أما بعد: فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته،
في باب: "فضل الصلاة على النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-" أورد المؤلفُ حديثَ الحسين بن علي بن أبي طالب -رضي الله عنهما- قال: قال رسولُ الله ﷺ: البخيل مَن ذُكرتُ عنده فلم يُصلِّ عليَّ. هذا الحديث أخرجه الترمذي[1]، والنَّسائي في "سننه الكبرى"[2].
وقال عنه ابنُ أبي حاتم: مُرسل[3].
وقال ابنُ القيسراني: تفرد به سليمان بن بلال[4].
وقال ابنُ القيم: له عِلّة[5].
وقال الهيثمي: فيه يحيى بن عبدالحميد الحمّاني، وهو ضعيف. لكن يقول: لكن مُتابعة الحديث الذي قبله قد تُقويه[6].
فهؤلاء يميلون إلى تضعيف الحديث.
ولكن قال الحافظُابن حجر -رحمه الله-: مشهور[7]. وقال في موضعٍ ثانٍ: لا يقصر عن درجة الحسن[8]. وقال في موضعٍ ثالثٍ: حسنٌ[9].
وقال السَّخاوي: له شاهدٌ[10]. وذكر أنَّه لا يقلّ عن درجة الحسن[11].
وصححه السيوطي[12]، والزرقاني شارح "الموطأ"[13]، والشيخ أحمد شاكر[14]، والشيخ ناصر الدين الألباني[15]-رحم الله الجميع-، فكلّ هؤلاء صححوا هذا الحديث.
فقوله:البخيليعني: البخيل حقيقةً، أي: البخيل الذي قد استحقَّ الوصفَ الكامل في البُخل؛ لأنَّ دخول (ال) عليه كأنَّه يُشعر باستجماعه واستكماله للوصف الكامل في هذا الباب، كما تقول: الكريم فلان، والعالم فلان، والشُّجاع فلان، والرجل فلان. يعني: كأنَّه لا رجلَ سواه، ولا كريمَ سواه.
فهذا البخيل بخل بشيءٍ لا يخسر بسببه قليلًا ولا كثيرًا، ولا يبذل مالًا، ولا يبذل جهدًا، وإنما هو أمرٌ فيه مصلحة له، وكمال، ورفعة، ودرجات، وصلاة من الله -تبارك وتعالى- عليه، كما أنَّ ذلك فيه بعض حقِّ النبي ﷺ، فهو الذي علَّمنا، وهو الذي أرشدنا، وهو الذي دعانا إلى الله -تبارك وتعالى-، وجاءنا بهذا الوحي، وهذه الشَّريعة، فهو سبب هدايتنا بعد الله -تبارك وتعالى-، ففضل الرسول -عليه الصَّلاة والسَّلام- على أمته لا يمكن أن يُقادر قدره، ومن أقلّ حقوقه ﷺ أنَّه إذا ذُكر أن يُصلَّى عليه، ومَن لم يفعل يكون قد بخل على نفسه، وبخل عن نبيِّه ﷺ بحقٍّ هو من أدنى حقوقه.
مَن ذُكرتُ عنده سواء ذُكر عنده ﷺ باسمه، قيل: محمد -صلى الله عليه وآله وسلم-، أو بصفته، كأن يُقال مثلًا: الهادي البشير ﷺ، أو بكُنيته، كقولنا: قال أبو القاسم -عليه الصَّلاة والسلام-، أو ما يتعلّق به مما يُخبر به عنه من المعجزات ونحوها، كأن يُقال مثلًا: القرآن مُعجزة لصاحب الرسالة، أو للنبي -عليه الصَّلاة والسَّلام-،أو نحو ذلك مما يُذكر عنه.
فكلّ ذلك يدخل في قوله: مَن ذُكرتُ عنده فلم يُصلِّ عليَّ، فهذا يكون قد شحَّ وامتنع من أداء حقٍّ يتعين عليه أداؤه؛ امتثالًا للأمر؛ ولما فيه أيضًا من ردِّ بعض الفضل للنبي ﷺ، فهو سببٌ في هدايتنا وسعادتنا في الدَّارين.
