الحمد لله، والصَّلاة والسَّلام على رسول الله.
أما بعد: فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته،
نواصل الحديث في الكلام على ما أورده المؤلفُ تحت هذا الباب، باب "إفشاء السلام".
فمن ذلك: ما جاء عن عمَّار-رضي الله تعالى عنه- قال: "ثلاثٌ مَن جمعهنَّ فقد جمع الإيمان: الإنصاف من نفسك، وبذل السلام للعالَم، والإنفاق من الإقتار".
هذا ذكره البخاري-رحمه الله- تعليقًا[1]، ولكنه بصيغة الجزم، ومعلومٌ أنَّ ما أورده البخاري مُعلَّقًا بصيغة الجزم صحيحٌ.
فقوله: "ثلاثٌ مَن جمعهنَّ فقد جمع الإيمان"، يعني: ثلاث خصالٍ، أو ثلاثة أوصافٍ، مَن استوفاها فقد جمع الإيمان، وسيتّضح وجه ذلك في الكلام على هذه الخصال الثلاث -إن شاء الله تعالى-:
الأولى: "الإنصاف من نفسك"، الإنصاف هو العدل، كيف يُنصف الإنسانُ من نفسه؟
أن يُعامِل غيرَه بالعدل؛ بأن يقضي له على نفسه، فهذه من صور الإنصاف من النفس: يقضي للآخرين على نفسه بما يستحقّونه عليه، هذا يُطالبه بحقٍّ، ويُطالبه بمالٍ، فإنَّ من الإنصاف أن يُنصف المرءُ من نفسه، وأن يُعطي الناسَ حقوقَهم، وأن يحكم بها كما يستحقّون، من غير غمطٍ لحقوقهم، هذا في الحقوق المادية.
والإنسان كما قال الله -تبارك وتعالى-: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ[المطففين:1-3]، فهذا خلاف الإنصاف من النفس، فحينما يأتي هذا الإنسانُ ليكتال عند غيره، فإنَّه يُطالب أن يُوفى له الكيل تامًّا، كاملًا، من غير نقصٍ، وإذا أراد أن يكيل لهؤلاء الناس فإنَّه يبخس المكاييل، فهذا خلاف الإنصاف من النَّفس.
وإذا أراد أن يُنفذ مشروعًا، كأن يكون هذا الإنسانُ يعمل في البناء، أو المقاولات، ويعمل في الطّلاء، ويعمل في إصلاح المركبات، ويعمل في إصلاح الطّرق، ويعمل في نسج الثّياب، ويعمل في صنع الطّعام في هذه المطاعم، أو غير ذلك، فإذا كان يُقدّم ذلك للناس فربما يُقصّر، وربما يضع لهم المواد الرديئة، وهم لا يشعرون.
هذا الذي يُعالج أسنانهم مثلًا، الناس لا يعرفون ما الذي يجري في هذه المعالجات، فقد يأتي بموادٍ رخيصةٍ رديئةٍ، يجدون آثارها بعد حينٍ، فيخرجون وهم في حالٍ من الحبور والفرح: أنهم قد عالجوا هذه العِلل، ثم ما يلبث الواحدُ حتى يكتشف أنَّه قد زادت عِلَّته.
وهذا الإنسان إنما همّه وغرضه هو تكثير المال، وجمع المال، فهذا ليس من الإنصاف، لكنَّه إذا كان يُريد أن يعمل ذلك لنفسه عند أحدٍ من الناس، فإنَّه يريد أن يكون ذلك على أكمل الوجوه وأحسنها، إذًا لماذا لاتعمل هذا للآخرين؟! أين الإنصافُ من نفسك؟!
