الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فابتدئنا الكلام على كتاب: "طريق الهجرتين"، وسأذكر بعض ما اعتدنا ذكره عند الكلام على الكُتب.
فهذا الكتاب جاء أو سماه مؤلفه -رحمه الله- في بعض كُتبه بـ "سِفر الهجرتين وطريق السعادتين"، وسماه أيضًا بـ "سِفر الهجرتين في طريق السعادتين"، وسماه بعض تلامذته وبعض أصحابه بـ "سِفر الهجرتين وباب السعادتين"، وأحيانًا يُذكر على سبيل الاختصار يذكره أهل العلم مُختصرًا هكذا بـ "سِفر الهجرتين".
وأحيانًا يختصرونه فيقولون: "طريق السعادتين"، وأما العنوان الذي كتبه المؤلف بخطه على نُسخته التي كتبها بخط يده فسماه: "طريق الهجرتين وباب السعادتين"، فهو حينما يُسميه في بعض كُتبه بأسماء مُقاربة، فهذا قد يكون من باب أن العالم أحيانًا قد يتردد في التسمية في حرف أو كلمة أو نحو ذلك فيكتبه تارة هكذا، وتارة هكذا، لاسيما إذا علمنا أن هذا الكتاب أصلاً مات المؤلف -رحمه الله- عنه وهو مسودة، ولهذا بقيت فيه بعض التصحيفات، ولربما بعض الأشياء التي لو بيضه المؤلف لاستدركها، ووجد فيه أيضًا بعض السقط.
هذا الكتاب يتحدث عن الهجرتين، وسبقت الإشارة إلى أن الهجرة الأولى: هي هجرة القلوب إلى باريها، والهجرة الثانية: هي هجرة الأبدان بالانتقال من البلد التي لا يأمن فيها إلى بلد يأمن فيها حينما يعبد ربه -تبارك وتعالى-، ولكن وقع لي في ذلك وهم مع كتابه الآخر الذي قرأته في بدايات قراءتي لكتب الحافظ ابن القيم -رحمه الله- وهو كتاب بديع، رسالة صغيرة اسمها: "الرسالة التبوكية"؛ لأنه أرسلها إلى أصحابه من تبوك، وتُسمى أيضًا: بــ"زاد المُهاجر إلى ربه"، فهناك تكلم على الهجرتين هنا، وعلى الهجرتين اللتين ذكرت هجرة الأبدان وهجرة القلوب، وأن هجرة القلوب إلى الله أعظم وأجل وأشرف، لكنه هنا ماذا يقصد بالهجرتين؟ يقصد بالهجرة الأولى الهجرة إلى الله -تبارك وتعالى- بعبادته، ومحبته، وخوفه، ورجاءه، وأن الهجرة الثانية: أن يكون النبي ﷺ هو محل القدوة والأسوة، وهو المُتبع في كل شيء شأن من شؤونه -عليه الصلاة والسلام-، فهو الذي لا ينطق عن الهوى، فيقتبس الهُدى من مشكاته -عليه الصلاة والسلام- فيحصل له بذلك الهداية، وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا [النور:54]، ويكون بذلك الجمع بين جُملتي الشهادة: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله، هذا هو المقصود بهاتين الهجرتين.
ولعلي ذكرت أن هذا الكتاب من أهل العلم من يعتبره أشبه بــ: "تهذيب لمدارج السالكين"، وإن لم يكن كذلك، لكن الموضوعات فيها شيء من التشابه بلا شك.
هذا الكتاب بعد المُقدمة وذكر الهجرتين والمُراد بهما تكلم في فصل عن الغنى والفقر، مسألة الافتقار إلى الله -تبارك وتعالى-، ثم بين في قاعدة عظيمة حاجة العبد إليها كبيرة وهو أن المعبود -جل جلاله وتقدست أسماؤه- ينبغي أن يكون هو المطلوب والمحبوب وحده لا شريك له، وهو وحده المُعين على حصول المطلوب، وهو المُرتجى فيتوجه إليه وحده دون ما سواه، ولا يلتفت إلى أحد غيره.
وذكر جملة من القواعد في "العبودية" فذكر قاعدة في أن كمال العبد وصلاحه يتخلف عنه من إحدى جهتين، وذكر قاعدة في الابتلاء، وقاعدة في مشاهد الناس في المعاصي والذنوب، وقاعدة في الإنابة ودرجاتها، وقاعدة في ذكر طريق موصل إلى الاستقامة في الأحوال والأقوال والأعمال، وقاعدة في أن الطريق إلى الله واحد، وقاعدة في أن السير إلى الله لا يتم إلا بقوتين علمية وعملية، وذكر قاعدة في أقسام العباد في سفرهم إلى الدار الآخرة ووصف أحوالهم.
ثم ذكر فصلاً في مراتب المكلفين في الدار الآخرة وطبقاتهم فيها، فأوصلهم إلى ثمان عشرة طبقة.
هذه مضامين الكتاب مع بعض التوسع والاستطراد في بعض الجوانب مثلاً في بعض المواضع تحدث عن قضية القضاء والقدر وأطال فيها؛ وكتب ما يقرُب من 210 صفحة في مسألة القضاء والقدر.
فهذا الكتاب هو من الكتب البديعة التي هي في غاية النفع، ولا يُستغنى عنه بحال من الأحوال.
قال المؤلف -رحمه الله-:
هذا الذي تتوقف عليه السعادة، وتحصل به النجاة، ولعل الله أن يُيسر نتحدث عن هذا بحديث خاص في مجلس مُفرد في غير هذه المجالس، وذلك يمكن أن يكون مضمنًا في قوله -تبارك وتعالى-: وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُوْلِي الأَيْدِي وَالأَبْصَارِ [ص:45]، فهم أصحاب القوة العملية، وهذا معنى أولي الأيدي يعني أنهم أصحاب قوة في العمل والعبادة وطاعة الله والدعوة إلى سبيله والجهاد، خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ [مريم:12] فهم يأخذونه بجد ويعملون في مرضاة الله -تبارك وتعالى- من غير توانٍ، والوصف الآخر: وَالأَبْصَارِ فهم في عملهم هذا وفي دعوتهم وفي جهادهم على بصيرة: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ [يوسف:108]، فهم لا يعملون بجهل، ومن ثَم فإن أعمالهم تأتي موافقة للصواب والحق، وأما من عمل بغير علم فإنه في دعوته وأمره بالمعروف ونهيه عن المنكر وجهاده وما إلى ذلك قد يُفسد أكثر مما يُصلح؛ فلا بد من هذين الأمرين، من أجل أن يصح سير العبد على الصراط المستقيم، علم، وبصر، ومعرفة للحق بالإضافة إلى العمل والجد في طاعة الله، والدعوة إلى سبيله، والخلل عادة يأتي إما من هذا، وإما من هذا، وناس عندهم علم ولكن لا يعملون، وقد نجد آخرين عندهم عمل كثير وصبر وجلد ولكن لا علم عندهم، فهؤلاء الذين يعملون ولا علم عندهم قد ينتقدون هؤلاء الذين يعلمون ولا يعملون، وتحصل بذلك فتنة للطائفتين، وهؤلاء الذي عندهم علم وليس عندهم عمل قد ينتقدون هؤلاء الذين يعملون ولهم صبر وجلد ولكن على غير هدى ولا بصيرة، فيحصل بذلك فتنة لهؤلاء بهؤلاء، هؤلاء يُبتلون بهؤلاء وهؤلاء يُبتلون بهؤلاء، والصحيح الكامل أن يكون العمل مع العلم، لا أقصد أن يكون الإنسان عالمًا لكن بحسب ما يتصدى له، فعمله لا بد أن يكون مُصححًا فأقل الأحوال أن يرجع إلى أهل العلم فلا يخطو خطوة حتى يتبصر.
