ﷺ على هذا، لكن المسائل النادرة أو صعاب المسائل، وما يسمى بالأغلوطات وعُضَل المسائل هذه لا يسوغ السؤال عنها، يعني: يسمونها أحياناً أسئلة تعجيزية، أسئلة متكلفة، ما عنده أسئلة فيولد مسائل نادرة، افترض أنه حصل كذا، إذا حصل كذا بحثنا له عن جواب.مسائل يعني يصعب القول فيها، والحكم وهي لم تقع، فكان السلف يقولون: إذا وقعت اجتهدنا حينها في طلب الحكم، فهذا النوع كانوا يذمونه، وإنما كانوا يسألون عما يعنيهم ويلابسهم.

قال -رحمه الله: والرأي المحمود أنواع: رأي الصحابة .

الآن عرفنا الرأي المذموم، وهذا الرأي المحمود أنواع، إذن الرأي فيه محمود ومذموم، فالرأي المحمود منه رأي الصحابة ، وذكر كلاماً متيناً في بيان منزلة الصحابة، وعمق علومهم، وحسن فهمهم، طبعاً هذا الكلام الذي يذكره الشيخ عبد الرحمن هنا هو كلام مختصر جدًّا، لكن الحافظ ابن القيم يذكره بشيء من التفصيل، أحياناً في عشرات الصفحات أو أكثر، وإنما هذه نُبذ وعناوين منه فقط، فهذا رأي الصحابة، وشيخ الإسلام يرى أن أقوال الصحابة الثابتة عنهم أنها لا تخالف القياس، والعقل الصحيح، وأنها موافقة له.

قال -رحمه الله: والرأي الذي يفسر النصوص، ويبين وجه الدلالة منها إذا كان مستنداً إلى استدلال، واستنباط دون ما استند على مجرد التخرص. 

فذكر أن هذا الرأي نوعان، كما ذكر أمثلة للنوع الأول من فتاوى الصحابة ، فهذا الرأي الذي يفسر النصوص يُحتاج إليه، يُبيَّن مأخذ هذا القول، كيف يُستنبط منه الحكم، يُبيَّن فيه مراد الشارع، فكل ذلك يرجع إلى نظر العلماء واجتهاد العلماء، واستفراغ الوسع في معرفة مقاصد الشارع، ووجوه الدلالة من كلامه وينزلون أنواع الاستدلال على النص، فيسلطونها عليه فيستخرجون أنواع الأحكام، فقد يستخرج من دليل واحد من حديث واحد أحياناً مئات المسائل.

فبعضهم يستخرج من حديث قصير لربما في سطر واحد لربما ثلاثمائة مسألة، هذا كله اشتغال بالنص، لكن يُعملون فيه الذهن، ويجتهدون، فهذا الاجتهاد في استخراج الحكم، ولذلك فإن الاجتهاد كما قال الشاطبي هو نوعان: نوع في استخراج الأحكام من الأدلة، فهذا يكون للعالم، والنوع الثاني الذي يسمونه تحقيق المناط، يعني حينما يقول العالم مثلاً: إن المرأة التي ترى الدم، أو الكُدرة، أو الصفرة في وقت العادة فإنه يكون من عادتها ولو لم يكن بصفة دم الحيض، فهنا من الذي يقرر هذا في النهاية؟، هي المرأة نفسها، هي تحتاج أن تنظر فتقول: هذا ينطبق أو لا ينطبق، هذا خارج عنه أو ليس بخارج عنه، فهذا يسمونه تحقيق المناط، هذا في هذه القضايا العملية، هذا اجتهاد آخر يكون للعامي. 

تقول مثلاً: الزكاة واجبة على من ملك النصاب في الأموال الزكوية ودار عليه الحول، تحقق الشرط وانتفى المانع، فينظر الإنسان في نفسه، هل الذي عنده مال زكوي أو لا؟، وهل دار عليه الحول أو لا؟، فيطبق ذلك على نفسه، ويعرف أنه يجب عليه أو لا يجب عليه هذا، وهكذا.

قال -رحمه الله: والرأي الذي اتفقت عليه الأمة.

هذا يكون إجماعاً.

قال -رحمه الله: والرأي الذي يكون بعد طلب الواقعة من الكتاب والسنة وأقوال الصحابة يُجتهد فيه إلى قربه من معاني النصوص.

الآن الرأي الذي يكون بعد طلب الواقعة من الكتاب والسنة وأقوال الصحابة، أقوال الخلفاء الراشدين الأربعة، فإن لم يكن كما يقول ابن القيم فاثنان، فإن لم يكن فواحد، فإن لم يكن فواحد من غير الخلفاء الراشدين، يعني: من أصحاب النبي ﷺ؛ لأن الأقرب أن قول الصحابي حجة.

