بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد.
قال المفسر في تفسير قوله تعالى: وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ البقرة:30، يخبر تعالى بامتنانه على بني آدم بتنويهه بذكرهم في الملأ الأعلى قبل إيجادهم فقال تعالى: وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ أي: واذكر يا محمد إذ قال ربك للملائكة، واقصص على قومك ذلك إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً أي: قومًا يخلف بعضهم بعضاً قرناً بعد قرن، وجيلاً بعد جيل.
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فقوله -تبارك وتعالى:وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ يقول: يخبر تعالى بامتنانه على بني آدم، وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ أي: واذكر يا محمد إذ قال ربك للملائكة، دائماً "إذ" هذه تكون منصوبة، ومسبوقة بفعل مقدر تقديره: واذكر، دائماً إذا رأيتها في القرآن، فالتقدير: واذكر إذ قال ربك، وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ الأعراف:172، واذكر إذ أخذ ربك من بني آدم، إذْ قَالَ اللَّهُ آل عمران:55، واذكر إذ قال الله كذا. ولهذا قال الحافظ ابن كثير: أي: واذكر يا محمد إذ قال ربك للملائكة، إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً.
بعضهم يقول: إذا دخلت على فعل ماضٍ فهي للمستقبل، وإذا دخلت على المضارع فهي للماضي، وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ، واذكر إذ قال ربك للملائكة، إِذْ قَالَ دخلت عليه، لكن هذا إذا نظرت إليه في التطبيقات تجد أنه غير دقيق، ستجد أن الواقع يخالفه في أمثلة كثيرة، إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ آل عمران:55، يعني في المستقبل، وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً، يخبرهم عن شيء في المستقبل، لكن هذا ليس في كل الأمثلة، بل حتى في نفس المثال هو يخبر عن أمر مضى وانقضى، سواء في المثال الأول، أو في المثال الثاني، لكن حينما قالها الله ذكر شيئاً يكون في المستقبل.
وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ الأحزاب:12 دخلت على المضارع، يقولون: يعني وإذ قال المنافقون، يخبر عن شيء مضى، خلاف وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً يعني سأجعل فيها خليفة، لكن كما قلت: إذا تتبعت الأمثلة لا تجده مطرداً.
كما قال تعالى: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأَرْضِ الأنعام:165.
وقال: وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ النمل:62، وقال: وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الأَرْضِ يَخْلُفُونَ الزخرف:60.
وقال: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ مريم:59، والظاهر أنه لم يُرد آدم عيناً؛ إذ لو كان كذلك لما حسن قول الملائكة: أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ البقرة:30.
وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً أي: سأجعل فيها خليفة، وبعضهم يفسر جعل هنا بمعنى خلق، خالق في الأرض، ويمكن أن تكون بمعنى خالق، ويمكن أن تكون بمعنى الجعل.
سأجعل فيها خليفة، وبعضهم يفسر جعل هنا بمعنى خلق، خالق في الأرض، ويمكن أن تكون بمعنى خالق، ويمكن أن تكون بمعنى الجعل.
الخليفة عموماً يأتي بمعنى الخالف، ويأتي بمعنى المخلوف، فعيلة بمعنى فاعل، وبمعنى مفعول، فهنا انظر التفسير الذي ذكره ابن كثير -رحمه الله: أي: قومًا يخلف بعضهم بعضًا قرناً بعد قرن، وجيلاً بعد جيل، "خليفة" إذا قلنا: إنها بمعنى فاعل، فبعضهم يفسر ذلك بأنه خليفة الله في أرضه، هذا قال به جماعة من المتقدمين والمتأخرين، أي: أن الله استخلفه لإقامة حكمه، وعمارة الأرض، فهذا تفسير بمعنى خالِف، أو أنه خليفة لمن سبقوه في الخلق قبل ذلك في الأرض، ومن الذين سبقوه في الأرض؟ بعض أهل العلم يقولون: الملائكة في الأرض قبل آدم، وبعضهم يقول: هم الجن، كانوا في الأرض قبل آدم، ثم إن الله خلق آدم وأهبطه إليها، وهذا الكلام جميعاً لا دليل عليه، لا أنه خليفة للملائكة، ولا أنه خليفة للجن، ولا أنه خليفة لله ، بل الأقرب أنه لا يصح أن يقال: خليفة الله في أرضه، ولا في حق آدم ﷺ، ولا في حق غيره من الناس، فالله أعظم وأجلّ من ذلك.
