بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:
يقول المهذب لتفسير ابن كثير -رحمه الله: وقد تحداهم الله تعالى بهذا في غير موضع من القرآن، فقال في سورة القصص: قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِّنْ عِندِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ [سورة القصص:49].
وقال في سورة الإسراء: قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا [سورة الإسراء:88].
وقال في سورة هود: أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ [سورة هود:13].
وقال في سورة يونس: وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَن يُفْتَرَى مِن دُونِ اللّهِ وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ [سورة يونس:37-38]. وكل هذه الآيات مكية.
ثم تحداهم بذلك أيضاً في المدينة، فقال في هذه الآية: وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ أي شك، مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا [سورة البقرة:23] يعني محمداً ﷺ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ [سورة البقرة:23] يعني من مثل القرآن، قاله مجاهد، وقتادة واختاره ابن جرير الطبري والزمخشري والرازي، ونقله عن عمر وابن مسعود وابن عباس والحسن البصري، وأكثر المحققين، ورجح ذلك بوجوه، من أحسنها: أنه تحداهم كلهم متفرقين ومجتمعين، سواء في ذلك أميهم وكتابيهم، وذلك أكمل التحدي وأشمل من أن يتحدى آحادهم الأميين ممن لا يكتب ولا يعاني شيئاً من العلوم، وبدليل قوله تعالى: فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ [سورة هود:13]، وقوله: لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ [سورة الإسراء:88].
فهذا التحدي عام لهم كلهم مع أنهم أفصح الأمم، وقد تحداهم بهذا في مكة والمدينة مرات عديدة، مع شدة عداوتهم له وبغضهم لدينه، ومع هذا عجزوا عن ذلك.
ولهذا قال تعالى: فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ [سورة البقرة:24] ولن لنفي التأبيد في المستقبل، أي ولن تفعلوا ذلك أبداً، وهذه أيضاً معجزة أخرى، وهو أنه أخبر خبراً جازماً قاطعاً، مقدماً غير خائف ولا مشفق أن هذا القرآن لا يعارض بمثله أبد الآبدين، ودهر الداهرين، وكذلك وقع الأمر لم يعارض من لدنه إلى زماننا هذا ولا يمكن، وأنَّى يتأتى ذلك لأحد، والقرآن كلام الله خالق كل شيء، وكيف يشبه كلام الخالق كلام المخلوقين؟!.
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
يقول ابن كثير –رحمه الله في قول الله : فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ [سورة البقرة:23]، يعني من مثل القرآن: هذا القول الذي ذكره الحافظ -رحمه الله- واقتصر عليه هو القول المشهور الراجح في معنى هذه الآية، بصرف النظر عن تحليل هذه الجملة، وهل في الكلام -كما يعبر بعضهم- زيادة أو ليس فيه زيادة، بصرف النظر عن هذه التحليلات التي لا نخوض فيها عادة في مثل هذه القراءة، لكن هذا هو القول الراجح في معنى الآية، من مثل القرآن، خلافاً لمن قال بأن الضمير –الهاء- في مِّن مِّثْلِهِ يرجع إلى غير القرآن وهو التوراة والإنجيل، حيث قالوا: التوراة والإنجيل هو كلام الله قبل أن تحرف.
ويكون المعنى على هذا القول أنه تحدى هؤلاء الأميين، كما ألمح ابن كثير -رحمه الله- إلى ذلك.
وابن كثير لما رجح الوجه المختار قال؛ لأن ذلك التحدي للجميع، للعرب ولأهل الكتاب، ولا يختص بهؤلاء الأميين، وذلك أن القول بأن الضمير يرجع إلى التوراة والإنجيل يؤدي إلى أن يكون المعنى: فأتوا بسورة من كتاب متقدم كالتوراة والإنجيل تجدونها تشهد بصحة ما في هذا القرآن، وعلى هذا المعنى، لا وجه للإعجاز ظاهر، وليس في هذا المعنى تحدٍّ بكونهم لا يستطيعون الإتيان والاختراع والابتكار لكلام كهذا القرآن؛ لأنه إنما قال: الجؤوا إلى الكتب السابقة وستجدونها مصدقة لهذا القرآن، وليس المعنى -على هذا القول- أنكم لا تستطيعون أن تأتوا بمثل هذا القرآن، ولذلك فإن هذا القول بعيد جداً؛ مع أنه قال به من قال من السلف.