نسأل الله أن يجعل لنا ولكم ولإخواننا المسلمين العاقبة في الدنيا والآخرة.
فهذا أمرٌ لا يخسر الإنسانُ منه، ولا يُكلِّفه جهدًا، ثم بعد ذلك ينحبس لسانُه عن الصلاة على أشرف الخلق -عليه الصلاة والسلام-.
والله يقول: يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا[الأحزاب:56]، فهذا أمرٌ، والأمر يُفيد الوجوب.
وقد أخذ بعضُ أهل العلم من هذا الحديث –أعني: حديثَ الباب، وهو قوله: البخيل مَن ذُكرتُ عنده فلم يُصلِّ عليَّ- وجوب الصلاة على النبي ﷺ عند ذكره مطلقًا، يعني: كلّما ذُكِرَ، ولو في المجلس مرارًا: بقراءة حديثٍ، أو نحو ذلك، كما في مجلسنا هذا، فإنَّه يُصلَّى عليه، ويُكرر ذلك مرةً بعد مرةٍ-عليه الصلاة والسلام-، على خلافٍ بين أهل العلم، لكن هناك مَن ذهب إلى أنه يجب؛ لأنَّه وصفه بالبخل، والبُخل لا يجوز، وقد ذهب إلى ذلك جمعٌ من أهل العلم: كالإمام الطّحاوي، والحليمي[16]، وغير هؤلاء، على خلافٍ بين أهل العلم في التَّفاصيل، يعني: من أهل العلم مَن يقول: إنَّه يجب؛ لقوله: يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا، فإذا صلَّى عليه في الصَّلاة بعد التَّشهد يكون ممتثلًا ومُحقِّقًا لذلك، وبعضهم يقول: في المجلس إذا كان ذلك يتكرر فإنَّه يكفيه مرة.
ولكن على كل حالٍ، النبي ﷺ يقول: البخيل مَن ذُكرتُ عنده، سواء سمع ذلك بالإذاعة، أو سمع ذلك من مُتكلم، أو سمع ذلك عبر هذه الأجهزة المحمولة، أو غير ذلك مما يكون سببًا لسماعه، فإنَّه يُصلي على النبي ﷺ، وإلا فإنَّه يُوصَف بالبُخل.
والحافظ ابن القيم -رحمه الله- له كتابٌ بديعٌ في فضل الصلاة على النبي ﷺ، في مجلدٍ لطيفٍ، وهو من أنفع الكتب وأجمعها في هذا الباب، وذكر الأقوالَ في الصلاة على النبي ﷺ، وذكر المواضع التي تُشرع وتتأكد الصلاة على النبي ﷺ فيها.
لكن الكلام الآن حينما يُكرر ذكره في المجلس، فأقول: أقلّ ما في ذلك أنَّه يصدق عليه هذا الحديث: البخيل مَن ذُكرتُ عنده فلم يُصلِّ عليَّ، هذا ما يتعلق بهذا الحديث.
الحديث الآخر -وهو حديثٌ قصيرٌ أيضًا-: حديث عبدالله بن مسعود -رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسولُ الله -صلى الله عليه وآله وسلم-: إنَّ لله ملائكةً سيَّاحين في الأرض، يبلغوني من أُمتي السلام.
هذا الحديث أخرجه النَّسائي[17]، والحاكم[18]، وصححه الشيخ ناصر الدين الألباني[19]، وسماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز[20] -رحم الله الجميع-.
إنَّ لله ملائكةً يعني: جمعًا من الملائكة، هذا عملهم، وهذا دأبهم، وهذا اختصاصهم، قال: سيَّاحين، هذه صفةٌ لهؤلاء الملائكة، من السياحة، والسياحة أصلها من السَّير، يعني: يسيرون في الأرض، من ساح الماء، تقول: "ساح الماء" بمعنى: أنَّه سار، ونحو ذلك، يعني: يسيرون في الأرض.