فيبقى المعنى الآخر وهو المخلوف، وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ، فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ يعني أن هؤلاء من المخلوفين، خلف من بعدهم أناس، جاء من بعدهم أناس يخلفونهم أي يكونون خلفاً لهم، فالخليفة بمعنى المخلوف أي: أن الناس يخلف بعضهم بعضاً في الأرض كما هي سنة الله في خلقه، ولا يقال: خليفة الله في أرضه، وقد صرح جماعة من أهل العلم بأن ذلك لا يصح، ولا يجوز إطلاقه.
ثم بعد ذلك شرع الحافظ ابن كثير -رحمه الله- بالإجابة على سؤال متوقع إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ البقرة:30، السؤال المتبادر ما هو؟ كيف عرفوا أنه سيفسد فيها ويسفك الدماء؟ فهو قال لهم فقط: إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً، فكيف أجابوا بهذا الجواب المطابق للواقع؟
هذا الذي شرع فيه الحافظ ابن كثير هو جواب على سؤال مقدر: كيف عرفت الملائكة هذا الوصف من أوصاف بني آدم؟
جواب السؤال المقدر: وكأنهم عرفوا ذلك بعلم خاص، هذا هو الجواب، وأما ما قبله: فإنهم أرادوا أن مِن هذا الجنس من يفعل ذلك، يقول: إنه لم يُرد آدم عيناً أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا الخليفة: يقال: هو آدم، خليفة الله، أو خليفة للملائكة أو خليفة للجن، أو يقال: مخلوف باعتبار أنه تخلفه ذريته، أو يطلق ذلك على عموم بني آدم، وهذا هو الأقرب.
أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا فهنا يقول: لم يريدوا آدم بذلك، والله حينما قال: "خليفة" فإن ذلك لا يختص بآدم، بل آدم وذرية آدم؛ لأنهم قالوا: اللفظ محتمل، فرجح أحد هذه الاحتمالات بقرينة من نفس الآية، قالوا: أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ، قالوا: وآدم لا يفسد، نبي -عليه الصلاة والسلام، ولا يسفك الدماء، وإنما يكون ذلك واقعاً في ذريته، فالخليفة يشمل آدم وذرية آدم، وكلام الملائكة يصدق على جنس الآدميين، وذلك واقع في الذرية، وكأنهم علموا ذلك بعلم خاص، أو بما فهموه من الطبيعة البشرية.
فهذه ثلاثة أجوبة:
إما أنهم علموا ذلك بعلم خاص، أي: أن الله أعلمهم، وهذا ورد في بعض الروايات، لكن ليس فيها شيء عن النبي ﷺ، يعني أن الله قال لهم: إني جاعل في الأرض خليفة من صفته كذا وكذا وكذا، وجاء هذا في بعض الروايات التي يمكن أن يقال: إنها مأخوذة من بني إسرائيل، في نفس الخطاب إني جاعل في الأرض خليفة من صفته كذا وكذا وكذا، أو أن الله أعملهم ذلك بطريق أو بآخر، هذا الجواب الأول، وهذا هو الأقرب.
وبعضهم قال: عرفوا ذلك من طبيعته، قالوا: طبيعة آدم أنه خُلق من صلصال وحمإ مسنون، فثِقل الطين والصلصال فهموا منه ذلك، أو أنهم عرفوا أنه لما كان قد ركز فيه الشهوات فإن ذلك يفضي إلى الإفساد في الأرض وسفك الدماء، فهموا هذا من طبيعة آدم التي عرفوها، عرّفهم الله بها، أو هم لما رأوا طبيعة خلقه استنتجوا هذا، فقالوا مثل هذا الكلام.
وبعضهم قال: إنهم فهموا ذلك من قوله: "خليفة"، والخليفة من شأنه أن يحكم بين الناس، وإنما يكون الحكم للفصل بين الناس فيما يترافعون به لرفع المظالم عنهم، وإعطاء الحقوق لأصحابها، فإذًا الناس يترافعون، فمعنى ذلك أن هناك ظالماً ومظلومًا، ففهموا هذا من قوله: "خليفة".
