الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
أما بعد: فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته،
في باب "إفشاء السلام" هذا هو الحديث الثالث مما أورده المؤلفُ في هذا الباب؛ وذلك ما جاء عن عبدالله بن عمرو -رضي الله عنهما-، أو عبدالله بن عمر -رضي الله عنهما-: أنَّ رجلًا سأل النبي ﷺ: أيّ الإسلام خير؟ قال: تُطعم الطَّعام، وتقرأ السلامَ على مَن عرفتَ، ومَن لم تعرف. هذا الحديث أخرجه الشَّيخان[1].
وقوله:"أيّ الإسلام خير؟" يحتمل أنَّه سألعن آداب الإسلام: أيّ الآداب، أو أيّ الخصال التي يتحلّى بها أهله خير؟
مع أنَّ ظاهره أنه سأل عن أيّ الإسلام؟ ولم يسأل عن خصال أهله، لكن من أهل العلم مَن حمله على هذا.
ولكن النَّووي -رحمه الله- فسَّره بما يقرب من ظاهره: "أيّ الإسلام خير؟" أي: أيُّ خصاله وأموره وأحواله[2]. فهذا أقرب إلى ظاهر الحديث: أيّ الإسلام خير؟ فذكر له هذه الأمور: إطعام الطَّعام، وإقراء السَّلام.
وقال الطّيبي: بأن السؤال إنما وقع عمَّا يتَّصل بحقوق الآدميين، باعتبار أنَّه أجاب عنها دون غيرها من الخصال[3]. يعني: لم يذكر النبيّ ﷺ التوحيد والإيمان، ولا شكَّ أنَّه أعظم من إلقاء السلام، أو إطعام الطعام، أوالصّلاة التي هي عمود الدِّين، كأنَّ السائل يسأل عمَّا يتَّصل بحقوق الآدميين، هذا إنما حمل قائله على ذلك باعتبار أنَّ النبي ﷺ لم يذكر ما هو أعظم وأجلّ من أمور الدِّين، فقال النبي ﷺ: تُطعم الطَّعام، كأنَّه سأل عمَّا يكون بعد الواجبات والفرائض، وإنَّ أعظم الفرائض التوحيد، وهكذا أيضًا أركان الإسلام الخمسة، ونحو ذلك، فهذا السؤال يرد على النبي ﷺ؛ يأتي الرجل فيسأله، ويذكر أنَّ شرائع الإسلام قد كثرت عليه، فيسأل النبيّ ﷺ أن يُرشده إلى عملٍ يدخل به الجنة، أو عملٍ يتمسَّك به.
فالنبي ﷺ يذكر لكلِّ سائلٍ ما يصلح لمثله، وما يُناسبه، فالنبي -عليه الصَّلاة والسَّلام- ذكر لهذا السَّائل أمرين، ولا شكَّ أنَّ ذلك يدل على منزلتهما من الدِّين.
تُطعم الطَّعام يعني: أنت تُطعم الطعام، كأنَّه يريد -والله أعلم- أنَّ أفضل الأعمال بعد الإيمان وأداء الأركان والفرائض هو أن يُطعم الطَّعام، والمقصود بذلك أن يبذله لمستحقّيه؛ من ضيفٍ، وقبل ذلك أن يُطعم أهله، فله بذلك أجرٌ، وهكذا أيضًا يُطعم جاره، ويُطعم ابن السَّبيل، ويُطعم الفقراء، إلى غير ذلك، فهذا من أفضل الأعمال.
فالوليمة التي تكون مشروعةً داخلة فيه، وكذلك أيضًا ما يكون من قبيل الإكرام، ونحو هذا من الإحسان، فكلّ هذا يدخل في ذلك، لكن بقيد ألا يكون ذلك على سبيل السّرف، أو يكون ذلك على سبيل الفخر والرياء، أو طلب المحمدة والسّمعة، فإنَّ هذا لا يجوز، ويكون وزرًا عليه.
