الإثنين 28 / جمادى الآخرة / 1446 - 30 / ديسمبر 2024
الإيمان - القواعد 17-33
تاريخ النشر: ٢٦ / شوّال / ١٤٣٢
التحميل: 6890
مرات الإستماع: 5041

الابتداء بذكر كلام الله ورسوله لا بذكر الآراء

الحمد لله، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد:

اللهم اغفر لشيخنا، ولنا، وللحاضرين.

قال الشيخ عبد الرحمن السعدي -رحمه الله:

ومن كتاب الإيمان لشيخ الإسلام:

ونحن نذكر ما يستفاد من كلام الله وكلام رسوله محمد ﷺ، فيصل المؤمن إلى ذلك من نفس كلام الله، وكلام رسوله، فإن هذا هو المقصود، فلا نذكر اختلاف الناس ابتداء، بل نذكر من ذلك في ضمن بيان ما يستفاد من كلام الله وكلام رسوله ما يبين أن رد موارد النزاع إلى الله ورسوله خير وأحسن تأويلا؛ خير في الحال، وأحسن عاقبة في الدنيا والآخرة.

التعريف بكتاب الإيمان

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فهذه القواعد والضوابط والفوائد يذكرها شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في هذا الكتاب، وهو كتاب (الإيمان) والمقصود به هنا (الإيمان الكبير)؛ لأن شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- له كتاب آخر يقال له: كتاب (الإيمان الأوسط). 

ذكر فيه الشيخ -رحمه الله- الكلام على الإيمان عند أهل السنة، وبيّن حقيقته عند الإطلاق في كلام العرب، ومراد الشارع بذلك، وأن الإيمان ليس المراد به مجرد التصديق كما يزعمه أو يظنه بعضهم أن ذلك هو المراد في لغة العرب، وذكر نحو سبعة فروق في اللغة بين الإيمان والتصديق، يعني يقول: إن الإيمان في اللغة ليس معناه التصديق، وإنما هو تصديق خاص، وأصّل في هذه المسألة، وتكلم على حقيقة الإيمان، ورد على الطوائف المخالفة في ذلك.

وتكلم بكلام قوي متين على من يدعي أن الإنسان يكون مؤمناً ولو صدر منه أفعال من الكفر كإهانة المصحف ونحو ذلك من التصرفات التي يخرج بها من الإسلام، رد على أولئك الذين يزعمون أنه لا يكون كافراً إلا إذا اعتقد جواز ذلك، وأن هذا نوع من الإرجاء، بل تكلم بكلام أشد على هؤلاء، ويراجع في محله من هذا الكتاب.

والفائدة التي ذكرها هنا، وهي الفائدة الأولى من هذا الكتاب مما انتقاه الشيخ عبد الرحمن -رحمه الله- هي تتعلق بمسألة التأصيل، فإن التأصيل في العلم هو أن تُذكر الأصول، والأصول الكبار: أعظم الأصول هي دلائل الكتاب والسنة، وما يرجع إليهما من الإجماع والقياس، وما إلى ذلك، إضافة إلى بناء المسائل على القواعد، المسائل العلمية والعملية تبنى على قواعدها الأصولية والفقهية، فهذه هي حقيقة التأصيل.

فإذا قلت: هذا كتاب مُؤصل، هذا درس مؤصل يعني يذكر الأصول، يبني على الأصول، هذا الدرس يؤصل لطالب العلم، هذا الكتاب يؤصل، هذه المحاضرة تؤصل، هذا بحث يؤصل، أو مؤصل أو نحو ذلك، فهذا هو المراد، لكن لو أن أحدًا تكلم في مسألة من المسائل العلمية كمسألة الإيمان مثلاً، تكلم عليها بطريقة أخرى، جعل ينقل أقوال أهل العلم، قال فلان، قال الحافظ ابن القيم، قال شيخ الإسلام، قال ابن رجب، قال الذهبي، قال فلان، وينقل أقولهم، هل هذا الكتاب يعتبر مؤصلا؟ هل يقال: هذه طريقة تأصيلية في العلم؟

الجواب: لا.    

هل الطريقة مفيدة؟ 

الجواب: نعم هي مفيدة، ولكنها ليست مؤصلة؛ لأنها لا تعتمد على الأصول، لا تبني على الأصول، فهذا مراد الشيخ -رحمه الله.

هنا يقول: "نحن نذكر ما يستفاد من كلام الله وكلام رسوله محمد ﷺ، فيصل المؤمن إلى ذلك من نفس كلام الله وكلام رسوله"، يعني الإيمان إذا أطلق ما المراد به؟ 

اختلفت الطوائف في ذلك، وهل العمل داخل في مسمى الإيمان أو لا؟ فنقول: نرجع إلى نصوص الكتاب والسنة، ونستقرئ ذلك، ثم يتبين لنا بعد ذلك مراد الله، ومراد رسوله ﷺ. 

يقول: "فلا نذكر اختلاف الناس ابتداء، بل نذكر من ذلك في ضمن بيان ما يستفاد من كلام الله وكلام رسوله ما يبين أن رد موارد النزاع إلى الله ورسوله خير وأحسن تأويلا"، فإذا أردت أن تحتج على أحد لا تحتج بأن فلانًا أفتى بكذا، أو أن فلانًا يقول كذا، أو قال فلان كذا أو نحو ذلك، وإنما قال الله قال رسوله، وما يرجع إلى ذلك من الإجماع والأدلة المعتبرة عند أهل العلم، مستصحباً مع ذلك فهم السلف الصالح للنصوص، أما أقوال الناس فلا عبرة بها إن خالفت كلام الله وكلام رسوله ﷺ.

الإيمان عند الإفراد والاقتران
قال -رحمه الله: اسم الإيمان تارة يذكر مفرداً غير مقرون بغيره فيدخل فيه الإسلام والأعمال الصالحة، وتارة يُقرن بالإسلام أو بالعمل الصالح أو بالذين أوتوا العلم فيكون الإيمان اسماً لما في القلب، وما قُرن معه اسمًا للشرائع الظاهرة.

اسم الإيمان تارة يذكر مفرداً غير مقرون بغيره فيدخل فيه الإسلام والأعمال الصالحة، وتارة يُقرن بالإسلام أو بالعمل الصالح أو بالذين أوتوا العلم فيكون الإيمان اسماً لما في القلب، وما قُرن معه اسمًا للشرائع الظاهرة

ثم إنّ نفي الإيمان عند عدمها دل على أنها واجبة؛ لأنها لا تُنفى إلا لنفي بعض واجباته، وإن ذُكر فضل إيمان صاحبها ولم يُنفَ إيمانه دل على أنها مستحبة.

هذه طريقته أيضاً فيما ذَكر من التأصيل، فهو يستقرئ هذه الموارد في الكتاب والسنة، حينما يستعمل لفظ الإيمان في الكتاب والسنة، كيف جاء مطلقاً مفرداً؟ وكيف جاء مقيداً، أو جاء مقرونا بغيره، حتى يتبين المراد، فيقول: "إنه تارة يذكر مفرداً غير مقرون بغيره فيدخل فيه الإسلام والأعمال الصالحة"، مثلاً الله لمّا يمدح المؤمنين، أو يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [سورة البقرة:104] أو نحو ذلك، فإنه يدخل فيه إسلام الظاهر مع إسلام الباطن، يعني انقياد الباطن الذي هو الإقرار والتصديق الانقيادي، إذعان القلب الذي هو إيمان القلب، ويدخل فيه أيضاً استسلام الجوارح، ويدخل فيه الأعمال الصالحة، هذا إذا أُطلق، وإذا جاء مقروناً مع غيره -إذا قرن مع الإسلام- فإن الإيمان يكون بمعنى إقرار الباطن، وانقياد الباطن، وما يقال له: التصديق الانقيادي، ويكون الإسلام بمعنى إسلام الظاهر، إذا ذكر مع الأعمال الصالحة،  الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ [سورة آل عمران:57] آمنوا بمعنى: صدقوا وأذعنوا وأقروا وانقادوا بقلوبهم، وعملوا الصالحات بقلوبهم وجوارحهم، تارة يقرن بالإسلام أو بالعمل الصالح؛ ولهذا يقال: إذا اجتمعا في اللفظ -الإسلام والإيمان- افترقا في المعنى، كان الإسلام له معنى والإيمان له معنى، وإذا افترقا في اللفظ -يعني ذكر الإيمان وحده، أو الإسلام وحده- اجتمعا في المعنى، فإذا ذكر الإسلام دخل فيه الإيمان، وإذا ذكر الإيمان دخل فيه الإسلام.