هؤلاءالملائكة يُبلغون النبي ﷺ سلام مَن سلّم عليه من أُمَّته، قال: سيَّاحين في الأرض يُبلغوني يعني: يُوصلون ذلك إليَّ، يعني: إذا سلَّموا عليَّ قليلًا أو كثيرًا.
فإذا قلتَ مرةً: "اللهم صلِّ وسلّم على نبينا محمدٍ" بلَّغوه، فإذا قلتَ: "اللهم صلِّ وسلّم على نبينا محمدٍ" بلَّغوه، وهكذا حينما تُكرر ذلك، لكن أنَّى لك هذا مع أهل الأرض؟! يعني: إذا أردتَ أن تُسلم على عظيمٍ من هؤلاء العُظماء من البشر مَن يُبلِّغه ذلك؟ وكيف يمكن هذا؟
لو قلتَ في مكانك: السلام على فلان، فإنَّ ذلك لا يصل إليه، وليس هناك مَن يُبلّغه ذلك، هذا في حياتهم، فكيف بعد موتهم؟!
أمَّا النبي ﷺ فهناك مَن يُبلغه السلام، وإن بَعُد قطرك، وتناءت ديارك عن موضع دفنه -عليه الصَّلاة والسَّلام-.
قال: بأنَّهم يُبلغونه السلام، وسكت عن الصَّلاة عليه -عليه الصَّلاة والسَّلام-، والذي يظهر أنَّهم يُبلغونه الصَّلاة والسلام، ونحن مأمورون بالجمع بينهما، والله قال: يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا.
فيما يتعلّق بالملائكة -عليهم السَّلام- يمكن أن يُكتفى بالسَّلام، فيُقال: جبريل، والملائكة -عليهم السلام-، وميكال .
وهكذا بالنسبة للرسل غير النبي ﷺ، فيُقال: نوح ، وهود ، وصالح ، وهكذا، ويمكن أن تجمع بين الصَّلاة والسَّلام، فتقول:جبريل ﷺ، وتقول: نوح ﷺ، وإبراهيم ﷺ، وهكذا.
أمَّا في حقِّ النبي ﷺ فلا بدّ من الجمع بينهما؛ لأنَّه أمر بذلك: صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا، فلا بدّ من الجمع بين الصَّلاة والسَّلام.
وقد عرفنا معنى الصلاة على النبي ﷺ، ومعنى السَّلام.
فهذا الحديث فيه تعظيم قدر النبي ﷺ، وكذلك نعمة على أُمَّته؛ حيث هناك ملائكة يُبلغونه السلام، فأيّ نعمةٍ يمكن أن تُقارب هذه من النِّعَم التي تكون من قبيل هذا الباب، أو ما يُقاربه؟
وفي هذا الحديث أيضًا ترغيبٌ بكثرة الصَّلاة على النبي ﷺ، والسَّلام عليه، فذلك يُبَلَّغ؛ فيُنَشِّط ذلك المؤمن، يعني: حينما يُقال لك: كلّما تُسلم على فلانٍ فإنَّه يصل إليه، ربما يبقى الناسُ يُسلمون الليل والنَّهار، فكيف بالنبي ﷺ والمبلِّغ مَلَكٌ؟ فلان، باسمك: فلان ابن فلان يُبلِّغك السلام، النَّاقل مَلَكٌ!
ثم الله -تبارك وتعالى- يُصلي عليك في الملأ الأعلى، عملٌ يسيرٌوبسيطٌ، لا يعجز عنه أحدٌ، فلو اشتغلنا في مجالسنا وذهابنا ومجيئنا بالصَّلاة عليه -صلى الله عليه وآله وسلم- أفضل لنا من القيل والقال، والكلام في زيدٍ وعمرو، وما فعل فلان؟ ومن أين لفلان كذا؟ ومن أين لفلان كذا؟ فالشّغل بالناس ما الذي يجديه، وينفع به قائله؟!
وقد ذكر شيخُ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: أنَّ الله أمر بالصَّلاة والسَّلام على النبي ﷺ، وكذلك عند سماع الأذان أن تطلب له الوسيلة[21].