وكذلك إذا كان بذلُ هذا الطَّعام في معصية الله -تبارك وتعالى-؛ كأن يُطعم الطعام في أعمالٍ غير مشروعةٍ، وفي أماكن يجتمع الناسُ فيها للمُنكر، فيُطعمهم، ويُكرمهم، وكذلك لو أنَّه فعل ذلك مُشاركًا لهم في مُنكرهم، ومُباهيًا ومُفاخرًا بهذا الطَّعام، فهذا لا يجوز، ولا يدخل في هذا الحديث.
فما نسمعه، ويظهر في بعض المقاطع ونحو ذلك من قدورٍ راسيات، القدر الواحد ربما يكون فيه نحو خمس وعشرين شاةً، كأنها العصافير من ضخامته، فهذا يُفْعَل على سبيل المباهاة، ولا يُطْعم الفقراء، وإنما يُطعم لغيرهم، ويُقال: هذا فلان ابن فلان. ثم بعد ذلك يصير هذا الطَّعام إلى ما قد علمتم، فيُلقى، ولا يجد مَن يأكله، فهذا حرامٌ، لا يجوز.
ومن هنا إذا عُرِف أنَّ إطعام الطَّعام من أفضل وأجلّ الأعمال بعد الفرائض، فإنَّ المؤمن حينما يُطعم أهله، فإنَّه يحتسب ذلك عند الله ، ولا يضيق بذلك ذرعًا، وإنما يكون ذلك بنفسٍ راضيةٍ، فيُوفّر لهم ما يحتاجون من غير إسرافٍ، فإنَّ الإغراقَ بهذه الملذات لا شكَّ أنه يُفسد العقول؛ لأنَّ ذلك يُورث البلادة، وكذلك هو يُفسد الدِّين والخُلُق، فيُورث الإنسان شيئًا من بطر النِّعمة، والغفلة عن ذكر الله -تبارك وتعالى-؛ لأنَّ الإكثارَ من الأكل ومن أنواع الفضول تُورث الغفلة، كما هو معلومٌ.
كذلك أيضًا هذا الإكثار والإغراق يُورث عِللًا مُستديمة في البدن، وأكثر عِلل الناس إنما هي مما يحول من الطَّعام أو الشَّراب، وإنما الاعتدال في الأمور هو المطلوب، فلا يقتر الإنسان، ولا يكون بخيلًا، ولا يعُدّ ذلك مغرمًا، فإذا احتاج أهلُه إلى شيءٍ من طعامٍ ونحوه، فلا يكون ذلك نكدًا عليه وعليهم، ولا يحصل إلا بشقِّ الأنفس، هذا غلطٌ.
وكذلك أيضًا ما يبذل للضّيفان، وإبراهيم -عليه السلام- كما قال الله لما جاءته الملائكةُ على صورة الرجال: فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ [الذاريات:26]، فالفاء تدلّ على التَّعقيب المباشر، أي: ذهب بسرعةٍ، والرّوغان يدلّ على سرعةٍ وخفاءٍ، يعني: ذهب دون أن يشعر به الضَّيف، بخفَّةٍ وسرعةٍ، ثم قال: فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ، لم يتأخّر على الضيف، وإنما جاء مُسرعًا بالطعام الذي يقريه فيه، وهذا الطَّعام كان مُعدًّا في بيته للضيفان، ولم يذهب إلى السوق، وإنما راغ إلى أهله، وكان عندهم ما يُقرون به الأضياف، وقد اعتادوا على هذا، وما احتاجوا إلى أن يُوردوا ذلك من خارج دارهم.