وقال بعضهم: إن الهاء في قوله: مِّن مِّثْلِهِ عائدة إلى النبي ﷺ والمعنى على هذا فأتوا بسورة من مثل هذا الرجل الأمي الذي لا يقرأ ولا يكتب، كيف يصدر عنه مثل هذا الكلام.
وهذا القول لا وجه للإعجاز فيه؛ إذ على هذا القول يلزم أن يكون المعنى أنه إذا جاء رجل ماهر بالقراءة والكتابة وسائر العلوم فيمكن أن يأتي بمثل هذا القرآن، وعلى هذا فلا وجه للإعجاز في أن يكون هذا القرآن صدر أو جاء على لسان رجل أمي لا يعرف القراءة.
وخلاصة الأمر أن هذين الوجهين في غاية البعد والمجافاة لقضية التحدي، فالله يتحداهم أن ينسجوا كلاماً على منواله، قال سبحانه: قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا [سورة الإسراء:88].
ولذلك لا يمكن أن ترِد مثل هذه الأقوال على هذه الآية وأمثالها، ولذا فإن هذا القول الذي ذكره ابن كثير في تفسير آية البقرة لا يجوز العدول عنه وهو قوله: أي: من مثل هذا القرآن، ووجه هذا ظاهر، والله تعالى أعلم.
قوله تعالى:فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ [سورة البقرة:24] قال ابن كثير: "ولن لنفي التأبيد في المستقبل":وهذه العبارة يبدو أنها مقلوبة؛ إذ كيف تكون لن لنفي التأبيد في المستقبل؟ وإنما يمكن أن يكون الصواب: ولن لتأبيد النفي، ثم إنها أيضاً لا تكون لتأبيد النفي دائماً، وإنما هي في كل مقام بحسبه، أي بحسب ما يفهم من السياق وحسب المقام وما يحتف به من القرائن، ولذلك لو وعدتك بالزيارة في هذا اليوم، ثم اتصلت بك اعتذر لك وقلت لك: لن أزورك، هل تفهم من هذا أني لن أزورك أبد الآبدين؟
وكذلك لو قلت لك: أنا أريد أن أسافر اليوم، ثم أرسلت لك رسالة عبر الجوال، وقلت لك: لن أسافر، هل تفهم منها أني لن أسافر أبداً أي سفر؟
لا يفهم هذا الفهم أحد، وإنما يُفهم أن المقصود نفي هذه الزيارة المعينة، ونفي هذا السفر المعين.
ولذلك فإن الله لما كلم موسى ﷺ قال موسى:رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ [سورة الأعراف:143] فقال الله له: لَن تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ [سورة الأعراف:143]، فقوله: لَن تَرَانِي يعني في هذا المقام؛ لذلك علَّق رؤيته على أمر ممكن، وهو ثبات هذا الجبل أمام تجلي الله .
لذلك لا يُفهم من هذا أن موسى لن يرى ربه أبداً، لا في الدنيا ولا في الآخرة، خلافاً لقول المعتزلة الذين ذهبوا إلى أن لن تفيد التأبيد.
ولهذا لا بد أن تعلم أن اللغة العربية كغيرها من العلوم كأصول الفقه والمصطلح والتفسير وشروح السنة دخلها من العلوم الكلامية الفاسدة ما دخلها، ولذلك تجد في كتب المتأخرين -معاجم القواميس اللغوية- من المعاني ما لا تجده في كتب المتقدمين وما لا يعرفونه، وهذه قضية مهمة، ومثال ذلك لو رجعت إلى كتاب لسان العرب -وهو من كتب المتأخرين- وبحثت في كلمة استوى ستجد أنهم يذكرون من معانيها "استولى"، مع أن هذا ليس من معاني لفظة استوى في كلام العرب، ولذلك لو بحثت في كتب المتقدمين لن تجد هذا المعنى، فهذا مما دخل في كلام العرب.
ومثل ذلك "لن" يقول فيها المعتزلة: إنها تفيد التأبيد، وهي لا تفيد التأبيد في لغة العرب، والناس بعضهم عن بعض لا يزالون يفهمون عند استعمال مثل هذه اللفظة –لن- أنها في كل مقام بحسبه، فهنا يقول تعالى: فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ [سورة البقرة:24] فـ[لن] هنا تفيد التأبيد أي: لن تفعلوا في أي وقت من الأوقات.
ومن تدبر القرآن وجد فيه من وجوه الإعجاز فنوناً ظاهرة وخفية من حيث اللفظ ومن جهة المعنى، قال الله تعالى: الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ [سورة هود:1].
