بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير الله أجمعين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أما بعد:
مشابهة ثمار الجنة بعضها ببعض: وقوله تعالى: كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقاً قَالُواْ هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ [سورة البقرة:25].
وروى ابن أبي حاتم عن يحيى بن أبي كثير، قال: عشب الجنة الزعفران وكثبانها المسك، ويطوف عليها الولدان بالفواكه فيأكلونها، ثم يؤتون بمثلها، فيقول لهم أهل الجنة: هذا الذي أتيتمونا آنفاً به، فتقول لهم الولدان: كلوا فاللون واحد والطعم مختلف، وهو قول الله تعالى: وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً [سورة البقرة:25].
وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية: وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً قال يشبه بعضه بعضاً ويختلف في الطعم.
وقال عكرمة: وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً قال: يشبه ثمر الدنيا، غير أن ثمر الجنة أطيب.
وقال سفيان الثوري عن الأعمش عن أبي ضبيان عن ابن عباس، "لا يشبه شيء مما في الجنة ما في الدنيا إلا في الأسماء" وفي رواية: "ليس في الدنيا مما في الجنة إلا الأسماء".
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
لما ذكر الله ما بشر به أهل الجنة: وَبَشِّرِ الَّذِين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ [سورة البقرة:25]، ذكر هنا وصفاً لنعيم الجنة وهو أنهم كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقاً قَالُواْ هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً.
فقوله: هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ هل يقصدون به رزقنا به من قبل في الدنيا، وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً، أي يشبه ما في الدنيا من الفواكه والثمار وما أشبه ذلك؟
أو أنهم يقصدون هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ في الجنة، بمعنى أنهم في كل مرة يأتيهم من هذا النعيم، والطعام المستلذ من هذه الثمار، يقولون: هذا الذي رزقناه قبل ذلك في الجنة، فهو يشبهه؟
هذان قولان مشهوران للسلف فمن بعدهم في تفسير الآية، هل المراد متشابهاً أي يشبه ما في الدنيا، أو أنه يشبه بعضه بعضاً في الجنة.
فما ذكره يحيى بن أبي كثير هنا من أنهم يقولون ذلك؛ لأنه أشبه ما سبقه في الجنة، مما رزقوا به من الثمار، فيقول لهم هؤلاء الولدان: إن اللون واحد والطعم مختلف. وهذا الذي قاله يحيى بن أبي كثير، في تفسير الآية هو القول الأول الذي قال به جماعة من السلف كثير، واحتجوا له بعدة أمور، وجعلوه مرجَّحاً على القول الآخر، فبماذا احتجوا لهذا القول من أنه يشبه الذي قبله مما رزقوه في الجنة؟
فقوله: هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً، قالوا: الأولى به أن يكون هذا التشابه بين ما قبله من ثمار الجنة مما رزقوه؛ لأن ذلك هو المتحقق وهو التشابه بين ثمار الجنة، وأما مشابهته لثمار الدنيا فتشان بينهما، المقصود أنهم نظروا إلى التشابه، فقالوا: هو بين ثمار الجنة أعظم، وهذا هو الوجه الأول.
الوجه الثاني: قالوا: ليس كل ما يرزقونه في الجنة له نظير في الدنيا، وما كان له نظير في الدنيا ليس كل هؤلاء الذين في الجنة قد رزقوه، فثمار الدنيا كثيرة جداً، ولربما كان أكثر أهل الجنة لم يعرفوا كثيراً منها، وما رأوه وما سمعوا به، ومعلوم أن أكثر أهل الجنة هم الفقراء، وإلى وقت قريب لم تكن تصل كثير من الثمرات التي نراها الآن في أقاصي الدنيا إلى الناس، فكيف يقولون في كل مرة: هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ وهو لا نظير له، أو يوجد له نظير لكن ما عرفوه أو ما ذاقوه أو ما رزقوه في الدنيا؟
فقالوا: هذا يكون بالنسبة لما رزقوه في الجنة، وليس بالنسبة لما رزقوه في الدنيا.
وكذلك قوله: وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً كأنه تعليل لقولهم: هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ.
وقد وردت بعض الآثار عن بعض السلف أن ثمار الجنة كلما قطف منها شيء رجع مكانه غيره، فهو نعيم لا ينقضي ولا ينفد.
هذه أوجه لترجيح القول بأن هذا التشابه إنما هو بين ثمار الجنة، وليس مع ثمار الدنيا.