وكذلك أيضًا جاء بهذاالعجل، فربما يكتفي بعضُ الناس بما هو دون ذلك، لكنَّه جاء بهذا العجل الذي هو أطيب اللَّحم، وتخير السَّمين منه، فلم يبحث عن الهزيلة والضَّعيفة أو المعيبة، وإنما جاء بالسَّمين، هكذا يكون إقراء الضَّيف، فمَن استشعر أنَّ هذا قُربة يتقرّب بها إلى الله، وأنَّه يُؤجَر عليها، وأنَّ ذلك من أفضل الأعمال؛ فإنه يُقبل على ذلك بنفسٍ راضيةٍ، لا يرى أنَّ نزولَ الأضياف به وقراهم أنَّ ذلك مما يثقل عليه، وأنَّ ذلك يكون غرمًا أو خسارةً في ماله، ونحو ذلك مما يتوهمه مَن قلَّ يقينه، وساء ظنّه بربِّه -تبارك وتعالى-، فيظنّ أنَّ ماله يذهب، وأنه ينقص، ولربما رأيت مجالسه مهجورة، لا يقف على بابهأحدٌ، ولا يرد على دارهم أحدٌ من الضِّيفان.
الأمر الثاني الذي ذكره: هو إقراء السلام، فقال: تقرأ السلامَ على مَن عرفتَ، ومَن لم تعرف، تقرأ السلام على كل مَن لقيتَ، سواء كان ذلك عن معرفةٍ، أو عن غير معرفةٍ، وسواء كان ذلك المسلَّم عليه من القريبين، أو من البعيدين؛ لأنَّ ذلك لله -تبارك وتعالى-، فهو قُربة يتقرّب بها، كما أنه شيءٌ يتحبّب به إلى نفوس الآخرين، ويجذب هذه النفوس، ويُؤلِّف بينها، كما سبق: ألا أدلُّكم على شيءٍ إذا فعلتُموه تحاببتم؟ أفشوا السلامَ بينكم[4].
فيفعل ذلك ابتغاء وجه الله ، دون تمييزٍ بين مَن يُحبّه، ومَن لا يُحبّه، وبين مَن يعرفه، ومَن لا يعرفه، ولربما بخل الإنسانُ بالسلام لضيق عطنه، أو لكبرٍ في نفسه، أو يبخل به على بعض إخوانه؛ لكونه لا يعرفه، أو لكونه يتوهّم أنَّ هؤلاء لم يُسلِّموا عليه حينما اجتازوا به، فهو يُعاملهم بالمثل، لكن إذا استشعر أنَّ هذه قُربة، وأنها من أفضل الأعمال، دون أن تُكلّفه جهدًا بدنيًّا، ولا أن تُكلّفه شيئًا من المال؛ فإنَّ ذلك لا يبخل به، إلا مَن قد استحكم عليه البخلُ، فهذه تحية الإسلام، مُستحقّة لعموم المسلمين.
تقرأ السلام هكذا بالفتح؛ لأنَّه من (قرأ)، مع أنَّ بعض أهل العلم، كالزركشي قال: "ويجوز ضمّ التاء، وكسر الراء"[5]، قال الدَّماميني: "قلتُ: هي لغة سوءٍ"[6]، يعني: يجوز ضمّ أوله، مع كسر ثالثه: "تُقرِئ السلام"، لكنَّها لغة سوءٍ، ولغة رديئة ضعيفة.
وبعضهم فرّق بين: (تَقرأ السلام)، و(تُقرئ السلام)، تقول: فلانٌ يقرأ عليك السلام، وفلانٌ يُقرئك السلام. فبعضهم يقول: إذا كان السلامُ مُشافهًا به، فإنَّه يُقال: يقرأ عليك السلام، وإذا كان السلامُ مكتوبًا، فيُقال: فلان يُقرئك السلام، أي: يُقرئك ذلك كتابةً.
وقد جاء في كتاب "النهاية في غريب الحديث" أنَّه يُقال: "أقرئ فلانً االسلام، واقرأ عليه السلام"[7]. ذكر الصيغتين، كأنَّه حين يبلغه سلامه يُحمل على أن يقرأ السلام ويردّه.