قال: "أو بالذين أوتوا العلم"،  يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ [سورة المجادلة:11] فدل على أن هذه مرتبة أعلى من مرتبة عامة المؤمنين، فهنا يكون الإيمان بمعنى ما في القلب، وما زاد عليه يتصل بالقدر الزائد في الجوارح، أو في القلب أيضاً؛ لأن القلب له أعمال، الخوف، والرجاء، والمحبة، والتوكل، وما إلى ذلك، كل ذلك من عمل القلب، وهو قدر زائد على التصديق الانقيادي والإقرار، ولهذا يقال: إن الإيمان -كما سيأتي- هو قول القلب وعمل القلب، مع قول اللسان وعمل اللسان والجوارح، فقول القلب هو التصديق الانقيادي، بمعنى الإقرار والإذعان، وعمل القلب ما زاد على هذا القدر من الاعمال القلبية كالمحبة، والرجاء، والخوف، والصبر، والرضا، والتوكل، وما شابه، فهذا عمل القلب.

قال: "فيكون الإيمان اسمًا لما في القلب، وما قُرن معه اسمًا للشرائع الظاهرة، ثم إنّ نفي الإيمان عند عدمها دل على أنها واجبة؛ لأنه لا تُنفى إلا لنفي بعض واجباته"، يعني إذا قيل: لا إيمان لمن لا أمانة له، فالأصل في النفي أن يتوجه إلى الذات.

لا صلاة بحضرة طعام[1]، الذات موجودة، نراه يركع ويسجد، فإذا وجدت الذات -الهيئة- فإنه يتوجه بعد ذلك إلى الصحة.

لمّا تقول: لا رجل في الدار، هذا يتوجه إلى نفي الذات.

لكن لا صلاة بحضرة طعام مثلا فالذات موجودة، فيتوجه إلى الصحة، فإذا دل دليل على الصحة توجه إلى الكمال المستحب؛ لأن الكمال نوعان: كمال واجب، وكمال مستحب.

فبعضهم يقول: هذا لنفي الكمال، والصحيح أن يفصل؛ لأن الكمال منه ما هو واجب، ومنه ما هو مستحب.

فهنا إذا جاء نفي الإيمان لانتفاء بعض الأعمال،  لا إيمان لمن لا أمانة له[2]،  فإن الإيمان إن دل دليل على وجوده وصحته، يعني بمعنى أن صاحبه لم يخرج من مطلق الإيمان، وأن أصل الإيمان ثابت، فإن ذلك يدل على أنه ترك واجباً من واجبات الإيمان.

والنبي ﷺ أخبر أن الإيمان بضع وسبعون أو بضع وستون شعبة، أعلاها شهادة ألا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان[3]،  فإذا قيل مثلا: والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، قيل: من يا رسول الله؟ قال: من لا يأمن جاره بوائقه[4].

فهذا الذي لا يأمن جاره بوائقه دل على أنه وقع في أمر محرم، وأنه ينقص من إيمانه الواجب.

هذا في فعل المحرمات، وفي ترك الواجبات لا إيمان لمن لا أمانة له، فدل على أن الأمانة واجبة.

وأن من انتفت عنه الأمانة فإنه يكون قد نقص من إيمانه الواجب فيكون مستحقًّا للوعيد، إلا أن يرحمه الله ، أو يحصل له شيء من موانع العقوبة.

يقول: "لأنه لا تُنفى إلا لنفي بعض واجباته، وإن ذُكر فضل إيمان صاحبها، ولم يُنف إيمانه دل على أنها مستحبة"، ذُكر فضل إيمان صاحبها ولم تُنف، فهذا يكون من الكمال المستحب، مثل: مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن كمثل الأترجّة طعمها طيب، وريحها طيب، ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن كمثل التمرة طعمها طيب، ولا ريح لها[5].

هذه القاعدة هي ملخصة، وشيخ الإسلام -رحمه الله- ذكر دلائل من الكتاب والسنة على هذه الأمور تُراجع في محلها، والفروقات اليسيرة سواء في النسخة الخطية، أو في الأصل الذي نقل منه الشيخ كتاب الإيمان لا أذكرها إن لم تكن مؤثرة حتى لا نشغل الوقت بذلك.

الخشية متضمنة للرجاء والرجاء يستلزم الخوف
قال -رحمه الله: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [سورة فاطر:28] والخشية أبداً متضمنة للرجاء، ولولا ذلك لكانت قنوطاً، كما أن الرجاء يستلزم الخوف، ولولا ذلك لكان أمناً، فأهل الخوف لله والرجاء له هم أهل العلم الذين مدحهم الله.

هنا قوله: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [سورة فاطر:28]، "إنما" هذه تدل على الحصر، يعني لا يخشاه إلا عالم[6]، كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله، تدل عليه أيضاً الآية، فأخبر أن كل من خشي الله فهو عالم، كما قال في الآية الأخرى: أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ [سورة الزمر:9]، فدل ذلك على أن أهل العلم هم أهل الخشية، وأن الذي لا يخشى الله لا يكون عالماً، ولهذا فسّر ابن مسعود وغيره ذلك بالخشية.

وقال الله مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ [سورة الأنعام:54]، فكل من عصى الله فهو جاهل.

فهنا يقول: "والخشية أبداً متضمنةً للرجاء"، الخشية هي: خوف خاص، الخوف على مراتب، كما أن المحبة على مراتب، فالخوف مع العلم يقال له: خشية.

فهنا يقول: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [سورة فاطر:28]، يقول: "والخشية أبدًا متضمنة للرجاء، ولولا ذلك لكانت قنوطاً"، يعني لو وجد الخوف من غير رجاء لكان قنوطاً، ولذلك لا بد من اجتماع الخوف والرجاء، فهما كالجناحين للطائر لا يطير إلا بهما.

قال: "كما أن الرجاء يستلزم الخوف ولولا ذلك لكان أمنًا"، بمعنى أنْ يحصل شيء من الإدلال على الله والجراءة عليه، إذا كان الرجاء مجرداً من الخوف.

وهكذا المحبة إذا كانت مجردة من الخوف، فيكون الإنسان آمناً من عقاب الله فلا يخافه.

فأهل الخوف من الله والرجاء له هم أهل العلم الذين مدحهم الله .

لا يسمى عاقلاً إلا من عرف الخير فطلبه والشر فتركه
قال -رحمه الله: لمّا ذكر قولهم في العقل أنه العلم، قال: فلابد مع ذلك أنه علم يُعمَل بموجَبِه، فلا يسمى عاقلاً إلا من عرف الخير فطلبه، والشر فتركه.

شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- يناقش المتكلمين -أهل الكلام، فهم قالوا: إن العقل هو العلم، والواقع أن العقل ليس العلم، العلم غير العقل، ولذلك قد يكون الإنسان من أوعية العلم ولكن لا عقل له، وهذا مشاهد، يكون فيه شيء من السفه أو الطيش أو العجلة، أخرق، لا يصلح أن يُرجع إليه، ولا يُستشار في شيء، فلربما أودى بالناس إلى مهالك، فالعلم غير الذكاء، غير العقل.

فالعقل نور يقذفه الله في قلب الإنسان، منه ما يكون فطريًّا، ومنه ما يكون مكتسباً بتجارب الإنسان في نفسه، أو الانتفاع والاستفادة من تجارب الآخرين، قراءة التاريخ، أو مخالطة الناس والاستماع منهم وما إلى ذلك، فيجتمع إليه هذا وهذا، ولذلك من نقص عنده العقل بل كل عاقل يحتاج إلى الاستشارة، فيضم عقول الآخرين إلى عقله، ولذلك أيضاً كانت قراءة التاريخ نافعة، فالعاقل من وُعظ بغيره، والشقي من وُعظ بنفسه.

فهنا يناقش هؤلاء الذين قالوا: إن العقل هو العلم، يقول: "فلابد مع ذلك أنه علم يُعمل بموجبه"، يعني يعمل بمقتضاه، وإلا ما فائدة هذا العقل؟!، "فلا يسمى عاقلا إلا من عرف الخير فطلبه"، هذا الذي عرف الخير وما طلبه، وعرف الشر ووقع فيه، هل هذا يكون عاقلاً؟!

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ ۝ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ [سورة الصف:2، 3]،  أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ [سورة البقرة:44]، فإن العقل يقتضي العمل بالعلم، ولهذا قال الله : وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ [سورة الملك:10].

وكذلك في قوله -تبارك وتعالى: تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى [سورة الحشر:14]، ثم ذكر العلة قال: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ [سورة المائدة:58]، فإن مقتضى العقل هو أن الناس يجتمعون ولا يتفرقون، وأن تتحد كلمتهم، وذلك من أسباب القوة.

الكبائر تذهب نور الإيمان وإن بقي أصل التصديق
قال -رحمه الله: ومن أتى الكبائر مثل الزنا، والسرقة، أو شرب الخمر وغير ذلك، فلا بد أن يذهب ما في قلبه من تلك الخشية والخشوع والنور، وإن بقي أصل التصديق في قلبه، وهذا من الإيمان الذي يُنزع عنه عند فعل الكبيرة.