وكما ذكرت في بعض المناسبات أنها حجة بيانية، وليست بحجة رسالية؛ لأن الحجة الرسالية: قال الله، قال رسوله، الوحي فقط، لكن هذا يبين لنا عن أمر خفي علينا من كلام الشارع ما بلغنا، ما وصل إلينا، فوجدنا قول الصحابي، فنأخذ بقوله إذا لم يوجد له مخالف، أو لم يُعلم له مخالف، هذا قول الصحابي.

فإذا ما وجدنا شيئاً فعند ذلك يحصل الاجتهاد، قال: "يُجتهد فيه إلى قربه من معاني النصوص"، لا، عبارة ابن القيم يقول: "يجتهد فيه إلى أقرب ذلك من كتاب الله وسنة رسوله ﷺ وأقضية أصحابه"[15]، يجتهد ليقرُب من النصوص، وكلام الصحابة، وأقضية الصحابة، إذا ما وجد شيئاً لهم في هذه المسألة بخصوصها يحاول أن يقارب ذلك، ثم تكلم بعد هذا الكلام الطويل في نحو مجلدين على شرح خطاب أو كتاب عمر لأبي موسى الأشعري، نحن نتكلم عن الرأي، فهذه نُتف من كلامه، تكلم بعدها على شرح خطاب أو كلام عمر .

قال -رحمه الله: الطرق التي يحكم فيها الحاكم أوسع من الطرق التي أرشد الله صاحب الحق إلى أن يحفظ حقه بها.

هذه مسألة يحتاج إليها القضاة ويحتاج إليها الناس عموماً، عندنا طرق نحفظ بها حقنا، وهناك طرق يستعملها القاضي، فالطرق التي يستعملها القاضي لإحقاق الحقوق أوسع من الطرق التي نحفظ بها حقوقنا، بمعنى نحن نحفظ حقوقنا كيف؟، الله قال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ  [سورة البقرة:282]، الكتابة،  وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ  [سورة البقرة:282]، إلى أن قال: وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى [سورة البقرة:282].

وقال:  وَلَمْ تجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ  [سورة البقرة:283]، فهذه الطرق التي نحفظ بها حقوقنا.

وكثير من الناس تأتي أمورهم أحياناً على المساهلة والثقة فيدخلون في قروض، أو في معاملات، أو في مرابحات وتجارات ولا يكون هناك شهود، ولا كتابة، وإذا سألتهم قالوا: نحن بنينا هذا على الثقة، كان بيننا ثقة، والآن يأتون عند القاضي، فالطرق التي يحكم بها القاضي أوسع من الأشياء التي نحفظ نحن بها حقنا، نحفظ حقنا كما جاء في آية الدين، لكن ما هي الطرق التي يحكم بها القاضي؟

نجد أن القاضي يحكم أحياناً بشاهد واحد ويمين، كما ثبت ذلك في السنة، لكن هل نحفظ نحن حقنا بشاهد ويمين؟، لا، لكن إذا أتينا عند الحكم والقاضي حال التنازع فإنه قد يحكم بالشاهد واليمين، يقول: عندك شهود؟ يقول له: عندي شاهد واحد، يقول: شاهدك ويمينك، فاليمين تقوم مقام الشاهد الآخر، فهي يمين الطالب وليس المدعى عليه، كما يحكم بالنكول والرد وغير ذلك، فهذا جاء بشاهد ويمين، وذاك أنكر، قال: تحلف؟، قال: لا، لا أحلف، إذن سلم له الحق.

وعُقبة بن الحارث كما في الصحيح: "لما تزوج امرأة فجاءت أمة سوداء وقالت: إنها أرضعتهما، قالت: أرضعتكما، فجاء إلى النبي ﷺ وأخبره، قال: هذه أمة سوداء جاءت بعد الزواج، وقالت: أنا أرضعتكما، فالنبي ﷺ أمره أن يفارقها"[16].

الآن ما عندنا شهود، امرأة أمة سوداء جاءت، وقالت هذا الخبر، فبنى عليه النبي ﷺ الحكم، يعني: هل هذه الأمة يؤخذ بقولها وهي واحدة في مسألة كهذه؟ النبي ﷺ اعتبر قولها، لا يوجد شاهدان ولا بينة، وإنما دعوى ادعتها هذه المرأة واعتبر النبي ﷺ كلامها، فهو بحسب المقام. 