وقال صاحب "القاموس": "وقرأ عليه السَّلام: أبلغه، كأقرأه، أو لا يُقال: أقرأه إلَّا إذا كان السلامُ مكتوبًا"[8].
والأمر في ذلك يسيرٌ، فهؤلاء -أهل اللّغة- بعضهم يُجوِّزهذا.
على مَن عرفتَ، ومَن لم تعرف يعني: على الجميع، وهذا إنما يكون من أهل التَّواضع، ومن المعرضين عن صفات أهل الكِبر.
وقد قال صاحبُ "الآداب الشرعية" عن قول النبي ﷺ: يقرأ السلام على مَن عرف، ومَن لم يعرف: "ولعلّ المراد من السلام على مَن عرفه، ومَن لم يعرفه: أنَّه يُكثر منه، ويُفشيه، ويُشيعه، لا أنَّه يُسلِّم على كلِّ مَن رآه، فإنَّ هذا في السوق ونحوه يُستهجن عادةً وعُرْفًا"[9]، يعني: ناسٌ كثيرٌ في سوقٍ، ويمشي يقول: السلام عليكم، السلام عليكم، السلام عليكم. يقول: "هذا مما يُستهجن".
يقول: "ولو كان النبيُّ ﷺ وأصحابه بمثل هذه المحافظة والمواظبة عليه لشاع وتواتر، ونقله الجمُّ الغفير، خلفًا عن سلفٍ"[10]. هكذا قال، مع أنَّ هذا ليس محلَّ اتِّفاقٍ؛ فبعض أهل العلم يقول: هو على ظاهره وإطلاقه.
"وكان ابنُ عمر يدخل إلى السوق، فلا يمرّ بأحدٍ إلا سلَّم عليه"[11]، يعني: يذهب إلى السوق في وقت كثرة الناس وتجمهرهم من أجل السَّلام.
لكن قال العلماء: هذا في ذلك الحين، حينما كانت المنكرات قليلةً في الأسواق، أمَّا حينما كثرت المنكرات فلا يذهب الإنسانُ إلى الأسواق لمجرد السَّلام.
وقال الحافظُ ابن حجر -رحمه الله-: "وإفشاء السلام الذي هو شعار هذه الأُمَّة"[12].
وقد جاء عن ابن مسعودٍ مرفوعًا إلى النبي ﷺ: إنَّ من اقتراب السَّاعة: السلام بالمعرفة[13]، يعني: يُسلم على مَن يعرف فقط.
ويخرج من هذا -كما ذكرنا سابقًا- عند الجمهور من أهل العلم: ابتداء السلام على الكفَّار، فيكون ذلك خارجًا عنه، فيكون على مَن عرفت، ومَن لم تعرف يعني: من المسلمين، فإن التبس عليه: هل هذا من المسلمين، أو لا؟ فيُمكن أن يُقال: يعمل بغلبة ظنِّه في المعين، فإن لم يكن ثمّة غلبة ظنٍّ، فينظر إلى البلد التي هو فيها، فإن كان في بلاد المسلمين؛ فيغلب على الظنِّ أنه من المسلمين، وإذا كان الإنسانُ في بلاد الكفَّار، فالأصل أنَّ هؤلاء ليسوا من المسلمين، والله تعالى أعلم.
وجمع هنا بين إطعام الطَّعام، وإفشاء السلام؛ لما بينهما من الإحسان الواصل إلى الناس، مما يستجلب المحبّة،فمما يستدعي المحبّة: إطعام الطَّعام للناس، فهذا لا شكَّ أنه يُؤثر فيهم تأثيرًا بيِّنًا، وقل مثل ذلك أيضًا في إفشاء السلام؛ فتحصل الأُلفة، كما قال النبي ﷺ في الحديث السابق: ألا أدلُّكم على شيءٍ إذا فعلتُموه تحاببتم؟ أفشوا السلامَ بينكم[14]، هذا الحديث فيه حثٌّ على المواساة، واستجلاب قلوب الناس بمثل هذه الأمور الجالبة للمودّة والمحبّة.