هذه القواعد مُلخصة جدًا وإلا فهذه القواعد يكتب فيها كتابات طويلة لكن هذه روؤسها، وقد أشرت قبل قليل في مضامين الكتاب أشرت إلى هذا، لو نظرنا مثلاً مقادير الصفحات أنا تركت بعض الشيء من أجل أن لا يطول الحديث، وإلا لو نظرنا إلى الصفحات التي يكتبها ويذكرها في هذه الموضوعات مثلاً نجد على سبيل المثال، القاعدة الأولى: في 230 صفحة، القاعدة الأخيرة: في 357 صفحة، بينهما سبع قواعد تتراوح بعضها في ستة أسطر، وبعضها في 22 صفحة، فهذا الذي يذكره الشيخ عبد الرحمن -رحمه الله- هو مثل الطرف اليسير من هذه المسائل والفوائد التي يذكرها الحافظ ابن القيم -رحمه الله-.
"قاعدة نافعة: العبد من حين استقرت قدمه في هذه الدار فهو مُسافر فيها إلى ربه، ومدة سفره هي عمره، والأيام والليالي مراحل فلا يزال يطويها حتى ينتهي السفر، فالكيس لا يزال مُهتمًا بقطع المراحل فيما يُقربه إلى الله ليجد ما قدّم مُحضرا؛ ثم الناس منقسمون إلى أقسام:
منهم من قطعها متزودًا إلى ما يقربه إلى دار الشقاء من الكفر وأنواع المعاصي.
ومنهم من قطعوها سائرين فيها إلى الله وإلى دار السلام وهم ثلاثة أقسام: سابقون أدوا الفرائض وأكثروا من النوافل بأنواعها وترك المحارم والمكروهات وفضول المُباحات، ومقتصدون أدوا الفرائض وتركوا المحارم، ومنهم الظالم لنفسه الذي خلط عملاً صالحًا وآخر سيئًا، وهم في ذلك درجات متفاوتون تفاوتًا عظيمًا".
هذه القاعدة تتضمن عِبرة في حياتنا وسيرنا إلى الله -تبارك وتعالى- وحقيقة ما نحن فيه في هذه الحياة الدنيا، فالإنسان من حين ينطلق يستهل صارخًا عند ذلك يبدأ العمر المحسوب له بالعد التنازلي، بمعنى إذا كان المُقدر لهذا الإنسان أن يعيش مثلاً ستين سنة فمنذ أن يخرج من لحظته الأولى من الثانية الأولى يبدأ العد بالناقص، تبدأ هذه السنوات أو هذا العمر أو هذه الستون تبدأ بالنقص والاضمحلال والتلاشي، تأكلها الأيام والليالي، في كل لحظة ينقص هذا العُمر فنحن كالذين يركبون في مركب، هم لربما يشعرون أنهم في حال من السكون والاستقرار ولكن الواقع أن هذا المركب أو هذه الطائرة أو هذه السفينة تنقلهم مرحلة بعد مرحلة، فتتناقص المسافة التي هي غاية سيرهم في هذه الحياة الدنيا، فكلما قطعوا مرحلة نقص من هذه المسافة حتى تتلاشى ثم يوافي الأجل هذه حقيقة السير إلى الله، فأعمارنا قبل الصلاة أطول من أعمارنا الآن، وكما تُشاهدون نحن ننتظر إجازة منتصف العام كالذي يركب في سفينة وهذه مثل الجُزر في الطريق، جاءت إجازة منتصف العام ثم تجاوزتها هذه السفينة أو هذا المركب، ثم جاء الموعد الأسبوع الأول، وجاء يوم الأحد، وجاء الدرس، ثم الموعد الثاني السفينة تمر، والموعد الثالث، والرابع، ثم جاءت الإجازة النهائية نهاية العام، ثم بعد ذلك بدأت جاء الفصل الأول، ثم الفصل الثاني، ثم الإجازة، ثم الفصل الثالث، وهكذا يمر العمر لا يتوقف، لو قال الإنسان: أريد أن أتوقف بعض الشيء فإنه لا يستطيع؛ لأن هذا المركب ينقله شاء أم أبى، فعلى أي شيء هو؟ على أي حال يكون؟ هذا الذي عليه المعول ولذلك ربما ذكرت في بعض المناسبات أن مُنتهى ذلك وما يوافيه الإنسان هو الذي يحصل به التغابن، وأن هذه الأعمار هي بمنزلة رأس مال أعطاه الله لكل إنسان، فصار الناس يتجرون برؤوس الأموال هذه والساعة لا تتوقف، فيمكن أن تُحصل بهذه اللحظات أفضل الأعمال، ويمكن أن تُحصل دونها من الأعمال الصالحة، ويمكن أن لا تُحصل شيئًا، ويمكن أن تُحصل المعاصي والذنوب، فصار الناس يشتغلون ويتجرون، فهذا صار يبحث عن أفضل الأعمال في هذه التجارة مع الله فصرف الأنفاس في الأرفع والأنفع والأفضل، فجاء بتجارة رابحة، قد لا يكون عاش مدة طويلة، قد يكون عاش عشرين سنة ثم توفي، لكنه اشتغل بأربح التجارة، وذنوب قليلة فحصل أعلى المنازل.
وآخر قد يكون عاش ثمانين سنة، ولكنه ضيع الزمان بالذهاب هنا وهناك في أمور مُباحة، والنُزه، نُزه الصيف، ونُزه الشتاء، ونُزه الربيع، وضاع العمر في مجالس وأحاديث واستراحات من غير طائل، فجاء أبو ثمانين هذا وليس عنده بضاعة من الأعمال الصالحة إلا قليل، ليس عنده شيء أكثر الأوقات ذاهبة ولو أردت أن تحصر الأعمال الصالحة التي عملها يمكن أن تُختصر في خمس سنوات، فصارت الثمانون لا قيمة لها.
وجاء آخر وعاش مدة كهذه واشتغل فيها بمعاصي الله فلما تعطلت قواه وضعُف صار يتمنى لو عاد إليه قوته ونشاطه من أجل أن يجد ويجتهد في معصية الله فهو في عزم دائم على المعصية، فالعداد لا يتوقف في حساب المعاصي، ويغبط الناس ويُغريهم بفعل كذا وبفعل كذا وأنه حينما كان في سن الشباب كان يفعل وكان يفعل، فمثل هذا لا يسلم فتجد هذا يأتي ببضاعة خاسرة، فيأتي الناس يوم القيامة ويوافون بهذه التجارات فهذا يُحاصل المنازل العالية في الجنة، وهذا يُحصل منازل دونها، وهذا يشتري منزلاً في النار فذلك يوم التغابن، يتغابنون تغابنًا عظيمًا هذه من أجلى صور التغابن التي يُفسر بها قوله تعالى: ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ [التغابن:9]، وله صور أخرى لا تُنافي هذا، مثل الذي علم العلم -نسأل الله العافية- فلم يعمل به فدخل النار، وتعلمه آخرون فعملوا به فدخلوا الجنة؛ فيأتي هذا الذي علمهم بتجارة خاسرة، ويأتي هؤلاء بتجارة رابحة.
وهذا إنسان عنده مال تعب فيه وجمع الملايين أخذه من غير حِله، وحبس حق الله فيه وحقوق الخلق، ثم بعد ذلك صار إلى وارث عمل فيه بطاعة الله فدخل الجنة، وذاك دخل به النار، فهذا من التغابن الذي تعب في المال دخل النار، والذي أخذه من غير تعب دخل به الجنة، وقل مثل ذلك في الأجير والخادم والمملوك كما يقول الحسن البصري[1] -رحمه الله-.
