الخميس 26 / جمادى الأولى / 1446 - 28 / نوفمبر 2024
[96] قوله تعالى: {وَلاَ تَنكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ} الآية 221
تاريخ النشر: ١٧ / صفر / ١٤٢٦
التحميل: 4355
مرات الإستماع: 2396

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

قال المفسر -رحمه الله تعالى- في تفسير قوله:

وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاء اللّهُ لأعْنَتَكُمْ الآية [سورة البقرة:220].

روى ابن جرير عن ابن عباس -ا- قال: لما نزلت: وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [سورة الأنعام:152]، وقوله: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا [سورة النساء:10]، انطلق من كان عنده يتيم فعزل طعامه من طعامه، وشرابه من شرابه، فجعل يفضل له الشيء من طعامه فيحبس له حتى يأكله أو يفسد، فاشتد ذلك عليهم، فذكروا ذلك لرسول الله ﷺ، فأنزل الله: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ، فخلطوا طعامهم بطعامهم وشرابهم بشرابهم"[1] وهكذا رواه أبو داود والنسائي والحاكم في مستدركه، وهكذا ذكر غير واحد في سبب نزول هذه الآية كمجاهد، وعطاء، والشعبي، وابن أبي ليلى، وقتادة، وغير واحد من السلف والخلف.

وروى وكيع بن الجراح عن عائشة -ا- قالت: إني لأكره أن يكون مال اليتيم عندي على حدة، حتى أخلط طعامه بطعامي، وشرابه بشرابي، فقوله: قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ أي على حدة، وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ أي وإن خلطتم طعامكم بطعامهم وشرابكم بشرابهم فلا بأس عليكم؛ لأنهم إخوانكم في الدين، ولهذا قال: وَاللّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ أي يعلم مَن قصده ونيته الإفساد أو الإصلاح.

وقوله: وَلَوْ شَاء اللّهُ لأعْنَتَكُمْ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ أي ولو شاء الله لضيق عليكم وأحرجكم، ولكنه وسع عليكم، وخفف عنكم، وأباح لكم مخالطتهم بالتي هي أحسن كما قال تعالى: وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [سورة الأنعام:152]، بل قد جوز الأكل منه للفقير بالمعروف، إما بشرط ضمان البدل لمن أيسر أو مجاناً، كما سيأتي بيانه في سورة النساء إن شاء الله وبه الثقة.

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد الله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فلما تهدد الله وتوعد الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً بقوله: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا [سورة النساء:10]، وقع الحرج لدى الناس، فصاروا يعزلون طعامهم عن طعامهم، ويضعون طعامهم في إناء، وطعام اليتيم في إناء مختلف، وإذا أبقى اليتيم طعاماً فلا ينتفع به أحد، بل يترك حتى يفسد، فلحق بالناس مشقة شديدة جراء ذلك، فأنزل الله التخفيف عليهم بقوله سبحانه: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ 

والمعنى: أنْ تثمر ماله وتقوم بإصلاحه دون مخالطة، أو تأخذ شيئاً منه لقيامك عليه، ورعايتك للمال ولصاحبه اليتيم دون إجحاف فهذا أفضل؛ لما في هذا الصنيع من صيانة لمال اليتيم وحفظ ورعاية له، وللمفسرين أقوال في تأويل الآية، لكن هذا من أقربها ومن أكثرها ملاءمة للسياق، ويعتبر من أحسن ما تفسر به الآية، ولفظة خير في الآية يمكن أن تكون بمعنى أفعل التفضيل: "أخير"، ومعلوم أن صيغة خير وشر تأتي بمعنى التفضيل أحياناً، كما قال ابن مالك -رحمه الله:

وغالباً أغناهم خير وشر عن قولهم أخير منه وأشر
وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ المخالطة قيل: المعاشرة، وقيل: هي المصاهرة التي وردت في سورة النساء: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَامَى فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ [سورة النساء:3] إذ إن المعنى المشهور للآية: إن خفتم أن لا تعدلوا في اليتيمة ويقع منكم ظلم تجاهها فلا تنكحوهن، إذ إن الظلم الواقع على اليتيمة أعظم من الذي يقع على غيرها، وقد قال الله لنبيه: فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ [سورة الضحى:9]، فاليتيم له حق زائد؛ لأنه بحاجة إلى مزيد رعاية وعناية تعويضاً له عما فقده من الأبوة.