وهكذا أيضاً اللقطة إذا وصفها الواصف بوصف يضبطها فإنها تُعطى له، لو قيل: من فقد ساعة؟، يوجد ساعة مفقودة، فجاء واحد ووصفها وصفًا دقيقًا، أنا صاحبها، يُحكم بها له، ويُعطى هذه اللقطة، وهذا يدل على صدقه؛ لأن هذه الصفة بمنزلة البينة، فتُعطى له بمجرد الوصف، فلا يحتاج إلى شهود، ولا يحتاج إلى إثباتات أخرى.

وهكذا كما أشرت سابقاً في مواضع الحاجات تُقبل شهادات من لا عبرة بشهادته في أصل الباب، يعني: مسائل الجنايات مثلاً، وهكذا شهادة الأطفال والنساء، القتل والجراح وما أشبه ذلك، فلا يجود إلا صبيان في هذا المكان فتُقبل شهادتهم، لا يوجد إلا نساء فتُقبل شهادتهم.

وهكذا القابلة التي تتولى توليد المرأة وهي امرأة واحدة إذا قالت شيئاً أو نحو ذلك، ولا يوجد غيرها فإنه يُقبل كلامها، بل كما ذكر ابن القيم -رحمه الله- أنه تُقبل شهادة الواحد إذا عُرف صدقه[17]، يعني: من غير يمين، فهذا كله مما يُحتاج إليه، فعندنا في حفظ الحق  فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ  [سورة البقرة:282].

قال -رحمه الله: الذي جاءت به الشريعة أن اليمين تُشرع من جهة أقوى المتداعيين، وأيُّ الخصمين ترجّح جانبه جُعلت اليمين من جهته.

هذه أشرت إليها آنفاً في ثنايا الكلام في قضية سبقت، وهذا قول الجمهور أن اليمين تكون مع الطرف الأرجح والأقوى من المتداعيين، وذكرت أمثلة لذلك، خلافاً للأحناف الذين يقولون: هي دائماً مع المدعى عليه، أخذاً بظاهر الحديث:  البينة على المدعي، واليمين على من أنكر.

وهذا كما قلت بأن فقه الحافظ ابن القيم -رحمه الله- ودقته في هذا نظر إلى أن المدعى عليه في الحديث هنا أنه بيده ذلك المدعى به فجانبه أقوى، فجُعلت اليمين معه، لكن في الأمثلة الأخرى مثل: القسامة جُعلت مع هؤلاء، وفي الرجل حينما يقذف امرأته جانبه أقوى، وهو لا يُقدم على فضح نفسه، والكلام على عرضه وامرأته وما أشبه ذلك كذباً عليها فجُعلت اليمين معه، وهكذا.

قال -رحمه الله: الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحاً حرم حلالاً، أو أحل حراماً، والمسلمون على شروطهم إلا شرطاً حرم حلالاً، أو أحل حراماً.

الآن القاضي مثلاً يحتاج أن يصلح بين الخصوم، لكن هذا الصلح أيضاً هو جائز إلا إذا كان يقتضي تحريم حلال، أو تحليل حرام، أحياناً القاضي يتواطأ، أي أحد يريد أن يصلح بين ناس قد يتواطأ معهم، أو يصلح بينهم على إسقاط حق لله ، أو يكون هذا الصلح فيه ظلم للطرف الضعيف، فيحمله على القبول؛ لأن حقه سيضيع، فيكون القوي هو الذي قد ظفر وأخذ بالنصيب الأوفر، وصيغت القضية بصيغة الصلح بين الطرفين.

وأحياناً يكون ذلك أشبه ما يكون بالإلجاء، يقول له القاضي: تريد هذا أو ما لك شيء؟، لماذا ليس لي شيء؟ هنا عند القضاء لابد من مفاصل الحقوق، وأحياناً القاضي قد يُملِّله، ويُضجره، ويجعل القضية لربما تجلس ست عشرة سنة، سبع عشرة سنة، وهذا الإنسان يطالب بحقه فيمل، فيقول: تصالحوا، ويُرددهم مرة بعد مرة، مرة بعد مرة حتى يُضطر هذا ويقول: "العوض ولا القطيعة"، تعرفون هذا المثل؟، يعني: كون أني آخذ هذا الذي عُرض عليّ ولو كان شيئاً يسيراً أحسن من العدم.