فهذا الإنسان عنده مملوك هذا المملوك يعمل بطاعة الله ويؤدي حق سيده، وهذا السيد الآمر الناهي لا يرفع بذلك رأسًا، ولا يُطيع ربه، فيدخل السيد النار والمملوك يدخل الجنة، فذلك يوم التغابن، فكم من إنسان قد يدخل النار -أعاذنا الله وإياكم ووالدينا وإخواننا المسلمين منها- وسائقه أو خادمه يدخل الجنة، فهذا من التغابن.
فالمقصود أن يُدرك الإنسان دائمًا أنه في سفر فبما يقضيه بماذا يقضي الأوقات والأنفاس وهذا العُمر الذي لا يمكن أن يُضيع، والناس يتعاملون معه للأسف حثوًا بلا كيل ولا ميزانِ، أرخص ما عندهم الأوقات، ولو أن الإنسان جد واجتهد حقيقة وعرف قيمتها لوجد أن الأربع والعشرين ساعة لا تكفيه لما هو بصدده من الأعمال التي يعتبرها من الواجبات عليه لا تكفيه، ويبدأ يتعامل مع الوقت تعامل الشحيح، كم تحتاج من الوقت؟ عشر دقائق تكفيك، تكفيك في الطريق إلى المسجد، أما الذي لا يعرف قيمة هذا الأوقات مُهدرة، إما جلوس هكذا من غير طائل، أو البحث عن أي شيء يشغله، أو النوم الطويل، أو العبث بالواتس آب وهذه الوسائط.
"وطبقات المُكلفين في الآخرة ثمانية عشر طبقة:
أعلاها مرتبة الرُسل -صلوات الله وسلامه عليهم- وهم ثلاث طبقات:
أعلاها أولوا العزم الخمسة، ثم من عداهم، ثم الأنبياء الذين لم يُرسلوا إلى الأُمم".
هذا المشهور أن أولي العزم خمسة، وهذا لا أعلم دليلاً صريحًا عليه، ولكن كثيرًا من أهل العلم كأنهم جمعوا بين آيتين قد لا يكون بينهما ارتباط، الآية الأولى: فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ [الأحقاف:35]، فذكر أولي العزم لكنه ما سماهم، والآية الثانية هي التي سمى فيها الخمسة وهي قوله -تبارك وتعالى-: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ [الشورى:13]، فذكر هؤلاء الخمسة لكن ما ذكرهم في سياق أولي العزم ما قال أولي العزم، شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ، فليس لأولي العزم ذكر في هذه الآية أيضًا، هناك ذكرهم من غير تسمية وهنا سمى خمسة، فبعض أهل العلم جمع بين الآيتين، ولهذا لم يكن ذلك محل اتفاق أن أولي العزم خمسة، وإن قال به كثيرون، فبعضهم سمى أكثر من هؤلاء.
وبعضهم قال: كل الرُسل -عليهم الصلاة والسلام- هم من أولي العزم فإن الله قال: فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ [الأحقاف:35]، والمقصود بأولي العزم أصحاب العزائم العظيمة والصبر على تبليغ رسالات الله، واحتمال الأذى في سبيله، والصبر على أذى أقوامهم، لهم صبر عظيم في ذلك، وعزائم كبيرة في تبليغ هذه الرسالات، فلا شك أن هؤلاء الخمسة من أفضلهم وأجلهم، ولكن هل يُحصر بهؤلاء الخمسة أو لا؟
الحصر يحتاج إلى دليل، لا شك أن الأنبياء يتفاضلون الرُسل يتفاضلون، فالطبقات هنا يقول: ثلاث بالنسبة لهؤلاء الرُسل -عليهم الصلاة والسلام- أعلاهم أولوا العزم سواء قلنا: خمسة أو أكثر إذا قلنا: إنه ليس كل الرُسل ليس من أولي العزم مثلاً، وحينما يُقال: ليس كل الرُسل من أولي العزم ليس المقصود بذلك أن البقية من الرُسل -عليهم الصلاة والسلام- لا صبر لهم ولا عزيمة، لا، وإنما المقصود أنهم يتفاوتون في مراتب الكمال هم وصلوا إلى الكمال لكن الكمال مراتب فتميز بعضهم بذلك وصار سمة بارزة لهم، قال: ثم من عداهم، ثم الأنبياء الذين لم يُرسلوا إلى الأمم.
هؤلاء الصديقون، والصديق هو من كمُل تصديقه وكمُل صدقه، كمُل تصديقه أبو بكر ما قيل له عن النبي ﷺ: إنه قال كذا إلا قال: صدق؛ فسُمي بالصديق، وأيضًا كمُل صدقه فهو لا يتكلم إلا بالصدق لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ [الأحزاب:8]، فهذه مرتبة عالية من مراتب أهل الإيمان.
"الخامسة: أئمة العدل وولاته.
السادسة: المُجاهدون في سبيل الله.
السابعة: أهل الإيثار والإحسان والصدقة.
الثامنة: من فتح الله عليه بابًا من أبواب الخير القاصر على نفسه من صلاة وصيام وحج وغيرها.
التاسعة: طبقة أهل النجاة؛ وهم من يؤدي فرائض الله ويجتنب محارمه".
في بعض النسخ "النحاة" وهذا خطأ ليست النُحاة وإنما النجاة، طبقة أهل النجاة وهم من يؤدي فرائض الله ويجتنب محارمه، يعني: يقصد بذلك المُقتصدين الذي يفعل الواجبات ويترك المحرمات، وأما أولئك الذين قبله فهم من السابقين بالخيرات على تفاوت بينهم، فمراتب أهل الإيمان، ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وهو الذي قد يترك بعض ما أمر الله به أو يفعل بعض ما نهاه الله عنه، وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ يفعل الواجب ويترك المحرم ويقتصر على هذا، وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ [فاطر:32]، فهؤلاء مراتب، فذكر هنا هذه المراتب لهم، وهي الثمان الأولى، -والله المستعان-، المشكلة من لم يُفتح عليه في هذا كله -نسأل الله العافية- أقعدته نفسه عن ذلك كله فلم يكن من أهل هذه المراتب وهذه الطبقات، ولا فُتح عليه في باب من أبواب البر والخير والمعروف، لا علم ولا عمل، -نسأل الله العافية-، فهذا يأتي ببضاعة لا يُحصل بها ما يؤمله ويرجوه.
يعني أن هؤلاء ما علموا أعمالاً صالحة تُذكر، قصروا في طاعة الله فعلوا المعاصي فالتوبة تجب ما قبلها، فلم يكونوا مثل الذين قبلهم كانوا يؤدون الفرائض ويجتنبون المحارم فهؤلاء فوقهم.
"الحادية عشر: طبقة أقوام خلطوا عملاً صالحًا وآخر سيئًا ولقوا الله مُصرين غير تائبين لكن حسناتهم أغلب من سيئاتهم، فإذا وزنت بها رجحت كفة الحسنات، فهؤلاء أيضًا ناجون فائزون.
الثانية عشر: قوم تساوت حسناتهم وسيئاتهم وهم أصحاب الأعراف، وهو موضع بين الجنة والنار، ولكن مآلهم إلى دخول الجنة".
