الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فمن الآثار الواردة عن السلف في باب "تحريم الكبر والإعجاب" ما جاء عن عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- أنه لما ولي الخلافة بدأ بأهل بيته، فأخذ ما بأيديهم، يعني بدأ ببني أمية وسمّى أموالهم مظالم، يعني أنها أُخذت بغير حق، ففزعت بنو أمية إلى عمته فاطمة بنت مروان، فأرسلت إليه أني قد عناني أمر فأتته ليلاً فأنزلها عن دابتها، فلما أخذت مجلسها قال: "يا عمة أنت أولى بالكلام"، قالت: تكلم يا أمير المؤمنين، قال: "إن الله بعث محمدًا ﷺ رحمة ولم يبعثه عذابًا، واختار له ما عنده فترك لهم نهراً شُربهم سواء -بمعنى المال هم فيه سواء، ثم قام أبو بكر فترك النهر على حاله، ثم عمر فعمل عمل صاحبه، ثم لم يزل النهر يشتق منه يزيد -يعني يزيد بن معاوية، ومروان -يعني مروان بن الحكم، وعبد الملك -يعني ابن مروان، والوليد -يعني ابن عبد الملك، وسليمان -يعني ابن عبد الملك، حتى أفضى الأمر إليّ وقد يبس النهر الأعظم -يعني كل واحد يشتق له منه ترعة، وليس المقصود نهر الماء، وإنما المقصود الأموال العامة لبيت مال المسلمين، ولن يروي أهله حتى يعود إلى ما كان عليه"، فقالت: حسبك، فلست بذاكرة لك شيئًا، ورجعت فأبلغتهم كلامه[1].
يعني كانت تقول: دعهم، وأرجِعْ لهم أموالهم التي أخذتَها.
ومن الأمثلة السيئة للكبر أو العجب ما جاء في ترجمة الحجاج بن أرطاة أنه كان فقيهاً، وهو أحد المفتين بالكوفة، وكان فيه تِيهٌ، فكان يقول: "أهلكني حب الشرف"[2]، يقول الشافعي -رحمه الله- سمعت حجاج بن أرطاة يقول: "لا تتم مروءة الرجل حتى يترك الصلاة في جماعة"[3]، هذا رجل مع أنه فقير، نسأل الله العافية.
يقول الذهبي يعلق على هذا الكلام: "لعن الله هذه المروءة ما هي إلا الحمق والكبر، كي لا يزاحمه السوقة، وكذلك تجد رؤساء وعلماء يصلون في جماعة في غير صف، أو تبسط لهم سجادة كبيرة حتى لا يلتصق بهم مسلم، فإنا لله"[4].
وكان حجاج بن أرطاة لا يحضر الجماعة، فقيل له في ذلك، فقال: "أحضر مسجدكم حتى يزاحمني فيه الحمالون والبقالون؟"[5]، يعني الذين يبيعون البقول.
ونقل غير واحد أن الحجاج هذا قيل له مرة: ارتفع إلى صدر المجلس، فقال: "أنا صدر حيث كنت"[6]، يعني من شدة الإعجاب بنفسه والتعاظم، وكان يقول: "أهلكني حب الشرف".
ولما دخل المهدي العباسي مسجد رسول الله ﷺ فلم يبقَ أحد إلا قام إلا ابن أبي ذئب، وهو فقيه أهل المدينة من أقران الإمام مالك -رحمه الله، فقال له المسيب بن زهير: "قم، هذا أمير المؤمنين، فقال: إنما يقوم الناس لرب العالمين، فقال المهدي: دعه، فقد قامت كل شعرة في رأسي"[7].
ويقول سفيان الثوري -رحمه الله: "السلامة في ألا تحب أن تُعرف"[8].
ويقول إبراهيم بن أدهم: "ما صدق اللهَ عبدٌ أحب الشهرة"[9]، والذهبي يعلق يقول: "علامة المخلص الذي قد يحب الشهرة ولا يشعر بها أنه إذا عوتب في ذلك لا يحرج"[10]، يعني لا ينكر ولا يبرئ نفسه، ولا يتنصل، بل يعترف ويقول: "رحم الله عبداً أهدى إليّ عيوبي، ولا يكون معجباً بنفسه لا يشعر بعيوبها، بل لا يشعر أنه لا يشعر؛ فإن هذا داء مزمن"[11].
