الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
أما بعد: فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته،
هذا باب "الذكر عند المشعر الحرام"، وذكر فيه جزءًا من حديث جابر -رضي الله تعالى عنه-، وهو الحديث المشهور الطَّويل، وفيه أنَّه قال: "ثم ركب القصواء حتى أتى المشعر الحرام، فاستقبل القبلة، فدعاه، وكبَّره، وهلَّله، ووحده، فلم يزل واقفًا حتى أسفر جدًّا، فدفع قبل أن تطلع الشمس". هذا الحديث مُخرَّج في "صحيح مسلم" [1].
قوله:"ثم ركب" يعني: النبيَّ ﷺ "ركب القصواء"، هذا أخذ منه بعضُ أهل العلم: أنَّ الركوب أفضل من المشي في الحجِّ، وهذا ليس محلّ اتِّفاقٍ؛ فإنَّ من أهل العلم مَن يقول: إنما فعله ﷺ من أجل أن يقتدي به الناسُ، فيرونه على راحلته -عليه الصلاة والسلام-، وقد قال: لتأخذوا مناسككم[2].
وقد كان بعضُ السلف يُؤثرون الحجَّ على أقدامهم، كما قال ابن عباس -رضي الله تعالى عنه-، عن الحسن بن علي -رضي الله تعالى عنه- أنَّه كان يحجّ، وذكر عددًا من الحجج التي حجَّها ماشيًا، يقول: "والنَّجائب تُقاد بين يديه"[3]، فهذا مذهبٌ لبعض السلف وبعض أهل العلم من بعدهم: أنَّ الحجَّ ماشيًا أفضل.
لكن أيضًا من أهل العلم مَن قال: إنَّه وقف راكبًا في عرفة، كما فعل النبيُّ ﷺ على راحلته، حينما صلَّى الظهر والعصر، ثم بعد ذلك أتى موقفه في عرفة، بقي على ظهر راحلته إلى أن غابت الشمس.
وكذلك هنا -عليه الصَّلاة والسَّلام- ركب القصواء، يعني: من منزله الذي بات فيه في مُزدلفة، ثم بعد ذلك أتى المشعر الحرام، الموقف الذي وقف عنده للدُّعاء في مُزدلفة، فكان على راحلته -عليه الصلاة والسلام- يدعو، فأخذ منه بعضُ أهل العلم: أنَّ الدعاء للراكب أفضل، يعني: لو أنه بقي في السيارة يدعو مُستقبلًا القبلة أفضل مما لو كان على قدميه، وليس المقصودُ بالوقوف أن يقف على قدميه، وإنما المقصود الركوب، فهذا قولٌ لبعض أهل العلم؛ اقتداءً بالنبي ﷺ.
"ركب القصواء" وهي ناقته المشهورة -عليه الصَّلاة والسَّلام-، وإنما يُقال ذلك للناقة إذا كانت أذنها قد قُطعت، يعني: التي قُطع طرفُ الأذن يُقال لها: قصواء، فيحتمل أن يكون ذلك قيل لناقة النبي ﷺ وليس بها قطعٌ، ويحتمل أن يكون ذلك قيل لها لوجود قطعٍ في أذنها، والله أعلم.
"حتى أتى المشعر الحرام" موضعٌ خاصٌّ في المزدلفة، محدد، معلومٌ إلى اليوم، عليه مسجد، يُوجد فيه المسجد المعروف، وهو المعروف بقوس قزح؛ ذلك الموضع يُقال له: المشعر، سُمّي بذلك لأنَّه معلم للعباد، وهذا قد يُطلق على المزدلفة، فالمزدلفة مشعرٌ بلا شكٍّ، فهي المشعر الحرام، ويُقال "المشعر الحرام" لجزءٍ منها، وهو ذلك الموضع الذي وقف عنده النبيُّ ﷺ بعد أن صلَّى الصبح بغلسٍ، يعني: بظلامٍ مختلطٍ بنور الصُّبح، وقبل أن يُسفر -عليه الصَّلاة والسلام-، لكن صلَّى في أول الوقت قبل الإسفار، لكن بعد دخول الوقت، في أوله -عليه الصلاة والسلام-، من أجل أن يتفرغ للدُّعاء.
وكذلك هنا جاء إلى هذا الموضع -عليه الصَّلاة والسَّلام-، بعدما صلَّى في الصبح بغلسٍ أتى إلى هذا المكان، المشعر الذي هو معلم للعبادة، ويُقال له: الحرام؛ لأنَّه من الحرم، أو لحُرمته، جبل ليس بالكبير في مُزدلفة، كما وقف النبي ﷺ عند الصّخرات، عند الجبل المعروف في عرفة.
