الحمد لله، والصَّلاة والسَّلام على رسول الله.
أما بعد: فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته،
هذا باب (فضل عيادة المريض)، وأورد فيه المؤلفُ حديثًا واحدًا، وهو ما جاء عن عليٍّ قال: سمعتُ رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- يقول: إذا عاد الرجلُ أخاه المسلم مشى في خِرافة الجنة حتى يجلس، فإذا جلس غمرته الرحمةُ، فإن كان غدوةً صلَّى عليه سبعون ألف ملكٍ حتى يُمسي، وإن كان مساءً صلَّى عليه سبعون ألف ملكٍ حتى يُصبح.
هذا الحديث أخرجه الترمذي[1]،وابن ماجه، وأحمد[2]،والحاكم، وقال الحاكم:"إسنادٌ صحيحٌ على شرط الشَّيخين"[3].وقال الحافظُ ابن عبدالبرّ:"حسنٌ، صحيحٌ، ثابتُ الإسناد"[4].وكذا قال المنذري: بأنَّ إسناده صحيحٌ، أو حسنٌ، أو ما قاربهما[5].
وكذلك أيضًا صححه السيوطي، والشيخ أحمد شاكر[6]،والشيخ ناصر الدين الألباني في بعض كتبه[7].
وهذا الحديث حسَّنه الحافظُ ابن حجر[8].
وقد ضعَّفه أبو بكر ابن العربيفقال: لا يصحّ. ورجح الذَّهبي -رحمه الله- أنَّه موقوفٌ، يعني: من كلام عليٍّ ، وسبقه إلى ذلك بعضُ أهل العلم كالدَّارقطني، قالوا: الراجح وقف الحديث.
ومن المعاصرين الشيخ شُعيب الأرناؤوط[9]، والشيخ الألباني في بعض كُتبه رجَّح وقفَه: أنَّه من كلام عليٍّ ، وليس بمرفوعٍ إلى النبي-صلى الله عليه وآله وسلم.
ولكن عند النَّظر في مضمونه ومعناه نجد أنَّ هذا الحديثَ قد تضمّن أمرًا لا يُقال من جهة الرأي والنَّظر والاجتهاد، مثل هذا: إذا عاد الرجلُ أخاه المسلم مشى في خرافة الجنَّة حتى يجلس، هذه قضية غيبيَّة، وكذلك: إذا جلس غمرته الرحمة، فإن كان غدوةً صلَّى عليه سبعون ألف ملكٍ حتى يُمسي، وهكذا ما ذكره في المساء، كلّ ذلك لا يُقال من جهة الرأي، فهو وإن كان من قبيل الموقوف، إلا أنَّ له حكم الرفع إلى النبي-صلى الله عليه وآله وسلم-، بمعنى: أن يكون عليٌّ قد أخذه عن رسول الله -عليه الصَّلاة والسَّلام-؛ لأنَّ مثله لا يُقال من جهة الرأي.
قوله في هذا الحديث: إذا عاد الرجلُ أخاه المسلم، وإذا عادت المرأةُ أختها، أو قريبًا من محارمها؛ فكذلك، فالنِّساء شقائق الرجال، وهذا القيد مُعتبرٌ: إذا عاد الرجلُ أخاه المسلم؛ فإنَّه يكون مُقيدًا بهذا الوصف: عيادة المسلم، مع أنَّه تجوز عيادة غير المسلم، والنبي -صلى الله عليه وآله وسلم- عاد يهوديًّا -كما هو معلومٌ-، فلا إشكالَ في عيادة الكافر، لكن هذا الحكم، أو الوعد، أو الثواب المرتّب على ذلك مُقيدٌ بهذا القيد: أخاه المسلم.
قال: مشى في خرافة الجنَّة حتى يجلس، مشى في خرافة الجنة، ما المقصود به؟
"خرافة الجنة" أي: في اجتناء ثمر الجنة، يُقال: خرفت النَّخلة، أي: اجتنيت ثمرتها، فشبّه ما يحوزه عائدُ المريض من الثواب بما يحوزه المخترفُ من التَّمر. هكذا قال بعضُ أهل العلم: كابن الأنباري، في خرافة الجنة في جناها، يجتني ثمرها، فهو يخترف، يعني: يجتني.
وبعضهم ذكر غير ذلك، بعضُهم قال: يعني: سلك الطريق التي تُؤدِّي به إلى الجنة.
وفي روايةٍ أخرى: عائد المريض له خريفٌ في الجنة[10]،والمقصود بالخريف هنا:"فعيل" بمعنى:مفعول، يعني: مخروف من ثمرها، يعني: ما يخترف، له ثمر يخترف في الجنَّة، فهناك في خرافة الجنة: في جناها، وهنا في خريف، أو له خريفٌ في الجنة.
