الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
أما بعد: فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته،
نتحدّث في هذه الليلة عن الحديث الأخير في باب "الاستغفار والتوبة"، وهو حديث الأغرّ المزني : أنَّ رسول الله ﷺ قال: إنَّه ليُغان على قلبي، وإني لأستغفر الله في اليوم مئة مرة[1].
وقد مضى الكلامُ على ما تضمّنه هذا الحديث في بعض المناسبات، ولكن هذا الموضع الذي ورد ذكره في هذا الكتاب، وهذا الحديث مُخرَّجٌ في "الصحيحين".
وقوله -عليه الصلاة والسلام-: إنَّه ليُغان على قلبي يعني: إنَّه الشَّأن ليُغان، الغين في اللغة يُقال للعطش، وكذلك أيضًا للغين، يُقال: غين على كذا، يعني: غُطِّي عليه، فيكون قوله ﷺ: إنَّه ليُغان على قلبي يحتمل أن يكون بمعنى: السّتر، التَّغطية، التَّغشية، ونحو ذلك من المعاني، على خلافٍ بين أهل العلم في محمله؛ وبعضهم يقول: هو شيءٌ يعتري القلب، مما يقع من حديث النَّفس.
وذكر القاضي عياض -رحمه الله- أنَّ المراد بذلك ما يحصل من الفترات والغفلات في الذكر الذي من شأنه ﷺ أن يُداوم عليه[2]، فإذا حصلت له ﷺ فترةٌ لأي سببٍ كان -كما سيأتي- فإنه يعدُّ ﷺ ذلك تقصيرًا وذنبًا فيستغفر.
وهذا كما قال بعضُ أهل العلم: أنَّ هذا الانشغال والانقطاع يكون بسبب نظره ﷺ في مصالح الأُمّة، ومحاربة أعدائها، والقيام على شؤونها، وتأليف المؤلفة قلوبهم، وهكذا أيضًا ما يتّصل بمُعاشرة أهله، وأكله، وشُربه، ونومه، مما تدعو إليه وتقتضيه الجبلة.
هذا كلّه مما قيل في بيان المراد بقوله:وإنَّه ليُغان على قلبي ما يحصل للقلب من حالٍ تعتريه على كثرة استغفاره ﷺ.
وقد ذكر أهلُ العلم أنَّ هذا الذي يحصل له من التَّغشية لا يخلو عنه بشرٌ، مما يقع من السَّهو، وما إلى ذلك من حاجات النفس، فكأنَّه شيء يحصل للقلب ويعتريه بسبب ذلك، فهنا هذا يحتاج إلى تصفيةٍ، وتنقيةٍ، واستغفارٍ؛ ليجلو القلب، ويُزيح عنهأثر ذلك، وإن لم يكن من قبيل الذَّنب، لكن هو بالنسبة لأحواله ﷺ وما كان عليه من الكمالات في الذكر، والعبادة، والاستغفار؛ فإنَّ ذلك يعدّه ﷺ من قبيل التَّقصير؛ فيستغفر.
وقد ذكر الحافظُ ابن حجر -رحمه الله- الاستشكال المعروف من كونه ﷺ قد غُفر له ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر، فكيف يقع منه الاستغفارُ -عليه الصلاة والسلام- ولم يكن مُؤاخذًا في شيءٍ؟!
فذكر أجوبةً لأهل العلم في ذلك، كقول بعضهم: بأنَّ ذلك يرجع إلى ما تقدّم من تفسير الغين، فيستغفر من أجل أن يجلوه[3].
وهكذا قول مَن قال: بأنَّ الاستغفار من التَّقصير في أداء الحقِّ الذي يجب لله ، فإنَّ العبد مهما فعل فإنَّه لا يُؤدي شُكر نعمة الله -تبارك وتعالى- عليه: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا[إبراهيم:34]، هذا بالإضافة إلى ما يكون عليه العبدُ من الاشتغال في أمورٍ من المباحات مما تقتضيه جبلته.
وكما ذكرنا من قبل أنَّ الإنسان حينما يخرج من الخلاء فإنه يقول: غفرانك[4]، وقد ذكرتُ وجه ذلك فيما ذكره بعضُ أهل العلم؛ من أنه حصل له انقطاعٌ عن الذكر في هذه المدّة اليسيرة، مع أنَّه ليس بموضع ذكرٍ، فهو ممنوعٌ منه شرعًا.