القول الآخر: إن التشابه مع ثمار الدنيا، وهذا أشهر من اختاره كبير المفسرين ابن جرير الطبري.
وأعظم ما احتجوا به لهذا القول ما صرح به ابن جرير وهو يرد على أصحاب القول الأول حيث قال: هل يقولون هذا الكلام في الجنة لأول وهلة؟ بمعنى هل أول مرة يزرقون من ثمار الجنة يقولون: هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ.
من المعلوم أنه على القول الأول أنهم لا يقولون ذلك أول مرة؛ إذ كيف يقولون: هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ [سورة البقرة:25] وهم أول مرة، يذوقون ثمار الجنة؟!
فابن جرير يقول: إذن إذا قلتم: لا، فمعنى ذلك أن هذا يكون من قبيل الكذب، أي أنهم يقولون: هذا الذي رزقنا من قبل ولم يرزقوه في الجنة قبل ذلك، وكيف يكون ذلك من أهل الجنة، وهم أهل الصدق وهي دار الصدق؟ فهذا لا يمكن.
يقول: وظاهر ذلك -بناء على قولكم- فإن قوله: كُلَّمَا رُزِقُواْ هذا أمر يدل على التكرار والاستمرار والدوام، فهم يقولونه كلما وجدوا هذه الثمار، مع أنهم لا يقولون ذلك لأول مرة.
والجواب عن هذا: أن هذا مما يفهمه المخاطب، فيكون مستثنى يدركه الإنسان بفهمه وعقله، أي ليس المقصود أنه يقال من أول مرة، وإنما المقصود كلما تكرر عليهم ذلك، فمع أن ظاهر الآية في العموم، ولكن ذلك يفهم ضرورة من الخطاب في كلام العرب، وهذا هو ما أظنه أقرب والله تعالى أعلم، وهو أن المقصود بالتشابه هو التشابه بين ثمار الجنة، وأن قولهم: هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ يعني في الجنة، وليس في الدنيا، فشتان ما بين ثمار الدنيا وما بين ثمار الآخرة، فإذا رأوا ثمار الجنة، فإنهم يندهشون؛ لأنهم يرون حقائق أخرى تماماً في الكيف والطعم وحقيقتها، وقد لا يخطر في بالهم ما يرونه في الجنة، وإن خطر في بالهم فإن ذلك يكون على سبيل الإقصاء مقارنة بنعيم الجنة، والله تعالى أعلم.
في قوله تعالى: وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً، بعض أهل العلم يقولون: يعني في الجودة، أي أنه خيار كله، بينما ثمر الدنيا متفاوت، فمنه الجيد ومنه الرديء من جهة الأنواع، والنوع الواحد أيضاً متفاوت في جودته، والشجرة القديمة ثمرها أجود من ثمر الشجرة اليافعة، وتجد أيضاً أن الأصناف تتفاوت وإذا مر عليه وقت ذبل، ولذلك تجد الإنسان حينما يريد أن يشتري بين أنواع الثمرة الواحدة فإنه يتخير من النوع الواحد أجوده؛ لأنه في غاية التفاوت، بينما ثمرة الجنة كله جيد ليس فيه شيء مستبعد، ولا شك أن ثمار الجنة كذلك.
وقوله تعالى: وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ [سورة البقرة:25] قال ابن أبي طلحة عن ابن عباس: مطهرة من القذر والأذى، وقال مجاهد: من الحيض والغائط والبول والنخام والبزاق والمني والولد.
وقال قتادة: مطهرة من الأذى والمأثم، وفي رواية عنه: لا حيض ولا كلف، وروي عن عطاء والحسن والضحاك وأبي صالح والسدي نحو ذلك.
الله لم يحدد هنا شيئاً دون شيء، وإنما قال: وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ فوصفها بهذا وأطلق، والأصل بقاء المطلق على إطلاقه، فلا يقيد إلا بدليل يجب الرجوع عليه، وهذا أصل وقاعدة معروفة.
وكذلك قوله: أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ حذف فيه المتعلق، فما قال: مطهرة من الحيض مثلاً، والأصل في ما حذف منه المتعلق أن يحمل على أعم معانيه، فهنا يقال: أزواج مطهرة من كل دنس حسي ومعنوي، فهي ليست كنساء الدنيا تسمع منها ما يؤذي ويجرح من بذاءة اللسان، أو الكذب والقيل والقال، وكثرة الكلام، كما هو الشائع عند كثير من النساء في الدنيا.