أصحاب الأعراف اخُتلف فيهم اختلافًا كثيرًا، ولكن هذا هو الراجح أن أصحاب الأعراف هم قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم والوزن عند الله الحق، وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ [الأعراف:8-9]، ولهذا يُقال: ويل لمن غلبت آحاده عشراته، فالآحاد هي السيئات سيئة بسيئة، والحسنة بعشر، ومع ذلك غلبت السيئات للحسنات، فهذا معناه أنه في غاية التفريط والتضييع والغفلة والإهمال.
هؤلاء هم أهل الوعيد، يعني: هم مستحقون دخول النار.
"الرابعة عشر: قوم لا طاعة لهم ولا معصية، ولا كفر، ولا إيمان، وهم أصناف:
منهم من لم تبلغهم الدعوة بحال، ومنهم المجنون الذي لا يعقل، ومنهم الأصم الذي لا يسمع شيئًا أبدا".
الأصم الذي لا يسمع شيئًا أبدا ثم بعد ذلك يكون أبكم، قديمًا لم يكن يمكن التواصل معه بلغة يفهمها ويُعرف ويُعلم الدين وشرائع الإسلام، وما أشبه ذلك، أما الآن فإنه صار ذلك من العلوم التي تُدرس وصار هؤلاء يعرفون ما يعرفه غيرهم عن طريق هذه اللغة لغة الإشارة، وتجد هؤلاء حينما تُلقي عليهم درسًا أو محاضرة وأنا جربت هذا كأنك تُلقي على أسوياء يتفاعلون ويتأثرون.
وبعضهم يبكي، ويسألون بعد الدرس، وهم لا يسمعون ولا يتكلمون؛ لأن الذي لا يسمع منذ صغره لا يتكلم؛ لأنه كيف يعرف الكلام إلا عن طريق السمع.
يعني أطفال المشركين فيهم كلام كثير لأهل العلم وذلك بناء على ما ورد من النصوص في حقهم فالنبي ﷺ في بعض الأحاديث ألحقهم بآبائهم[2]، وفي بعضها ذكر غير ذلك -عليه الصلاة والسلام-، وفي بعضها توقف: الله أعلم بما كانوا عاملين[3]، فتوقف فيهم.
فالعلماء لما نظروا في هذه النصوص وحاولوا الجمع بينها وأين المُتقدم وأين المُتأخر وقع بينهم هذا الاختلاف في أطفال المُشركين.
وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً [الإسراء:15]، وقد تكلمت في مناسبات سابقة على مسألة الحُجة وقيام الحُجة وبلوغ الحُجة، والفرق بين بلوغ الحُجة وقيام الحُجة، وما يُطلب من فهم الحُجة ما هو القدر المطلوب فهذا يقول: يختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة والأشخاص، وذلك أن قيام الحُجة، فهذا يقول: يختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة والأشخاص، وذلك أن قيام الحُجة مثلاً في بلد كهذا ليس كقيامها في مجاهيل غابات بعيدة لا يصل إليها الدعاة إلى الله -تبارك وتعالى- وأهلها لا يعرفون شيئًا، ولم يبلغهم الإسلام، فقيام الحجة هناك غير قيام الحجة هنا، قيام الحجة في بلد وجد فيها أهل البِدع ولم يسمع الناس غير ذلك فصار ينشأ عليها الصغير ويشيب عليها الكبير ويُسلم من يُسلم على مذهب هؤلاء، فمثل هذا إن كان هؤلاء لم يبلغهم ما تقوم عليهم به الحُجة فمثل هؤلاء قد يُعذرون، والمسألة فيها تفصيل ولا يقال فيها بقول واحد يجري على الجميع في كل زمان ومكان، فهي من أدق المسائل.
الزنادقة هم نفس المنافقين، يعني: كانوا في الزمن الأول في عهد النبي ﷺ وصدر عهد الصحابة يُقال لهم أهل النفاق المنافقون، ثم بعد ذلك صار يُقال: الزنادقة، وكان أكثر ما يُطلق ذلك على أقوام أظهروا الدخول في الإسلام من أصحاب الثقافات والديانات والفلسفات في البلاد التي فتحها المسلمون من الفُرس والهند ونحوهم، فبقي بعض هؤلاء على ديانته وأظهر الإسلام وصار يدس فيه، فجاءت ضلالات وانحرافات شنيعة، وقالوا: بأن الشريعة لها ظاهر وباطن، جاءوا بأمور لا يمكن أن تتفق مع الإسلام؛ فهؤلاء هم الزنادقة، وإلا فأصل ذلك يرجع إلى النفاق، يعني: إذا قالوا هذا زنديق، هؤلاء زنادقة المقصود أهل النفاق، لكن لما جاءت هذه العينة يعني كان في السابق لربما المنافق ليس عنده خلفية مُعينة أو ثقافة معينة أو نحو ذلك يُظهر الإسلام ويُبطن الكفر؛ ليسلم ماله، وتسلم نفسه، ولكن وجد من هؤلاء من أصحاب الثقافات والديانات من المزدكية وغيرهم من أظهروا الإسلام ثم أرادوا أن يُظهروا مذاهبهم هذه بلبوس الإسلام، فأظهر بعضهم محبة أهل البيت وجعلها كِساءً أو عباءة يتذرع بها إلى كل مطلوب من هذه المطالب الفاسدة المُردية التي إنما هي من تلك الديانات والأهواء والضلالات التي قُصد الإبقاء عليها وبثها بين المسلمين، فهؤلاء يُقال لهم: زنادقة، وفي الزنادقة كتابات يوجد بعض الكتب الزنادقة، أو الزندقة، ما معنى الزندقة؟ ودراسات فيها، ومن أفضل ما قرأت في هذا الموضوع كتابة مختصرة للدكتور عبد العزيز العبد اللطيف، نشرها قديمًا أظن في أحد المجلات لو بحثتم في جوجل الزنادقة أو الزندقة وأظنها في "مجلة البيان"، مقالة قديمة جيدة مُختصرة وجامعة.
وكذلك البدع أقصد أنها تتفاوت بحسب هذه الاعتبارات، يعني: كيف نحكم على البدعة أنها كبيرة أو صغيرة، بحسب مُتعلقها، وبالنظر إلى أثرها أيضًا، فهنا نحكم بأنها كبيرة أو صغيرة مثلاً، وهنا بالنسبة للكفر الله يقول: فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ [التوبة:12]، فهناك أئمة للكفر، وهناك أتباع، وليسوا سواء، ومراتبهم في النار ليست واحدة، أئمة الكفر.
هم الأتباع والمتبوعون كما هو معلوم في النار، كما ذكر الله في مواضع من كتابه، ويتبرأ بعضهم من بعض فيها، ولا يُقال: هؤلاء عوام الكفار لا يُحاسبون.
لو أرادنا أن نُرتب هذه الطبقات إلى الأدنى مثلاً إلى الأدنى فهنا إذا جئنا إلى الكفار يعني أهل الخلود في النار، ثم فجاء بالطبقة الخامسة عشرة، وهي طبقة الزنادقة، فهؤلاء أشد ثم رؤوس الكفر ثم المُقلدة فهؤلاء بعدهم، فهذه كم طبقة الآن؟
ثلاث، هذه ثلاث طبقات بحسب غِلظ الكُفر، وسوء الحل، والعمل، والعاقبة والمآل، يعني: لا تظن أن التسلسل إلى الأشد الآن إلى الدرك الأسفل من النار، لا، الدرك الأسفل من النار يبدأ من فوق بالنسبة لطبقات أهل الخلود، فأهل الزندقة هم الأشد، ثم أئمة الكفر، ثم عوام الكُفار، يعني: كما أنه بدأ بالمراتب العالية لأهل الإيمان فبدأ بأولي العزم وهكذا تدرج إلى الأدنى، فهنا ذكر أيضًا الأشد في الكُفر، ثم تدرج إلى الأدنى، فيؤخذ هذا مفصولاً عن الذي قبله من هذه الحيثية.