وذكر-صلى الله عليه وآله وسلم-أمرًا آخر يكون لهذا العائد للمريض، قال: حتى يجلس، فإذا جلس غمرته الرحمة،إذا جلس غمرته الرحمةُ، يعني: علته، وسترته، فكأنَّ الرحمة شبّهت بالماء، حيث يكون ذلك باعتبار الطَّهارة، أو الشُّمول.
والمقصود-والله تعالى أعلم- أنَّ الرحمة تغمره غمرًا، فلا ينزل عليه شيءٌ يسيرٌ منها، يكون في رحمةٍ عظيمةٍ، كثيرةٍ، إذا عاد أخاه المسلم غمرته الرحمة.
فإن كانت هذه الزيارة أو العِيادة غدوةً؛ صلَّى عليه سبعون ألف ملك حتى يُمسي: إن كان غدوةً عرفنا في بعض المناسبات أنَّ الغدوةَ ما يكون إلى طلوع الشَّمس، من الفجر إلى طلوع الشمس، هذا وقتُها، ولكن كأنَّ المراد -والله تعالى أعلم بذلك- أنَّ المقصود: أول النَّهار، إن كان في أول النَّهار،فهنا يُصلِّي عليه سبعون ألف ملكٍ حتى يُمسي، والمساء يكون بعد الزوال؛ زوال الشمس-يعني: الظهر.
فإذا عاده في أول النَّهار فإنَّ ذلك يكون سببًا لصلاة هؤلاء الملائكة إلى المساء، وصلاة الملائكة: صلَّى عليه سبعون ألف ملكٍ، يدعون له بالمغفرة، يستغفرون له، صلاة الملائكة على العبد بمعنى: الاستغفار: الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا، هذا بمعنى الدعاء، يدعون لهم بالمغفرة: فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ[غافر:7،8]، الملائكة تدعو لأهل الإيمان، ويحصل هذا الدُّعاء من قبل هذا العدد الكبير، يستغفر له سبعون ألف ملكٍ بعملٍ يسيرٍ، وهو عيادة المريض.
حينما تعلم أنَّ فلانًا من الناس يدعو لك باسمك؛ فإنَّ هذا لا شكَّ أنه أمرٌ يسرّ، مما تبتهج به النُّفوس وتفرح، فكيف إذا كان هذا من قبل ملكٍ؟ كيف إذا كان من قبل هذا العدد الكبير: سبعون ألف ملكٍ؟
لو قيل لإنسانٍ: هناك سبعون ألف إنسانٍ يدعون لك؟ بهذا قد يُخشى على الإنسان أن يتَّكل على هذا الدُّعاء من قبل هؤلاء، لعلَّ فيهم مُستج ابالدَّعوة، فقد يفرط في العمل طالما أنَّ هذا العدد الكبير -سبعون ألفًا من الناس- يدعون له، فكيف إذا كان هؤلاء من الملائكة؟ كيف إذا كانوا من الملائكة؟
ومن ثم فإنَّه ينبغي أن نستحضر هذا المعنى، يحرص الإنسانُ على عيادة المرضى، إنما نُقدِّم لأنفسنا، مع ما فيه من نفع المريض بعيادته، وتقوية قلبه، فإنَّ المريض يكون غالبًا قد انكسرت نفسُه، فإذا رأى إخوانه، رأى الناس يعودونه؛ قوي قلبه، فإذا حصل مع ذلك الدُّعاء له، فقد يكون ذلك سببًا لشفائه.
نحن في كثيرٍ من الأحيان حينما نعود المرضى، فنحن قد نقوم بذلك من باب المصانعة والمجاملة التي ربما نقصد بها تسجيل حضورٍ، ثم بعد ذلك نُسرع إلى الانصراف، نتسابق إلى أبواب المستشفى، وربما يذهب الإنسان وهو مُستثقلٌ، ولكن في الواقع هو يُقدِّم لنفسه؛ إذا استشعر أنَّه يستغفر له سبعون ألف ملكٍ فإنَّه يذهب ولو زحفًا، يذهب لمن عرف، ومَن لم يعرف.
وأعرف في بعض المستشفيات مَن يزورون المرضى كل يومٍ، وهم لا يعرفونهم، يمرون على جميع الغُرف: السلام عليكم، طهورٌ إن شاء الله،لا بأس عليكم. وقد رأيتُ هذا في بعض المستشفيات في اليوم الأول، والثاني، والثالث، والرابع،فسألتُ: هؤلاء يأتون كل يومٍ؟ تعرفونهم؟ قالوا: لا، كل يومٍ يأتون، وهناك مَن يأتي يومًا بعد يومٍ، وهناك مَن يأتي في يومين في الأسبوع، وهناك مَن يأتي في يومٍ واحدٍ في الأسبوع، هؤلاء يُقدِّمون لأنفسهم.