فالنبي ﷺ أخبر أنه إذا زنى العبد خرج منه الإيمان فكان فوق رأسه كالظُّلة[1]، هل معنى ذلك أنه فارق الإيمان بالكلية وصار كافراً؟

الجواب: لا، لكن لم يبقَ معه من الإيمان الرادع الذي يحجزه عن مواقعة هذه الفواحش؛ ولذلك فإن القلب وبصره -الذي هو البصيرة- يحصل له العمى، أو يعشى حينما تقع له الشبهة فلا يبصر الحق، أو حينما تتوقد الشهوات وتضطرب في قلبه فإن ذلك يُعميه، فيواقع أموراً ما كان ليواقعها لولا تلك الحال التي صار إليها، فهنا يقول: "فلا بد أن يذهب ما في قلبه من تلك الخشية والخشوع والنور وإن بقي أصل التصديق في قلبه، وهذا من الإيمان الذي ينزع عنه عند فعل الكبيرة"، وقد قال النبي ﷺ: لا يزني الزاني حينما يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن[2]، وهذا لا يعني أنه يكون كافراً، وإنما دل على أنه نقص من إيمانه الواجب، وأنه من أهل الوعيد.

اتباع مراد الله ورسوله في النص الذي نوافقه أو النص الذي نتأوله
قال -رحمه الله: والمقصود هنا أنه ينبغي للمسلم أن يقدر قدر كلام الله ورسوله، بل ليس لأحد أن يحمل كلام أحد من الناس إلا على ما عُرف أنه أراده لا على ما يحتمله ذلك اللفظ في كلام كل أحد، فإن كثيراً من الناس يتأول النصوص المخالفة لقوله، يسلك مسلك من يجعل التأويل كأنه ذِكْر ما يحتمله اللفظ، وقصْدُه به دفع ذلك المحتج بذلك عليه، وهذا خطأ، بل جميع ما قاله الله ورسوله يجب الإيمان به، فليس لنا أن نؤمن ببعض الكتاب ونكفر ببعض، وليس الاعتناء في مراده في أحد النصين دون الآخر بأولى من العكس، فإذا كان النص الذي وافقه يعتقد أنه اتبع فيه مراد الله ورسوله، فكذلك النص الآخر الذي تأوله، فيكون أصل مقصوده معرفة ما أراد الله ورسوله بكلامه، وهذا هو المقصود بكل ما يجوز من تفسير وتأويل.

شيخ الإسلام -رحمه الله- هنا يتحدث عن طريقة أهل الأهواء والبدع -الطرق المنحرفة- في النظر في كلام الله وكلام رسوله ﷺ فهو يقول: "ليس لأحد أن يحمل كلام الله وكلام رسوله ﷺ وفق مذهبه"، كما يفعل أهل البدع، ومن شابههم أو شاكلهم ممن يتعصبون لأقوال الرجال من الأئمة المتبوعين وغيرهم، سواء كان ذلك في الأمور العلمية، أو في الأمور العملية، فيجعل قول هذا المطاع أو المقدم  يجعله أصلاً، ثم بعد ذلك يجعل كلام الله وكلام رسوله ﷺ تابعاً له، وهذا يقع فيه كثير من الناس قديماً وحديثاً، والواجب أن ينظر في ألفاظ الشارع، فإذا اطرد لفظ الشارع في معنى من المعاني ثم تنازع الناس في موضع من المواضع فينبغي أن يحمل على معهود الشارع في كلامه، وأن يرجع إلى طريقته في استعماله، فيعرف مراده به في هذا الموضع الذي حصل به النزاع، ولا يجوز أن يحمل على معنى آخر إلا لدليل أوجب ذلك، فلا ينقض هذا الأصلالمعروف المعهود من كلام الله وكلام رسوله ﷺ في مواطن النزاع من أجل تصحيح قول عالم أو متبوع أو مطاع، هذا لا يجوز، هذه طريقة أهل البدع. 

وما ذكرته آنفا يذكره شيخ الإسلام في مناقشته لهم قبل أن يذكر هذا الكلام الذي بين أيدينا، ثم قال بعده في محصلته: "والمقصود هنا هو أنه ينبغي للمسلم أن يقدر قدر كلام الله وكلام رسوله ﷺ بل ليس لأحد أن يحمل كلام كل أحد من الناس.."،  هذه هي الطريقة الصحيحة المتجردة من أجل الوصول إلى الحق، الآن يمكن أن تأتي الى كلام أحد من الناس وتبحث عن المواطن المحتملة المتشابهة، ثم بعد ذلك تقول: هذا الإنسان يريد معنى باطلاً، هذا الإنسان مرجئ، هذا الإنسان جهمي، هذا الإنسان يُؤول كذا، هذا الإنسان يجري النصوص على طريقة كذا، وما إلى ذلك، كما يفعله بعض أهل الأهواء حينما يقصدون الوقيعة فيمن خالفهم.

والواجب اللائق أن يرجع في هذا الموضع الذي اشتبه والتبس في كلام هذا المتكلم إلى المواطن الأخرى المحكمة التي يعبر فيها عن مراده بصورة واضحة لا خفاء فيها ولا لبس، فيُرجع هذا الموضع المتشابه إلى تلك المواضع المحكمة، ولذلك تجد الموطن الواحد أحياناً يكون محتملاً لو تكلم به من عُرف بالبدعة، وكلامه صريح فيها في مواضع أخرى من كتبه وكلامه فإنه يحمل على مراده ومعهوده، ولكن لو تكلم بهذه العبارة أحد من أهل السنة، من عُرف اعتقاده واتباعه للحق فإنها تحمل على معنى صحيح، ولا يجوز أن يُضلَّل أو يبدَّع أو يخطَّأ بمجرد هذه العبارة، وهذا تجنٍّ، وظلم لا يجوز في النظر في كلام الناس، وكيف إذا كان ذلك عند النظر في كلام الله وكلام رسوله، فيحمل على المحامل الباطلة؛ لأجل تصحيح قول أو مذهب، هذا لا يصح بحال من الأحوال، والنفوس قد لا يستبين لها ما يداخلها من الأهواء، ومن أراد أن يعرف دقة مداخل الهوى على النفس فلينظر ما قاله الشيخ عبد الرحمن المعلمي -رحمه الله- في كتابه "التنكيل" في الجزء الذي أفرد بعنوان: (القائد إلى تصحيح العقائد)، ذكر أموراً دقيقة جدًّا لا يتفطن لها كثير من الناس، وكثير منهم يظن أنه من المتجردين للحق، ولكنه لو نظر وفحص واختبر نفسه لوجد أنه لا يخلو، والله المستعان.  

يقول هنا: "فإن كثيرًا من الناس يتأول النصوص المخالفة لقوله، يسلك مسلك من يجعل التأويل كأنه ذكر ما يحتمله اللفظ"، وهذا الكلام غير صحيح، يعني ليس ذلك بحجة، أو ليست تلك طريقة صحيحة في الاستدلال والنظر، واستخراج المعاني من النصوص، كون اللفظ يحتمل فتقول: إذن هذا مسوغ لأنْ أحمله على أحد الاحتمالات، وأكون قد خرجت من العهدة ولا يكون عليّ تبعة، فهذا غلط، لا يمكن، وإنما الصحيح عند المواضع المحتملة أن ينظر إلى معهود المتكلم وإلى القرائن والسباق -يعني ما قبله، والسياق، واللحاق أيضاً -ما يلحقه ويتبعه في الكلام، فينظر في القرائن السابقة واللاحقة مع المواضع الأخرى، فيستبين المراد، لكن كون اللفظ فقط لأنه يحتمل معنيين أو ثلاثة معانٍ أو أكثر فيكون ذلك مسوغاً لأن يُحمل على معنى من غير دليل، هذا غير صحيح ولا تبرأ به الذمة.    

يقول: يسلك مسلك من يجعل التأويل كأنه ذِكْر ما يحتمله اللفظ، وقصدُه به دفع ذلك المحتج بذلك عليه في مواطن الاحتجاج والرد والمناظرة وما إلى ذلك، والنفوس في هذه الأحوال يكون لها حضور كبير، وتطلب الانتصار.

يطلب الانتصار لنفسه ولشيخه ولمذهبه وما إلى ذلك، فبمجرد ما يحتج عليه بدليل من هذه الأدلة قد يسارع ويقول: هذا يحتمل كذا، ويحتمل كذا، ويحمله على المعنى الآخر من غير برهان، يقول: "وهذا خطأ، بل جميع ما قاله الله ورسوله يجب الإيمان به فليس لنا أن نؤمن ببعض الكتاب ونكفر ببعض، وليس الاعتناء في مراده في أحد النصين دون الآخر بأولى من العكس، فإذا كان النص الذي وافقه يعتقد أنه اتبع فيه مراد الله ورسوله فكذلك النص الآخر الذي تأوله"، يعني أن يكون الإنسان متجرداً، يريد الوصول إلى مراد الله ومراد رسوله ﷺ، لا يكون ذلك بطريقة ينتقي فيها، فما وافقه قبله، وما خالفه أوّله ورده، كما هي طريقة أهل الأهواء والبدع.