فأحكمت ألفاظه وفصلت معانيه، أو بالعكس على الخلاف، فكل من لفظه ومعناه فصيح لا يحابى ولا يدانى، فقد أخبر عن مغيبات ماضية كانت ووقعت طبق ما أخبر سواء بسواء، وأمر بكل خير ونهى عن كل شر، كما قال تعالى: وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً [سورة الأنعام:115]، أي صدقاً في الأخبار وعدلاً في الأحكام، فكله حق وصدق، وعدل وهدى، ليس فيه مجازفة ولا كذب ولا افتراء كما يوجد في أشعار العرب وغيرهم من الأكاذيب والمجازفات التي لا يحسن شعرهم إلا بها، كما قيل في الشعر: إن أعذبه أكذبه.
وتجدد القصيدة الطويلة المديدة قد استعمل غالبها في وصف النساء أو الخيل أو الخمر، أو في مدح شخص معين، أو فرس أو ناقة أو حرب أو كائنة.
أو كائنة: يعني واقعة أو حادثة من الحوادث.
تحدثنا عن قصيدة: قفا نبكي، وذكرنا كيف حللها الباقلاني -رحمه الله، وذكرنا أنه جاء بالقضايا البلاغية، والاستعمالات بأنواعها من جناس ومجاز وطباق وغير ذلك، وأنه بقي يحللها ويحلل المعاني التي تضمنتها ويأتي بأشياء من القرآن ويقول: أنظر هذه، وأنظر هذه، فبين وجوه بلاغة القرآن، وكيف لا يدانيه أفضل ما أنتجه العرب من الشعر، فكانت النتيجة أن جعل هذه القصيدة لا تساوي شيئاً يذكر أمام إعجاز القرآن.
ولقد أتى هذا المأفون -أعني سيء الذكر، طه حسين- الذي يقول: إن الشعر الجاهلي قد أخفي، وإنما قيلت أشعار نسبت إلى الجاهليين من أجل أن تتطامن أمام فصاحة القرآن، وبلاغته وأن القرآن على منوال شعر العرب في الجاهلية.
ونحن نقول لهذا السيء: هاتِ أنت ومن استطعت من شيوخك من المستشرقين من اليهود والنصارى وغيرهم، هاتوا بلاغتكم وفصاحتكم، فالتحدي لا زال قائماً.
ثم أين محاكاته مع تظاهر الهمم عند العرب على النقل، وتميزهم بالحفظ، فكيف ينسون أشعارهم، والشعر هو الطريق إلى حفظ وقائعهم وتاريخهم وكل ما يجري عليهم؟!
ثم لو قام أحد وعارض أحد من هؤلاء الجاهليين الذين تحداهم وهم أكثر الناس أنفة وإباء وتمنعاً من التحدي لنُقل، فكيف يخفى مثل هذا، ثم كيف يجترئ رجل أمي أن يتحدى الأولين والآخرين من الجن والإنس، ويبقى هذا الأمر قائماً إلى هذه الساعة؟!.
ابن كثير -رحمه الله- هنا يشير إلى وجوه الإعجاز، خلافاً لمن قال: إن الإعجاز في القرآن إنما هو من جهة فصاحته وبلاغته وتراكيبه اللغوية، وإن كان لا شك أن هذا أحد وجوه الإعجاز، وهو من أبرزها وذلك أن النبي ﷺ بعث في أهل الفصاحة، وكانت قريش هي أفصح العرب على الإطلاق، فبعث منهم وتحداهم وتحدى غيرهم، ولكن وجوه الإعجاز لا تقتصر على هذا؛ فإن منها ما يكون من قبيل الإخبار عن الغيوب بأنواعها -الغيب النسبي والغيب المطلق- كالإخبار عن غيوب غابرة ماضية، ومثال ذلك: أن اليهود لما سألوا النبي ﷺ عن مسائل من الغيوب الماضية لا يعرفها إلا نبي، كأخبار أصحاب الكهف، وخبر ذي القرنين، أخبرهم النبي ﷺ عن هذا، قال الله تبارك وتعالى: وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُم مِّنْهُ ذِكْرًا [سورة الكهف:83].
كما أخبر ﷺ عن أمور ستقع فوقعت، ومنها ما ينتظر وقوعه، كما في قوله تعالى: الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ[سورة الروم:1-4 ]، فهنا حدد المدة، فمن يستطيع أن يحدد مدة معينة والناس يموجون في خبره، وقد انبرى أكثرهم لعداوته وحربه وتكذيبه، ثم بعد ذلك يأتي بمثل هذا؟ هل يعقل هذا؟!.
