الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
أما بعد: ففي باب "الاستغفار والتوبة" أورد المؤلفُ حديثَ عمرو بن عبسة : أنه سمع النبيَّ ﷺ يقول: أقرب ما يكون الربُّ من العبد في جوف الليل الآخر، فإن استطعتَ أن تكون ممن يذكر اللهَ في تلك السَّاعة فكُنْ.
هذا الحديث أخرجه النَّسائي[1]،والترمذي، وقال الترمذي: حسنٌ صحيحٌ غريبٌ من هذا الوجه[2].
وصححه جمعٌ من أهل العلم: كابن عبدالبرّ[3]، والشّوكاني[4]، والألباني[5]-رحم الله الجميع-.
وقوله: أقرب ما يكون الربُّ من العبد في جوف الليل الآخر هذا قُرب الربّ من العبد، فهناك قُربٌ للربِّ، وهناك قُربٌ للعبد: أما قُرب العبد فهو الذي سيأتي في الحديث بعده في قوله ﷺ: أقرب ما يكون العبدُ من ربِّه وهو ساجدٌ[6]، وأمَّا قُرب الربّ -تبارك وتعالى- فإنَّه المذكور في هذا الحديث.
ففيه بيان وقت كون الربّ أقرب من العبد، وذلك في جوف الليل الآخر، وفي الحديث الآخر بيان أقرب حالات العبد من ربِّه -جلَّ جلاله، وتقدَّست أسماؤه-.
فقُرب الربّ هنا لا يتوقف على فعل العبد، فإنَّ الله ينزل في ثلث الليل الآخر كل ليلةٍ، ينزل كلّ ليلةٍ حين يبقى ثلثُ الليل الآخر، فيقول: مَن يدعوني فأستجيب له؟ مَن يسألني فأُعطيه؟ مَن يستغفرني فأغفر له؟[7]، فهذا نزولٌ وقُربٌ في ثلث الليل الآخر إلى سماء الدُّنيا.
وأمَّا الحديث الآخر: أقرب ما يكون العبدُ فهذا من فعل العبد، وهو السُّجود، حينما يكون ساجدًا، فإنَّ ذلك يتوقف على فعلٍ يصدر عنه، وهو السّجود، فيكون في هذه الحال أقرب إلى ربِّه -تبارك وتعالى-، وفي هذه الحال، يعني: قُرب العبد من الربِّ: أقرب ما يكون العبدُ من ربِّه وهو ساجدٌ، ليس هذا هو قُرب بذات العبد، وإنما العبدُ يكون في حالٍ من السجود، ويضع جبهتَه على الأرض، فهذا غاية الدّنو والنزول من قِبَل العبد، ولكن قلبُه في هذه الحال يكون محلِّقًا.
فإنَّ العبد حينما يُحقق العبودية لله -تبارك وتعالى- يكون قربُه من ربِّه أكبر، وهذه العبودية تكون بأعمالٍ، وأقوالٍ، وأحوالٍ تصدر عن العبد، فيكون أقرب إلى ربِّه -تبارك وتعالى-.
فأحوال العباد في ذلك تتفاوت، حتى السَّاجدين، فإنَّ العبد يكون ساجدًا، وبجانبه آخر يكون ساجدًا، وبينهما كما بين السماء والأرض، فذلك لما يكون من الإخلاص، والخشوع، وحضور القلب، والاستكانة، والإخبات، والتَّواضع لله -تبارك وتعالى-، وقد يسجد العبدُ وهو غافلُ القلب، وقد يسجد وهو يُرائي بهذا السُّجود؛ فلا يزيده هذا السّجود من الله إلا بُعْدًا، فإنَّ المقاصد والنيات لا شكَّ أنها تُؤثر غاية التَّأثير في قُرب العبد وبُعْدِه من ربِّه -تبارك وتعالى-.
وهذا الحديث الذي نحن بصدد الكلام عليه إنما هو في قُرب الربِّ -تبارك وتعالى-، وبهذا يتبين الفرق بين المقامين: قُرب العبد، وقُرب الربّ.
والمقصود هنا بجوف الليل الآخر، يعني: الثلث الآخر، كما دلَّت عليه الأحاديث الأخرى: أنَّ الله ينزل إذا بقي ثلثُ الليل الآخر، فهذا إذا جعلت الليلَ على نصفين؛ فجوف الآخر هو ثلثه؛ ثلث الليل الآخر، وهذا يُحسب من غروب الشمس إلى طلوع الفجر، فإذا حُسب في ذلك الوقت والساعات، ثم قُسم على ثلاثةٍ؛ جعلت ذلك الليل أثلاثًا، يطول في الشِّتاء، ويقصر في الصيف، ومثل هذه الأوقات -أوقات الاعتدال-يكون فيها الليلُ مُقاربًا للنهار في ساعاته، فيكون ابتداءُ الليل من غروب الشمس إلى طلوع الفجر، وليس طلوع الشمس، فإذا حُسب هذا، وقُسم على ثلاثةٍ؛ عرفتَ متى يبدأ ثلث الليل الآخر في كل حينٍ، وهذا هو أفضل الأوقات للتَّهجد، والمناجاة، والصَّلاة.