وبعضهم يقول غير هذا، والأمر في هذا سهل.
وقوله -تبارك وتعالى: وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً البقرة:30، بعضهم يعبر بعبارة في هذا المقام يقول: هذا تعليم للمشاورة، ولكن لا يحسن أن يقال ذلك، فالله أجل، وأعظم من هذا، وهم وإن كانوا يقرون -يعني القائلين بهذا- بأن الله لا يحتاج إلى هذا؛ لأن الذي يحتاج إليه هو مَن قصر علمُه أو قصر بصره في الأمور، يعني جهة الحكمة في وضع الأمور في مواضعها، وإبقائها في مواقعها، أو لقصور العلم، فيحتاج إلى أن يشاور ليعرف ما جهل، أو ليضع الشيء في محله، فيستشير، وقد يفعل ذلك تطييباً للقلوب، والله ليس بحاجة إلى شيء من ذلك، هو الغنيُّ الغِنى المطلق، مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ البقرة:255، فكمال ملكه وغناه بحيث لا يحتاج إلى الخلق، والله أخبرهم بذلك وهو العليم الحكيم فكان نتيجة هذا الخبر أنهم سألوا هذا السؤال، فبيّن الله لهم -تبارك وتعالى- ما بيّن.
هذا أحسن ما يقال فيه: "أتجعل فيها" ليس إنكاراً، حاشا وكلا، وإنما ذلك كان على سبيل الاستعلام والاستكشاف، يعني ما هي حكمتك يا رب في مثل هذا الخلق الذي يكون من شأنه الإفساد وأنت لا تحب الفساد؟
يقولون: يا ربنا ما الحكمة في خلق هؤلاء مع أن منهم من يفسد في الأرض ويسفك الدماء، فإن كان المراد عبادتك فنحن نسبح بحمدك ونقدس لك، أي: نصلي لك، كما سيأتي، أي: لا يصدر منا شيء من ذلك، وهلا وقع الاقتصار علينا؟
وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ، التسبيح بمعنى التنـزيه، تنـزيهه عما لا يليق، عن كل عيب، ودنس، ونقص، في ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله على وجه التعظيم، هذا هو التسبيح، نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ، نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ أي: حامدين لك.
والتقديس بعضهم يقول: هو بمعنى التسبيح، نسبح ونقدس.
وبعضهم يقول: التقديس بمعنى التطهير، ومن أسماء الله القدوس، الْقُدُّوسُ السَّلامُ الحشر:23، فالقدوس هو الطاهر المقدس من كل عيب، ونقص في ذاته وأسمائه وأفعاله وصفاته، والسلام هو السالم من كل عيب ونقص، وبعضهم يفرق بغير هذا، والعلم عند الله .
فالحاصل أنهم يقولون: وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ أي: ننزهك ونطهرك عن كل ما لا يليق بجلالك وعظمتك، وأخرج مسلم عن أبي ذر أن رسول الله ﷺ سئل أي الكلام أفضل؟ قال: ما اصطفى الله لملائكته أو لعباده: سبحان الله وبحمده[1].
قال الله تعالى لهم مجيباً لهم على هذا السؤال: إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ، أي: إني أعلم من المصلحة الراجحة في خلق هذا الصنف على المفاسد التي ذكرتموها ما لا تعلمون أنتم، فإني جاعل فيهم الأنبياء، وأُرسلُ فيهم الرسل ويوجد منهم الصديقون والشهداء والصالحون والعباد والزهاد والأولياء والأبرار والمقربون، والعلماء العاملون، والخاشعون والمحبون له -تبارك وتعالى، المتبعون رسله -صلوات الله وسلامه عليهم.
وقد ثبت في الصحيح: "أن الملائكة إذا صعدت إلى الرب تعالى بأعمال عباده يسألهم -وهو أعلم- كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: أتيناهم وهم يصلون، وتركناهم وهم يصلون"، وذلك لأنهم يتعاقبون فينا، ويجتمعون في صلاة الصبح، وفي صلاة العصر، فيمكث هؤلاء، ويصعد هؤلاء في الأعمال، كما قال -عليه الصلاة والسلام: يُرفع إليه عمل الليل قبل النهار، وعمل النهار قبل الليل[2]، فقولهم: أتيناهم وهم يصلون، وتركناهم وهم يصلون، من تفسير قوله لهم: إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ.