وحينما يُريد أن يُنفذ مشروعًا، أو طريقًا للناس، أو غير ذلك، وتنزل عليه هذه المناقصة، قد اقترح أو عرض أقلّ الأسعار؛ فاختير من بين هؤلاء العشرات من أجل أنَّه قد عَرَضَ عرضًا مرضيًا، ثم بعد ذلك ما يلبث أن يتخير المواد الرديئة، ويُلفّق هذا العمل بطرقٍ، ويأتي بأيدٍ عاملةٍ ضعيفةٍ، غير مُدربةٍ، ثم بعد ذلكيُ عاني الناس، وكلّ مَن يمرّ بهذا الطريق يقول:"حسبنا الله ونعم الوكيل"، فإذا قيل لهذا الإنسان: هلا أتقنتَ هذا العمل! فيعتذر بأعذارٍ، ولن يقطع أحدٌ من عذرٍ وحُجَّةٍ، لكن الله يعلم المفسِد من المصلح.
لكن حينما يريد أن ينفذ شيئًا لنفسه من قبل الآخرين يُدقق وينقر، وحينما يبني دارًا، فإنَّه يُدقق ويُلاحظ الأشياء التي قد لا يتفطن لها أكثرُ الناس، ويُطالب بأن تُنفذ على أكمل الوجوه؛ لماذا لا تفعل ذلك مع الآخرين؟! لماذا لايُنصف الإنسانُ من نفسه؟!
إذا جاء يشتري الإنسانُ فاكهةً، أو عسلًا، أو تمرًا، أو دواءً، أو من هذه التي يُقال لها: المواد الصحيّة، أو الأشجار، أو النباتات، أو غير ذلك، تجد هذا البائع يريد أن يُغريه بأي طريقةٍ، وأن يُوقعه ليشتري منه، ولو كانت هذه المواد رديئةً، فيحتاج الإنسانُ الذيلا خبرةَ له إلى مزيدٍ من التَّحقق والسّؤال والذّهاب هنا وهناك، وسؤال الكثيرين حتى يعرف ما هو الشيء الذي يكون أقرب إلى الجودة؛ لئلا يغشّ هؤلاء.
وإذا أراد الواحدُ منهم أن يشتري –أعني: هؤلاء الباعة-، فإنهم يتحققون ويُدققون؛ من أجل ألا يقع الغشّ في حقِّهم، وإذا أراد الواحدُ منهم أن يبيع لا يذكر هذه العيوب.
هذا الدَّواء تُوجد له نظائر من نفس المواصفات، هذا بمئة، وهذا بعشرةٍ، فلماذا إذا أردتَ أن تشتري تُطالب الآخرين أن يُبدوا لك ذلك، وأن يُبينوا عنه، ثم إذا أردتَ أن تبيع تُخرج لهم هذا الذي يُباع بمئةٍ، وتسكت عن الذي يُباع بعشرةٍ، وهو بنفس المواصفات، لكن هذا هو المنتج الأول من الشركة الأصلية التي أنتجت هذا الدَّواء، فأخذتَ هذا السّعر في البداية، ثم كلّ شركةٍ تُنتج تنقص 10% ضرورة بما تلزم به، حتى وصل السعرُ إلى عشرة ريالات بنفس المواصفات، والناس لا يعلمون؛ لماذا لا تنصح لهم، وتقول لهم، وتُنصف الناس من نفسك؟! هذا من الإنصاف من النفس.
وحينما يذهب الإنسانُ إلى مكانٍ ليشتري هذه النَّظارة، يُقال: هذه النَّظارة من الصنف الفلاني، والنوع الفلاني، وكذا، ثم تحتاج أن تذهب إلى هذا وذاك حتى تكتشف فيما بعد أنَّ جميع ما يُعرض في السوق ليس كذلك، وأنَّ هذا غير موجودٍ، وأنَّ هذه الأشياء جميعًا تجارية، وأنها ليست كما يقولون، وهذا تصل إليه بعد مدّةٍ طويلةٍ، وسؤال هذا وذاك، فأين الإنصافُ من النفس؟!