فإن استطعتَ يعني: إن وُفِّقتَ وقدرتَ على أن تكون من جملة المتعبدين في هذا الوقت، المصلين، الذَّاكرين؛ فإنَّ ذلك أمرٌ ينبغي اغتنامه، ولا يفوت بحالٍ من الأحوال: إن استطعتَ أن تكون ممن يذكر الله في تلك السَّاعة فكُنْ.
وذكر الله هنا يشمل ذكره بالصَّلاة، وهذا من أعظم الذكر، وأفضله، وأجلّه، يعني: أن يكون الإنسانُ في حال صلاةٍ، فإنَّ الذكر إذا كان في صلاةٍ فهو أكمل حالاته.
وقد يكون هذا الذكرُ بقراءة القرآن خارج الصلاة، وقد يكون هذا الذكرُ بأن يقول أذكارًا يذكر ربَّه بها من غير القرآن، ويكون ذلك خارج الصَّلاة، وقد يكون هذا الذكرُ أيضًا بالدعاء، يدعو.
فكلّ هؤلاء ممن يصدق عليه أنه ممن يذكر الله -تبارك وتعالى- في هذه السَّاعة، فالله -تبارك وتعالى- يكون قريبًا من عباده، يكون قريبًا منهم، وإذا دعا فإنَّذلك يكون أحرى للإجابة.
وقوله -عليه الصلاة والسلام- هنا: فإن استطعتَ أن تكون ممن يذكر الله يعني: في ضمن صلاةٍ، أو غيرها، يعني: أن تكون في جملة الذَّاكرين، ممن يذكر اللهَ في زُمرة الذَّاكرين، أن تدخل في سلكهم، وأن تنضمّ إليهم في تلك الساعة، يعني: ثلث الليل الآخر، فافعل: فكن، فهذا أمرٌ لا ينبغي للعبدإن استطاع أن يفوته.
هذه الأحاديث تدلّ على إثبات صفة القُرب لله -تبارك وتعالى- على ما يليق بجلاله وعظمته، فالله -تبارك وتعالى- من صفاته القُرب، وذلك لا يُشبه قُرب المخلوقين، وهو قُربٌ حقيقي.
وليس المقصودُ بالقُرب قرب الألطاف، أو أنَّه قريبٌ بمجرد إجابة الدُّعاء، فإنَّ الله ينزل ثلث الليل الآخر، وكذلك أيضًا ينزل عشية عرفة، فهذا قُربٌ خاصٌّ بالنزول، ولكن هناك قُربٌ خاصٌّ من غير نزولٍ: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ[البقرة:186]، فهذا قُربٌ خاصٌّ بالدَّاعين.
أما قُربه -تبارك وتعالى- هنا فهو في وقتٍ خاصٍّ؛ في ثلث الليل الآخر، حيث ينزل إلى سماء الدنيا نزولًا يليق بجلاله وعظمته.
فهذا الحديث يدلّ على استحباب الصلاة، والدعاء، والذكر في ثلث الليل الآخر، فهو وقتٌ للإجابة، ويكون في آخره، يعني: في وقت السّحر، يكون العبدُ ذاكرًا، مُسبِّحًا، مُستغفرًا، كما قال الله : وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ[الذاريات:18]، فإذا فرغ من صلاة الليل؛ فإنه يشتغل بالاستغفار بعدها، هكذا يحرص المؤمنُ أن يكون.
ونسأل الله أن يجعلنا وإياكم ممن يكون من الذَّاكرين الله كثيرًا والذَّاكرات، وأن يُعيننا وإياكم على طاعته، وذكره، وحُسن عبادته، مع شُكره، والإخلاص له، وتوحيده.
اللهم ارحم موتانا، واشفِ مرضانا، وعافِ مُبتلانا، واجعل آخرتنا خيرًامن دُنيانا.
والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمدٍ وآله وصحبه.
- أخرجه النسائي: كتابالمواقيت، باب النهي عن الصلاة بعد العصر، برقم (572).
- أخرجه الترمذي: أبواب الدَّعوات، برقم (3579).
- انظر: "التمهيد" لابن عبدالبر (4/23).
- انظر: "نيل الأوطار" للشوكاني (3/70).
- انظر: "مشكاة المصابيح" للألباني (1/387).
- أخرجه مسلم: كتابالصلاة، باب ما يُقال في الركوع والسجود، برقم (482).
- متفق عليه:أخرجه البخاري: كتابالتهجد، باب الدعاء في الصلاة من آخر الليل، برقم (1145)، ومسلم: كتابصلاة المسافرين وقصرها، باب الترغيب في الدعاء والذكر في آخر الليل، والإجابة فيه، برقم (758).