الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
ففي باب إجراء أحكام الناس على الظاهر وسرائرهم إلى الله تعالى أورد المصنف -رحمه الله-:
المقداد بن الأسود ، وأبوه هو عمرو وليس الأسود، ولكنه أصاب دماً قبل الإسلام، ثم بعد ذلك حالف الأسود، ويقال: إن الأسود تبناه في الجاهلية فنسب إليه، المقداد بن الأسود، وإلا فهو المقداد بن عمرو، ويقال: الكندي؛ لأنه حالف كندة، ثم أصاب دماً عندهم، ثم ذهب إلى مكة فحالف الأسود، ثم بعد ذلك دخل في الإسلام، وكان أحد السبعة الذين سبقوا إلى الإسلام، ثم هاجر إلى الحبشة، ثم رجع ثانية إلى مكة، ثم بعد ذلك هاجر إلى المدينة، وكانت روايته لحديث رسول الله ﷺ قد بلغت اثنين وأربعين حديثاً، وكانت وفاته فيما قيل- في خلافة عثمان ، وأنه توفي بالجُرف وهي ناحية معروفة إلى اليوم في شمال المدينة.
يقول: قلت لرسول الله ﷺ: أرأيتَ إن لقيتُ رجلاً من الكفار فاقتتلنا، المقداد بن الأسود رجل شجاع، وهو الفارس الوحيد -فيما قيل- لرسول الله ﷺ في يوم بدر، وشهد مع النبي ﷺ جميع الغزوات، يقول: أرأيتَ إن لقيتُ رجلاً من الكفار فاقتتلنا فضرب إحدى يدي بالسيف فقطعها، ثم لاذ مني بشجرة فقال: أسلمت لله، أأقتله يا رسول الله بعد أن قالها؟ لاحظوا هذه المسألة الآن لم تقع، هي مسألة مفترضة، لكنها متوقعة، يعني أن ذلك قد يقع، ووقوعه ليس بمستبعد، بل هو شيء قريب، وقد حصل ذلك، كما في حديث أسامة بن زيد لما علا رجلاً بالسيف فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، فقتله أسامة ، فقال له النبي ﷺ: أقتلته بعدما قال: لا إله إلا الله؟[1].
وكذلك بنو خزيمة الذين قتلهم خالد بن الوليد ، وقد قالوا: صبأنا صبأنا، ما عرفوا أن يقولوا: أسلمنا، كانوا يقولون للذي يدخل في الإسلام: صابئ، صبأ فلان يعني: دخل في الإسلام، قالوا: صبأنا صبأنا، فعد ذلك النبي ﷺ منهم دخولاً في الإسلام، عده دخولاً في الإسلام مع أنهم ما قالوا: أشهد أن لا إله إلا الله، وهذا يدل على أن الإنسان قد يدخل في الإسلام بحسب معرفته، وبحسب مبلغه من العلم، فهذا الذي قال: صبأنا صبأنا هو يظن أنه يعبر الآن بكلمة جميلة وجيدة، وأنها بمعنى أسلمنا، هو هكذا يظن، فالنبي ﷺ رفع يديه وقال ثلاثاً: اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد[2]، ووداهم ﷺ يعني دفع الديات، وتحملها، يعني اعتبرهم من المسلمين، فإذاً هذا الحديث فيه فوائد فقوله هنا: أرأيتَ إن لقيتُ...، هو يسأل عن مسألة لم تقع، هي مسألة مفترضة، وقد جاء النهي عن الإكثار من المسائل، والله قال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ [المائدة:101]، ويقول النبي ﷺ: إنما أهلك من كان قبلكم كثرة مسائلهم[3]، ولهذا جاء من الآثار شيء كثير عن السلف في ذم كثرة السؤال، وهكذا أيضاً المسائل التي لم تقع، ولربما سألوا الرجل: هل وقع ذلك أو لا؟، فإن أجابهم بأنه لم يقع لم يجيبوه، والمقصود والخلاصة أن محمل ذلك جميعاً على صور معلومة يكون السؤال فيها مذموماً وذلك كالسؤال في وقت نزول الوحي عن مسألة لم تحرم، فقد تحرم بسبب مسألته، كما قال النبي ﷺ: إن من أعظم الناس في المسلمين جرماً من سأل عن شيء لم يحرم، فحرم من أجل مسألته[4]، أو كما قال ﷺ، والله يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِن تَسْأَلُواْ عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللّهُ عَنْهَا، فالنبي ﷺ سكت عنها، والله سكت عنها لا غفلة ولا من قبيل النسيان، وإنما من باب العفو، فيأتي إنسان ويسأل عنها، النبي ﷺ يقول: أيها الناس إن الله كتب عليكم الحج[5]، فيقوم رجل ويقول: يا رسول الله أفي كل عام؟ فيسكت النبي ﷺ، الآن هذا السائل قال له النبي ﷺ: لو قلتها لوجبت، ولما استطعنا بطبيعة الحال لو كان الحج يجب في كل سنة، فهذا الرجل سأل سؤالًا مذموماً، فهذه صورة في وقت نزول الوحي عن أشياء لم تحرم أو لم يوجبها الله فيسأل إنسان وينبش وينقِّر، فقد ينزل الوحي بإيجاب شيء أو بتحريم أمر من الأمور، فهذه صورة.