قال: "وهذا هو المقصود بكل ما يجوز من تفسير وتأويل".

هذه قاعدة، التأويل والتفسير يأتيان بمعنى واحد، تأويل الآية، تأويل قول الله كذا: بمعنى: تفسير كلام الله -تبارك وتعالى، ويأتي التأويل بمعنى آخر وهو: ما يئول إليه الشيء في ثاني حال، يعني تأويل الخبر: وقوع المخبَر به، تأويل الأمر: فعل المأمور، تأويل الرؤيا بهذا الاعتبار: تحقق ذلك، هذان في الكتاب والسنة، وكلام السلف إذا ذكر التأويل فهو إما أن يكون بمعنى التفسير أو أن يكون بهذا الاعتبار ما يئول إليه الشيء في ثاني حال، ولكن عند المتأخرين صاروا يستعملونه في معنى ثالث، وهو صرف الكلام من المعنى الراجح المتبادر إلى معنى مرجوح، هذا إذا كان لدليل فلا إشكال، وأما إذا كان لشبهات أو لغير دليل فإن ذلك يكون من قبيل التحريف.

فهنا يقول: "وهذا هو المقصود بكل ما يجوز من تفسير وتأويل"، عند من يفرق بين التفسير والتأويل، أما من يجعلهما بمعنى واحد -كما هو الغالب في اصطلاح المفسرين؛ إذ التأويل عندهم هو التفسير- فهذا لا يجري عليه هذه الجملة الأخيرة، وهذا هو المقصود بكل ما يجوز من تفسير وتأويل: يعني الذين يقولون: إن التأويل هو صرف الكلام من المعنى الراجح الى المعنى المرجوح، نقول: لا حق لك في صرفه من المعنى الراجح إلى المعنى المرجوح بالتحكم والهوى والتعصب للمذهب، أو اتباع الشيخ أو الطريقة، بمجرد كون هذا اللفظ له احتمالات لا يبرر ذلك حمل ألفاظ الشارع على غير المعنى الظاهر المتبادر، أو المعنى المعهود المتكرر في الاستعمال؛ ولذلك تجد أهل العلم الكبار من الأئمة الذين يؤصلون كابن جرير وابن كثير، ومن المعاصرين الشيخ الشنقيطي، وكذلك هي طريقة شيخ الاسلام ابن تيمية وابن القيم في كلامهم في التفسير، حينما يتكلمون عن الآيات يذكرون هذا المعنى المتبادر، ابن جرير كثيراً ما يقول: وهذا هو الظاهر المتبادر، ولا يجوز العدول عن الظاهر المتبادر من القرآن بغير دليل يجب الرجوع إليه، دائماً تتكرر مثل هذه العبارات، هذا هو التأصيل، يذكر لك أصلا وقاعدة تبني عليها الفهم والتفسير.

الشيخ الشنقيطي -رحمه الله- لما يذكر الأقوال يقول لك مثلاً: وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ [سورة الصافات:173]، الغلبة تطلق على الغلبة بالحجة والبيان، والغلبة بالسيف والسنان، فبعض العلماء يقول: بعض الأنبياء قُتل، ومن قُتل فهو مغلوب "فيُقتَل أو يَغلِب"، فجعله قسيماً له، مقابلاً له، فقالوا: المقتول مغلوب، إذًا الغلبة بالحجة والبيان،  وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ،  لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي [سورة المجادلة:21]، غلبة الرسل -عليهم الصلاة والسلام- بعضهم قال: هذا المراد، والشيخ الشنقيطي -رحمه الله- يقول: لمّا نتتبع لفظ الغلبة في القرآن نجد أنها في الغالب تستعمل في الغلبة في ميدان المعركة كما أنها تأتي بمعنى الغلبة في الحجة فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ [سورة الأعراف:119]، هذه في الحجة مع فرعون والسحرة، فبناءً عليه يقول: لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي الغلبة المقصود بها ميدان المعركة[3]، ويدخل فيها أيضاً الغلبة بالحجة والبيان، جاء بهذا من الاستقراء.

وهكذا شيخ الاسلام كتب رسالة خاصة في موضوع القنوت، ما معنى القنوت؟، فتتبع هذه اللفظة في القرآن، ونظر في كل موضع فيما استعملت، ثم جاء بمعنى كلي يجمع شتات هذه المعاني التي قيلت، وهكذا في الكلام على المثل في القرآن وقد سبق مفصلاً.

مخالفة الإجماع
قال -رحمه الله: فكل مسألة يقطع فيها بالإجماع وبانتفاء المنازع من المؤمنين فإنها مما بيّن الله فيه الهدى، ومخالف مثل هذا الإجماع يكفر كما يكفر مخالف النص البيِّن.

يعني يقصد به الإجماع القطعي.

قال -رحمه الله: و أما إذا كان يُظن الإجماع ولا يُقطع به، فهنا أيضاً قد لا يقطع بأنها مما تبيّن فيه الهدى من جهة الرسول، ومخالف مثل هذا الإجماع قد لا يكفر.

التعبير دقيق، يقول: "قد لا يُقطع"، الإجماع الظني، "بأنها مما تبيّن فيه الهدى من جهة الرسول، ومخالف مثل هذا الإجماع قد لا يكفر"؛ لأنه كما يقول شيخ الاسلام: قد يكون ظنُّ الإجماع خطأ، والصواب في خلافه، هذا الإجماع الظني -المظنون- قد لا يكون واقعاً، قد لا يكون صحيحاً.

قال -رحمه الله: وهذا هو فصل الخطاب فيما يكفر به من مخالفة الإجماع، وما لا يكفر، والإجماع هل هو قطعي الدلالة، أو ظني الدلالة؟

هنا سيتكلم عن مسألة جديدة، كأن قلم الشيخ عبد الرحمن -رحمه الله- جرى فألحقها بالكلام، هنا من عند قوله: "والإجماع، هل هو قطعي الدلالة، أو ظني الدلالة؟" هذه مسألة جديدة، سيتكلم عليها شيخ الإسلام ابن تيمية في (كتاب الايمان) فالشيخ كأن القلم جرى معه فألحقها بالكلام السابق، وإلا لا معنى لها هنا، فالمفترض أن هذه الجملة تحذف؛ حتى لا يتشتت عليك المعنى، ويُشكل، والإجماع هل هو قطعي الدلالة أو ظني الدلالة، هذه مسألة ثانية، فهذا لا علاقة له بالقاعدة السابقة.

مَن لم يبغض ما يبغضه الله ورسوله لم يكن في قلبه من الإيمان بمقدار نقصان بغضه
قال -رحمه الله: ومن لم يكن في قلبه بغض ما يبغضه الله ورسوله من المنكر الذي حرمه من الكفر والفسوق والعصيان، لم يكن في قلبه الإيمان الذي أوجبه الله عليه، فإنّ من لم يكن مبغضاً لشيء من المحرمات أصلاً لم يكن معه إيمان أصلا .

يعني الإنسان لا يُتصور معه الإيمان ما لم يكن في قلبه بغض ما يبغضه الله، أو محبة ما يحبه الله، أن ينتفي ذلك بالكلية، النبي ﷺ حينما قال: من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان[4]، وقال: وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل[5]، بعضهم قال: المراد ليس وراء ذلك من الإيمان، يعني العمل تجاه المنكر في هذه القضية، ليس هناك عمل، ما بعد القلب شيء، إنكار القلب، وكراهية القلب ما بعدها شيء.

ومعلوم أن الإيمان بضع وسبعون شعبة، فكراهية القلب للمنكر إيمان، نفور القلب من المنكر إيمان، هل وراء هذا النفور شيء؟، وراء الكراهة شيء؟، هل هناك شيء أقل من هذا يصدق عليه أنه إيمان؟  

الجواب: لا، فبعضهم يقول: هذا هو المراد، ليس وراء ذلك من الإيمان يعني مما يُعمل تجاه المنكر، وبعضهم يقول، لا، هذا يدل على انتفاء الإيمان بالكلية، إنسان لا يتحرك قلبه تجاه المنكر أصلاً، حتى لا توجد الكراهة القلبية، فمثل هذا لا يتصور الإيمان في قلبه، فإنّ من لم يكن مبغضاً لشيء من المحرمات أصلاً، ليست قضية معينة، الإنسان قد يوجد نوع من المنكرات يهواه ويميل إليه ويحبه، وقد يوجد بعض الأمور المشروعة قد ينفر منها قلبه، المرأة قد تكره موضوع التعدد مثلاً، ولكنها تذعن، وتنقاد وتقر وتغالب هواها فهذه مؤمنة، ولا يقال: إنه يصدق عليها قوله تعالى: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ [سورة محمد:9]، أولئك كرهوا أي: كرهوا ما أنزل الله، كرهوا الإسلام، كرهوا الوحي، كرهوا الدين، هذا لا يكون مؤمناً، لكن في قضية معينة له فيها هوى هذا لا يقال: إنه يخرج من الإيمان، ولا داعي للتكلف في هذا، وتجدون في نواقض الإسلام العشرة: من أبغض دين الرسول أو شيئاً مما جاء به الرسول، هذه القضية ينبغي أن تقيد وتضبط ليست على إطلاقها، يقول: "فإنّ من لم يكن مبغضًا لشيء من المحرمات أصلا، لم يكن معه إيمان أصلاً"، فإن هذا لا يتصور معه الإيمان.