لكن تخصيص يومٍ معينٍ لعيادة المرضى؛ لقصد هذا اليوم بخصوصه: كيوم الجمعة مثلاً، أو الاثنين والخميس، هذا لا أصلَ له، ولم يكن من هدي النبي-صلى الله عليه وآله وسلم-أن يخصَّ يومًا من الأيام بعيادة المريض، وقد ذكر هذا المعنى الحافظُ ابن القيم -رحمه الله- في كتابه "زاد المعاد"[11].
كما أنَّه-صلى الله عليه وآله وسلم-لم يكن يخصّ الزيارة بوقتٍ، أو بساعةٍ في اليوم، وإنما يكون ذلك بحسب ما يتيسر، وما يكون أكثر مُلائمةً للمريض، فشرع النبيُّ -صلى الله عليه وآله وسلم-لأمَّته عيادة المرضى ليلاً ونهارًا، في الصباح والمساء، فيما لا يشقّ على المريض؛ ما يأتيه في أوقات راحته، في أوقات نومه، في أوقات زيارة أهله له، أو في أوقات ربما علاجه، أو نحو ذلك، إذا كان لذلك وقتٌ مخصوصٌ.
فالشَّاهد: أنَّ هذا الحديثَ يدلّ على فضل عيادة المريض، وفضل الله واسعٌ، ولا يصحّ أن يُحكم على الحديث بالضَّعف بناءً على ترتيب هذا الأجر العظيم، مقابل هذا العمل اليسير، فإنَّ فضلَ الله على عباده عظيم.
وهذه العيادة -عيادة المريض- لا تختصّ بالصَّالح، وغير الصَّالح: أخاه المسلم، فقد يكون تقيًّا، وقد لا يكون تقيًّا، وما يُدريك؟ فقد ينتفع بهذه الزيارة، وكم من رجلٍ قد اهتدى واستقامت أحواله بسبب عيادةٍ، بسبب زيارةٍ.
فمثل هذا ينبغي أن نستحضره، وأن نعود عموم المسلمين، ولا يستنكف المرءُ أن يعود أحدًا ربما لا يكون ظاهره الصَّلاح، وقد ترى من ذلك عجائب لا تخطر ببالك؛ أنَّ مثل هذا الإنسان بهذه المثابة التي ترى منه وتسمع ما يكون من أثر هذه الزيارة.
دخل أحدُهم قبل أيامٍ المستشفى، وكان المرافقُ له يقول: وجدنا في الغرفة ما لا يكون ظاهره على حالٍ مرضيةٍ في هيئته، وفي شعره، يقول: لم أستبشر خيرًا بهذا الذي سيكون في الغرفة. يقول: لكن لما سلمتُ عليه، وإذا بالرجل شيء آخر تمامًا غير هذه الصورة الظَّاهرة التي شاهدتُها من محبَّته للخير، ولأهل الخير، وتمنيه لرؤيتهم، واستبشاره بذلك.
على كل حالٍ، فيُعاد الجميع، وكذلك أيضًا كما قلتُ: غير المسلم يُعاد أيضًا، ويُدْعى إلى الله -تبارك وتعالى-، كما عاد النبيُّ -صلى الله عليه وآله وسلم-اليهودي.
هذا ما يتعلق بهذا الحديث، وأسأل الله أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، وأن يجعلنا وإياكم هُداةً مُهتدين.
- أخرجه الترمذي في "سننه": كتاب أبواب الجنائز، باب ما جاء في عيادة المريض، برقم (969).
- أخرجه أحمد في "مسنده"، برقم (611).
- أخرجه الحاكم في "مستدركه"، برقم (1293).
- انظر: "الاستذكار" لابن عبد البر(8/421).
- انظر: "الترغيب والترهيب"للمنذري (4/164).
- انظر: "مسند أحمد"، برقم(611).
- انظر: "مشكاة المصابيح"(1550).
- انظر: "فتح الباري" لابن حجر (10/113).
- انظر: "سنن ابن ماجه"(2/436).
- أخرجه الترمذي في "سننه": كتاب أبواب الجنائز، باب ما جاء في عيادة المريض، برقم (969)، وصححه الألباني في "مشكاة المصابيح"، برقم (1550).
- انظر: "زاد المعاد" لابن القيم (1/478).