وسئل ابن المبارك ما الكبر؟
قال: "أن تزدري الناس، فسئل عن العجب؟ قال: أن ترى أن عندك شيئاً ليس عند غيرك، ثم قال: لا أعلم في المصلين شيئاً شرًّا من العجب"[12].
وبلغ الفضيل بن عياض أن حريزاً يريد أن يأتيه فأقفل الباب من خارج، حريز هذا رجل من الصالحين أراد أن يزور الفضيل بن عياض، فالفضيل أقفل الدار من الخارج كأنه خارج الدار؛ لئلا يطرق الباب، ولا يتعنّى كأنه خارج المنزل، فجاء حريز هذا فرأى الباب مقفلا فرجع، فكُلِّم الفضيل فقيل له: حريز! يعني ما استقبلته، فقال: ما يصنع بي؟ يعني لماذا يأتي؟ يُظهر لي محاسن كلامه، وأظهر له محاسن كلامي، فلا يتزين لي، ولا أتزين له، خير له، يقول: إذا جاء فأنا سأتصنع له بالكلام، وأتحدث له بأفضل ما أعرف، وهو يتحدث بأفضل ما عنده، والنية يشوبها شيء فالأفضل عدم اللقاء[13].
وكان الفضيل يقول: " إن استطعت أن لا تكون محدثاً، ولا قارئاً، ولا متكلماً، إن كنت بليغاً قالوا: ما أبلغه، وأحسن حديثه، وأحسن صوته! فيعجبك ذلك، فتنتفخ، وإن لم تكن بليغاً ولا حسن الصوت قالوا: ليس يحسن يحدث، وليس صوته بحسن أحزنك ذلك وشق عليك، فتكون مرائياً، وإذا جلست فتكلمت فلم تبالِ من ذمك ومن مدحك فتكلم"[14]، هذا هو، ليس معنى هذا كله أن الإنسان لا ينفع الناس ولا يبذل ولا يقدم، لا، يجب على الإنسان، وإلا فكيف وصلنا هذا الدين؟ عن طريق هؤلاء من الأئمة من الصحابة فمن بعدهم لكن كانوا يلاحظون أنفسهم ويحاسبونها.
واجتمع الفضيل بن عياض مع سفيان الثوري -وهؤلاء من أعبد أهل زمانهم، فتذاكروا فرقّ سفيان فبكى، ثم قال: "أرجو أن يكون هذا المجلس علينا رحمة وبركة، فقال له الفضيل: لكني أبا عبد الله أخاف ألا يكون أضر علينا منه، ألستَ تخلّصت إلى أحسن حديثك، وتخلصتُ أنا إلى أحسن حديثي فتزينتَ لي وتزينتُ لك؟، فبكى سفيان وقال: أحييتني أحياك الله"[15].
وكان الفضيل يقول: "يا مسكين، أنت مسيء وترى أنك محسن، وأنت جاهل وترى أنك عالم، وأنت بخيل وترى أنك كريم، وأحمق وترى أنك عاقل، أجلك قصير وأملك طويل"[16]، طبعاً الذي يسمع الكلام هذا أحياناً يقول: هذا تحطيم وقتل للنفوس، ويقول الذهبي معلقاً على هذا الكلام: "إي والله، صدق، وأنت ظالم وترى أنك مظلوم، وآكل للحرام وترى أنك متورع، وفاسق وتعتقد أنك عدل، وطالب العلم للدنيا وترى أنك تطلبه للآخرة"[17].
وجاء عن ابن عيينة: "من كانت معصيته في الشهوة فارجُ له -يعني: قد يؤنبه ضميره ويتوب، ومن كانت معصيته في الكبر فاخشَ عليه، فإن آدم عصى الله مشتهياً فغفر له، وإبليس عصى متكبراً فلُعن"[18]، وكان بشر بن منصور يصلي فيطول ورجل وراءه ينظر ففطن له، فلما انصرف -يعني لما سلم من الصلاة- قال: "لا يعجبك ما رأيت مني؛ فإن إبليس قد عبد الله دهراً مع الملائكة"[19].