والمراد بالكفار هنا كل من يُحكم بكفره بخروجه من الملة سواء كان أصليًا أو مُرتدًا، فهم على مراتب فبعض من ينتكس ويرتد عن الإسلام قد يتحول إلى منافق، يعني: يقع في النفاق الأكبر، وقد يكون من أئمة الكفر يصير حربًا على الإسلام وأهله، وقد يكون هذا من عوام الكُفار.
الأنبياء الذين لم يرسلوا إلى الأُمم، يعني غير الرُسل يقصد غير الرُسل، والفرق بين النبي والرسول مضى الكلام عليه في بعض المُناسبات وكلام الناس في هذا هل ما يُقال في المشهور من أن النبي هو من أوحى الله إليه بوحي ولم يؤمر بتبليغه، وأن الرسول من أوحي إليه بوحي وأُمر بتبليغه، هذا مشهور عند الناس، ولكن فيه نظر؛ لأن الله أخذ الميثاق على أهل الكتاب: لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ [آل عمران:187]، فيجب البلاغ، ولا تبرأ الذمة بالكتمان فكيف يُقال: ولم يؤمر بتبليغه؟!
وبعضهم يقول: إن النبي هو من يأتي مُقررًا لشريعة قبله، يعني: لا يوحى إليه بشرع جديد، والرسول يوحى إليه بشرع جديد، وهذا أحسن من الذي قبله، ولكن أيضًا يرد عليه بعض الإشكالات أن بعض الرُسل -عليهم الصلاة والسلام- لا يُعرف عليه أنه أوحي إليه بشرع جديد مثل يوسف ، عيسى ما أوحي إليه بشرع جديد كان مُتعبدًا بالتوراة، ويوسف فيما نعلم كان مُتعبدًا بشريعة يعقوب ، وبقيت شريعة يعقوب فيما نعلم حتى جاءت التوراة فنسخت أشياء منها، ومن ثَم فهؤلاء رُسل عيسى ويوسف، يوسف ما الدليل على أنه رسول؟ قول مؤمن آل فرعون: وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ يقول للفراعنة، فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولاً [غافر:34]، وإذا ذُكرت الحكاية في القرآن ولم يُذكر قبلها أو في ثناياها أو بعدها ما يدل على ردها فالأصل أنها صحيحة، هذه القاعدة، هذا في الغالب، ومن ثَم قال شيخ الإسلام[4] -رحمه الله- في الفرق بين النبي والرسول، استظهر -رحمه الله- أن النبي يعني إذا جمعت كلامه المُتفرق تخرج بهذه النتيجة -والله أعلم-، أن النبي هو من بُعث إلى قوم مؤمنين مثل أنبياء بني إسرائيل هم فيهم، ولم يُبعث إلى قوم من الكُفار، وأما الرسول فيكون قد بُعث إلى كافرين أُرسل إلى كافرين يدعوهم إلى الله، وإلى الإيمان، فموسى أُرسل إلى بني إسرائيل، وأُرسل أيضًا إلى فرعون: اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى [طه:43]، وكذلك هارون ، ويوسف يكون قد أُرسل إلى الفراعنة أيضًا مع الإسرائيليين، فإن مؤمن آل فرعون يقول للفراعنة: وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فكان مُرسلاً إليهم.
وكذلك عيسى كما ذكر شيخ الإسلام هو رسول إلى بني إسرائيل: وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ [آل عمران:49]، وأُرسل أيضًا إلى كفرة اليونان يدعوهم إلى الإيمان، فعلى كلام شيخ الإسلام في الفرق بين النبي والرسول أن الرسول لا بد أن يكون بُعث إلى كافرين، يعني: يمكن يكون بُعث إلى مؤمنين لكن بالإضافة إلى كافرين مثل يوسف وعيسى وهارون -عليهم السلام-، وإذا بُعث في قومه خاصة من المؤمنين ككثير من أنبياء بني إسرائيل فهذا يكون نبيًا ولا يكون رسولاً، أما البلاغ فالجميع مُطالبون بالبلاغ.
قال -رحمه الله-:
"ومن كتاب: عُدة الصابرين".
هذا الكتاب طُبع طبعات كثيرة هذه الطبعة الأفضل طبعًا هي طبعة دار عالم الفوائد، للأسف يعني كثير من الطبعات فيها تحريف، وفيها حتى "طريق الهجرتين"، وسائر كُتب ابن القيم عمومًا، لكن جاء الله بهذه الطبعات فقُبلت على نُسخ كثيرة، هذا الكتاب سماه المؤلف نص على أنه سماه في المُقدمة: "عِدة الصابرين وذخيرة الشاكرين"، وفي العنوان الذي على المخطوطة: "عُدة الصابرين وذخيرة الشاكرين في الصبر والشُكر"، يعني: فيه زيادة في الصبر والشُكر، وضُبطت قد يكون ابن القيم ضبطها أو ضبطها غيره "عُدة الصابرين" بالضم، فهذه القضية هل اسم الكتاب عِدة من الوعد يعني ما وعد الله به الصابرين من الجزاء الأوفى وحُسن العاقبة، أو أن المقصود عُدة الصابرين من العُدة؟ المشهور أنها بالكسر عِدة الصابرين من الوعد، والعِدة تكون عادة في الخير، يعني: ما وعدهم من الأجر والثواب والجزاء، وهذا يتناسب مع الجزء الآخر من اسم الكتاب وذخيرة الشاكرين، ولو قيل عُدة الصابرين أيضًا، فهذا أيضا ًله وجه، يعني: ما يُهيأه ما يُعده يجعله عُدة للدهر، فما هي الأشياء التي يتسلح بها الصابر، العُدة ماذا أعد للصبر، الصبر ثقيل وشديد ومُر يحتاج إلى استعداد، فماذا أعد للصبر؟! فهذا يحتمل وهذا يحتمل، وليس عندنا ما يقطع بأحد الاحتمالين، والشيخ بكر أبو زيد -رحمه الله- عندما تكلم على كُتب ابن القيم -رحمه الله- ذكر الاحتمالين، ووجه كل احتمال، فمن سماه هكذا: "عِدة الصابرين" فلا يُقال: إنه أخطأ، ومن قال: "عُدة الصابرين"، فلا يُقال: إنه أخطأ، وليس هذا بقُرآنٍ مُنزل، الكتاب يحتمل في عنوانه هذا وهذا، ولكل معنى صحيح يتناسب مع موضوع الكتاب، فالأمر فيه سعة.
هذا الكتاب تكلم فيه طويلاً عن الجانب الأول الذي هو الصبر عِدة الصابرين عُدة الصابرين، هو يتكلم عن الصبر والشُكر، فأطال في الكلام على الأمر الأول من الباب الأول إلى الثامن عشر كل هذا في الصبر وما يتعلق به، عرفه، وبين حقيقته، وأسماءه، ومُتعلقه، والفرق بين الصبر والتصبر والاصطبار والمُصابرة، وقسمه باعتبار المحل، وبحسب أحواله من القوة والضعف، وباعتبار المُتعلق، وباعتبار الأحكام الخمسة من حيث: الوجوب، والتحريم، والاستحباب، والكراهة، والإباحة، ودرجات الصبر، وانقسامه إلى محمود ومذموم، وصبر الكِرام وصبر اللئام، والأسباب التي تُعين عليه، وأن الإنسان لا يستغني عنه، ومشقة الصبر على النفوس، وما ورد فيه بنصوص الكتاب والسُنة والآثار، وهكذا ما يتصل بالمصائب من البُكاء، وشق الثياب، والنياحة، ودعوى الجاهلية، ونحو ذلك.