قالوا: لكن الإنسان في مثل هذه الحالة حينما يحصل له هذا الانقطاع، ولو لهذا الوقت اليسير؛ فإنه يشعر بشيءٍ من التَّقصير، وإن كان ممنوعًا من الذكر في لحظة دخول الخلاء، وأنَّ بعضهم حمل ذلك باعتبار أنَّ خروج ذلك منه نعمة، فلو بقي مُنحبسًا لكان ذلك فيه غاية الأذى والضَّرر، فلا يستطيع أن يُؤدي نعمةَ الله عليه، فيقول: "غفرانك"، يسأل ربَّه -تبارك وتعالى- غفرانه.
وهكذا أيضًا فيما قيل من كونه ﷺ يستغفر تعليمًا لأُمَّته، ولكن ما ذُكر قبله كأنَّه أقرب، والله تعالى أعلم.
وقد ذكرتُ في بعض المناسبات: أنَّ قوله ﷺ: إنه ليُغان على قلبي، وإني لأستغفر الله في اليوم مئة مرة هذا يحتمل أن يكون هذا الاستغفار يحصل به جلاءُ القلب، يعني: إذا وجد ذلك من نفسه وقلبه فإنه يستغفر من أجل أن يجلوه: وإني لأستغفر، يعني: لجلائه، وإزالته، ومحو أثره، هذا يحتمل.
ويحتمل أن يكون المعنى: إنَّه ليُغان على قلبي، وإني لأستغفر ...، يقول: مع أني أستغفر في اليوم مئة مرة، ومع ذلك أجد في قلبي ما أجد، فكيف بالذي لا يستغفر، أو لا يستغفر إلا قليلًا، ولا يذكر ربَّه إلا قليلًا؟! فلا شكَّ أنَّ هذا يجد على قلبه من العوالق والأثر، وما يغشى القلب مما يُسبب له الوحشة، والضيق، والألم ما لا يُقادر قدره.
فالقلب يجد وحشةً في أحوالٍ شتَّى: قد تكون هذه الوحشة مُستديمة لدى بعض الناس؛ لأنَّ الغفلة مُستديمة، وقد تكون هذه الوحشة ترد عليه بين حينٍ وآخر، فيستوحش من الناس، ويستوحش من نفسه، ويستوحش من كلِّ شيءٍ حوله، ولا يجد في نفسه انبعاثًا لخروجٍ، أو تصرّفٍ في شيءٍ من مصالحه، أو نحو ذلك، وإنما يُؤثر الانفراد، ويشعر بشيءٍ من الألم والضيق، فهذا إنما سببهما يعلق بالقلب، ولكن الغافل لا يشعر بسبب ذلك، والجهة التي يرد عليه منها.
وأمَّا أهل الإيمان وأهل اليقظة فإنهم يعرفونمن أين أتوا؛ لأنَّ ذنوبهم وجناياتهم قليلة، فإذا حصل منه التَّقصير في أمرٍ من الأمور، فهو يعرف أنه قد أُتي من هذا الجانب، فيُبادر بالاستغفار والتوبة، لكن مَن لا يعرف ذلك، وذنوبه كثيرة، وتقصيره كثير كحالنا؛ فإنه ينبغي عليه أن يتوب توبةً عامَّةً، ويُكثر من الاستغفار والتوبة، فإنَّ ذلك يكون سببًا لجلاء قلبه وصلاحه، وتحوّله إلى حالٍ من الراحة، والنَّعيم، والسُّرور، والانشراح، فلا بدَّ للعبد من هذا.
ثم إنَّ قوله ﷺ: وإني لأستغفر الله في اليوم مئة مرة[5]،كما سبق أنَّه كان ﷺ كما مضى في الأحاديث السَّابقة أنه يتوب في اليوم مئة مرة، وكذلك يقول: إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرةً[6]، وكذلك كما جاء في حديث ابن عمر -رضي الله تعالى عنه-: أنهم يعدُّون له في المجلس الواحد -عليه الصلاة والسلام- نحوًا من ذلك[7].