أضف إلى ذلك كمال هذا التشريع في كل جوانب الحياة بأحكم النظم التي تهذب الإنسان، ابتداء من قص أظافره وأحكام الفطرة، وانتهاء بتدبير أمور الدولة والسياسة، إلى غير ذلك مما يتعلق بقضايا الاعتقاد والتوحيد والألوهية وكل ذلك، فكل هذه الأمور فصلها أحسن تفصيل بطريقة لا يمكن للنظم البشرية أن تأتي بمثلها، فالنظم البشرية قوانين ومواد تضبط حياة الناس بطريقة آثمة ظالمة تضيع حقوقهم وتهدر كرامتهم، بينما القرآن يهذب النفوس ويروضها ويربيها ويحملها على مكارم الأخلاق وعلى مراقبة الله في كل الأحوال، فتجد الإنسان تهيأ له الفرص لأخذ ما لا يحق له أخذه، ويتوقف خوفاً من الله ، وهذا لا يوجد إلا في تشريع رب العالمين -- فقط، فتجد أن هذا الإنسان يقع في يده ما لا يحل له، ثم يسأل عنه كيف يتخلص منه إن كان لا يحل؛ مع أن له فيه ألوان الطمع، ومع ذلك يترك الأمور المحبوبة إلى النفس اتقاءً لله رجاء ما عنده، فيبذل أحب الأشياء إليه، ويضحي بنفسه وماله وكل ذلك من أجل الله.
إن هذا القرآن حينما يذكر أحكام الطلاق والحيض والقضايا المتعلقة بالرضاع، ونحوها من الأحكام، ويذكر معها: فَإِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [سورة البقرة:227]، وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [سورة النــور:18]، وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [سورة الحشر:6].
وحينما يتحدث عن عوامل النصر والهزيمة يذكر لهم مقومات وأمور أساسية تربطهم بالله وتصلح واقعهم وحالهم، وغير ذلك.
لذلك فإن إعجاز هذا القرآن يكون في التشريع كما يكون بفصاحته وبإخباره عن الأمور الغيبية وغير ذلك.
فوجوه إعجاز القرآن لا تقتصر على لون واحد، بل على ألوان متعددة من الإعجاز، وكلٌّ يعرف من ذلك بحسب ما أعطاه الله ، فالذين يهتمون بقضايا النظم والقوانين لا شك أنهم يعرفون قدر إعجاز القرآن، وقد تحدث كبراؤهم عن هذا، ولا حاجة لنقل شيء منه فهو موجود في مضانِّه.
ونحن حينما نتحدث عن الإعجاز في الفصاحة والبلاغة، نتحدث عنه وقد ضعف هذا الحسّ عندنا، وبالتالي فإننا لا نتذوقه كما ينبغي لضعف هذه الحاسة -إن صح التعبير.
ولو تأملت لوجدت فرقاً بيننا وبين الأعرابي الذي سمع قارئاً يقرأ: فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ [سورة الحجر:94]، فسجد قيل له: لمَ سجدت؟ قال: سجدت لفصاحته، تجد الواحد منا يُقرأ عليه القرآن من أوله إلى آخره وقد لا يجد مثل هذا الذي وجده الأعرابي عند هذه الآية؛ وذلك لضعف هذا الحس لدى المسلمين العرب والعجم، حتى صار الإنسان العربي لربما يحتاج إلى أن يتعلم علوماً كثيرة من أجل أن يصل إلى مثل هذا التذوق، فما مثلنا في هذه الحال إلا كمن يحدث عن شيء لم يجد طعمه أصلاً، بل وكأن الواحد منا اليوم إنسان فاقد حاسة الذوق منذ ولد، فأنت تتكلم معه أن هذا حلو وهذا حامض وهذا مر وهذا مالح، فمهما شرحت له لا يدرك ما يقال له أبداً.
ومثل ذلك أيضاً لو تحدثت مع إنسان عن لون من الذوق لم يجربه، كأن تقول له: هذا مُزٌّ أي: حامض حلو، وهو لم يجرب هذا قط، فإنه لا يتصور ذلك.