الإيمان إذا أطلق في كلام الله ورسوله يتناول فعل الواجبات وترك المحرمات
قال -رحمه الله: الإيمان إذا أطلق في كلام الله ورسوله يتناول فعل الواجبات وترك المحرمات، ومن نفى الله ورسوله عنه الإيمان فلا بد أن يكون ترك واجباً، أو فعل محرماً، فلا يدخل في الاسم الذي يستحق أهله الوعد دون الوعيد، بل يكون من أهل الوعيد.

هذه المسألة تتعلق بمسألة سبقت فيما يتصل بالإيمان والإسلام إذا أُطلق، وإذا اقترن، والشيخ في المقدمة قال: إنه قد يتكرر بعض هذه الضوابط أو القواعد في بعض المواضع، وهو قليل؛ لفائدة أو زيادة، فهذا مثال على ما ذكر الشيخ -رحمه الله- في المقدمة، وهنا يقول: "الإيمان اذا أطلق في كلام الله ورسوله فإنه يتناول فعل الواجبات وترك المحرمات"، إذا أطلق الإيمان، فعل الواجبات: لأن الإيمان قول وعمل. 

"ومن نفى الله ورسوله عنه الإيمان فلا بد أن يكون قد ترك واجباً، أو فعل محرماً"، مثلما قلنا،  (لا يؤمن من لا يأمن جاره بوائقه)، "فلا يدخل في الاسم الذي يستحق أهله الوعد -يعني الوعد المطلق- دون الوعيد"، الوعد بمعنى أن يقال: إن هذا الانسان يدخل الجنة بلا عذاب، إنما ذلك يكون لأهل الإيمان المطلق الكامل دون الوعيد، فإن الإنسان قد يكون معه إيمان صحيح، ولكنه أيضاً قد ترك بعض واجبات الإيمان، أو فعل أموراً محرمة فيكون من أهل الوعيد، فيعذب إن لم يغفر الله له، ثم بعد ذلك لا يخلد في النار، ويكون مآله إلى الجنة، هذه حال أهل التوحيد، بل يكون من أهل الوعيد، ليس معنى ذلك أنه مخلد في النار، وإنما تحت المشيئة.

مَنْ كان مقصوده عبادة الله يثاب على مباحاته وإن كان غير ذلك فلا تباح له
قال -رحمه الله: وكل مقصود إما أن يقصد لنفسه، وإما أن يقصد لغيره، فإن كان منتهى مقصوده ومراده: عبادة الله وحده لا شريك له وهو إلهه الذي يعبده لا يعبد سواه، وهو أحب إليه من كل من سواه، فإن إرادته تنتهي إلى إرادته وجه الله، فيثاب على مباحاته التي يقصد بها الاستعانة على الطاعة، وإن كان أصل مقصوده عبادة غير الله لم تكن الطيبات مباحة له، فإن الله إنما أباحها للمؤمنين من عباده، بل الكفار وأهل الجرائم والذنوب وأهل الشهوات يحاسبون يوم القيامة على نعم الله التي تنعموا بها فلم يشكروه ولم يعبدوه بها، ويقال لهم: أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا [سورة الأحقاف:20].    

الآن يقول: "كل مقصود إما أن يقصد لنفسه، وإما أن يقصد لغيره"، يعني ما يقصد لنفسه: العبادات التي شرعها الله -تبارك وتعالى- كالصلاة، والصيام، والحج، وما إلى ذلك، وهذه المسألة نسبية، يعني إذا نظرت إليها تجد أنها أيضاً هي مقصودة لغيرها، وهو التقرب إلى الله ، هو تحصيل مرضاته، تحصيل ثوابه وما إلى ذلك، لكن بالنظر إلى الوسائل والمقاصد يقال: هذه العبادات مقصودة لذاتها، وإذا نظرت إلى غيرها مثلاً كأن ينام الإنسان القيلولة من أجل أن يتقوى على العبادة، أو على قيام الليل، أو الصيام فهذا مقصود لغيره، أي أنه يسخر المباحات من أجل أن يستعين بذلك على العبادات والطاعات، فيكون مأجوراً بذلك.

وتكون هذه المباحات التي يزاولها من الاستجمام، أو الاغتسال من أجل التبرد من أجل أن يتقوى على الصيام مثلاً، أو من أجل أن يتقوى لقيام الليل، يقوم من الليل ويغتسل؛ ليتنشط، وهو غسل للتبرد والنظافة، فيؤجر على ذلك.

والذي يزاول ألوانا من الرياضات من أجل أن يتقوى على الجهاد في سبيل الله، أو يتقوى على الطاعة، والعبادة وما إلى ذلك، هذا يكون مأجوراً في هذا كله، وتكون مزاولاته هذه عبادة، هي من قبيل الوسائل التي يستعان بها على تحقيق المقاصد فيؤجر عليها؛ لأن مقصوده هو عبادة الله.

وأما من كان مقصوده عبادة غير الله -تبارك وتعالى، فإن هذه المتع واللذات التي تكون مباحة لأهل الإيمان تكون زيادة في العذاب عليه يوم القيامة،  أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا هذا معنى كلام الشيخ -رحمه الله، وشيخ الاسلام ذكر شواهد لهذا من الكتاب والسنة، والكلام الذي ذكره بعده: "وأما إذا فعل المؤمن.." هذا تابع لما قبله، وبينهما كلام طويل وشواهد على ما ذكر.

قال -رحمه الله: وأما إذا فعل المؤمن ما أُبيح له قاصداً للعدول عن الحرام إلى الحلال لحاجته إليه، فإنه يثاب عليه، وأما مالا يحتاج إليه الإنسان من قول أو عمل...

"ما أُبيح له قاصداً للعدول عن الحرام إلى الحلال لحاجته إليه، فإنه يثاب عليه" مثل ماذا؟ أمثلته كثيرة جدًّا في الأمور العادية -أمور الناس- حتى يستعين بذلك على الحلال؛ ليعدل عن الحرام، هذا الإنسان الذي قد تعلق مثلاً بالسماع المحرم، فلو أنه أحياناً سمع شيئاً من الشعر المباح ونحو ذلك بين حين وآخر في السفر ونحو هذا؛ ليكون ذلك عوضاً عن الحرام، يستعين بذلك على التخلص من الحرام، فإنه يكون مأجوراً، الرجل الذي يطلب من امرأته أن تلبس له لباساً يعفه عن النظر إلى الحرام، فِعلُها هذا تكون مأجورة عليه.

وقل مثل ذلك في أمثلة وصور كثيرة في المكاسب وغيرها.

قال: "وأما ما لا يحتاج إليه الإنسان.."، يعني الآن في الأمور العادية النبي ﷺ قال: وفي بُضع أحدكم صدقة، سألوه: أيأتي أحدنا شهوته ويكون له أجر؟ قال: أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه فيها وزر؟[1]، فهذا الإنسان الذي يأتي شهوته يكون مأجوراً، يقصد بذلك الاستعاضة عن الحرام؛ ولهذا أرشد النبي ﷺ من رأى امرأة أعجبته أو رأى شيئًا أعجبه منها أن يأتي أهله؛ فإن معها مثل الذي معها[2]، فإذا فعل ذلك جاء وواقع أهله فإنه يكون مأجوراً؛ لأنه استعاض بالحلال عن الحرام، ولهذا نقول: اللهم اغننا بحلالك عن حرامك، وبطاعتك عن معصيتك.

والله يقول: وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ [سورة العنكبوت:45]، ومن السلف من قال: إن الاشتغال بالصلاة في نفسه إشغال عن المنكر وانصراف عنه؛ لأن الانسان طاقة وجهد، وإن كان هذا ليس هو المعنى الراجح فيها، لكن الشيء بالشيء يذكر.

قال -رحمه الله: وأما ما لا يحتاج إليه الإنسان من قول وعمل بل يفعله عبثًا فهذا عليه لا له؛ لحديث: كل كلام ابن آدم عليه لا له إلا أمراً بمعروف، أو نهيًا عن منكر، أو ذكرَ الله[3].