فهذا ما يعتبر صلحًا، ولا يجوز؛ لأنه ألجأه إليه، وبعض القضاة قد يفعل ذلك على سيبل التورع لا يريد أن يحكم، يعني: قد تجد قاضيًا وصل إلى سن التقاعد ويفتخر أنه ما حكم ولا بقضية، أنت إنما وُضعت للحكم بين الناس، ما وضعت مصلحًا اجتماعيًّا، لكن من أدب القاضي أن يعرض الصلح على الناس، فإن قبلوا فالحمد لله، فإذا ما قبلوا هنا يُبين مفاصل الحقوق.

فابن القيم -رحمه الله- هنا في مسألة الصلح ذكر أمثلة كثيرة لذلك من إصلاح النبي ﷺ بين أصحابه، وذكر أحاديث في الباب.

وذكر أشياء عن عمر بن الخطاب في الصلح، فالنبي ﷺ مثلاً: عرض النصف -الشطر، فهذا ممكن، لكن لا يكون الصلح كما سبق فيه قوة، أو تقوية، أو وقوف مع جانب الظالم، أو المعتدي، أو يكون ذلك على حساب حق لله ، أو يتفقون ويصطلحون على إسقاط حكم من أحكامه، أو حد من حدوده.  

فالحد إذا بلغ القاضي يجب إقامته مثلاً، فالقضية في مضامينها حد؛ لأن كلامهم فيه أشياء، أحياناً قضايا تتعلق بالقذف، مثلاً عند من يقول بأن القذف حق لله، وحق للمخلوق، وأنه لا يسقط بتنازل المخلوق، مثلاً عند من يقول هذا ووصلت للقاضي، أو قضية فيها حد يتعلق بأن هذا زنى بامرأة هذا أو نحو ذلك مع أشياء أخرى ومطالبات، ولربما خصومة فيها مطالبات مالية، أو شِجاج أو ما أشبه هذا، فالقاضي قد يطالبهم بالصلح، ويكون من ضمن العرض أن يُسقَط عنه الحد، يقول: تصالحوا وموضوع الحد هذا يُسقط، نتغاضى عن الحد تصالحوا، هذا لا يجوز، الحد حق لله ، بصرف النظر عن المثال الذي ذكرته مسألة القذف هل هو حق للمخلوق أو لا إذا عفا، لا أعني عين المثال، لكن أقصد أنه لا يكون إسقاط حق لله لا يجوز للقاضي أن يُسقطه، فقط، ثم ذكر أنواع الحقوق.

قال -رحمه الله: والحقوق نوعان: حق لله لا مدخل للصلح فيه، كالحدود، ونحوها.

نحوها يعني كالزكوات، لا يملك أن يقول: نُسقط عنك الزكاة، نصف الزكاة نُسقطها عنك في سبيل الصلح، الكفارات، اختصم هو وزوجته وجاءوا عند القاضي إلى آخره، وقد ظاهر منها، وأشياء، فيأمرهم بالإصلاح وهي تطالبه بأمور وأموال، أو مؤخر مهر، أو عند الطلاق، فيقول له مثلاً: نحن نُسقط عنك، يسقط عنك حكم الظهار الكفارة المغلظة هذه في سبيل أنكم تصطلحون، هو لا يملك هذا حتى يُسقط عنهم، يريد أن يُسهل الصلح في نظره فيعرض عليه هذه العروض؛ ليغريه بها، فحق الله لا يُسقط، أما حقوق الآدميين فهي التي تقبل الصلح والإسقاط والمعاوضة عليها.

قال: والصلح العادل هو الذي أمر الله به ورسوله، والجائر هو الظلم بعينه، وهو الميل مع أحد المتصالحين بغير نفع للآخر، فالصلح الجائز هو الذي يُعتمد فيه رضا الله ورضا الخصمين.

الصلح الجائر: الظلم، الميل مع أحد المتصالحين بغير نفع للآخر، ثم ذكر الصلح المردود والجائز، وأن الأول كالذي يحل الحرام أو العكس، هذا صلح، كأن يُحل له مثلا بُضع هذه المرأة التي حرُم عليه مثلاً بطلاق أو نحو ذلك أو لعان، فيصلح بينهم بإحلال هذا أو بتحريمه عليه.

ومثل بعض الجهلة لما تحتد الخصومة بين المرأة وزوجها ويحصل طلاق إلى آخره تذهب المرأة وتطالب تقول: أريد أن نُبرِّئه من أولاده، كيف يُبرَّأ من أولاده؟!، هي تشتط وتريد أنه ما يأخذ الأولاد فتقول: نريد هذا يقر عند المحكمة نُبرِّئه من أولاده، كيف يُبرَّأ من أولاده؟!، هذا لا يسوغ شرعاً.  