وقيل معنى قوله تعالى جوابًا لهم: إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ: إن لي حكمة مفصلة في خلق هؤلاء، والحالة ما ذكرتم لا تعلمونها.
وقيل: إنه جواب وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ فقال: إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ، أي: من وجود إبليس بينكم، وليس هو كما وصفتم أنفسكم به.
وقيل: بل تَضمّن قولهم: أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ طلباً منهم أن يسكنوا الأرض بدلاً بني آدم، فقال الله تعالى لهم: إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ من أن بقاءكم في السماء أصلح لكم وأليق لكم، ذكرها الرازي مع غيرها مع الأجوبة، والله أعلم.
قال: إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ لا شك أنه جواب على قولهم: أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ، وذلك أن الله له حكمة من خلق آدم وذرية آدم، فيكون منهم هؤلاء الأصفياء من الأنبياء، ومَن كان من أتباعهم من الشهداء والصالحين إلى غير ذلك.
وكذلك أيضاً لإقامة العبودية لله في الأرض.
وكذلك أيضاً ما علمه -تبارك وتعالى- مما سيقع في هؤلاء الذرية حيث إنهم سينقسمون إلى فريقين: أهل الإيمان وأهل الكفر، ويحصل الصراع بين الخير والشر، فتظهر معاني أسماء الله وصفاته، فيُنزل نقمته بأعدائه، وينصر أولياءه، وتنزل ألطافه ورحماته بهؤلاء المصطفَيْن، إلى غير ذلك من المعاني التي لا تخفى، فكل ذلك من حكمته ، ثم يصيرون بعد ذلك إلى دار كرامته، وأولئك الأشقياء يصيرون إلى النار.
فهذا كله من حكمة الله في هذا الخلق، -خلق آدم وذرية آدم، فكل هذه الأمور التي وقعت بعد خلق آدم لا شك أنها تشتمل على حكم بالغة تظهر فيها معاني الأسماء والصفات، إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ وسينبري لهم إبليس، ويناصبهم العداوة، ويكون ما يكون مما ذكره الله بعد ذلك .
من هذا الموضع من القرآن تجد العلماء في كتب تفسير آيات الأحكام مثل: "تفسير القرطبي"، ومثل: "أضواء البيان"، وقبل ذلك أيضاً "تفسير ابن العربي، وأمثال هذه الكتب، يتكلمون فيها على مسائل الإمامة، والخلافة، وشروط الخليفة، وصفات الخليفة وأن إقامته واجبة، ويتكلمون في مسائل: هل إقامة الخليفة واجبة بالعقل كما يقول بعضهم كالمعتزلة، أو أن ذلك واجب بالشرع؟
وأهل السنة يقولون: إن ذلك واجب بالشرع، ويستدلون بمثل هذه الآية: إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً، ويستدلون بأمور أخرى من المنقول، ومن جهة النظر، ويقولون: لا يجوز أن يخلو زمان من خليفة يقيم العدل في الناس، ويحكم بينهم، ويتولى شئونهم، وما أشبه ذلك، ويتوسعون في هذا في كتب تفسير آيات الأحكام.
يعني هذا أحد الأقوال، أن خلافة أبي بكر كانت بالنص، وهذا فيه ما فيه.
الإيماء إليه بأن النبي ﷺ مثلاً أمر أن يصلي فيهم، وقال: يأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر[3]، فكون النبي ﷺ ارتضاه لهم في الصلاة، إشارة وقرينة إلى أنه يرتضيه لهم فيما هو دونه، فيما يتعلق بدنياهم، إذا ارتضاه لدينهم فإن ذلك يشير إلى أنه يرتضيه لإقامة دنياهم.