هذا الحديث لا يصح، وكلام الإنسان منه ما يكون قربة وطاعة فيؤجر عليه، ومنه ما يكون معصية فيحاسب عليه، ومنه ما يكون لا له ولا عليه، فهذا اختلف السلف فيه هل هو داخل في عموم قوله: مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [سورة ق:18] فهل يكتب ثم بعد ذلك يطرح؟ أو لا يكتب ابتداء، وإنما الذي يكتب هو ما يترتب عليه الجزاء؟، فالحاصل أن كلام الانسان ثلاثة أقسام.

قول الخير خيرًا من السكوت عنه والسكوت عن الشر خيراً من قوله
قال -رحمه الله: ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت[1]، فأُمر المؤمن بأحد أمرين إما قول الخير أو الصُّمات؛ ولهذا كان قول الخير خيرًا من السكوت عنه، والسكوت عن الشر خيراً من قوله، إذ ليس مِن شرط ما عليه أن يكون مستحقًّا لعذاب جهنم وغضب الله، بل نقْصُ قدره ودرجته عليه.

هو هذا، لا شك أن التوسع في الفضول -الفضول المباح من النظر، والنُّزه، والكلام، والخُلطة، والأكل، والشرب، والنوم- يكون نقصًا في مرتبة الانسان،  وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا [سورة الأحقاف:19]، والناس يتفاوتون، فمن الناس من يشغل نفسه بأعلى الأعمال وأفضل الأعمال بعد الواجبات، ومن الناس من يشتغل بأمور من الطاعات مفضولة، ومن الناس من يشتغل بعد الفرائض بأمور مباحة، ومن الناس من يشتغل بأمور محرمة من الصغائر، ومن الناس من يشتغل بأمور من الكبائر، ومن الناس من يكون داعياً إلى ذلك أو بعضه، فهؤلاء على مراتب، -والله المستعان.

أثر الإفراد والاقتران على معاني الألفاظ
قال -رحمه الله: ولفظ الصالح والشهيد يذكر مفرداً فيتناول النبيين والصديقين والشهداء، و يذكر مع غيره فيفسر بحسبه.

لفظ الصالح والشهيد، وفي الأصل في كتاب الإيمان: والصدِّيق يذكر مفرداً.

هذا كما سبق أيضا في لفظ الإيمان والإسلام، فهنا لفظ الصالح والشهيد والصدّيق يذكر مفرداً فيتناول النبيين، الله تعالى قال في حق الخليل ﷺ: وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ [سورة البقرة:130]، وقال أيضاً: رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ [سورة الشعراء:83]، فذلك يقال للأنبياء ولا شك أنهم أئمة أهل الصلاح، ويوسف ﷺ قال: تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ [سورة يوسف:101]،  فهنا لفظ الصالح أعم فيدخل فيه إذا ذُكر الصالح والشهيد مثلا والصدِّيق والنبي.

فالنبي: مَن نُبئ، والصالح يدخل فيه النبي وغير النبي -أهل الصلاح، والشهيد من نال درجة الشهادة، سواء كان ذلك شهيد المعركة، أو ما جاء فيه أنه من الشهداء، كما قال الله وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ [سورة النساء:69] فلاحظ هنا أنه ذكر هؤلاء، فيكون النبي ما هو معروف مَن نُبئ، "والصدِّيقين" الصدِّيق: مَن كمل تصديقه وصدقه، أبو بكر ما قال النبي ﷺ شيئًا إلا قال: صدق، فكمل تصديقه، وكذلك كمل صدقه.  

وقال الله تعالى: وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ [سورة المائدة:75] يعني: مريم -رحمها الله، فهذا على صيغة مبالغة؛ لكثرة الصدق والتصديق، هذا الصدِّيق، والشهيد معروف، والصالح يعم ذلك جميعاً، فإذا ذُكر أحد هؤلاء، لفظ الصالح أو الشهيد أو الصديق إذا ذُكر مفرداً قال: فيتناول النبيين والصديقين والشهداء،  ويذكر مع غيره فيفسر بحسبه فالأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- هم من الشهداء يشهدون على أممهم، وهم أئمة الصدق والتصديق، وكذلك أيضاً هم أئمة الصالحين.

والقاعدة السابقة، أو الضابط السابق، أو الفائدة السابقة: هي ملخصة جدًّا من كلام شيخ الإسلام.

قال -رحمه الله: ولفظ الفسوق والعصيان والكفر، فإذا أطلقت المعصية والفسوق تناول الكفر فما دونه، وإذا قيدت أو قرنت مع غيرها كانت على حسب ذلك.

 لفظ الفسوق والعصيان والكفر هذا يقابل ما سبق، فإذا أطلقت المعصية أو الفسوق تناول الكفر فما دونه، وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا [سورة الجن:23]، وهذا لا يكون -يعني مع قيد التأبيد- إلا في الكفار الخارجين عن الإسلام.

وقال الله وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ [سورة هود:59].

وهكذا في قوله -تبارك وتعالى- عن فرعون: فَكَذَّبَ وَعَصَى [سورة النازعات:21]، فالمعصية تكون بمعنى الكفر، ولا شك أن الكفر هو رأس المعاصي، وتكون بالكبائر، وتكون أيضاً بالصغائر، كله يقال له: معصية، وكذلك الفسوق فإنه يقال للخروج، يقال: فسقت الفأرة من جحرها، إذا خرجت للإفساد.

فالفسوق يقال للخروج عن طاعة الله بالكلية، ويكون هذا بالكفر، ويكون بالخروج جزئيًّا، ويكون ذلك بالمعصية، ولذلك تجدون كثيراً في كتب أصول الفقه يرددون مثالاً ينقله بعضهم عن بعض يقولون مثلاً في الكلام على مفهوم الموافقة الأعلى: إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا [سورة الحجرات:6]، يقولون: إن جاء كافر فمن باب أولى، فهذا المثال في ظني غير دقيق؛ لأن لفظة فاسق تتناول هذا وهذا، ولا تختص بالعاصي، فقوله: إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ، كافر أو دونه، يقول: فإذا أطلقت المعصية والفسوق تناول الكفر فما دونه، وإذا قيدت أو قرنت مع غيرها كانت على حسب ذلك يعني مثلاً: وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ [سورة الحجرات:7] فيكون الفسوق هنا والعصيان غير الكفر.

وهكذا في قوله: وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ [سورة النساء:14] هذه مطلقة،  وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ [سورة الجن:23]، لكن يمكن أن يقال: إن قوله: وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا [سورة النساء:14] هنا قيدها بتعدي الحدود، وذلك أيضاً محمول على الكفر؛ لأنه ذكر معه الخلود في النار، وقيدها أيضاً بالخلود قال: خَالِدًا فِيهَا، وكذلك أيضاً في قوله: وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى [سورة طه:121]، هذا في خصوص قضية معينة، عصاه في الأكل من الشجرة.

وهكذا في قوله عن أهل الإيمان في يوم أحد: وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ [سورة آل عمران:152] فهذه معصية مقيدة خلاف المعصية المطلقة، فهذا يأتي مقيداً ويأتي مطلقًا، وإذا قيدت أو قرنت مع غيرها كانت على حسب ذلك، يعني أحياناً توجد قرينة تدل على أنها بمعنى الكفر، وأحياناً تدل على أنها دون ذلك، بحسب ما قُيدت به أو قُرنت معه.

الشفاعة الحسنة والشفاعة السيئة

قال -رحمه الله: فالشفاعة الحسنة: الإعانة على الخير الذي يحبه الله ورسوله، مِن نفع مَن يستحق النفع، ودفع الضر عمن يستحق دفع الضر عنه.

والشفاعة السيئة: الإعانة على ما يكرهه الله ورسوله كالشفاعة التي فيها ظلم الإنسان، أو منع الإحسان لمن يستحقه.  