الصورة الثانية: الشيء الذي قد يكون الإنسان يكره جوابه في أمور لم يأمره الله بالسؤال عنها، إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ، لما غضب النبي ﷺ من كثرة سؤالاتهم، وقام وقال: سلوني، لا تسألوني اليوم عن شيء إلا أجبتكم[6]، فقام رجل وقال: من أبي؟ الرجل كان يُتهم، يُنسب أحياناً إذا غاضب أحداً من الناس إلى غير أبيه، فالرجل قال: من أبي؟ حتى إنه لما رجع إلى أمه عاتبته على هذا، يعني لو ذكر النبي غير الأب الذي هو أبوه لكانت فضيحة أمام الناس، فالشاهد أن مثل هذه السؤال مذموم، وكذلك من الأسئلة المذمومة المسائل نادرة الوقوع التي لا تقع إلا نادراً، مثل ما ذكرنا في بعض المناسبات الرجل الذي سأل عمر، وقال: لو أن رجلاً وطئت دابته دجاجة ميتة فخرج منها بيضة ففقست عنده فرخاً، هل هذا الفرخ يجوز أكله أو لا؟ غضب عمر وقال له: ممن أنت؟ قال: من أهل العراق، قال: فعل الله بأهل العراق، سؤال متكلف، رجل يطأ دجاجة وهي ميتة، وتخرج منها بيضة، ثم تفقس عنده، هذه مسألة نادرة الوقوع، فهذا سؤال متكلف.
بعض الناس يسأل أسئلة لا تعنيه ولا يترتب عليها عمل ولا أثر، يقول: الله خلق الحيوانات من ماذا؟، هذا ما يعنيه، أو السؤال عن أمور غيبية اختص الله بعلمها، فيسأل عن كنه صفات الله ، وكيفية الصفات، وكذلك ما يسمى بالأغاليط وهي صعاب المسائل التي يقصد بها التعجيز، يطرح أسئلة صعبة معقدة من أجل أن يعجز الناس في ذلك، فهذا كله مذموم.
لكن هنا سأل عن شيء لم يقع، لكنه قريب الوقوع، يمكن أن يقع، فلا بأس، فهذا دليل عليه، أرأيتَ إن لقيتُ رجلاً من الكفار فاقتتلنا، فضرب إحدى يدي بالسيف فقطعها، ثم لاذ مني بشجرة فقال: أسلمت لله، لاحظ هنا قال: أسلمت لله، وقوله: أسلمت لله على هذا الاعتبار يدخل به في الإسلام، إذا كانوا أولائك قالوا: صبأنا، فكيف إذا قال: أسلمت؟!، مع أنه ما قال: لا إله إلا الله، فنزل ذلك منزلة قوله: لا إله إلا الله، أأقتله يا رسول الله بعد أن قالها؟ فقال: لا تقتله، فقلت: يا رسول الله قطع إحدى يدي، ثم قال ذلك بعدما قطعها، فقال: لا تقتله، فإن قتلته فإنه بمنزلتك قبل أن تقتله، وإنك بمنزلته قبل أن يقول كلمته التي قال[7]، متفق عليه.
