الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فقد مضى الكلام على باب فضل الزهد في الدنيا، وسمعنا ما جاء عن رسول الله ﷺ في هذا الباب.
بقي كما هي العادة أن نعقب ذلك ببعض النماذج التطبيقية من حال سلفنا الصالح ، فمن ذلك:
ما جاء عن عمرو بن العاص أنه قال عند موته -عند الاحتضار: كيلوا مالي، فكالوه فوجدوه اثنين وخمسين مُدًّا، والمد معروف وهو ما يحصل بمجموع الكفين، وليس المقصود هنا أنه بهذا القدر من البر أو الحب أو نحو ذلك، وإنما ما فيه من الدراهم أو الدنانير ونحو هذا.
فقال: من يأخذه بما فيه؟، يا ليته كان بعراً[1].
هذا المال اثنان وخمسون مدًّا من الذهب أو الفضة، وهذا هو المال عند الإطلاق، قال: من يأخذه بما فيه؟ بما فيه: يعني من التبعة، وما يتطلب ويستدعي الحساب، من يأخذه بما فيه؟، يا ليته كان بعراً.
وجاء أيضاً عن جابر قال: ما منا أحد أدرك الدنيا إلا قد مالت به إلا ابن عمر[2]. لاحظ هنا الصحابة رباهم النبي ﷺ بتلك المثابة من الورع والزهد والعبادة، ومعرفة حقيقة الدنيا، ومع ذلك يقول جابر : ما منا أحد أدرك الدنيا إلا قد مالت به، إلا ابن عمر، فما الذي يمكن أن يقوله أمثالنا؟!.
وكثير من الناس لربما يجهد في طلب الدنيا، وليس الكلام في أن يكتسب الإنسان ويستغني عن الناس، فهذا مطلوب، والإسلام ما جاء من أجل أن يجلس الناس في المساجد، ويتركوا العمل، بل لابد من إقامة الدنيا، ومن عمارتها، وأن الإنسان يجد ويجتهد ويستغني عن الحاجة إلى المخلوقين، وإنما الكلام في الاشتغال بها عن الآخرة، والتكاثر فيها، كما قال الله -تبارك وتعالى: أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ [التكاثر:1].
فيطلب من ذلك الزيادة التي لا يقف معها عند حد حتى يأتيه الموت، وقد فرط وضيع كثيراً، هذا هو المقصود.
فهذا جابر يقول: ما منا -يعني معاشر الصحابة- أحد أدرك الدنيا إلا قد مالت به، إلا ابن عمر.
جاء أيضاً عن ابن الحنفية وهو محمد، نُسب إلى أمه، وهي من سبي بني حنيفة، وهو محمد بن علي بن أبي طالب قال: من كرمت عليه نفسه لم يكن للدنيا عنده قدر[3].
لماذا؟ لأن الدنيا إذا كان لها قدر عند الإنسان فمعنى ذلك أن النفس تتشبث بها، وتحرص عليها، الأمر الذي يوقع الإنسان في أمور غير محمودة، وقد ذكرنا شيئاً من ذلك في الكلام على قوله تعالى: وَأُحْضِرَتِ الأَنفُسُ الشُّحَّ [النساء:128]، وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الحشر:9]، كيف علق به الفلاح؟ قلنا: الإنسان إذا كان حريصاً على الدنيا فمعنى ذلك أنه يتطلب هذه الدنيا من الحلال والحرام، من الطرق المشتبهة، وكذلك يمنع حق الله وحقوق المخلوقين، ويوقعه ذلك في كثير من الدنايا والمدانس، فتنحط مرتبته، ولربما قارف أموراًَ تذهب بمروءته، بل تذهب بدينه.
وجاء عن العلاء بن زياد -رحمه الله- قال: رأيت الناس في النوم يتبعون شيئاً فتبعته...[4] وهذه رؤيا فيها عبرة.
يقول: فإذا عجوز كبيرة هتماء ليس لها أسنان، عوراء، عليها من كل حلية وزينة. وهل الحلي تنفع في تزيين تلك المرأة الهتماء العوراء كبيرة السن؟ أبداً، إنما يكون الحلي مفيداً ونافعاً إذا كان ذلك مع الجمال الذي أعطاه الله للإنسان.
وما الحَلْيُ إلا زينةٌ مِن نقيصةٍ | يُتمم من حسنٍ إذا الحسنُ قصّرا |
أمّا إذا كان الجمال موفَّرًا | كحسنكِ لم يحتج إلى أن يُزوَّرا |
فالشاهد أن هذه تتجمل من أجل أن تخفي هذه المعايب، ولكن ذلك ليس بخافٍ.
فيقول: عليها من كل حلية وزينة، فقلت: ما أنتِ؟ قالت: أنا الدنيا، قلت: أسأل الله أن يبغضك إليّ، قالت: نعم، إنْ أبغضتَ الدراهم.
يُبغض الدنيا إليه متى؟ إذا أبغض الدراهم، ونحن ذكرنا من قبل أن حقيقة الزهد أن تكون الدنيا في يد الإنسان دون أن تدخل قلبه، فإذا كان القلب يذهب ويجيء مع الريال فهذا أبعد الناس عن الزهد، وقد يملك الإنسان مئات الملايين، ولكن قلبه بمنأى عن ذلك كله، فهذه نعمة عظيمة؛ ولذلك مثل هذا يمكن أن ينفق، ويصل الرحم، ويبذل في وجوه البر، وما إلى ذلك وقلبه في غاية الطمأنينة والثبات.
وذكرت في بعض المناسبات أن بعضهم كان يقول: لا أستطيع في المعاملات في البيع والشراء أن أعطي أحداً من النقد شيئاً أبداً، يقول: نفسي لا تطاوعني، حتى إذا اشترى من أحد شيئًا، وإنما يعطيه من الشيكات أو بطاقة الصراف، يقول: ما أستطيع أن أمسك النقود وأعطيها لأحد، وهذا شيء مشاهد، تجد بعض الناس إذا دفع النقود يده ماسكة فيها، يعني حتى البائع يحاول أن يأخذها، كأنه متردد، أليس كذلك؟.
وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.
- سير أعلام النبلاء (3/ 74).
- المستدرك على الصحيحين للحاكم (6369).
- حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (3/ 176).
- المصدر السابق (2/ 244).