من الأبواب من التاسع عشر إلى الرابع والعشرين أدخل الشكر وتحدث عنه، وهو يتحدث عن أن الإيمان نصفان نصف صبر ونصف شكر، وهذه العبارة مشهورة وإن كان الحديث المرفوع الوارد في هذا لا يصح عن النبي ﷺ، حديث ضعيف، لكنها عبارة مشهورة عند أهل العلم ويوجهونها ويُناقشونها ويُبينون ما تتضمنه من المعاني، وتحدث في المُفاضلة بين الصبر والشُكر أيهما أفضل، وساق خلاف أهل العلم ورجح، وناقش، وحكم بين الفريقين، وهكذا تكلم عن الغني الشاكر والفقير الصابر وأيهما أفضل، وحُجة كل طائفة.
والباب الخامس والعشرين بين فيه ما يُضاد الصبر وينافيه، وتكلم على بعض المسائل وقضايا الشكوى هل تُنافي الصبر أو لا والأنين أنين المريض والهلع.
في الباب السادس والعشرين وهو آخر الأبواب أراد فيه أن يُبين فضيلة عظيمة لكل من الصبر والشُكر، وهي أنهما داخلان في صفات الرب -تبارك وتعالى-، ثم ختم الكتاب بخاتمة فيها حث للناس في مسيرهم إلى الله والدار الآخرة.
فهذا مضمون الكتاب وهو كتاب نفيس، والمؤلف استفاد فيه من كتاب الإحياء إحياء علوم الدين للغزالي، حينما تكلم الغزالي عن هذه القضية، استفادة كبيرة ولكنه زاد عليه كثيرًا حتى إن ما ذكره لربما يربوا على أربعة أضعاف ما ذكره الغزالي.
وهذا تفسير بديع للغاية؛ وهي طريقة ابن القيم في الجمع بين الأقاويل التي يذكرها السلف في الآية، فكلام أهل العلم في هذه الآية: وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ [الرعد:21]، بعضهم يقول: يصلون الكتب والرُسل فيؤمنون بها جميعًا ولا يفرقون، يعني: ما يؤمنون بطريقة انتقائية، وإنما يؤمنون بالجميع، لا نُفرق بين أحد من رُسله، كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ [البقرة:285]، فهذا لون، وقال به بعض السلف.
وبعضهم وهو الذي اختاره ابن كثير[5] -رحمه الله- حمل ذلك على صلة الأرحام والإحسان إليهم وإلى الفقراء والمحاويج وبذل المعروف: وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ [الرعد:21]، من هذه الوشائج وأصحاب الحاجات بالإحسان، يعني الإحسان المُتعدي إلى الناس، فهذا شامل لأنواع الإحسان إلى الناس، ولكنه دون ما ذكره ابن القيم -رحمه الله-.
وذهب كثيرون إلى أن المقصود بذلك صلة الأرحام: وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ [الرعد:21]، يعني: الرحم التي أمر الله بوصلها، وهذا الذي اختاره كبير المُفسرين ابن جرير[6] -رحمه الله-، وقال به أكثر المُفسرين.
وبعضهم كابن عطية[7] والقُرطبي[8] حملوها على معنى أوسع مما ذكره الحافظ ابن كثير أن ذلك في القَرَابات يدخل فيه القرابات دخولاً أوليًا كما يقول ابن جرير -رحمه الله-، ويقوله أكثر المُفسرين قالوا: وهو مع ذلك يتناول جميع الطاعات، يدخل فيه القرابات دخولاً أوليًا ويدخل فيه بالمعنى الأعم جميع الطاعات، جميع الطاعات هذا مثل كلام ابن القيم لكن بهذا التفصيل البديع قد لا تجد هذا الكلام لغير ابن القيم بهذا النفس، الشيخ عبد الرحمن ابن سعدي متأثر بابن القيم كثيرًا ولذلك تجد في تفسيره وفي كتبه وفي كلامه ما يُشبه كلام ابن القيم، ولهذا في تفسير هذه الآية الشيخ عبد الرحمن ابن سعدي -رحمه الله- ذكر قريبًا من كلام ابن القيم هذا.
إذن: وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ [الرعد:21]، يدخل فيها الصلة بين العبد وربه، الصلة بين العبد والملائكة، والرسل، والكتب، الصلة بين العبد والخلق، الناس، ويدخل في ذلك صلة الأرحام، وجميع أنواع الإحسان، ويدخل فيه سائر الأعمال.
من أعظم ما يُعين على الصبر، الصبر مُر مذاقه، ولهذا هو على اسمه الصبر وثقيل، وفي قوله -تبارك وتعالى-: وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا [الإنسان:12]، لعلي ذكرت في بعض المناسبات كلام شيخ الإسلام ابن تيمية[9] -رحمه الله- قال: لما كان الصبر فيه ضيق وحبس للنفس جزاهم بالجنة التي فيها سعة، ولما كان الصبر فيه خشونة قابله بالحرير جَنَّةً وَحَرِيرًا [الإنسان:12]، ولما كان الصبر فيه حرارة قابله بالجنة التي فيها البرودة، الجنة تُشير إلى السعة والبرودة، والحرير يُشير إلى النعومة، فالصبر فيه هذه الثلاث ضيق وحرارة وخشونة فقابله بهذا الجزاء: وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا [الإنسان:12]، الجنة فيها البرودة والسعة، والحرير فيه النعومة.
فهنا لابد من أشياء تُعين على هذا الصبر، ما هي حتى لا ينقطع صبر الإنسان إذا جاءت الشدائد، وقد يظن أنه صابر وأنه يستطيع أن يصبر كما قال شيخ الإسلام، وتكلمنا على هذا طويلاً في الكلام على الصبر في الأعمال القلبية، أنه فرق بين العزم على الصبر والصبر، فقد يعزم الإنسان على الصبر، الذين طلبوا أن يكتب الله عليهم القتال: فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا [البقرة:246]، وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ [آل عمران:143]، ففرق بين العزم على الصبر يقول الإنسان أنا لو لقيت العدو أصبر وأثبت لكنه قد لا يثبت، وقد يقول إذا اُبتليت أصبر ولا أكون مثل فلان، لو أصابني المرض الذي أصاب فلان لصبرت واحتسبت وإذا جاءه أدنى منه انكسر ولم يصبر، فهنا ما الذي يُعين على الصبر؟ أن يُدرك العبد ما في المأمور من الخير واللذة والكمال، وما في المحظور من الشر والضرر، إذا نظر إلى هذا المعنى صبر، كيف يصبر عن معصية الله؟ هذا يتعلق بالطاعة والمعصية، كيف نصبر على طاعة الله ونصبر عن معصيته؟
تذكر أن هذا مثل السُم هذه المعصية مثل السُم، فإذا كان الإنسان يتلذذ بذلك فليعلم أن هلكته فيه، وهذه الطاعة التي يعملها وإن كان تحتاج إلى صبر، ويثقل عليه ويشتد ذلك إلا أنه هو الترياق الذي تكون فيه عافيته وسلامته وراحته، وتحصل له به حُسن العاقبة في النهاية؛ يتذكر هذه المعاني فيصبر عن المعصية، ويصبر على الطاعة.