وإذا أراد الإنسانُ أن يشتري فاكهةً يجد أنها بصورةٍ جذَّابةٍ، فإذا ذهب بها إلى البيت اكتشف بعد يومٍ أو نصف يومٍ أنها بدأت بالذُّبول؛ لماذا لا يُقال للناس: هذا النوع من الفاكهة مما يُقال له: طيّار، يُسمّونه: طيران عندهم، وهذا يُقال له: بحري، بمعنى: أنَّه كان في الباخرة لمدة أسبوعين، وقد وُضعت عليه مادّة، وفي الثلاجات والمبردات، فإذا ذهبت به إلى بيتك سرعان ما يذبل، والآخر قُطِفَ قبل ليلةٍ، وهذا موجودٌ، وهذا موجودٌ، فلماذا لا يُنصف الناس، ويُقال لهم: هذا كذا،وهذا كذا؟!فأين الإنصاف من النفس؟! وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ[المطففين:1-3].
الإنصاف من النفس -أيّها الأحبّة- حينما يُطالب الإنسانُ بأشياء لا تصلح لمثله، وإن كان تلميذًا مثلًا يغضب ويتضايق: لماذا أخفق في هذا الاختبار؟ أو لماذا يحصل المرتبة الفلانيّة؟
يا أخي، أنصف من نفسك، أنت ضعيفٌ، وقلَّ مَن يُنصِف من نفسه، فمَن الذي يقول: نعم، أنا ضعيفٌ؟!
وطالب العلم حينما يُريد أن يتصدر للناس، أو أن يُؤلّف، أو نحو ذلك، يُقال له: يا أخي، أنت لم تبلغ هذه المرتبة، فلا تخرج بهذه القنوات، ستكون محلًّا للسخرية والتَّندر من قبل الآخرين، وتُزري بنفسك، فلا تُؤلّف هذا المؤلف، أنت لا تعرف المراجع أصلًا.
وما أكثر مَن نسمع أنَّه يتَّصل أو يُرسل يُريد أن يُؤلف كتابًا، يقول: ما المراجع؟ يا أخي، إذا كنتَ لا تعرف المصادر والمراجع التي تُوجد فيها المعلومات في هذا الموضوع، إذًا أنت غير مؤهلٍ، وتجد غالب الحالات إلا ما ندر يُصرّ أنه سيُؤلّف، وأنه سيُخرج هذا في كتابٍ، وأنه قد اتَّفق من الآن مع دارٍ للنَّشر؛ ليُخرج هذا المؤلف، لينفع به الأمّة.
أحد هؤلاء سألته مرةً قلتُ: يا بني، في أي مرحلةٍ؟ قال: في المرحلة الثانوية. لا يعرف المصادر، ويسأل عن المصادر، وكنتُ أنصح مَن لا يعرف المصادر أصلًا ألا يتصدر للتَّأليف؛ لأنَّه قطعًا غير مُؤهلٍ، فأنصف من نفسك.
والدروس التي تُقام للناس ينبغي أن تُقسّم بيندروسٍ للمُبتدئين، ودروسٍ للمتوسطين، ودروسٍ للمُحصّلين الذين هم في المرحلة الأخيرة، تقول لهؤلاء: احضروا في الدّروس الأولية، هذا الذي يُناسبكم. فالبعض يأنف، أنصف من نفسك من أجل أن تستفيد، فيُريد أن يسبق إلى المخطوط الفلاني، فالمسألة أنه يسبق من أجل أن يُحققه.
يا أخي، أنت لا تصلح لهذا العمل، أنت لم تتأهّل له، وهذا الكتاب له قيمة عند المسلمين، فدعه لغيرك، يقول: لماذا؟وما الذي ينقصني؟
فالإنسان يُنصف من نفسه، وقد يخرج في برنامج حواري مباشر، وهو لا يُحسن، وليس عنده سرعة بديهة، ويُنْصَح ويُقال له: لا تخرج. أو يخرج في برنامج يُواجه بهبعض المنحرفين، وليس عنده من العلم والقُدرة على الجدال والمناظرة، مع سرعة البديهة، وهذه مهارة، قد يكون الإنسانُ من أوعية العلم، لكنَّه لا يصلح لهذا، يبقى ضعيفًا؛ فيُزري بنفسه، ويُزري بما يحمله من الحقِّ، فيُقال له قبل ذلك: لا تخرج، أنت لا تصلح لهذا. فيشعر أنَّ القضية كأنها انتقاصٌ منه، أو احتقارٌ له، أو نحو ذلك، ويُصرّ على الخروج.