والصواب؛ أن المقصود بالآية إنما هو المخالطة في المال والنفقة لكونهما سببا التحرج، فلذلك يدخلان في الآية دخولاً أولياً، والمخالطة في المال والنفقة تقع على صور متعددة، يقدرها ولي اليتيم بحسب استهلاكه من النفقة في قوته ومعاشه تماشياً مع العرف السائد بين الناس، ويحسب حساب القائم على مال اليتيم بالتربية وحسن التنشئة إذا كان محتاجاً فقيراً، فله أن يأكل من مال اليتيم بالمعروف وهو حق ضمنه الله له بقوله: وَمَن كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ [سورة النساء:6]. 

ومن المعروف أن لا تكون النفقة التي يتعاطاها على سبيل التوسع أو التقتير، أو من المبادرة والاستغلال لماله قبل أن يبلغ سن الرشد، كما قال الله : وَابْتَلُواْ الْيَتَامَى حَتَّىَ إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَن يَكْبَرُواْ [سورة النساء:6]، يريد أن يقول: ادفعوا أموال يتاماكم أيها الولاة والأوصياء، ولا تأكلوها مسرفين في الأكل ومبادرين بالأخذ خشية أن يكبروا، بأن تفرطوا في إنفاقها وتقولوا: ننفقها كما نريد قبل أن يكبر اليتامى فينتزعوها من أيدينا.

ولهذا عقّب بقوله: وَاللّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ جملة على قِصر لفظها واختصارها إلا أنها حملت معنى عظيماً لا يقوم غيرها مقامها في تأديته، إذ إن الكثير من الأمور قد لا يعلمها الناس، ولا يستطيعون الحكم عليها بالصواب والخطأ عند التصرف؛ لأن هذا يرجع إلى قضايا تتعلق بالعرف والحاجة، فيبقى قوله: وَاللّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ

فالمصلح: من قصد حفظ مال اليتيم وصيانته ورعايته، والمفسد: من قصد استغلال مال اليتيم لحظوظه ومصالحه الشخصية، والله المطلع على خفايا النفوس وما تضمره الصدور، فمثل هذه الآية تجعل الإنسان يعامل الله في تصرفاته إزاء هذا اليتيم وماله، لأنه يعلم أنه إن خفي على الناس تصرفه، فإنه لن يخفى على الله الذي قال عن نفسه: إِنَّ اللّهَ لاَ يَخْفَىَ عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء [سورة آل عمران:5].

قوله: وَلَوْ شَاء اللّهُ لأعْنَتَكُمْ العنت: هو الضيق والشدة، فإذا شدد عليكم لحقكم الحرج، والله أعلم.

وَلاَ تَنكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلاَ تُنكِحُواْ الْمُشِرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُواْ وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُوْلَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللّهُ يَدْعُوَ إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ [سورة البقرة:221].

هذا تحريم من الله على المؤمنين أن يتزوجوا المشركات من عبدة الأوثان، ثم إن كان عمومها مراداً وأنه يدخل فيها كل مشركة من كتابية ووثنية، فقد خص من ذلك نساء أهل الكتاب بقوله: وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ [سورة المائدة:5].

وَلاَ تَنكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ أل في المشركات للجنس، وذلك يشمل كل مشركة بلا استثناء، فيدخل فيها أمم الكفر قاطبة بما فيهم اليهود والنصارى؛ لأنهم من المشركين، فاليهود قالوا: عزير ابن الله، والنصارى قالوا: المسيح ابن الله، وإن كان الشرك في النصارى أكثر منه في اليهود، إلا أن الكفر ملة واحدة، فبهذا الاعتبار يدخل اليهود والنصارى في عموم المشركين.

لكن جاءت الإباحة بنكاح نساء أهل الكتاب في قوله -تبارك وتعالى- في سورة المائدة: وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلُّ لَّهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ [سورة المائدة:5] فهل نسخت هذه الآية بعض ما دخل تحت آية البقرة، أو يكون هذا من قبيل التخصيص -فنقول: هذه عامة، وتلك خاصة في أهل الكتاب، والعام يحمل على الخاص؟ لا شك أن القول بالتخصيص هو الأسهل والأقرب؛ لأن التخصيص بيان، والنسخ رفع، ومن الفروق بينهما:

  • أن النسخ لا يثبت بالاحتمال، بينما التخصيص يثبت بالاحتمال.
  • النسخ فيه إهدار لأحد النصين، بخلاف التخصيص ففيه إعمال للنصين.
  • النسخ له شروط ذكرها العلماء لم يذكروها في التخصيص.

والمقصود من سرد الفروق أن يُعلم أن التخصيص أخف أثراً من النسخ، ولذا فالقول بالتخصيص هو الأولى من القول بالنسخ؛ لأن فيه إعمالاً لكلا الدليلين، وإعمال كلا الدليلين أولى من إهمال أحدهما.