إذًا من أهل العلم مَن قال: إنَّ ذلك يُقصد بهالكثرة، وليس المئة، فالإنسان قد يذكر المئة، وقد يذكر السَّبعين، يريد بذلك التَّكثير.
وسواء قيل المعنى: إنَّه ليُغان على قلبي، وإني لأستغفر الله يعني: لجلائه، لمداواته بالاستغفار، فهذا يدلّ على أنَّ الاستغفار يجلو القلب، ولا شكَّ أنَّ الاستغفار والذكر جلاءٌ للقلب، والقلب لا غنى له عن ذلك بحالٍ من الأحوال، ومَن الذي يدَّعي الكمال؟! إذا كان النبيُّ ﷺ يفعل ذلك، فغيره من باب أولى، وقد غُفِرله ما تقدّم من ذنبه، وهو كثير الذكر -عليه الصلاة والسلام- والاتِّصال بربه، وينزل عليه الملكُ صباح مساء، ومع ذلك هو بهذه المثابة من الاستغفار والذكر -عليه الصلاة والسلام-.
وكذلك أيضًا على المحمل الآخر: إنه ليُغان على قلبي يعني: ومع ذلك أجد ما أجد من الأثر، ليُغان على قلبي مع كثرة هذا الذكر والاستغفار.
إذًا لا نستغرب نحن ما يعتري هذه القلوب من ألوان الشَّدائد والكروب والضيق، وما يعتريها من ألوان الألم والعصرة، فإنَّ ذلك بسبب جناياتها -والله المستعان-، والجزاء من جنس العمل، فمَن أراد أن يتوسّع في الملاذّ؛ فإنَّ ذلك يُورثه ضيقًا في الصدر.
وإذا حبس العبدُ جوارحَه عن مساخط الله -تبارك وتعالى-، أو عن أسباب الغفلة ومُوجباتها من التوسع في المباحات؛ فإنَّ ذلك يكون سببًا لاتِّساعٍ وانشراحٍ في صدره، سواء بسواء، والجزاء من جنس العمل، فمَن قصرت خطواته في معصية الله فإنَّ ذلكيعوض منه انفساحًا واتِّساعًا في صدره، وانشراحًا، ولذّة يجدها في الدنيا قبل لذّة الآخرة، ونعيم الآخرة، فالنَّعيم هو نعيم القلب، وليس بنعيم الجسد،أمَّا اللَّذات المحرّمة فهي مُرّة المذاق، وهي مشؤومة العواقب، لا يلبث صاحبها أن يجد من جراء ذلك من آثارها من الآلام والحسرات.
تفنى اللّذاذةُ ممن نال صفوتها | من الحرام ويبقى الإثمُ والعارُ |
تبقى عواقب سوءٍ من مغبّتها | لا خيرَ في لذَّةٍ من بعدها النار[8] |
فهو يلتذّ بشيءٍ عاجلٍ سرعان ما يتحول إلى ألمٍ وعصرةٍ.
نسأل الله أن يلطف بنا، وأن يغفر لنا، ولوالدينا، ولإخواننا المسلمين، وأن يشرح صُدورنا، ويُيَسّر أمورنا، وأن يُعيننا على ذكره، وشُكره، وحُسن عبادته، وأن يُعيذنا من شرِّ الشيطان، وشركه، ووساوسه، إنَّه سميعٌ مجيبٌ.
والله أعلم، وصلَّى الله على نبينا محمدٍ، وآله، وصحبه.
- أخرجه مسلم: كتابالذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب استحباب الاستغفار والاستكثار منه، برقم (2702).
- انظر: "فتح الباري" لابن حجر (11/101).
- انظر: المصدر السابق(11/101).
- أخرجه الترمذي: أبواب الطَّهارة، باب ما يقول إذا خرج من الخلاء، برقم (7)، وصححه الألباني في "مشكاة المصابيح"، برقم (359).
- أخرجه مسلم: كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب استحباب الاستغفار والاستكثار منه، برقم (2702).
- أخرجه البخاري: كتاب الدَّعوات، باب استغفار النبي -صلى الله عليه وسلم- في اليوم والليلة، برقم (6307).
- أخرجه أبو داود: كتاب الصلاة، بابٌ في الاستغفار، برقم (1516).
- انظر:"الموشى - الظُّرف والظُّرفاء" للوشاء(ص55).