والله قد أثنى على أهل الإيمان، قال: وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ[الإنسان:8]، وهذه أعلى صور إطعام الطَّعام: على حُبِّ الطَّعام، يعني: بحيث يكون الإنسانُ بحاجةٍ، أو يكون ذلك مما تطلبه نفسُه، بخلاف ما لو كان ممن يزهد فيه، أو هو في حال تُخمةٍ وشبعٍ، أو يكون ذلك فضلة عنده، فهذا أقلّ.
فالعمل الواحد يتفاوت غاية التَّفاوت -كما ذكرنا سابقًا- باعتبارات مختلفة، وبما يقوم في قلب الإنسان، وكذلك ما يكون في الخارج: أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ[البلد:14-16]، فلاحظ: هنا يوم شديد، والناس بحاجةٍ شديدةٍ، ويُعطي هؤلاء الذين هم أشدّ حاجةً: كاليتيم، والصَّغير الذي ليس عنده إلا الفقر والتُّراب، فإن كان قريبًا فالأجر أعظم، فهذا اليتيم ليس له أبٌ يعوله، فهو بحاجةٍ إلى الإحسان، وأولى من المسكين، فقدَّمه على المسكين؛ لأنَّ المسكين يكون كبيرًا، ويتصرف ويذهب هنا وهناك، أمَّا الصغير فإلى أين يذهب؟! هو لا يجد إلا البُكاء، فقدَّمه على المسكين.
وهنا: وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ يعني: لو أنَّ إنسانًا أطعم الطعامَ الذي يفضل عن حاجته، فهل يكون ذلك مذمومًا؟
الجواب: لا، فإنَّ هذا الطعام لا يصحّ إلقاؤه في المهملات، بل يُعطي ما بقي منه لمن يأكله، لكن لا يصحّ أن تكون صدقات المسلم مما يكون من هذا القبيل: سواء في الطَّعام، أو في اللباس، أو في الأثاث، أو نحو ذلك، يعني: لا يُعطي إلا ما كان زاهدًا فيه مما رثَّ من الثياب، أو مما يفضل من الطَّعام، أو مما ربما يزهد فيه ويرغب عنه؛ لكثرة الاستعمال والملابسة من الأثاث، لكن هو يُعطي هذا، وله بذلك أجرٌ، ولكن تكون له صدقات أخرى مما يُحبّ، ومن أشرف ماله وأحبّه إليه: لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ[آل عمران:92]، فلا يبلغ المراتب العالية في الإيمان حتى يُنفق مما يُحبّ.
وذكرتُ في مناسبةٍ سابقةٍ حالَ السَّلف لما سمعوا مثل هذه الآية؛ فهذا أبو طلحة يقول: "أحبّ مالي إليَّ بيرحاء"، فيجعلها صدقةً لله[15]، وآخر؛ وهو زيد بن حارثة يأتي بفرسٍ أصيلٍ، ويجعله في سبيل الله، وهو أحبّ ما يملك[16]، وآخر يأتي بجاريةٍ هي أحبّ الأشياء إليه، فيجعلها حرةً، وهكذا.
فكانوا يبحثون عن الأحبِّ إلى نفوسهم، ونحن حينما نأتي لنتصدّق نبحث عن الفئات القليلة، ونبحث عن الريال، والخمسة، ونحو ذلك، وهذا من تقصيرنا، وضعف نفوسنا، وبُخلنا على أنفسنا، فنحن نبخل على أنفسنا، ولا نبخل على هذا المعطَى، فالواقع أننا نبخل على أنفسنا، ونُريد جنةً عرضها السَّماوات والأرض، ونبحث عن الفئة الأقل، فهذا لا يكون لأهل اليقين، فيحتاج العبدُ أن يدعو الله أن يُعينه على نفسه.