وهي مطهرة أيضاً في نظرها فلا تنظر وتتطلع إلى غير الزوج، قد قصرت طرفها فلا يمتد إلى أحد سواه ولا تتطلع نفسها إلى غيره، فهي لا ترى أكمل من هذا الزوج، بخلاف من في الدنيا لا سيما من ابتليت بالنظر إلى الشاشة، فهي لا شك ترى من هو أجمل من زوجها ومن هو أذكى وأعقل وأعظم قواماً واكتمالاً في الجمال والهيئة والعلم والمرتبة والمكانة، فيا ترى كيف تنظر إلى زوجها مع هذه المقارنات؟!
والزوجة في الجنة مطهرة أيضاً ًمن الأقذار والأدناس الحسية، ويكفي ما ذكره بعض أهل العلم من أن الرأس لوحده فيه خمسة منافذ للأذى والقذر، مع أن هذا الرأس هو أشرف الأعضاء، فما بالك بأشياء أخرى، فهو وإن استمتع بها فإنما يستمتع بجسد قد عبئ بالنجاسة، وأي لذة تستطاب مع هذا لولا ما يغشى الإنسان من الحجاب الذي تفرضه عليه الشهوة، التي ركبت في الإنسان، وإلا فالأذى والقذر لا يفارقها بحال من الأحوال، ولذلك يشمل الحيض والنفاس وغير ذلك مما يُعرف، وكل ذلك مما يستقذر وينفر منه الطبع، وأقل ذلك أنها لو لم تمتشط صارت شعثة ولو بقيت دون اغتسال لما استطاع أي يقترب منها، فالأذى موجود في نساء الدنيا، بينما نساء الجنة ليس لها عرق تُكره رائحته، وإنما رشحهم المسك وليس لها أي لون من الأذى، فهي في غاية النـزاهة والطهارة، ولذلك قال سبحانه: أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ.
هذا التعقيب وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ في غاية المناسبة؛ لأن الإنسان مهما عظمت لذاته فإنه ينغصها ويكدرها الموت، وإذا كان في حال اللذة واجتماع الأحباب فإنه يتذكر المفارقة، وإذا كان يعيش في أعظم نعيم للدنيا، فإنه يتنغص إذا تذكر أنه يفارقه.
هو الموت ليس كالموت شيء | نغص الموت ذا الغنى والفقيرا |
فإذا تذكر الغني وهو في كامل لذاته وشهواته أنه سيفارق هذا القصر المشيد، وهذا النعيم، وهذا الفراش الوثير، فإنه يتكدر ويتنغص؛ لأنه سيستلب في أي لحظة ولا يدري متى يكون ذلك.
وإذا تذكر المرء أن هذا الاجتماع مع أحبته من بنيه وزوجاته وخدمه وقراباته لن يدوم، وأنه سيأتي اليوم الذي يستلبون فيه الواحد بعد الواحد، وقد يكون هو أولهم، وقد يكون بعد أن يرى أحبته يؤخذون ويتجرع حسراتهم، فلا شك أن هذا أعظم ما يكدر على هذا الإنسان لذته.
أما أهل الجنة فقد وصف الله نعيمهم بأنه جنات تجري من تحتها الأنهار، وأنهم يرزقون فيها رزقاً متكرراً، ثم هم بعد هذا النعيم لا يتكدرون لاستشعار أنهم سيفارقون هذا النعيم، بل هم مقيمون فيه أبداً فلا يزولون عنه ولا يزول عنهم، وهذا يبعث الطمأنينة في نفوسهم، ويرفع أسباب الكدر التي يعانيها أهل الدنيا.
تجد أهل الدنيا يفترقون ابتداء في طلب معائشهم، فالوالد يكون له مجموعة من الأبناء ومع ذلك لا يتنعم بمجاورتهم والعيش معهم بل كل ولد في بلد يطلب لقمة العيش ويعاني أسبابه، بينما النادر من الناس من يعيش مع أبنائه ويتحقق له أن يكون أبناؤه حاضرين عنده لا يحتاجون للبعد عنه بسبب قلة اليد، كما هو أحد الأقوال المشهورة في قوله تعالى:وَبَنِينَ شُهُودًا [سورة المدثر:11-13]، وهو أرجحها هو -والله أعلم.
فأي نعيم أعظم من هذا بالنسبة لهذا الأب مقارنة بمن يتفرق أبناؤه شذر مذر، كل يطلب لقمة العيش ويعاني أسبابه؟.