كذلك لما تتكلم مع الطفل عن الحرارة مثلاً، وهو لا يعرف عن الحرارة شيء، تقول له: هذا حار، فإنه سيجرب لمْسَه فإذا لمسه وجد الحرارة والإحراق، فإذا قلت له: هذا حار لكن قصدت بذلك حرارة الفلفل مثلاً، فإنه سيبتعد عنه ولن يلمسه؛ لأنه يظن أنها مثل النار، والسبب في ذلك أنه لم يدرك معنى الحرارة إلا في النار، وهكذا.
ولذلك نحن قد نحتاج إلى أن نأخذ آيات من القرآن فتفسر بطريقة تفرع فيها المعاني وتفصل بحيث إن الناس يقفون أمام هذه السورة أو هذه الآية أو الآيات فيقولون: كل هذه المعاني في هذه الآيات التي نقرؤها صباح مساء، ونحن عنها غائبون؟! فيدركون عملياً جزءاً كبيراً من قضية الإعجاز بكثرة المعاني وبعبارات قصيرة، فيكبرون هذا الكلام الذي تضمن هذه المعاني، وهكذا.
نحن حينما نتحدث عن قضية التفسير، وأنه ينبغي أن يتحرز الإنسان فيه، وأنه ليست قضية سهلة، وأنه القضية ليست مجرد أن يحضر الشخص درساً من تفسير ابن كثير، ومن تفسير السعدي، ومن تفسير القرطبي، ثم يأتي ويقدمه لطلابه، فالذي لم تكن له معاناة مع العلم النظري، ودراسة جيدة فيه فإنه لا يدرك ما يقول.
لذلك عندما تأتي وتذكر لهم قضايا أصول التفسير وقواعد التفسير مفصلة، وتفرع عليها، وتأتي بها بطريقة الدراسة التخصصية -كما يقال- فالنتيجة إما إحباط يحصل عند البعض، فيقولون: هذا أمر بعيد المال، وإما أن تجد حماساً لدى البعض الآخر فنجدهم يقولون: نحن أدركنا القضية الآن وأنها ليست كما كنا نظن!.
وهذا شيء جربته حيث تحدثت عن قضية التفسير، وما يحتاج إليه المفسر، وكيف نقدم درساً في التفسير، فوجدت الناس يستروحون لهذا الكلام ويظنون لأول وهلة أنهم يستطيعون تطبيقه.
وتحدثت في دروس كثيرة مع أناس لهم اهتمام بدراسة القرآن وتدريسه والتفسير، فكانت النتيجة أن بعضهم يقول: أنا الآن أشعر أنني متطفل على كلام الله ، ولا يحق لي أن أقدم لطلابي شيئاً، والآخر يقول: أنا أدركت أن الذي كنت فيه إنما هو لون من العبث، فما هو الحل؟ ...الخ.
كذلك أذكر أحد المشايخ الذين درسونا مسائل الإعجاز في القرآن والبلاغة كان يقول وهو يتكلم بوجه معبر: أحياناً أقرأ القصيدة وأبكي كثيراً، وأحياناً أقرؤها فأضحك كثيراً، فكان بعض الطلاب ينظرون إليه بشيء من الاستهزاء، وكان أحدهم يلتفت على زملائه ويعلق قائلاً: ما رأينا شيئاً يستوجب هذا التأثر الذي يتكلم عنه، والسبب في هذا الاستغراب أن الحس معدوم، وبالتالي ما يتحرك الإنسان وما يتأثر.
قرأتُ تقريراً لأحد اليهود في الجامعة العبرية حيث كلف بوضع ترجمة للقرآن باللغة العبرية الحديثة، حيث أرادوا تكليف هذا الأستاذ بوضع ترجمة باللغة العبرية الحديثة فترجم نصف القرآن، فكتب تقريراً ونُشر، وكان مما ذكر في مضامين هذا التقرير أن هذا القرآن لا يمكن أن يترجم، وقال: تبقى قدراتنا عاجزة عن التعبير عن معانيه وعن الأوصاف الدقيقة فيه، فتجد وصفاً للجنة ووصفاً للنار، وتجد تفاصيل لا يمكن أن يعبر عنها المتاح من الكلام. ويقول: هذا فقط تقريب ومحاولة، ولكن إيصال معاني القرآن كما هي لا يمكن أبداً لأحد أن يفعله، وهكذا وقف عاجزاً عن تحقيق هذه الرغبة.