هذه الطريق الثانية، الخليفة يستخلف الخليفة من بعده، ينيب أحداً آخر، لا يشترط أن يكون كلما مات خليفة حدث انتخاب، أو يكون مدته أربع سنوات ثم يحصل انتخاب، هذه الطريقة ليست شرعية بل العلماء يختلفون: هل يجوز له أن يعزل نفسه أو لا؟
الشورى في جماعة صالحين، ما هي شورى في كل الناس الطيب والرديء، والفاسد والصالح، والمجنون والأهبل، كل هؤلاء يستشارون في أمر الخليفة، وإنما يكون ذلك بين أهل الصلاح، والفضل، والعلم، والسداد، هؤلاء هم الذين يستحقون أن يؤخذ رأيهم في مثل هذه الأمور، وإلا وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا النساء:27، فإن أولئك إذا استشرتهم فإنهم لا يدلونك إلا على ما فيه الخبال والضياع للأمة، والبلاد والعباد.
فمثل هؤلاء لا يؤخذ رأيهم، أو اجتماع أهل الحل والعقد على مبايعته، يعني الخليفة ما استشار، يعني مثلاً عمر جعلها في النفر الستة الذين توفى النبي ﷺ وهو راضٍ عنهم، وحصل بذلك شورى، الترشيح من هؤلاء الستة، فمثلاً طريقة اختيار عثمان فهذه الطريقة الثانية، أو بمبايعة واحد منهم، فيجب التزامها عند الجمهور، ليس هذا محل اتفاق، كما بايع عمر لأبي بكر فتتابع الناس على بيعته، فقالوا: إنها لزمت، مع أن عمر نهى عن هذا فيما بعد، وبيّن أن ذلك كان فلتة، ويقصد به أن هذا الأمر لا ينبغي لأحد أن يتقدم فيه دون المسلمين؛ لئلا يحصل منازعة بسبب ذلك، وفساد وخلاف بين الناس، وقتال.
فتلك قد نجى الله من مغبتها، لكن لا ينبغي لأحد أن يكرر مثل هذا؛ للآثار التي قد تنتج عنه، فهذه الطرق الثلاثة في تولية الخليفة، وهذه قضية شرعية، وللأسف مما أصاب الناس في مثل هذه الأمور أعني المنتسبين أو بعض المنتسبين للدعوة، أو الدين أصابهم ما أصابهم فيها من قلة العلم ومحاكاة الأمم الأخرى، فصرنا نجد من يتكلم عن الديمقراطية، والانتخاب، والترشيح للخليفة أو الإمام، ونحو هذا، ويرى أن هذه الطريقة الصحيحة، وقد سمعت أحد الأشخاص يتحدث عن شيء مثل هذا، الديمقراطية وكذا، فقلت له: الديمقراطية كفر بالله ، فغضب، وقال: عرِّف الديمقراطية.
قلت: لا أعرف إلا شيئاً واحداً وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ الأنعام:153، فكل شيء غير الإسلام فهو كفر، هذا الذي أعرفه، قال: الديمقراطية لها سبعة عشر تعريفاً، قلت: لو كان لها سبعون ألف تعريف، قال: لها معانٍ كثيرة، لها صور وتطبيقات كثيرة، قال: أنتم لا تعرفون إلا الصور السيئة عن الديمقراطية، قلت: لو أتيتني بقراب الأرض من صور الديمقراطية ومعانيها فهي صور وأشكال وألوان للمذاهب الكفرية، فطريق الله واضح، وهذه النظم التي يصوت فيها على الأحكام، حتى لو طبقوا الشريعة مائة في المائة بالتصويت على كل قضية، فمثلاً: قضية قطع يد السارق فالأغلبية يصوتون، نقول: هذا حكم بالجاهلية وليس حكماً بالإسلام؛ لأن هذا حكم بآراء الناس، والمسألة غير قابلة للتصويت، هذا شرع ودين.
وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ المائدة:38، نفعل هذا عبادة وقربة إلى الله ، وليس لنا خيار أصلاً، لكن إن كان ذلك بتصويت الأكثرين، أو إرادة الشعب كما يقال، أو ما أشبه ذلك فهو حكم بآراء الناس وأذواقهم وأهوائهم، ولا يجوز ولا يصوت بهذه الأشياء، والقاعدة كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ الممتحنة:4.