وأخبر ﷺ أنَّ عرفة كلّها موقف، قال: وقفتُ هاهنا، وعرفة كلّها موقف[4]، وكذلك وقف النبي ﷺ في هذا الموضع عند المشعر الحرام، وقال: وقفتُ هاهنا، ومُزدلفة كلّها موقف[5].
فلو أنَّ أحدًا بقي في أي ناحيةٍ من نواحيها، وصلَّى الصبح، ودعا الله -تبارك وتعالى-؛ فإنَّ ذلك يُجزئه بالإجماع.
ولو أنَّه انتقل بعد صلاة الصبح، صلَّى بغلس، ثم أتى هذا الموضع، فيكون ذلك اتباعًا لفعل النبي ﷺ، ولكن اليوم -كما هو معلومٌ- يصعب الوصول إلى ذلك لمن كان بعيدًا عنه؛ لما قد علمتم من الزحام، والله -تبارك وتعالى- يقول: فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ [البقرة:198]، المشعر الحرام هي مُزدلفة، وكلّها يُقال له: المشعر الحرام، فهذه الآية دلَّت على الوقوف بعرفة: أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ، وكذلك أيضًا المبيت بمُزدلفة، وهي المشعر الحرام، يقف فيها حتى يُصلي الصبح، ويدعو الله ويذكره حتى يُسفر جدًّا، كما ثبت من فعله ﷺ.
وهذا الذكر كما يقول أهلُ العلم -كالشيخ عبدالرحمن بن سعدي -رحمه الله-في تفسيره- يدخل فيه ما يقع فيه من الفرائض والنَّوافل[6]، يعني: صلاة الصبح هي من جملةذكر الله -تبارك وتعالى-: فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ، فالصَّلاة لا شكَّ أنها من أعظم الذكر، والله -تبارك وتعالى- يقول: وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ[العنكبوت:45]، قيل: وَلَذِكْرُ اللَّهِ الذي اشتملت عليه أَكْبَرُ مما لها من المزية، وهي أنها تنهى عن الفحشاء والمنكر.
وبعض أهل العلم يقولون: إنَّ الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، وما اشتملت عليه من الذكر أعظم نهيًا عن المنكر والفحشاء، فإنَّ ذلك يكون وازعًا للعبد، فحينما يذكر ربَّه يصرف عنه من أسباب الشَّر، وطاعة النفس والهوى والشَّيطان.
ثم أيضًا هذه المواضع والشَّعائر من شعائر الله -تبارك وتعالى-، كلّها يُقال لها: مشاعر، يعني: معالم ومُتعبدات، معالم أمر الله -تبارك وتعالى- بالقيام فيها، وعليها، ويأتيها الحاجّ، يُقال: المشاعر المقدّسة، ونحو ذلك، يعني: مواضع المناسك، فعرفة مشعر، ومُزدلفة مشعر، ومنى مشعر، والصَّفا والمروة من مشاعر الله: إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ[البقرة:158]، يُقال: الشَّعائر والمشاعر؛ وذلك يكون للمعالم الظَّاهرة، معالم الدِّين، وأعلام الدِّين الظَّاهرة.
فمَن وقف في المشعر الحرام -في مُزدلفة- ذاكرًا الله -تبارك وتعالى-، كما وقف النبيُّ ﷺ من بعد غروب الشمس إلى ما قبل طلوع الشمس؛ يكون قد أدرك المبيت، لكنَّه لا ينصرف على قول كثيرٍ من أهل العلم قبل منتصف الليل، وعلى قول بعض السَّلف: إلى غياب القمر، وإنما يكون غيابُ القمر بعد منتصف الليل بمدّةٍ، فهذا يكون قد أدرك.
ومَن لم يصل إليها إلا بعد طلوع الشمس، فإنَّ المبيت بمُزدلفة أو الوقوف فيها يكون قد فاته بالإجماع، وهذا أمرٌ معلومٌ، ونَقَلَ عليه الإجماعَ جمعٌ من أهل العلم[7]، فإن كان ذلك لعذرٍ فلا شيء عليه؛ لأنَّ أهلَ العلم قد اختلفوا في حكم الوقوف أو المبيت في مُزدلفة؛ فمنهم مَن يرى أنه ركنٌ، فيكون الحجُّ قد فاته.
والجمهور من السَّلف فمَن بعدهم على أنَّ المبيت بمُزدلفة ليس بركنٍ، ولكنه واجبٌ، يُجْبَر بدمٍ إن تركه بتفريطٍ، أو تركه قصدًا، فهذا يُجبر بدمٍ، ويصحّ حجّه، وهذا هو الراجح.