هذا في صراع بين فريقين أو بين جهتين أو بين جبهتين الشهوة وهناك ما يُغذيها ويقويها، والعقل، فهذه الشهوة إذا تفاقمت وتعاظمت غطت داعي العقل وصار عليه غشاوة فيقع في أمور لم تكن منه على بال، ولا يخطر في باله أنه يفعل ذلك ويصل إلى هذه الأحوال، فيكون عليه مثل الغِشاوة فيقع فيما كان يُحاذره.
إذن نحتاج أن نُضعف الفريق الأول نُضعف هذه الشهوة، ونقوي داعي العقل حتى ينتصر وترجح كفته.
طبعًا هناك أشياء كثيرة تُعين على الصبر ذكرتها في الأعمال القلبية كثيرة، منها ما يتعلق بتذكر الثواب والأجر، ومنها ما يتعلق بالنظر في أسماء الله وصفاته أن الله عليم حكيم، وأنه اختار له هذا، وأن الله -تبارك وتعالى- قد يكون أعد له منزلة لا يبلغها بعمله فيُقيض الله له هذا البلاء، ومنها يتذكر أنه لا يدوم البلاء ويكون سرمديًا، وإنما فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا [الشرح:5-6]، وذكرت هذا في درس أيضًا بعنوان: "وصيتي لكل محزون"[10]، فمثل هذه الأسباب كثيرة إذا نظر الإنسان إليها هانت عليه شدة ما يُكابده، ويُلاقيه مع الصبر.
يعني إذن عندنا علوم الكمالات بعلوم وأعمال وأحوال، العلوم هي هذه كالعلم بالله وأسمائه وصفاته ومعرفة الطريق وتفاصيل الطريق إلى الله التي هي معالم الصراط المستقيم، وما أعد الله لأوليائه كل هذه علوم، وأعمال يعملها كالصلاة، والصيام، والحج، والصدقة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والجهاد وما إلى ذلك.
وهناك أحوال تنتج عنها، ما هي هذه الأحوال؟ أن يكون العبد بعد ذلك من الصديقين، أو من العلماء الربانيين، أو يكون من مراتب أهل الإيمان، يعني من المتقين، من المقربين، من أصحاب المنازل العالية في سُلم العبودية، يعني: ثمرة هذه العلوم والأعمال، الثمرة ما هي؟ ما الذي ينتج؟ بماذا تتكون هذه النفسية والشخصية وتُصاغ؟ بهذه هي الأحوال، فيكون هذا تقي صالح يكون، هذا من الربانيين، يكون هذا من أئمة الهُدى: وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا [الفرقان:74]، فيظهر ذلك في أعماله، وأخلاقه، وهديه، ودله، وسمته، وتكون أنفاسه في طاعة، وبِر، وقُربة، ومعروف.
كما سبق هو يقول ثبت أن الإيمان هذا كما سبق أن حديث أنس مرفوعًا إلى النبي ﷺ لا يصح، وهو عند البيهقي في "الشُعب"[11]، وغيره، الحديث فيه ضعف شديد؛ لكن ورد هذا المعنى عن جماعة من السلف كابن مسعود وغيره، والله قال: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ [لقمان:31]، فذكر الأمرين.
يعني هو ذكر في الأصل عشرة أقوال في توجيه كون الإيمان نصف صبر، ونصف شكر، ويمكن أن يُقال: بأن أحوال العبد دائرة بين الأمرين فهو بإزاء نعمة تحتاج إلى شُكر، وإما بإزاء ما يقتضي الصبر في الأمور الثلاثة التي هي: الصبر على الطاعة، والصبر عن المعصية، والصبر على أقدار الله المؤلمة، فالعبد يتقلب بين هذا وهذا، لا بد له من صبر وشُكر، فصار من رُزق الصبر ولم يُزرق الشكر فهو ناقص بلا شك، ومن رُزق الشُكر ولم يُرزق الصبر فهو ناقص كذلك، لا يتم له الإيمان إلا بهذا وهذا، فهذه الطاعات هي من جُملة الشكر، وتحتاج إلى شُكر.
لأن النبي ﷺ قد حصل هذه العلوم الكاملة، وكذلك أيضًا جاءت أعماله ﷺ على وجه من الكمال موافقة لهذه العلوم، ثم صارت أحواله ﷺ أكمل الأحوال، فهذه الأحوال مثل: التوكل، يعني ما الذي أثمر له العلم والعمل؟ التوكل، التقوى فهو إمام المتقين، إمام المتوكلين، إمام المجاهدين، إمام الصابرين، إمام في كل الأبواب أبواب الخير والبر، الدعوة إلى الله -تبارك وتعالى- هذه من الأحوال، وهي من الأعمال أيضًا، فهو إمام الدعاة فكل معروف وبر وعلم وعمل صالح فهو إمام فيه -عليه الصلاة والسلام-؛ لأنه أكمل الأمة، انتهينا من هذا الكتاب.
قال -رحمه الله-:
هذه الآن انتهينا من الكُتب التي يُورد الفوائد والضوابط والقواعد منها مُفردة على سبيل الاستقلال منسوبة إلى هذه الكتب، كأن الشيخ -رحمه الله- جرد هذه الكتب، ثم استخرج من كل كتاب فوائد؛ فكتبها تحت عنوان هذا الكتاب، ثم بعد ذلك في قراءات أخرى له كان يُسجل هذه الفوائد أيضًا التي تمر به مما لم يذكره، فاجتمع عنده فوائد كثيرة، فوضعها هنا منثورة غير مُرتبة لا في موضوعاتها ولا في أيضًا نسبتها، نسبتها إلى كتاب مُعين، وإنما ذكرها هكذا، ولو أن هذه الكتب فُرقت ووضعت في مواضعها التي سبقت من كُتبه لكان أسهل في الرجوع إليها والانتفاع بها، فهذا الكتاب يحتاج إلى نوعين من التصنيف:
الطريقة الأولى: التي هي بذكر الفوائد تحت عنوانين الكتب، هذه يُحتاج إليه حتى نعرف أن هذه الفوائد تتصل بالكتاب الفلاني.
والطريقة الثانية: في التصنيف أن تُصنف على الموضوعات وهذا أسهل في الرجوع إليها والاستفادة منها، ويُمكن أن يُستغنى عن الأول بالإحالات في الهوامش إلى المصادر، ولكن ضبط ذلك قد يصعُب، بمعنى الإنسان يحتاج أن يُركز في الفوائد أن هذه الفائدة من الكتاب الفلاني، فهذا الأسهل فيه أن تكون مجموعة تحت عنوان الكتاب.
وأيضًا وجد أخيرًا بعد مدة طويلة قريبًا بعد وفاة ابن الشيخ عبد الرحمن -رحمه الله- وهو أحمد -رحمه الله- وجد عنده أيضًا ملزمة وجد في بيته ملزمة تابعة لهذا الكتاب فيها فوائد منثورة، هذه أيضًا كأنه أيضًا جمعها مرة أخرى حينما كان يقرأ، وهذا يدل على كثرة قراءته في كتب شيخ الإسلام، وابن القيم.
بعض هذه الكتب هي عمومًا من الكتب التي سبقت، ولكن حتى حينما أوردها هنا لم يُردها مرتبة من الصفحة كذا وفي الصفحة التي بعدها أو الجُزء الذي بعده، لا، أحيانًا تجد هذه قبل وهذه بعد وهذه قبل التي ذكر أو بعدها، لم تكن مرتبة أيضًا في تدرجها الطبيعي من الكتاب نفسه، ثم قد ينقل بعض الفوائد من الكتاب، ثم بعد ذلك يُورد أشياء أخرى منه بعد كتاب آخر.