فالمسألة -أيّها الأحبّة- ليست من قبيل السَّبق لأمورٍ يُحصّلها؛ ليُعزز من ذاته كما يُقال، الإنسان يُريد ما عند الله ، والإنصاف عزيزٌ، قد يتوظف بوظيفةٍ لا تصلح لمثله، فيُقال له: أنت لا تصلح لهذا. فينزعج ويُطالب ويبحث عن الشَّفاعات، هذا لا يصلح لمثلك، فمَن الذي يُنصف من نفسه؟
ويأتيك أحيانًا مَن يحمل ورقةً، ويقول: أريد أن تملأ هذه الورقة لي؛ من أجل أن أُواصل في الدّراسات العُليا، أو أُقدّم على التَّدريس في هذه الجامعة. تقول له: يا أخي، أنا من خلال معرفتي بك لا تصلح لهذا.
فمَن الذي يتقبّل مثل هذا الكلام؟! فالإنصاف عزيزٌ، فيُنصف الإنسانُ من نفسه، ويرضا بالحقِّ، بل يبحث عنه ويطلبه.
وقل مثل ذلك في الأعمال والأشغال التي يشتغل بها، يأتي إنسانٌ ويُنفذ عملًا من الأعمال في مكانٍ عام، أو في ملكٍ خاصٍّ، ويُنفذه على أسوأ الأحوال، ثم بعد ذلك يُطالب بحقِّه كاملًا، إن كان له حقٌّ، ويُطالب بأن لا يُنقص منه شيء، يُقال له: يا أخي، أنصف من نفسك، فهذا التَّشويه الذي فعلتَه الآن مما تُسميه: إصلاحًا، أو ترميمًا، أو بناءً، أو نحو ذلك، هو تشويهٌ، لا تستحقّ عليه هذا الذي عقدتَ عليه.
فمَن الذي يُنصف من نفسه، ويقول: نعم، أنا لا أستحقّ إلا ربع المبلغ المتَّفق عليه، أو لا أستحقّ منه شيئًا؟
فالإنصاف عزيزٌ، وكون الإنسان يُنصف من نفسه قليلٌ.
فهذا الحديث الذي تضمّن هذه الجمل الثلاث: الإنصاف من النفس، كما يقول الحافظُ ابن القيم -رحمه الله-: "قد تضمّنت هذه الجُمل أصولَ الخير مع فروعه"[2]، وهذا يُبين ما جاء في أوله من أنه يكون قد استكمل الإيمان، يعني: مَن تحقق بهذه الأوصاف، كما في هذا الأثر، فإنَّ الإنصاف يُوجِب له أداء حقوق الله عليه كاملةً مُوفَّرةً؛ لأنَّ الإنصافَ يكون مع الله أولًا؛ وذلك بتحقيق الإيمان، والقيام بوظائف العبودية، والاعتراف بالتَّقصير، والاعتراف بالذَّنب.
وكثيرٌ من الناس إذا قيل له: يا أخي، أنت مُقصّر في الصَّلاة، وأنت مُقصّر في حقوق الله، وأنت تكسل عن القيام والنُّهوض من فراشك إلى الصَّلاة! يُكابر، ويقول: أنا بالعكس، أنا أسبق هؤلاء إلى الصَّلاة، وأنا الذي لا تفوتني الصَّلاة. والواقع يدلّ على خلاف هذا، على حالةٍ مُزريةٍ، لكن مَن الذي يُنصف من نفسه ويقول: نعم، أنا المذنب؟!
واليوم أصبحت الحالُ أخطر وأخطر، فأصبح كثيرٌ من الشَّهوات تُلَبَّس بلبوس الشُّبهات، فأصبح صاحبُ الشَّهوة الذي يستحلّ المال الحرام، أو يستحلّ الغيبة، أو يستحلّ العمل المحرم أيًّا كان، سواء كان ذلك يتعلق بسلوكه، أو بأكله وشُربه، أو نحو ذلك، فإنَّه يلبس ذلك بالشّبهة، ويحتجّ، هو يريد أن يسمع المعازفَ؛ فيأتي بشُبهات وأشياء يستحلّ بها هذا المحرم، وهذا خطيرٌ.