شيخ الإسلام -رحمه الله- يستطرد، فمثلاً في (كتاب الإيمان) لما تكلم عن قضية المجاز، واحتمال اللفظ إلى آخره توسع في الكلام على المجاز جدًّا، وتجد فيه كلاماً بديعاً على مسألة المجاز، وهل هو موجود في القرآن وكلام العرب أو لا، وتطرق الشيخ -رحمه الله- لقوله تعالى: مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا [سورة النساء:85] فتكلم شيخ الإسلام عن مسألة الشفاعة، وأنواع الشفاعة الحسنة والسيئة، فقال: "الحسنة هي الإعانة على الخير الذي يحبه الله ورسوله، مِن نفع مَن يستحق النفع، ودفع الضر عمن يستحق دفع الضر عنه"، يعني الإعانة على الخير الذي يحبه الله ورسوله، هل هذا القيد يفهم منه أن الشفاعة الحسنة لا تكون إلا على طاعة؟

ليس بالضرورة؛ فإن إعانة الناس مما يحبه الله ورسوله، لكن بشرط أن لا يكون ذلك في معصية، ولهذا قال: وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا [سورة النساء:85]، فقوله هنا:  "الشفاعة الحسنة: الإعانة على الخير الذي يحبه الله ورسوله"، يبينه قوله بعده: "مِن نفع مَن يستحق النفع، ودفع الضر عمن يستحق دفع الضر عنه"، إذن لا يُفهِم هذا أن الشفاعة لا تكون الا في الطاعات أو القربات، لا يقصد هذا، وإنما نفع الناس أمر يحبه الله ورسوله، فيكون نفعهم بتحصيل مطالبهم التي يحبونها مما لا يكون معصية، وكذلك أيضاً يكون بدفع الضر عنهم بضابطه، بقيده، وهو ألا يكون ذلك فيه مخالفة شرعية، فلا يعان الإنسان -يشفع له- من أجل أن يحصِّل منكراً أو محرماً، أو أن يسقط عنه الحد مثلاً، فهذه شفاعة سيئة.

وكذلك في الشفاعة الحسنة فإنها تكون بتحصيل المطلوبات، ودفع الأمور التي يكون عليه بها ضرر، مما لا يكون معصية لله ورسوله ﷺ، كمن مثلاً شفع لإنسان لأنْ يقبل في دراسة، أو أن يعان بمال يحتاجه أو قضاء دين أو إسقاط دين، أو إبراء، فهذا كله من الشفاعة الحسنة.

تحريم ما أحل الله وتحليل ما حرم الله
قال -رحمه الله: الإله هو المستحق للعبادة، فكل ما يعبد به فهو من تمام تألُّه العباد له، فمن استكبر عن بعض عبادته سامعاً مطيعاً في ذلك لغيره لم يحقق قول: لا إله إلا الله في هذا المقام.

هذه القاعدة -أيضاً- متصلة بالقاعدتين اللتين بعدها، يقول: "الإله هو المستحق للعبادة"، يعني مستحق للعبادة حتى لو لم يُعبد، فهو إله تألهه الخلائق، "فكل ما يعبد به الله -تبارك وتعالى- فهو من تمام تألُّه العباد له"، يعني التألُّه بمعنى التعبد، "فمن استكبر عن بعض عبادته سامعاً مطيعاً في ذلك لغيره لم يحقق قول: لا إله إلا الله في هذا المقام"، لم يكن الله -تبارك وتعالى- مألوهًا له، وإنما تألّه غيره كما قال الله أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ [سورة الجاثية:23]، فقد يكون الهوى إلهًا يعبد من دون الله ، وقال النبي ﷺ: تعس عبد الدينار، والدرهم، والقطيفة، والخميصة، ...[1].

قال -رحمه الله: وهؤلاء الذين اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله حيث أطاعوهم في تحليل ما حرم الله، وتحريم ما أحل الله على وجهين:

أحدهما: أن يعلموا أنهم بدلوا دين الله، فيتبعونهم على التبديل، فيعتقدون تحريم ما أحل الله وتحليل ما حرم الله اتباعًا لرؤسائهم مع علمهم أنهم خالفوا دين الرسل، فهذا كفر، وقد جعله الله ورسوله شركاً، وإن لم يكونوا يصلون لهم ويسجدون لهم، فكان من اتبع غيره في خلاف الدين مع علمه أنه خلاف الدين، واعتقد ما قاله ذلك دون ما قاله الله ورسوله مشركاً مثل هؤلاء.

يعني هؤلاء الذين اتخذوا أحبارهم ورهبانهم هم على نوعين: إما أن يعلم أن هذا الذي أطاعهم واتبعهم فيه هو مخالف لدين الله ، وأنه مما بدّل وغير، فهذا لا شك أنه كفر وشرك، جعلهم آلهة وأربابًا؛ لأنه قال: تَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا [سورة التوبة:31]؛ لأن التشريع من خصائص الربوبية، فالذي يشرع للناس قد زاحم الله في مقام الربوبية بخصائصه فيما يتصل بالتشريع،  أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ [سورة الشورى:21].

وقال الله أيضاً في قضية الميتة -تحليل الميتة- حينما أثاروا شبهة، يقولون: ما ذبحتم بأيديكم فهو حلال، وما ذبحه الله بيده الشريفة بسكين من ذهب تقولون: حرام، أنتم إذًا أحسن من الله، فقال الله وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ [سورة الأنعام:121].

فالمسألة لا تتعلق بقوله: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ  [سورة المائدة:44] فقط، بل هذه الدلائل في الكتاب والسنة كلها تدل على أن من جعل نفسه مشرِّعاً، أو من اتبعه ورضي بالتبديل والتغيير لشرائع الله فإنه يكون مشركاً.

الثاني: أن يكون اعتقادهم وإيمانهم بتحليل الحلال، وتحريم الحرام ثابتاً، لكن أطاعوهم في معصية الله كما يفعل المسلم ما يفعله من المعاصي التي يعتقد أنها معاصٍ، فهؤلاء لهم حكم أمثالهم من أهل الذنوب.

يعني يعتقد أن هذا حرام وهذا حلال، كما أمر الله ، ولكنه من الناحية العملية إما لهوى أو لشهوة أو خوف أو رغبة يتبعهم في ذلك، فإن هذا يكون له حكم أمثاله من أهل الذنوب، هو لا يعتقد تحليل الحرام، ولا تحريم الحلال، وإنما اعتقاده ثابت بتحليل الحلال وتحريم الحرام، لكن أطاعه بمعصية، أمره أبوه، أمره رئيسه بمعصية الله ، هل هذا يكفر؟      

الجواب: لا، ولكنه يكون عاصياً؛ لأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.

قال -رحمه الله: ثم ذلك المحرِّم للحلال والمحلِّل للحرام إن كان مجتهدًا قصده اتباع الرسول ولكن خفي عليه الحق في نفس الأمر، وقد اتقى الله ما استطاع فهذا لا يؤاخذه الله بخطئه، بل يثيبه على اجتهاده الذي أطاع به ربه، ولكن من علم أن هذا خطأ فيما جاء به الرسول، ثم اتبعه على خطئه، وعدل عن قول الرسول فهذا له نصيب من هذا الشرك الذي ذمه الله، لاسيما إن اتبع في ذلك هواه ونصره باللسان واليد، مع علمه أنه مخالف للرسول، فهذا شرك يستحق صاحبه العقوبة عليه.  

يعني الآن الإنسان العالم قد يجتهد فيخطئ فيكون معذوراً، وكما ذكر النبي ﷺ أنه إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، واذا أخطأ فله أجر واحد على اجتهاده[2]، هذا من كان متأهلاً للاجتهاد، يعني لديه آلته، لا يكون جاهلاً مجترئاً على الله ، فمثل هذا اذا أخطأ -اذا أخطأ العالم- فإنه يكون معذوراً إذا بذل الجهد واجتهد، وإنما تكلم العلماء في العالم إذا قلد، هل يجوز له التقليد أو لا؟

فذكر بعض أهل العلم أن ذلك إذا ضاق عليه الوقت، يعني لا يملك وقتًا ينظر في الأدلة وكذا، والمسألة تحتاج إلى أمر سريع، فيمكن أن يقلد غيره فيكون في هذه الحال مقلداً له حكم أمثاله، أو يسأل أو نحو ذلك، فالآن هذا العالم الذي أخطأ يكون معذوراً، ولو أن أحداً أخذ بقوله وهو يعلم أن هذا القول خطأ مخالف لما جاء به الرسول ﷺ فإنه بذلك يكون قد وقع فيما حذر الله منه،  اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ، اتبعه في أمر يعلم أنه خلاف ما جاء به الرسول ﷺ، ومن هنا تأتي خطورة اتباع رخص الفقهاء.

وبعض العامة، وكثير من الناس، وكثير من أهل الأهواء يظن أنه بمجرد أنه يوجد قول لعالم أن ذلك يسوِّغ له اتباع ذلك القول، وهذا خطأ غير صحيح، وإنما يجب النظر في دلائل الكتاب والسنة، فيعرف الحق ويستبين، ولا تبرأ الذمة بمجرد هذا التقليد بالتشهي والاختيار، يبحث عما يوافق هواه، ولذلك فإنه يقال للعوام: إن الواجب على أمثالهم أن يسألوا أهل العلم فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ [سورة النحل:43].