هذه من كتاب الفرقان بين الحق والباطل، وهي في مجموع الفتاوى في المُجلد الثالث عشر، الفرقان بين الحق والباطل، وسبق الكلام على هذا الكتاب، ونقل بعض الفوائد منه، فهو يقول: الفرقان والسُلطان يكون بالحجة والعلم، ويكون بالنصر والتأييد، يكون بالأمرين الفرقان، يعني: الآن الله سمى يوم بدر يوم الفرقان، بماذا حصل الفرقان يوم بدر بالعلم أو بالغلبة بالسيف؟
بالغلبة بالسيف، يوم الفرقان، وسمى القرآن بالفرقان: تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ [الفرقان:1]، فهذا يفرُق بين الحق والباطل، رأيت الفرق بين الموضعين، فالفرقان تارة يكون في هذا وتارة يكون في هذا، وتارة يُقصد به في الموضع الواحد يُقصد الأمران، وهكذا السُلطان تارة يكون بالحُجة والبيان، وتارة يكون بالنصر والغلبة والظهور، مثلاً: أحيانًا قد يُختلف في الآية، الله يقول: وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ [الإسراء:33]، سلطانًا ماذا؟
بعضهم يقول: تسلطًا عليه يتمكن منه أو يُمكن منه فيقتص.
وبعضهم يقول: جعلنا له حُجة عليه وسبيلاً إليه من أجل أن يقتص منه، ففُسر بهذا وهذا، هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ [الفتح:28]، فهذا الظهور يكون بالأمرين بالحُجة فهؤلاء في المناظرات مع اليهود مع النصارى مع سائر الطوائف لا يمكن أن يتغلب هؤلاء بحُجج داحضة، وشُبهات فاسدة على ما عند المسلمين من الحق الواضح المُبين، لكن الذي يُناظر ينبغي أن يكون بصيرًا بطُرق المناظرة؛ لأن المُناظرة مهارة فقد يكون عنده حق لكن لا يُحسن المُناظرة فلا يصح له أن يدخل في هذا الباب، وإن كان صاحب حق، والله يقول: وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ آتاهما ماذا؟ قال: الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا [الأنبياء:48]، فهذا الفرقان ما هو؟ بعضهم يقول: هو التوراة.
وبعضهم يقول: هو الحكم بنصره على فرعون، ففُسر بهذا وهذا، يعني: التوراة فيها الهُدى الفرقان بالحُجة، والنصر على فرعون هذا الفُرقان في الميدان، وهكذا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا [الأنفال:29]، فرقانا يعني ما تفرقون به بين الحق والباطل فلا يلتبس، فمن التبس عليه الحق بالباطل لا يُميز بين الحق والباطل فذلك لضعف بصيرته، ولو اتقى الله لزال عنه ذلك.
كل هذه الفوائد القريبة هي من الفوائد من كتاب الفرقان بين الحق والباطل، هنا يتكلم عن النقص الذي لا يؤاخذ عليه الإنسان ولا يُحاسب، الله قال: وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ [النساء:32]، فالمرأة لا يجوز لها أن تتمنى وجوه التفضيل التي أعطاها الله للرجل، لما سُئل النبي ﷺ سأله النساء: نرى الجهاد أفضل العمل أفلا نُجاهد؟[12]، فالرجال فضُلوا بهذا، فضُلوا بالقوامة، فضلوا بأمور أخرى، هل هذا يعني انتقاص النساء، وتعييرهن بذلك، وأن يلحقهن الحرج بسب بهذا؟
الجواب: لا، لكن الرجل أكمل بهذا الاعتبار، فهو يقول: من أمره الشارع بعبادة وطاعة يفعلها فهو أفضل من هذا الوجه ممن لم يؤمر بها دينًا وإيمانًا، وإن لم يكن الآخر عاصيًا ولا مُعاقبًا، هنا المرأة قال النبي ﷺ عن النساء: ناقصات عقل ودين[13]، وبين نُقصان العقل ونُقصان الدين، فنُقصان العقل أن شهادة امرأتين بشهادة رجل، هل لها يد في هذا؟ لا، هل تُحاسب وتُعاقب عليه؟ هل قصرت؟
الجواب: لا، فالرجل أكمل، وإن لم يكن الثاني منسوبًا إلى التقصير والعيب والذم، أو مُحاسبًا ومُعاقبًا، ونُقصان الدين إذا حاضت قال: لم تصُم ولم تُصلي، فهذا نُقصان في الدين، هذا النُقصان هل هو بتقصير منها أيضًا؟ الجواب: لا، فهي غير مُحاسبة غير مؤاخذة شرعًا، ولكن هذا الأصل أن من أمره الشارع بعبادة وطاعة فهو أفضل من هذا الوجه ممن لم يؤمر بها، الإيمان عند أهل السنة يتفاضل من جهة أمر الله توجه الخطاب إلى المُكلف، ومن جهة فعل العبد الواقع، هذا الذي يحصل فيه اللوم والتقصير أو التثريب أو نحو ذلك.
فمن جهة توجه الخطاب إلى المُكلفين لم يتوجه الخطاب مثلاً إلى المرأة في الجهاد، فالرجل أكمل منها، ومن ثَم فهي غير مؤاخذة، ولا يد لها في هذا، ولا يتوجه إليها الخطاب بالصلاة إذا كانت في حال الحيض ولا الصيام، هي غير مؤاخذة، والرجل أكمل الذي يُصلي ويصوم، ولا يُقال مثل ذلك في القسم الآخر، فإن التفاضل بفعل العبد نفسه فهذا الذي يحصل فيه العيب والمدح وما إلى ذلك، فهذا يقوم الليل، ويصوم النهار، وذاك مُقصر، فيحصل التفاضل بما يحصل من العبد من المُبادرة إلى طاعة الله وطاعة رسوله ﷺ، فيتفاضل أيضًا الناس بذلك.
- انظر: تفسير القرطبي (18/137).
- أخرجه البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب أهل الدار يبيتون، فيصاب الولدان والذراري، برقم (3012)، و(3013)، ومسلم، كتاب الجهاد والسير، باب جواز قتل النساء والصبيان في البيات من غير تعمد، برقم (1745).
- أخرجه البخاري، كتاب الجنائز، باب ما قيل في أولاد المشركين، برقم (1383)، ومسلم، كتاب القدر، باب معنى كل مولود يولد على الفطرة وحكم موت أطفال الكفار وأطفال المسلمين، برقم (2659).
- انظر: النبوات لابن تيمية (2/714)، وما بعدها.
- تفسير ابن كثير ت سلامة (4/450).
- تفسير الطبري (جامع البيان) ط هجر (13/508).
- تفسير ابن عطية (المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز) (3/309).
- تفسير القرطبي (9/310).
- انظر: دقائق التفسير (3/24).
- على الرابط: https://cutt.us/CIKvY.
- أخرجه البيهقي شعب الإيمان (12/192)، برقم (9264).
- أخرجه البخاري، كتاب الحج، باب فضل الحج المبرور، برقم (1520)، وبرقم (2784)، كتاب الجهاد والسير، باب فضل الجهاد والسير، عن عائشة أم المؤمنين -رضي الله عنها-، أنها قالت: يا رسول الله، نرى الجهاد أفضل العمل، أفلا نجاهد؟ قال: ((لا، لكن أفضل الجهاد حج مبرور)).
- أخرجه البخاري، كتاب الحيض، باب ترك الحائض الصوم، برقم (304)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب بيان نقصان الإيمان بنقص الطاعات، وبيان إطلاق لفظ الكفر على غير الكفر بالله، ككفر النعمة والحقوق، برقم (79).