وهكذا مثلاً: إرقاق الحُر، أو نقل النسب، يُنسب إليه وهو ليس بأب له، يُنسب لآخر، اختلفوا صار بينهم خصومة ويتهم زوجته، ولم يقبلوا باللعان مثلاً، هل يسوغ أنه يقال: خلاص يقبل أحد آخر أن الولد هذا يُنسب إليه، وتنتهي المشكلة، يُنسب إلى عمه، أو يُنسب إلى فلان من الناس؛ ليُحل الإشكال؟

الجواب: لا يجوز، وليس هذا بصلح، فالصلح لا يدخل في مثل هذه الأمور، وهكذا إسقاط الواجبات، أكل الحرام، إعطاؤه ربا، إقرار الربا أو نحو ذلك، تعطيل الحدود، كل هذا لا يسوغ فيه الصلح.

فيقول: "فالصلح الجائز هو الذي يُعتمد فيه رضا الله، ورضا الخصمين، فيكون المصلح عالماً بالوقائع، عارفاً بالواجب، قاصداً للعدل"، هذه ثلاثة أشياء في المصلح، أن تُدرَس دورات اجتماعية في الصلح، دورات تدريبية أظن في الإصلاح الاجتماعي، والإرشاد الأسري، وما أشبه هذا، هم بحاجة إلى معرفة هذه الأشياء.

المصلح لابد أن يكون كما يقول ابن القيم: "عالماً بالوقائع، عارفاً بالواجب، قاصداً للعدل"، ثلاثة أشياء، يعرف الأحكام، ويعرف الواقعة، وله قصد صحيح، يقصد العدل.

ثم بعد ذلك جاء إلى الكلام على الرؤى.

  1. أخرجه البخاري، كتاب الإيمان، باب صوم رمضان احتسابًا من الإيمان، برقم (38)، ومسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الترغيب في قيام رمضان، وهو التراويح، برقم (759).
  2. أخرجه البخاري واللفظ له، كتاب الصوم، باب من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا ونية، برقم (1901)، ومسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الترغيب في قيام رمضان، وهو التراويح، برقم (760).
  3. أخرجه الدارقطني في سننه، برقم (3190)، وبرقم (3191)، والبيهقي في السنن الكبرى، برقم (16445)، وصححه الألباني في إرواء الغليل، برقم (1938) وأخرجه الترمذي، بلفظ: البينة على المدعي، واليمين على المدعى عليه، أبواب الأحكام عن رسول الله ﷺ، باب ما جاء في أن البينة على المدعي، واليمين على المدعى عليه، برقم (1341)، وقال: "هذا حديث في إسناده مقال، ومحمد بن عبيد الله العرزمي يضعف في الحديث من قبل حفظه، ضعفه ابن المبارك، وغيره"، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (2897)، وفي الإرواء، برقم (2641).
  4. أخرجه الدارقطني في سننه، برقم (4471)، والبيهقي في السنن الكبرى، برقم (20830).
  5. أخرجه الدارقطني في سننه، برقم (4472)، والبيهقي في السنن الكبرى، برقم (20347).
  6. أخرجه البيهقي في السنن الكبرى، برقم (20347).
  7. انظر: إعلام الموقعين عن رب العالمين (3/ 126).
  8. انظر: مجلة المنار (12/ 785).
  9. إعلام الموقعين عن رب العالمين (1/ 9).
  10. إعلام الموقعين عن رب العالمين (1/ 37).
  11. انظر: أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (7/ 306).
  12. أخرجه البخاري، كتاب العلم، باب الغضب في الموعظة والتعليم إذا رأى ما يكره، برقم (92)، ومسلم، كتاب الفضائل، باب توقيره ﷺ، وترك إكثار سؤاله عما لا ضرورة إليه، أو لا يتعلق به تكليف وما لا يقع، ونحو ذلك، برقم (2359).
  13. أخرجه البخاري، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب ما يكره من كثرة السؤال وتكلف ما لا يعنيه، برقم (7289)، ومسلم، كتاب الفضائل، باب توقيره ﷺ، وترك إكثار سؤاله عما لا ضرورة إليه، أو لا يتعلق به تكليف وما لا يقع، ونحو ذلك، برقم (2358).
  14. انظر: ذم الكلام وأهله (3/ 197، 198).
  15. إعلام الموقعين عن رب العالمين (1/ 67).
  16. أخرجه البخاري، كتاب الشهادات، باب شهادة الإماء والعبيد، برقم (2659).
  17. إعلام الموقعين عن رب العالمين (1/ 79).

مواد ذات صلة