ولو قرأنا في كتب الإعجاز فإننا سنجد كثيراً من هذه الأمور والقضايا التي أشار إليها ابن كثير كقضية القصص مع أنها تتكرر في أكثر من موضع، وتأمل كيف يأتي بها في كل موضع بحسب المناسبة، فإذا كان في مكان قصم الظالمين جاء بها بطرقة تتناسب مع المقام، وإذا كانت في مقام بيان مناقب الرسل وصبرهم ودعوتهم، وما أشبه ذلك جاء بها بأسلوب يناسب هذا المقام وهكذا، فمن قرأ طريقة هذه الأشياء وما كتب فيها من كتب الإعجاز تنفتح له أبواب من هذه الأمور.
وإن وعد أتى بما يفتح القلوب والآذان ويشوق إلى دار السلام ومجاورة عرش الرحمن، كما قال في الترغيب: فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [سورة السجدة:17].
وقال : وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [سورة الزخرف:71].
وقال في الترهيب: أَفَأَمِنتُمْ أَن يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ [سورة الإسراء:68].
وقال: أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ أَمْ أَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء أَن يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ [سورة الملك:16-17].
وقال في الزجر: فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنبِهِ [سورة العنكبوت:40].
وقال في الوعظ: أَفَرَأَيْتَ إِن مَّتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ ثُمَّ جَاءهُم مَّا كَانُوا يُوعَدُونَ مَا أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُوا يُمَتَّعُونَ [سورة الشعراء:205-207]، إلى غير ذلك من أنواع الفصاحة والبلاغة والحلاوة.
وإن جاءت الآيات في الأحكام والأوامر والنواهي اشتملت على الأمر بكل معروف حسن نافع طيب محبوب، والنهي عن كل قبيح رديء دنيء كما قال ابن مسعود وغيره من السلف -رحمهم الله: إذا سمعت الله يقول في القرآن: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ فأرعها سمعك فإنها خير يأمر أو شر ينهى عنه، ولهذا قال تعالى: يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ الآية [سورة الأعراف:157].
وإن جاءت الآيات في وصف المعاد وما فيه من الأهوال، وفي وصف الجنة والنار وما أعد الله فيهما لأوليائه وأعدائه من النعيم والجحيم، والملاذ والعذاب الأليم، بشرت به وحذرت وأنذرت ودعت إلى فعل الخيرات واجتناب المنكرات وزهدت في الدنيا ورغبت في الآخرة، وثبتت على الطريقة المثلى، وهدت إلى صراط الله المستقيم وشرعه القويم، ونفت عن القلوب رجس الشيطان الرجيم.
الجهل والغفلة هي حجاب كثيف غليظ يغلف الإنسان، والعلم يزيح عنه ذلك ويذيبه عنه، كما تزول الأقذار والأوساخ أو الطبقات المتراكمة على الجلد بكثرة الغسل والفرك والمعالجة، فكلما ازداد الإنسان في العلم كلما اتسع نظره واتسع أفقه وصار يدرك من الكلام ما لا يدركه غيره، وينفتح له من أبواب الفهم ما لا ينفتح لغيره، ولذلك تجد ابن عباس يتمنى أن كل أحد يفهم من كل آية ما يفهمه هو، من كثرة المعاني التي يفهمها ويتمنى أن الآخرين يصلون إليها، ولذلك أقول: كلما استطعت أن تهذب الطبع، وأن ترقق النفس، وأن تجلو حجاب الغفلة عنك بكثرة المعالجة، فستجد أثر ذلك، لا سيما من يتعاطون التعليم، أقصد الذين يدرِّسون.
فلا يصلح أن يكون هذا الإنسان تغلفه هذه الطبقة الكثيفة من الجهل، بل ينبغي أن نجاهد النفس، وهذا يحتاج إلى شيء من المعاناة والتعب في البداية ثم يتحول إلى تلذذ بالعلم، فكلما ازداد الإنسان تبصراً في العلم كلما ارتفع وأشرقت نفسه، فالنفس تشرق، وتحلق وترتفع إلى الأعلى، وحينئذ لا يكون همها في معافسة الملاذ الحسية من المأكول والمشروب وغيره مما يجد الناس فيه غاية لذتهم ممن هم دون صاحب هذه النفس، فهو لذته في المعارف وتحصيل العلوم، واكتشاف الاستنباطات، والعمل بالعلم لمن وفقه الله، والله يوفق من شاء إلى ما شاء، لكن النفس تحتاج إلى شيء من المعالجة، فالرجل البعيد أمامه حجاب غليظ يؤثر في حسه ويؤثر في عمله، ويؤثر في أخلاقه، ويؤثر في اهتماماته، فإذا هذبه العلم وفركه ظهر الجوهر، والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، والحمد لله رب العالمين.