يقول المصنف -رحمه الله: ومعنى فإنه بمنزلتك أي: معصوم الدم محكوم بإسلامه، ومعنى وإنك بمنزلته أي مباح الدم بالقصاص، يعني إن قتلته فإنه بمنزلتك، يعني: أنت الآن معصوم الدم؛ لأنك مسلم، فإن قتلته بعدما قالها، إن قتلته فإنه بمنزلتك قبل أن تقتله، قبل أن تقتله أنت معصوم الدم، ما في ذمتك دم لأحد مسلم، وإنك بمنزلته قبل أن يقول كلمته، قبل أن يقول: أسلمت، دمه حلال، لاحظتم في ميدان المعركة؟، ليس معناه أنك تكون كافراً حينما قتلته فتكون بمنزلته بالكفر، كما قد يفهم من ظاهر الحديث، لا، فإنك بمنزلته قبل أن يقولها بمعنى أنك غير معصوم الدم؛ لأنه قد تعلق بك، بذمتك، برقبتك دم لمسلم، فيكون ورثته قد استحقوا القصاص، والنبي ﷺ قال -كما في الحديث السابق: عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام[8]، وذكرنا مما يدخل في هذا القصاص إذا أصاب دماً لمسلم، فإنه يقتص منه إلا إذا عفا الأولياء، أو رضوا بالدية، فالحاصل أن هذا معنى الحديث.
وبعض أهل العلم فسره فقال: إن قوله ﷺ: فإنه بمنزلتك يعني: حينما كنت تخفي إسلامك، فالرجل هذا قالها وما يدريك عما في قلبه، قد يكون مسلماً، ولكنه قاتل مع الكفار؛ لأنه كان مكرهاً أو نحو ذلك، خاف منهم، حملوه على هذا، مع أن فعله ليس بالشيء السهل، والله قال: إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ [النساء:97]، فهذه الآية كثير من أهل العلم يقول: إنها نزلت في أولائك الذين كانوا قد أسلموا بمكة ولم يهاجروا، وخرجوا مع المشركين في يوم بدر، فقُتل من قتل منهم في غزوة بدر، هذا الحديث فيما يتعلق بهذا الباب يدل على أنه يُجرى الناس حسب الظاهر، هذا الرجل قطع يده وفعل، وكان يريد قتله، ثم قال: أسلمت، يحمل على الظاهر، ما يقال: إنه قال: أسلمت فراراً من السيف، خوفاً من القتل، فيقبل ذلك منه ويكف عنه ولا يجوز لأحد أن يقتله، هذا الذي أفاده هذا الحديث: أن نحمل الناس على الظاهر، ونكل بواطنهم إلى الله ، كونه قالها خوفاً اللهُ هو الذي يتولى حسابه، هذا، وأسأل الله -تبارك وتعالى- أن يعيننا وإياكم على ذكره وشكره وحسن عبادته.
- أخرجه البخاري، كتاب الديات، باب قول الله تعالى: وَمَنْ أَحْيَاهَا [المائدة:32]، برقم (6478).
- أخرجه البخاري، كتاب المغازي، باب بعث النبي ﷺ خالد بن الوليد إلى بني جذيمة (5/ 160)، برقم: (4339).
- أخرجه مسلم، كتاب الفضائل، باب توقيره ﷺ، وترك إكثار سؤاله عما لا ضرورة إليه، أو لا يتعلق به تكليف وما لا يقع، ونحو ذلك، (4/1830)، برقم: (1337).
- أخرجه البخاري، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب ما يكره من كثرة السؤال وتكلف ما لا يعنيه، (9/ 95)، برقم: (7289).
- أخرجه الحاكم في المستدرك، كتاب التفسير، باب ومن سورة آل عمران بسم الله الرحمن الرحيم (2/ 321)، برقم: (3155)، والبيهقي، في السنن الكبرى، كتاب الحج، باب وجوب الحج مرة واحدة (4/ 534)، برقم: (8617).
- أخرجه البخاري، كتاب العلم، باب الغضب في الموعظة والتعليم إذا رأى ما يكره، (1/ 30)، برقم: (92)، ومسلم، كتاب الفضائل، باب توقيره ﷺ، وترك إكثار سؤاله عما لا ضرورة إليه، أو لا يتعلق به تكليف وما لا يقع، ونحو ذلك، (4/ 1834)، برقم: (2359).
- أخرجه البخاري، كتاب المغازي، (5/ 85)، برقم: (4019)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب تحريم قتل الكافر بعد أن قال: لا إله إلا الله، (1/ 95)، برقم: (95).
- أخرجه البخاري، كتاب الإيمان، باب فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ [التوبة:5]، (1/ 14)، برقم: (25)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله محمد رسول الله، (1/ 51)، برقم: (20).