والله لما ذكر الصَّدقة قال: وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ[البقرة:265]، فالإنفاق تثبيتٌ من الأنفس، وكما ذكرتُ في الكلام على الأمثال في القرآن: النفس تضطرب عند الصَّدقة، وتأتي دواعي البُخل والشيطان، وما يَعِدُ به مما يُلقيه من الخواطر: الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ[البقرة:268]، فيحتاج العبدُ في هذا المقام إلى تثبيتٍ، وقد يأتيه من أهله، أو غير ذلك، وهذا كثيرٌ، فيحتاج إلى تثبيتٍ.
فهؤلاء الذين يُطعمون الطَّعام على حبِّه، ماذا قال الله عنهم؟ وماذا قالوا هم أيضًا؟
إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا[الإنسان:9]، فالله -تبارك وتعالى- لما ذكروا مُرادهم وخوفهم: إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا[الإنسان:10]، قال الله: فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا[الإنسان:11]، النَّضارة: الجمال، والسُّرور: الانشراح، يعني: جمع لهم بين حُسن الظَّاهر، وحُسن الباطن، ما هو عملهم؟
هذه الأوصاف التي ذكرها، ومن أبرزها: أنهم يُطعمون الطَّعام.
أمَّا أهل النار فمما ذكر الله من أوصافهم التي أدخلتهم النار: مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ [المدثر:42-46]، أربع أوصافٍ، ومنها: أنهم ما كانوا يُطعمون المسكين.
وهكذا في غير هذا الموضع في قصّة أصحاب الجنة: إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ وَلَا يَسْتَثْنُونَ [القلم:17-18]، ماذا فعل اللهُ بهم؟ أو ماذا فعل بجنَّتهم؟
وأخذ من هذا الحديث بعضُ أهل العلم: جواز ابتداء الكافر بالسَّلام، وهو خلاف قول الجمهور كما ذكرتُ، والحديث ليس فيه حُجَّة على هذا، وهم أخذوه من عموم: مَن عرفتَ، ومَن لم تعرف، فليس فيه دلالةعلى هذا، والله تعالى أعلم.
وكذلك أيضًا هذا الحديث يدلّ على منزلة هذه الأعمال التي قد نغفل عنها، وهي من حقوق المسلمين، فذكر أنَّ حقَّ المسلم على المسلم ستّ، وذكر منها: إذا لقيتَه فسلِّم عليه[17].
وكذلك أيضًا ما يتعلق بقوله -تبارك وتعالى-: وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا[النساء:86]، هذا في الردّ، لا شكَّ أنَّه واجبٌ وآكد من الابتداء بالسلام.
وكذلك أيضًا إذا دخل -كما ذكرنا في مناسبةٍ سابقةٍ- فإنَّه يُسلّم، سواء دخل المسجد، أو دخل المجلس، وإذا قام فليُسلّم: فليست الأولى بأحقّ من الثانية[18]، كما قال النبيُّ ﷺ.
وهذا السلام يُراعى فيه أن يُسْمَع، وأن يُلْقَى إلقاءً، ولا يكون بالإشارة، إلا لعذرٍ، فقد جاء عن النبي ﷺ من حديث جابرٍ : لا تُسلِّموا تسليم اليهود، فإنَّ تسليمهم بالرؤوس والأكفّ[19]، هذا قال عنه الحافظُابن حجر: إسناده جيد[20].
وجاء في حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جدِّه: أنَّ النبي ﷺ قال: لا تشبَّهوا باليهود، ولا بالنَّصارى، فإنَّ تسليم اليهود الإشارة بالأصابع، وإنَّ تسليم النَّصارى بالأكفّ[21]،وحسَّنه الشيخ ناصر الدين الألباني[22]-رحمه الله-.