القضايا هذه لا تقبل التصويت أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ المائدة:50 فينبغي الإذعان والإيمان بذلك، نؤمن بأن هذه أحكام صحيحة، ونذعن وننقاد، ثم نمتثل ونطبق، لا نجعل القضية بحسب الطلب، ورغبة الأكثرية.
فهذا يقول: إنه كاتب بحثًا في ألف وسبعمائة صفحة عن الديمقراطية، فمسكين يحسب أنه على شيء، وهو ينتسب إلى الدعوة في نظره وظنه، يقول: لها سبعة عشر معنى -للديمقراطية- لا تعرفون إلا المعنى المظلم منها، فالله يصلح الحال.
لا يمكن العصمة من الخطأ، ولا يشترط أن يكون من بني هاشم، يكفي أن يكون من قريش؛ لأن النبي ﷺ قال: الأئمة من قريش [4].
والعلماء يذكرون عشرة شروط له، من أبرزها أن يكون مجتهداً، يعني عالماً، بلغ رتبة الاجتهاد، ومن أبرزها أن يكون سليماً من الإعاقات والعاهات، لا يكون أعمى مثلاً، أو غير ذلك من الأمور التي تُعيقه، يذكرون عشرة شروط، ليس هذا موضعها.
لو فسق الإمام: يعني عندما بايعوه كان صالحاً، ثم تغير صار فاسداً، هل ينعزل أو لا ينعزل؟
فإذا وُجد المقتضي أو غلبت المصلحة في هذا فله أن يعزل نفسه، وأما عثمان فإن ذلك لرأي رآه؛ لئلا يفتح للناس باباً، فهؤلاء لمّا خرجوا على عثمان وطالبوه أن يعزل نفسه أبى كل الإباء، وقال: "لا أخلع قميصاً ألبسنيه الله"[6]، مع أنه أزهد الناس في الدنيا، لكنه أراد أن لا يفتح بابًا للناس، كلما رأوا شيئاً يكرهونه من إمامهم، قاموا عليه وطالبوه بأن يعزل نفسه فتبقى الأمور والناس فوضى.
لا يكون ذلك اختياراً بلا شك، ويبقى الحق للأول، يعني إذا جاء آخر في ناحية من الأرض فإنه لا يبايع ولا يقبل منه ذلك، ويُدفع ولو بالقتل، فإنما يكون الإمام واحداً للناس جميعاً، في مشارق الأرض ومغاربها، فكل من جاء بعد ذلك فإنه يُمنع من هذا.
- أخرجه مسلم، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب فضل سبحان الله وبحمده، برقم (2731).
- أخرجه مسلم، كتاب الإيمان، باب في قوله -: إن الله لا ينام، وفي قوله: حجابه النور لو كشفه لأحرق سُبُحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه، برقم (179).
- أخرجه مسلم، كتاب فضائل الصحابة -، باب من فضائل أبي بكر الصديق -، برقم (2387).
- أخرجه أحمد في المسند، برقم (12307)، وقال محققوه: "حديث صحيح بطرقه وشواهده، وهذا إسناد ضعيف لجهالة بكير بن وهب الجزري، فإنه لم يرو عنه غير أبي الأسد، وقال الأزدي: ليس بالقوي، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وأما أبو الأسد فقد سماه شعبة عليًّا، وسماه الأعمش ومسعر سهلًا أبا الأسد، وهو الصواب فيما قاله الدارقطني وغيره"، والبيهقي في السنن الكبرى، برقم (5909)، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (2758).
- أخرجه البخاري، كتاب الفتن، باب قول النبي ﷺ: سترون بعدي أمورًا تنكرونها، برقم (7056), ومسلم، كتاب الإمارة، باب وجوب طاعة الأمراء في غير معصية، وتحريمها في المعصية، برقم (1709).
- أخرجه ابن شبة في تاريخ المدينة (4/ 1286)، والطبراني في المعجم الكبير للطبراني (1/ 82)، برقم (116)، وابن أبي شيبة في المصنف، برقم (37656).
- أخرجه مسلم بلفظ: من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد، يريد أن يشق عصاكم، أو يفرق جماعتكم، فاقتلوه، كتاب الإمارة، باب حكم من فرق أمر المسلمين وهو مجتمع، برقم (1852).