وذهب بعض أهل العلم إلى القول بأن الآية لا نسخ ولا تخصيص فيها، واستدلوا بقوله تعالى: وَلاَ تَنكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ ووجهوا الآية بأن التحريم يخص نساء المشركات دون نساء أهل الكتاب، بدليل أن الله فرق بين الاثنين في مثل قوله: لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ [سورة البينة:1]، فأهل الكتاب بنص الآية لا يدخلون في عموم المشركين وبالتالي فلا نسخ ولا تخصيص؛ لأن هذه إنما تحرّم نكاح المشركات كالبوذية والمجوسية ...، وسائر صنوف أهل الشرك بما فيهم الملاحدة.

والأقرب أن أهل الكتاب داخلون في عموم المشركين، فتشملهم الآية، وإنما أخرجوا منها بتخصيص الآية الأخرى التي في سورة المائدة، وإليه ذهب ابن كثير، والله تعالى أعلم.

ومن أهل العلم من أخذ بظاهر الآية وقال: لا يجوز التزوج بالكتابية أصلاً، باعتبار أن هذه الآية ناسخه لآية المائدة وهذا من أغرب الأقوال؛ لأن سورة البقرة من أول ما نزل في المدينة، وسورة المائدة من آخر ما نزل من الأحكام، ولم ينسخ منها شيء، حتى إن الصحابة كانوا يكتفون أحياناً بالتعبير عن الشيء أنه لم ينسخ بكونه نزل في سورة المائدة، فيعدونه من المحكم الذي لم يتطرق إليه نسخ، وقولهم هذا يقتضي مخالفة ما جاء عن عامة أهل العلم من جواز التزوج بالكتابية.

وَلأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ [سورة البقرة:221]، الأمة تحتمل أمرين:

الأول: أن تكون الحرة باعتبار أنها أمة الله، ولذا عند ندائها يقال: يا أمة الله، ويعنون المرأة المؤمنة.

الثاني: أن تكون المرأة الرقيقة المملوكة، والمعنى أن تتزوج جارية مؤمنة أفضل من أن تتزوج تلك الحرة الكتابية مهما كان نسبها أو جمالها أو أحسابها أو غير ذلك، هذا هو الظاهر المتبادر.

وإن كان التزوج بالمملوكة لم يرغب الشارع فيه إلا في حالة ما إذا خشي الإنسان على نفسه العنت –الزنا؛ كما قال سبحانه: وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً أَن يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِن مِّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ [سورة النساء:25]، ثم خص ذلك وقيده بقوله: ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ، وتبعه بقوله: وَأَن تَصْبِرُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ؛ ذلك لأن أولاده من الأمة إذا دخل بها سيكونون أرقاء تبعاً لأمهم، يتصرف فيهم كما يتصرف في العبيد بيعاً وشراءً، بخلاف الأمة إذا تسرى بها فإن الأولاد سيكونون أحراراً تبعاً لسيد الأمة.

وكذلك قوله: وَلاَ تُنكِحُواْ الْمُشِرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُواْ وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ والمعنى أن الرقيق أفضل من الحر المشرك، هذا هو ظاهر المعنى من الآية، واختاره جمع من المحققين، ومنهم كبير المفسرين ابن جرير الطبري -رحمه الله- حيث رأي أن الآية من العام المراد به الخصوص.

والعام عند الأصوليين ثلاثة أنواع:

  • العام الباقي على عمومـه.
  • العام المراد به الخصوص.
  • العام المخصوص.

قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس -ا- في قوله: وَلاَ تَنكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ [سورة البقرة:221]، استثنى الله من ذلك نساء أهل الكتاب، وهكذا قال مجاهد، وعكرمة، وسعيد بن جبير، ومكحول، والحسن، والضحاك، وزيد بن أسلم، والربيع بن أنس وغيرهم.

وقيل: بل المراد بذلك المشركون من عبدة الأوثان، ولم يرد أهل الكتاب بالكلية، والمعنى قريب من الأول والله أعلم.

قول ابن كثير: والمعنى قريب من الأول، لا يترتب عليه شيء مختلف من ناحية النتيجة النهائية، لأن هذا إما أن يكون من العام المراد به الخصوص، فتكون هذه الآية عامة خصتها الآية الثانية، فأخرجت بعض أفراد المشركين وهم أهل الكتاب، أو أن آية البقرة قصدت نوعاً من المشركين وهم أهل الأوثان، والنتيجة النهائية جواز التزوج بالكتابية.

لكن قول من قال: إن هذه الآية في سورة البقرة ناسخة لآية المائدة فيه إشكال. 