وفرقٌ بين أنَّ الإنسان يفعل المعصيةَ ويُرجِّي نفسَه بالتوبة، وبين الاستحلال، فأصبح كثيرٌ منالناس في مثل هذه الأوقات من أجل أن يتوصّل إلى مطلوبه من الشَّهوات يُغلّفها ويلبسها بلبوس الشُّبهات؛ فيستحلّ ذلك.
فأداء حقوق الله ، والاعتراف بالتَّقصير والذَّنب، وكذلك أداء حقوق الناس، وألا يُطالبهم بما ليس له.
وبعض الناس يُطالب الآخرين بالصّلة والاتِّصال والتَّواصل، ويُطالب الآخرين بأداء الحقوق، وصلة الأرحام، وحقوق الجيران، وإذا نظرتَ إليه تقول: لو غيرك يقول هذا؟! هو أعظم الناس تقصيرًا، وربما أرسلت إليه رسالة تهنئة، أو غير ذلك، ثم أرسل لك: الرسالة جيدة، ولكنَّها لا تكفي. طيب، أنت لا رسالة، ولا اتِّصال.
فالبعض قد يعيب على الآخرين، يقول: أراك لا تبتسم، وأراك لا تكاد تلقى الناس بالبِشْر، أو نحو ذلك. ولكنه نسي حاله: أنه يُعاملهم بجفاءٍ، وصلفٍ، ورعونةٍ، ومعاملةٍ سيئةٍ، واحتقارٍ، وازدراءٍ، هل نسيتَ نفسك حينما تُطالب الآخرين بمثل هذا؟! أين أنت مما هو أعظم من هذا من الصّلف الذي تلقاهم به، والعبارة الجارحة والقاسية التي تُعاملهم بها؟! ثم تقول لهذا: لماذا لا تبتسم في وجوه هؤلاء الذين تلقاهم؟!نعم، هذا تقصيرٌ، لكن أين أنت ليس فقط من مجرد التَّبسم، بل من التَّعامل اللَّائق مع بني آدم؟!
فهذا خلاف إنصاف الإنسان من نفسه، تقول: لو غيرك يقول مثل هذا الكلام؟! ربما يعيب على الآخرين أنهم يُقصّرون في أداء واجبهم في العمل، وإذا نظرتَ إلى حاله تجده مُضيِّعًا! وربما يعيب على الآخرين أنهم لا يقومون بما يجب نحو أولادهم وأُسرهم ونحو ذلك، وتربية هؤلاء الأولاد، وإذا نظرتَ إليه تجد أنَّه في غاية الإضاعة، فأنصف من نفسك، ويتحير العُقلاء: كيف يُوصلون إليه هذا المعنى؟ يقولون له: أنت مُقصّر، والأولاد يحتاجون منك إلى التفاتة، سيضيعون، لكن لا أحدَ يستطيع أن يُواجهه بهذا؛ لأنَّه لا يتقبّل مثل هذه النَّصيحة.
فهذا خلاف إنصاف الإنسان من نفسه، فهذا يدخل فيه أن يُعاملهم أيضًا بما يُحبّ أن يُعامَل به، ما الذي تُحبّ من الناس أن يُعاملوك به؟ أن يُؤدّوا إليك الحقَّ مُباشرةً، من غير مطلٍ، إذًا لماذا تُماطل هؤلاء إن كان لهم مالٌ أو حقٌّ؟! ويتّصلون عليك الأسبوع والشَّهر والشّهور والدّهور والجوّال مُغلق، فإذا اتّصلوا من رقمٍ آخر: أُعطيك غدًا، وأُعطيك بعد غدٍ، والأسبوع القادم، ونهاية الأسبوع القادم -بإذن الله-.
ويمضي الأسبوع القادم، والأسابيع، والشهور، والدهور، وحقوق الناس مُضيّعة، وهم يتحيّرون: هل هو يقصد هذا المطل، أو أنَّ ذلك يقع منه بغير قصدٍ؟ فلا يدرون.