وأمَّا القول الثالث -وقد قال به بعضُ السلف وبعضُ الفقهاء-: أنَّ المبيت بمُزدلفة سنة، ومَن تركه ليس عليه شيء.
"فاستقبل القبلة -عليه الصلاة والسلام- ودعا الله -تبارك وتعالى-" فهذا هو المشروع إلى وقت الإسفار، وهذا الذي عليه عامَّةُ أهل العلم من السَّلف فمَن بعدهم، قال به ابن مسعود، وابنُ عمر [8].
ومن الفقهاء الأئمة: أبو حنيفة، والشَّافعي، وجماهير أهل العلم سلفًا وخلفًا: أنَّه يبقى إلى الإسفار، خلافًا للإمام مالك -رحمه الله- الذي ذهب إلى أنه يخرج إلى منى، يفيض قبل الإسفار[9].
وعلى كل حالٍ، المشروع أن يبقى ذاكرًا وداعيًا بعد صلاة الصبح، ويرفع يديه، ويستقبل القبلة.
قال: "فدعاه، وكبَّره، وهلَّله، ووحده"، "كبَّره" قال: الله أكبر، فهذا موضعٌ للتَّكبير، وهذه الأيام أيام تكبيرٍ وتهليلٍ وذكرٍ لله -تبارك وتعالى-، وأيضًا تلبية، فإنَّه لا يقطع التلبيةَ إذا رمى جمرةَ العقبة، كما هو معلومٌ.
"وهلله" قال: لا إله إلا الله،"ووحده" أيضًا بقول: لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له.
"فلم يزل واقفًا حتى أسفر جدًّا" أضاء الفجرُ إضاءةً تامَّةً، ثم بعد ذلك دفع إلى منى قبل أن تطلع الشمس.
وقوله:"حتى أسفر جدًّا" الضَّمير يرجع إلى الصبح، يعني: الفجر، حتى أسفر الفجر جدًّا، وليس معناه: أسفر النبي ﷺ؛ فإنَّ الإسفارَ يُضاف إلى الصبح والفجر، حتى أسفر الفجر جدًّا.
وكذلك أيضًا حينما يكون بهذا الموضع، فيكون في حالٍ من الاجتهاد والجدّفي ذكر ربِّه -تبارك وتعالى-، فإن فعل ذلك فيكون قد وافق السنة، واقتدى بالنبي ﷺ.
وهذا أحد مواقف الدعاء التي يتأكّد الدعاءُ والذكرُ فيها، وهي ستة مواضع -كما هو معلومٌ- في الحجِّ: في عرفة، وهنا في مُزدلفة بعد صلاة الصبح، وكذلك أيضًا على الصَّفا، وعلى المروة، وبعد رمي الجمرة الأولى في أيام التَّشريق، والجمرة الثانية، فإنه يقف بين الجمرة الصُّغرى والوسطى، يقف ويدعو طويلًا بقدر سورة البقرة، وكذلك يقف بعد الوسطى يدعو كذلك، ولا يقف بعد الجمرة الكبرى، فهذه ستة مواضع للذكر.
والشَّاهد فيها هنا هو البقاء ذاكرًا بعد صلاة الصبح إلى الإسفار، فهذا هو المشروع.
والله تعالى أعلم، وصلَّى الله وسلَّم على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه.
- أخرجه مسلم: كتاب الحج، باب حجّة النبي -صلى الله عليه وسلم-، برقم (1218).
- أخرجه مسلم: كتاب الحج، باب استحباب رمي جمرة العقبة يوم النحر راكبًا، وبيان قوله -صلى الله عليه وسلم-: ((لتأخذوا مناسككم))، برقم (1297).
- "البداية والنهاية" ط. إحياء التراث (8/42).
- أخرجه أبو داود: كتاب المناسك، باب صفة حجّة النبي -صلى الله عليه وسلم-، برقم (1907)، وصححه الألباني.
- أخرجه أبو داود: كتاب المناسك، باب صفة حجّة النبي -صلى الله عليه وسلم-، برقم (1907)، وصححه الألباني.
- "تفسير السعدي = تيسير الكريم الرحمن" (ص92).
- قال ابن حزم في "مراتب الإجماع" (ص45): "واتَّفقوا أنَّ من غروب الشَّفق من ليلة النحر إلى قبل طلوع الشمس من يوم النحر وقتٌ للوقوف بمُزدلفة".
- "المجموع شرح المهذب" (8/151).
- "المجموع شرح المهذب" (8/151).