لكن متى يكون ذلك سائغًا؟
يكون ذلك سائغًا لعذرٍ، كالذي لا يستطيع النُّطق لعِلَّةٍ،كأن يكون أبكم، وكذلك أيضًا إذا كان الإنسانُ في حال الصلاة؛ فقد ثبت أنَّ النبي ﷺ أشار بكفِّه، فإذا سُلِّم على الإنسان وهو يُصلي، فإنَّه يُحرِّك يدَه، وهذا خصّه جمعٌ من أهل العلم بالنَّافلة؛ لأنَّ النبي ﷺ كان يردّ السلام على أصحابه وهو في الصَّلاة، حتى نزل قوله تعالى: وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ[البقرة:238]، فصار ﷺ يردّ هكذا.
وكذلك إذا كان المسلّم عليه بعيدًا، فيُسلّم بالنُّطق، ولا يكتفي بالإشارة، وإنما ينطق بالسلام: السلام عليكم، حتى لو كان لا يسمعه، وهو الأصل، لكن ينطق بذلك، فصارت المراتبُ ثلاثًا:
المرتبة الأولى: أن يُلقي عليه السلام، ويسمع سلامه، من غير إشارةٍ.
المرتبة الثانية: أن يُشير مع إلقاء السلام.
المرتبة الثالثة: أن يُسلّم بالإشارة من غير نطقٍ، فهذا هو التَّشبه بأهل الكتاب،وهذا لا يجوز إلا لعذرٍ؛ كالذي يكون في الصَّلاة، أو يكون لعلةٍ فيه؛ لا ينطق.
والله تعالى أعلم، وصلَّى الله وسلّم على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه.
- متفق عليه: أخرجه البخاري: كتاب الإيمان، باب إطعام الطَّعام من الإسلام، برقم (12)، ومسلم:كتاب الإيمان، باب بيان تفاضل الإسلام وأيّ أموره أفضل، برقم (39).
- "شرح النووي على مسلم" (2/10).
- "شرح المشكاة" للطيبي = "الكاشف عن حقائق السنن" (10/3037).
- أخرجه مسلم: كتاب الإيمان، باب بيان أنَّه لا يدخل الجنةَ إلا المؤمنون، وأنَّ محبّة المؤمنين من الإيمان، وأنَّ إفشاء السلام سبب لحصولها، برقم (54).
- "التنقيح" للزركشي (1/30).
- "مصابيح الجامع" للدماميني (1/95).
- "النهاية في غريب الحديثوالأثر" (4/52).
- "القاموس المحيط" (ص49).
- "الآداب الشرعية"لابن مفلح (1/461).
- "الآداب الشرعية"لابن مفلح (1/461).
- "الآداب الشرعية"لابن مفلح (1/460).
- "فتح الباري" لابن حجر (11/21).
- "مسند البزار = البحر الزخار" (5/80)، برقم (1652).
- أخرجه مسلم: كتاب الإيمان، باب بيان أنَّه لا يدخل الجنةَ إلا المؤمنون، وأنَّ محبّة المؤمنين من الإيمان، وأنَّ إفشاء السلام سبب لحصولها، برقم (54).
- أخرجه البخاري: كتاب الأشربة، باب استعذاب الماء، برقم (5611).
- "حياة الصحابة" (2/408).
- أخرجه مسلم: كتاب السلام، باب من حقِّ المسلم للمسلم ردّ السلام، برقم (2162).
- أخرجه الطبراني في "المعجم الصغير"، برقم (371).
- أخرجه النسائي في "السنن الكبرى": باب ما يقول إذا انتهى إلى قومٍ فجلس إليهم، برقم (10171).
- "فتح الباري" لابن حجر (11/14).
- أخرجه الترمذي: أبواب الاستئذان والآداب، باب ما جاء في كراهية إشارة اليد بالسلام، برقم (2695).
- في "صحيح الجامع"، برقم (5434).