وكذلك يُطالب الزوجة والأولاد والبنات ومَن حوله ومَن تحت يده في العمل بأشياء فوق طاقتهم، ويُلاحقهم بها، ويشقّ عليهم، ولو كان في هذا المكان لتذمّر وتضايق، وهذا أمرٌ مُشاهَدٌ، ويحصل أحيانًا، فتجد الإنسان ربما ينزعج؛ لأنَّه عُوتِب على تأخّره عن العمل لمدة ساعةٍ أو ساعتين، أو نحو ذلك، لكن حينما يكون هو في هذا الموضع، أو يرأس هؤلاء، فإنَّه قد يُحاسبهم على أشياء أقلّ من هذا، فأنصف من نفسك.
وسألتُ أحدَهم مرةً قلتُ: يا أخي، إذا وجّه الناسُ إليك سؤالًا: رجلٌ يعمل في شركةٍ، ويقول: ليس عندي عملٌ كثيرٌ، يمكن أن يُنجز هذا العمل في ساعةٍ واحدةٍ، والعمل عندي من الساعة الثامنة إلى الساعة الرابعة عصرًا، هل لي أن آتي ساعةً واحدةً، ثم آتي للتَّوقيع في الساعة الرابعة، وأقضي أعمالي وأشغالي كيفما أُريد؟
الجواب: ستقول: لا، طيب، لماذا؟
أنت تُبرر لنفسك، وتضيع هذا العمل الذي عُوقِدْتَ عليه، وتجد إجابات هنا وهناك،والبعض قد يقول: أنا أصلًا مُستحقٌّ لهذا من بيت المال ولو لم أعمل!
طيب، إذًا تُجيب الآخرين بإجابات أخرى، فهذا خلاف الإنصاف: أن يُنصف الإنسانُ من نفسه، فهو يُطالبهم بما يُطالب به نفسَه، أن يُعاملهم بما يُحبّ أن يُعامَل به، أن يُعفيهم مما يُحبّ أن يُعْفَى منه، أن يحكم لهم وعليهم بما يحكم لنفسه وعليها، لا تريد من الآخرين أن يقعوا في عرضك، وأن تُغتاب؛ لماذا إذًا تغتاب الآخرين؟!وحينما تذكر زيدًا تذكره بعبارة تحقيرٍ، أو تصغيرٍ، أو تجهيلٍ، أو غير ذلك في مجلسٍ، لو كنتَ أنت في هذا المقام وقالها قائلٌ هل ترضى بهذا؟! إذًا لماذا ترضى للآخرين ولا تُنصف من نفسك؟!
وهكذا أيضًا كون الإنسان يُنصف نفسَه من نفسه؛ فلا يدَّعي لها ما ليس لها، ويُنصف الإنسانُ من نفسه: لا يدَّعي أنه قد حصّل من الكمالات، أو العلوم، أو المعارف، أو غير ذلك مما لم يتأهّل له، ومما لا يستحقّه حقيقةً.
فإنصاف العبد من نفسه أن يعرف حقَّ الله -تبارك وتعالى- عليه، وأن يعرف أيضًا نفسه، وما خُلقت له، وألا يرفع هذه النَّفس فوق قدرها.
وكذلك أيضًا ألا يدّعي لنفسه ما لم تستحقّ أو تستوجب، وهكذا أيضًا أن يُقدّم مُراد الله -تبارك وتعالى- على مُراده، وأن يُقدّم طاعةَ الله على هوى النفس، وكذلك ما يتعلّق بالوالدين، كما يُريد أن يُعامله أولاده، ينبغي أن يُعامل والديه، يُنصف من نفسه، وهكذا.
والحديث بقيت فيه بقية، أذكرُ ذلك في الليلة الآتية -إن شاء الله تعالى-.
وأسأل الله أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، وأن يجعلنا وإياكم هُداةً مُهتدين.
والله أعلم، وصلَّى الله على نبينا محمدٍ، وآله، وصحبه.
- "صحيح البخاري": كتاب الإيمان، باب إفشاء السلام من الإسلام، (1/15).
- "زاد المعاد في هدي خير العباد" (2/372).