وكان الفضيل يقول: "آفة القراء العجب"[20]، والقراء يدخل فيه من يقرءون القرآن وطلبة العلم فإنهم يسمون بالقراء.
يقول عفان: "قدمت أنا وبهزٌ واسطَ -مدينة واسط، فدخلنا على علي بن عاصم، فقال: ممن أنتما؟ قلنا: من أهل البصرة، فقال: من بقي؟ -يعني: من بقي على قيد الحياة من الأئمة وأهل الحديث والعلماء، فجعلنا نذكر حماد بن زيد والمشايخ، فلا نذكر له إنسانًا إلا استصغره -يعني فيه تيه وكبر، فلما خرجنا قال بهز: "ما أرى هذا يفلح"[21].
وكان الشافعي يقول: "إذا خفت على عملك العجب فاذكر رضاء من تطلب -يعني اذكر رضاء الله، وفي أي نعيم ترغب -يعني: النعيم العظيم، النعيم المقيم يحتاج إلى عمل كثير، ومن أي عقاب ترهب، فمن فكر في ذلك صغر عنده عمله"[22]، ويمكن أن يزاد على ما ذكره الشافعي: إذا خاف الإنسان على نفسه العجب وأكثر ما يقع هذا إذا كان الإنسان بين أناس لا ينهضون للطاعة، بين أناس من البطالين كُسالى فليقرأ في تراجم أهل العلم الصحابة فمن بعدهم، بل أخبار النبي ﷺ في عبادته، كيف كانوا في صلاتهم، في عبادتهم، في صيامهم، في قراءتهم إلى آخره، فيدرك ويعرف جيداً أنه مفرط مضيع، وهكذا إذا خشي على نفسه العجب في العلم يقرأ سير العلماء كم كانوا يحفظون، وكم كان عندهم من العلوم، فيعرف قدره، بل أقول: في العصر الحديث يقرأ الرحلة إلى حج بيت الله الحرام للشيخ محمد الأمين الشنقيطي، هذا يُجيب وهو في طريقه إلى الحج قادمًا من موريتانيا، وانظر الإجابات فيعرف الإنسان مبلغه من العلم، فإن أبى أن يقرأ فليسمع أشرطة الشيخ -رحمه الله- التي كان يلقيها في المسجد النبوي في التفسير من غير ورقة، ولا حتى ما يحمل مصحفًا، فيعرف أين العلم، وأن الكثيرين منا قطاع طرق، والله المستعان، نسأل الله العفو والعافية.
يقول يحيى بن أكثم: "أدخلتُ عليَّ بن عياش على المأمون، علي بن عياش هذا رجل من فضلاء أهل الشام وخيارهم يقول: أدخلته على الخلفية المأمون، فعلي بن عياش هذا تبسم يوم دخل ثم بكى، فقال المأمون: يا يحيى، أدخلت عليّ مجنونًا يضحك ويبكي؟ فقلت: أدخلت عليك خير أهل الشام وأعلمهم ما خلا أبا المغيرة، يقول الذهبي: الرجل عمل بالسنة فسلم وتبسم، ثم بكى لما رأى من الكبر والجبروت"[23]، هذا تفسير الذهبي لهذا الموقف، ويمكن أن يفسر بغير هذا، يمكن أن يكون تبسم لما رأى ما هو فيه من الدنيا، وبكى لما ذكر غفلته وإعراضه وما حمله عليه هذا الملك.