يقول: فهذا حقٌّ له على الأُمّة، وهو مشروعٌ، مأمورٌ به في كل مكانٍ، ولا يختصّ بذلك في مكانٍ معينٍ: كالقبر، أو عند القبر.
ومن ثم فإنَّ السلامَ عليه ﷺ عند القبر، عند زيارة القبر، وعند غيره، سواءٌ من هذه الحيثية[22]، إضافةً إلى ما ذُكر فيما سبق من نهيه ﷺ عن أن يتّخذ قبره عيدًا، فقال: لا تتّخذوا قبري عيدًا[23].
ولاحظ في الصلاة قال: وصلّوا عليَّ حيثما كنتم، فإنَّ صلاتكم تبلغني[24]، هذا في الصَّلاة.
وفي حديث الباب الذي ذكرتُه في هذه الليلة، قال: إنَّ لله ملائكةً سيَّاحين، يُبلِّغوني عن أُمتي السَّلام، وحديث الليلة الماضية في أنه يُبلَّغ الصَّلاة، وهذا الحديث في أنَّه يُبلَّغ السلام؛ إذًا هم يُبلِّغونه الصَّلاة والسَّلام.
يقول شيخُ الإسلام: فصلاة الأُمة وسلامها يصل إليه من جميع الأمكنة[25].
وذكر في موضعٍ آخر: أنَّ كلَّمسلمٍ قال في صلاته: "السَّلام عليك أيُّها النبي ورحمة الله وبركاته" يصل ذلك إليه[26].
فاللهم صلِّ على محمدٍ، وعلى آل محمدٍ، كما صليتَ على إبراهيم، وعلى آل إبراهيم، إنَّك حميدٌ مجيدٌ.
- أخرجه الترمذي: أبواب الدَّعوات، برقم (3546)، وصححه الألباني.
- أخرجه النَّسائي في "السنن الكبرى"، برقم (8100).
- "الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (5/114).
- "ذخيرة الحفاظ" (1/546).
- "جلاء الأفهام" (ص90).
- "مجمع الزوائد" (10/164).
- "فتح الباري" لابن حجر (11/579).
- "فتح الباري" لابن حجر (11/168).
- لم أقف عليه.
- "القول البديع في الصلاة على الحبيب الشفيع" (ص152)، و"المقاصد الحسنة" (ص235).
- "القول البديع في الصلاة على الحبيب الشفيع" (ص153).
- "الجامع الصغير من حديث البشير النذير" (1/284)، برقم (3194).
- "مختصر المقاصد الحسنة" (ص266).
- في تعليقه على "مسند أحمد" ت: شاكر (2/351).
- "صحيح الجامع الصغير" (12/136)، برقم (5189).
- "القول البديع في الصلاة على الحبيب الشفيع" (ص30).
- أخرجه النسائي: كتاب السَّهو، باب السلام على النبي -صلى الله عليه وسلم-، برقم (1282)، وصححه الألباني.
- أخرجه الحاكم في "المستدرك"، برقم (3576)، وقال: صحيح الإسناد، ولم يُخرجاه. وتعليق الذَّهبي في "التلخيص": صحيح.
- "صحيح الجامع الصغير وزيادته"، برقم (2174).
- "مجموع فتاوى ابن باز" (9/311).
- "الإخنائية" أو "الرد على الإخنائي" ت: زهوي (ص209).
- "الإخنائية" أو "الرد على الإخنائي" ت: زهوي (ص209).
- أخرجه أحمد في "المسند" ط. الرسالة، برقم (8804)، وقال مُحققو "المسند": "إسناده حسن".
- أخرجه أحمد في "المسند" ط. الرسالة، برقم (8804)، وقال مُحققو "المسند": "إسناده حسن".
- "الإخنائية" أو "الرد على الإخنائي" ت: زهوي (ص210).
- "قاعدة عظيمة في الفرق بين عبادات أهل الإسلام والإيمان وعبادات أهل الشِّرك والنِّفاق" (ص39).