فيسأل من يثق بعلمه ودينه لا بد من الأمرين، الأتقى والأورع، أو من كان متصفاً بالدين والورع، والتقوى مع العلم، فإذا وُجد من أفتاه بهذا وآخر أفتاه بغيره، بخلافه، هذا يقول: حرام، وهذا يقول: حلال، فإنه ينظر الأوثق والأعلى مرتبة في نفسه، الأرجح في نفسه من جهة الديانة ومن جهة العلم، فإن استويا يقول الشاطبي: "نظر إلى هواه، فإن الشريعة قد ركبت على خلاف داعية الهوى بالنفوس"[3]، أين الهوى؟ من هنا؟ اذهب من الجهة الثانية، هذا عكس ما يفعله كثير من العامة، هذه أفتى فيها عالم، هذه يوجد فيها قول، واليوم صار بعض العامة إذا سألوا، يرسل رسالة بالجوال ويقول: يا شيخ أريد الأقوال، أو ألا يوجد قول آخر؟

إذا قلت له: هذا لا يجوز، قال: ألا يوجد قول آخر؟ وليس هذا هو المخرج.

وهذا يحلق لحيته ويقول: يوجد قول، وهذا يسمع المعازف ويقول: يوجد قول، وهذا يصور ويقول: يوجد قول، وهذه امرأة تخرج ساترة ما بين السرة إلى الركبة فقط عند محارمها وتقول: يوجد قول، وهذه تخرج إلى خاطبها لا يوجد ما يواري إلا العورة المغلظة فقط، وتقول: ابن حزم إمام من أئمة أهل العلم، ومن أكبر أوعية أهل العلم، ويقول: يجوز للمرأة أن تخرج للخاطب، وينظر لكل شيء ما عدا السوءتين[4].

وهذا يستبيح أنواعًا من الربا، وهذا يستبيح أنواعًا من المسكرات، ويقول: يوجد قول، ويمرق من الدين، ويوجد قول!، يوقِّع بهذه الطريقة فيجتمع فيه الشر كله، ويوجد قول!.

مسائل في الاتباع والتقليد
قال -رحمه الله: ولهذا اتفق العلماء ، على أنه إذا عرف الحق لا يجوز تقليد أحد في خلافه، وإنما تنازعوا في جواز التقليد على القادر على الاستدلال، وإن كان عاجزاً عن إظهار الحق الذي يعلمه، فهذا يكون كمن عرف أن دين الإسلام حق وهو بين النصارى، فإذا فعل ما يقدر عليه من الحق لا يؤاخذ بما عجز عنه.

وهذا من رحمة الله بعباده، هذا الإنسان الذي عرف أن دين الإسلام حق وهو بين النصارى، فإذا فعل ما يقدر عليه من الحق لا يؤاخذ بما عجز عنه، فقد يترك بعض الواجبات، ويفعل بعض المحرمات، وهو لا يعلم، بل قد يفعل بعض الكبائر، وهو لا يعلم أن ذلك مما حرمه الله فيكون بذلك معذوراً مالم يحصل التفريط والتقصير في طلب الحق؛ ولهذا فإن مسألة ما يعذر بالجهل فيه تتفاوت، هي مسألة نسبية، فالبلد التي يكون فيها الإسلام ظاهراً والسنة ظاهرة ليست كالبلد التي يكون أهل الإسلام فيها أو أهل السنة في غربة، إنسان نشأ بين جهمية، أو نشأ بين رافضة، أو إنسان نشأ في غابة بعيدة فخفي عليه بعض حقائق الدين ولا يستطيع أكثر من ذلك مع بذل الجهد فإنه يكون معذوراً،  لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [سورة البقرة:286].  

قال -رحمه الله: وأما إن كان المتبع للمجتهد عاجزًا عن معرفة الحق على التفصيل، وقد فعل ما يقدر عليه مثله من الاجتهاد في التقليد فهذا لا يؤاخذ إن أخطأ كما في القبلة، وأما إن قلد شخصاً دون نظيره بمجرد هواه، ونصره بيده ولسانه من غير علم أن معه الحق فهذا من أهل الجاهلية.
إن كان المتبع للمجتهد عاجزًا عن معرفة الحق على التفصيل، وقد فعل ما يقدر عليه مثله من الاجتهاد في التقليد فهذا لا يؤاخذ إن أخطأ كما في القبلة، وأما إن قلد شخصاً دون نظيره بمجرد هواه، ونصره بيده ولسانه من غير علم أن معه الحق فهذا من أهل الجاهلية.
وإن كان متبوعه مصيباً لم يكن عمله صالحاً، وإن كان متبوعه مخطئًا كان آثماً.

فهذه ثلاث مسائل، الاجتهاد نوعان: اجتهاد في استخراج الأحكام من الأدلة, فهذا للعلماء، الذي هو الاستنباط.

ونوع آخر من الاجتهاد الذي يسمونه تحقيق المناط، فهذا يكون للعامة، الآن مسائل الحيض والاستحاضة والكدرة والصفرة، وما إلى ذلك يبيّن الحكم فيها، متى يكون حيضاً ومتى يكون استحاضة إلى آخره، لكن المرأة تنظر هل ينطبق عليها هذا الوصف أو ذاك، فهذا اجتهاد في تحقيق المناط، في تنزيل الحكم على المعين.

الزكاة واجبة، اذا وُجد الشرط وانتفى المانع، فلان عنده مال هل تجب عليه الزكاة أو لا؟، نذكر مسألة الزكاة هذه، وأحكام الزكاة في الجملة، ثم بعد ذلك يأتي تحقيق المناط هل هذا تنطبق عليه الشروط وتنتفي الموانع أو لا؟ فهذا يحصل به الاجتهاد من قبل العامة، وقل مثل ذلك في أمثلة أو صور كثيرة.

الآن يجب استقبال القبلة، ومن خفيت عليه القبلة، نقول: يتحرى، يسأل من يثق به، إن لم يوجد من يثق به ينظر في أمور مثل اتجاه الرياح والمحاريب إن وجد محاريب، فإن بذل جهده فهو معذور، يأتي هذا الإنسان يقول: أنا اجتهدت في القبلة، وفعلت ما أقدر عليه، هذا اجتهاد الآن في تحقيق المناط، وتطبيق ذلك على نفسه، يقول: "فهذا لا يؤاخذ إن أخطأ كما في القبلة"، إذا بذل الوسع، تأتي مسائل يُختلف في تفصيلها وتقديرها، هل له أن يجتهد في البلد أو لا؟

هذه مسألة اختلف فيها الفقهاء، يسأل من؟

"وأما إن قلد شخصًا دون نظيره بمجرد هواه"، وهذه مسألة معروفة ذكرها أهل العلم، أن لا يتخذ له متبوعًا يقلده دون من سواه، سواء كانوا من الأئمة المتبوعين أم من غيرهم، يقول: أنا لا أقبل إلا قول فلان، وكلما جيء له بالأدلة وأقوال أهل العلم وما إلى ذلك يردها، فهذا لا يجوز، سواءً كان ذلك في المتبوعين من أئمة الفقهاء، أم كان في غيرهم من أهل السلوك، أو غير ذلك، لا يجوز له أن يجعل أحداً من الناس بمنزلة الرسول ﷺ، يقبل كل ما يقول ويرد ما سواه.

يقول: وأما من قلد شخصاً دون نظيره بمجرد هواه، ونصره بيده ولسانه من غير علم أن معه الحق فهذا من أهل الجاهلية، وإن كان متبوعه مصيباً لم يكن عمله صالحاً.

يعني حتى لو كان هذا المتبوع الآن في هذه المسألة التي قلده فيها وانتصر له بقوة لكن على وجه الحمية، وهو لا يميز حقًّا من باطل، لكنه ينصره في كل شيء، فإنه يكون بذلك مذموماً، كما أن من تعزى بالألقاب الشرعية على سبيل الحمية الجاهلية يكون مذموماً، لما قال الرجل: يا للأنصار، قال الآخر: يا للمهاجرين، قال النبي ﷺ: أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم[5]، مع أنها ألقاب شريفة ذكرها الله في القرآن وأقرها، فكيف إذا كانت محدثة مبتدعة؟!، فليس لأحد أن يقلد أحداً من الناس، لا فرداً ولا طائفة، ويتبعهم في كل ما يقولون من غير نظر في الحق والدليل والحجة التي يحصل بها الخروج من العهدة، وتبرأ بها الذمة.

  1. أخرجه البخاري، كتاب الرقائق، باب ما يتقى من فتنة المال، برقم (6435).
  2. أخرجه البخاري، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب أو أخطأ، برقم (7352)، ومسلم، كتاب الأقضية، باب بيان أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب، أو أخطأ، برقم (1716).
  3. انظر: الاعتصام، للشاطبي (1/ 68)، و (2/ 852).
  4. انظر: المحلى بالآثار (9/ 161).
  5. أخرجه البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب قوله: يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى المَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ وَلِلَّهِ العِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ المُنَافِقِينَ لاَ يَعْلَمُونَ [سورة المنافقون:8]، برقم (4907)، ومسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب نصر الأخ ظالمًا أو مظلومًا، برقم (2584).

مواد ذات صلة