يقول بشر بن حارث: "ما اتقى من أحب الشهرة"[24]، ويقول يحيى بن معين: "ما رأيت مثل أحمد -يعني ابن حنبل- صحبناه خمسين سنة ما افتخر علينا بشيء مما كان فيه من الخير"[25]، ودخل عليه عمه -يعني دخل على الإمام أحمد، فقال: يا ابن أخي، أَيْشٍ هذا الغم؟ أَيْشٍ هذا الحزن؟ فرفع رأسه، وقال: يا عم، طوبى لمن أخمل الله ذكره"[26]، يعني لم يشتهر ولم يعرف، وهذا سحنون من أئمة المالكية يقول لأصحابه: "كبرنا وساءت أخلاقنا، ويعلم الله ما أصيح عليكم إلا لأؤدبكم"[27]، يعني هو يتواضع، يقول: كبرنا وساءت أخلاقنا، وهو كان يزجرهم ويقسو عليهم في الكلام، أحياناً يعنفهم، ويقول: يعلم الله ما أصيح عليكم -يعني ما أرفع صوتي عليكم- إلا لأؤدبكم يعني ليس عن كبرٍ ولا ترفعٍ ولا ازدراءٍ لكم، ولا تضييع لحقكم.
وكان الجنيد يقول: "الكبر أن ترى نفسك، وأدناه أن تخطر ببالك"[28]، يعني نفسك.
ويقول السمعاني: "سمعت غير واحد يقولون: كان الأبْيُوردِي يقول في صلاته -نسأل الله العافية: اللهم ملكني مشارق الأرض ومغاربها"
ويقول السمعاني: "سمعت غير واحد يقولون: كان الأبْيُوردِي يقول في صلاته -نسأل الله العافية: اللهم ملكني مشارق الأرض ومغاربها"
[29]، هذا رجل من أهل العلم ويدعو بهذا الدعاء، ولله في خلقه شئون، عجائب جمّة، الذهبي يعلق عليه يقول: "هو ريان من العلوم، موصوف بالدين والورع إلا أنه تيّاه معجب بنفسه قد قتله حب السؤدد، فقد كان جميلاً لبّاساً -يعني: يلبس رفيع الثياب، له هيئة ورواء -يعني نضارة- وكان يفتخر ويكتب اسمه: العبشمي المُعاوي"[30]-العبشمي يعني نسبة إلى بني عبد شمس، المُعاوي يعني ينتسب إلى معاوية بن أبي سفيان ، ومعاوية بن أبي سفيان من بني عبد شمس، فيقال: إنه كتب رقعة إلى الخليفة المستظهر بالله وكتب -يبغي يتواضع الآن ولا عَرَفَ- المملوك المُعاوي، فحك المستظهر الميم في المعاوي ورد الرقعة إليه، -والله المستعان، الجزاء من جنس العمل، وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [الأنعام:129]، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه.
- انظر: الكامل في التاريخ لابن الأثير (4/ 118)، وتاريخ دمشق لابن عساكر (45/ 180)، وسير أعلام النبلاء (5/ 129).
- سير أعلام النبلاء (6/ 516).
- المصدر السابق (1/ 48).
- المصدر السابق.
- انظر: المجروحين لابن حبان (1/ 226)، وسير أعلام النبلاء (6/ 519).
- سير أعلام النبلاء (6/ 519).
- المصدر السابق (6/ 564).
- المصدر السابق (6/ 639).
- المصدر السابق (7/ 73).
- المصدر السابق.
- المصدر السابق.
- المصدر السابق (7/ 383).
- المصدر السابق (7/ 400).
- المصدر السابق.
- انظر: تاريخ دمشق لابن عساكر (48/ 404)، وسير أعلام النبلاء (7/ 404).
- انظر: تاريخ دمشق لابن عساكر (48/ 424)، وسير أعلام النبلاء (7 /405).
- سير أعلام النبلاء (7/ 405).
- المصدر السابق (8/ 461).
- المصدر السابق (7/ 353).
- المصدر السابق (7/ 405).
- المصدر السابق (8/ 30).
- المصدر السابق (8/ 251).
- المصدر السابق (8/ 411).
- المصدر السابق (8/ 492).
- المصدر السابق (11/ 214).
- انظر: الجرح والتعديل لابن أبي حاتم (1/ 306)، وطبقات الحنابلة (1/ 12)، وتاريخ دمشق لابن عساكر (5/ 309)، وسير أعلام النبلاء (11/ 207).
- سير أعلام النبلاء (9/ 464).
- المصدر السابق (11/ 44).
- المصدر السابق (14 / 246).
- المصدر السابق.