وقيل: هو أحد قولي الشافعي -رحمه الله- فيما نقل عنه، وابن المنذر صاحب كتاب "الإجماع" ينفي أن يكون ذلك عرف عن أحد من المتقدمين من السلف -، لكن الصحيح أنه ثبت عن بعض السلف القول بالمنع في مسألة التزوج من الكتابية كابن عمر وغيره، وحملوا آية المائدة على بعض المحامل. 

ولا بد أن يعلم أن هناك فرقاً من الناحية الصناعية في هذا المنع، إذ قد تصل إلى نتيجة واحدة في قولين، أحدهما: يكون أحياناً مبنياً على القياس، ومعلوم أن القياس لا بد له من النظر بالأركان الأربعة، فإذا انطبقت وتوفرت اعتبرنا القياس، وإذا قلنا: إنه أصلاً ليس بقياس فلا اعتبار له، والنتيجة واحدة. 

فالحكم بأن هذه الآية عامة خص منها بعض الأفراد، أو أنها من العام المراد به الخصوص، أو تلك الآية تكلمت عن نوع، وهذه الآية تكلمت عن نوع، من الناحية الصناعية لا يؤثر في الحكم النهائي، وإن كان يؤثر على أشياء في النص نفسه، فمثلاً من الأصوليين من قال -وهو قول لبعض أصحاب المذاهب: إن التخصيص يعد من قبيل النسخ. 

فإذا طالعنا شروط النسخ عنده وجدناها لا تتطابق مع التخصيص، ويترتب عليه عند النظر في النصوص قضية أخرى، وهي أن النص الذي لم يتطرق إليه التخصيص، أقوى من النص الذي تطرق إليه التخصيص؛ لأن ذلك يضعفه، ولهذا العلماء مختلفون في العمل بالدليل الذي دخل عليه التخصيص، فالجمهور يرون العمل به في باقي الأفراد وهذا عليه أدلة، ليس هذا موضع الكلام عليها، إنما الشاهد أن الآخرين يقولون لا يعمل به، ويرون السبب أن هذا صار مجازاً، ليس بحقيقة، لأن اللفظ العام بعد إخراج بعض الأفراد منه، انتزع منه العموم، ولم يعد يصدق على كل الأفراد، بل على بعضها، فيبطل العموم فيه وينتقض، وإذا انتقض العموم فلا يمكن العمل به في باقي الأفراد.

كذلك في باب التعارض والترجيح بين الأدلة يذكرون نحو مائة طريق للترجيح، منها العام الذي لم يتطرق إليه التخصيص فيجعلونه أقوى كحديث لا صلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس، ولا صلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس[2] الذي دل على الخصوص مع حديث: من نسي صلاة فليصلِّ إذا ذكرها لا كفارة لها إلا ذلك[3] فكيف نصنع إزاء هذه النصوص المتعارضة في ظاهر الأمر؟

إن من وجوه الجمع أن يقال: حديث من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها عام في الأوقات، خاص في الصلوات المنسية والتي نام عنها، والثاني: لا صلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس، ولا صلاة... هذا عام في الصلوات، خاص في الأوقات، فجاء تخصيص لا صلاة بعد الصبح... في بعض الصور.

وقد يقول قائل: الثاني باقي على خصوصه فيستثنى من الحديث، ومنهم من يجمع بطرق أخرى، فالمقصود أن هذا يؤثر عند النظر في النصوص، لكن قد تكون النتيجة واحدة فيما يتعلق بالمسألة التي أمامنا من العام الذي تطرق إليه التخصيص، والله أعلم.

قال أبو جعفر بن جرير -رحمه الله تعالى- بعد حكايته الإجماع على إباحة تزويج الكتابيات.

يقصد بحكاية الإجماع أنه قول الأكثر؛ لأنه وجد من خالف هذا القول وهم قليل منهم عمر بن الخطاب .

وإنما كره عمر ذلك لئلا يزهد الناس في المسلمات.

هذا من السياسة الشرعية المناطة بمراعاة المصلحة العامة بحسب نظر الإمام، فله الحق أن يمنع التزوج من الكتابيات، إذا أعرض الناس وزهدوا في التزوج من المسلمات، مما مؤداه أن تبقى نساء المسلمين عوانس في البيوت.

أو لغير ذلك من المعاني كما روى أبو كريب عن شقيق قال: تزوج حذيفة يهودية، فكتب إليه عمر خل سبيلها، فكتب إليه أتزعم أنها حرام فأخلي سبيلها؟ فقال: لا أزعم أنها حرام، ولكني أخاف أن تعاطوا المومسات منهن. وهذا إسناده صحيح.

فعمر بن الخطاب إنما منع الزواج من الكتابيات لكون الفساد والانحراف ومقارفة الفواحش غالباً فيهن، فلا يؤمن جانبهن، ويخشى على الرجل أن يخنّه في عرضه، فينبغي للمسلمين أن لا يتساهلوا في القران بهن والزواج منهن لأجل مثل هذه الأمور.

وروى ابن جرير عن زيد بن وهب قال: قال عمر بن الخطاب -: المسلم يتزوج النصرانية، ولا يتزوج النصراني المسلمة، قال وهذا أصح إسناداً من الأول.

هذا مما يؤكد أن عمر بن الخطاب لم يقصد التحريم المطلق في منعه التزوج من الكتابيات، وحذيفة بن اليمان موطن سر الرسول ﷺ- كما سبق تزوج يهودية، فالزواج منهن جائز ولا حرج على من أقدم على ذلك، لكن مما ينبغي النظر إليه عند طلب القران بهن هو النظر في الآثار السلوكية والعواقب الوخيمة خاصة في هذا العصر، ومعلوم كم من أسر ضاعت بما فيها الأولاد والبنات جراء التهاون بهذه القضية.

وملمح آخر نستطيع أن نستشفه من زواج المسلم بكتابية يهودية أو نصرانية، وهو مدى أثر الإعلام في صناعة عقول الناس، فمثلاً لو بلغنا أن أحد طلبة العلم تزوج يهودية، لكانت هذه في حقه أعظم مسبة ومدعاة للشناعة عليه، والقدح فيه، وتوجيه التهمة إليه، بل يكفي أن يقال: إنه متزوج يهودية، بالرغم من أن صحابياً جليلاً كحذيفة بن اليمان تزوج بيهودية، صحيح أن الزواج من اليهودية مصدر للتوجس والاستفزاز ولا إشكال في ذلك، لكن الكلام في الحكم هل يجوز أو لا ما يجوز؟

فلا يقال في إنسان تزوج يهودية: إنه سقطت عدالته ومروءته....، ويتهم في الدين، وهناك فرق بين من يقترن بكتابية؛ لأنه معجب بقومها، ومنصهر في بوتقتهم، ومولع بحضارتهم، غارق في مستنقعهم الآسن، متنكر لدينه وأمته، وبين من يقترن بيهودية وهو متمسك بدينه، ثابت علي مبدئه. 

والخلاصة أن التزوج بالكتابية أمر غير سائغ، والإقدام عليه فيه من المفاسد والمخاطر ما لا يحمد عقباه، وإذا استطاع المسلم أن يتخلى على الالتصاق بكتابية فهو خير وأفضل وأصوب، والله أعلم.

وقد روى ابن أبي حاتم عن ابن عمر -ا- أنه كره نكاح أهل الكتاب، وتأول وَلاَ تَنكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ.

بمعنى أنه حمل هذه الآية على عموم المشركات والكتابيات باعتبار أن الكفر والشرك ملة واحدة.

وقال البخاري: قال ابن عمر -ا: لا أعلم شركاً أعظم من أن تقول: ربها عيسى.

ومن محامل التأويل القول بأنه تعارضَ المبيح والحاظر، وعند الترجيح معلوم أنه يقدم الحاظر على المبيح؛ لأنه أكثر صيانة واحتياطاً للدين، إلى غير ذلك من أوجه التأويل، لكن الراجح الذي عليه عامة أهل العلم هو جواز ذلك، ولا يصح إدعاء الإجماع في ذلك لوجود المخالف.

وقد ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال: تنكح المرأة لأربع: لمالها، ولحسبها، ولجمالها، ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك[4].

فإذا كانت الشريعة ترغب في الزواج من ذات الدين، فماذا عسى الإنسان أن يجد عند الالتصاق بيهودية أو نصرانية من الدين إلا الضلال، وإذا كانت تقوم على تربية أولاده، وتنشئتهم ورعايتهم، فإن الخطب أفدح، والمأمول أفضح، وما الذي ينتظره الرجل من مستقبل أولاده مع امرأة تدين بغير دينه!!.

ومما يمكن أن يقال عند النظر في هذه النصوص: إن القاعدة والأصل في الفروج الحظر، كما إن الأصل في العبادات المنع كما قال النبي ﷺ: من أحدث في أمرنا هذا[5]، فلو قال قائل من المانعين: هذه آيةٌ أباحتها في ظاهرها، وهذه آية حرمتها، فنبقى على الأصل وهو المنع، فهذا قول مرجوح ومحتمل، وله متمسك من الأدلة، فلا بد أن يتسع له صدر المخالف،؛ لأن المطلوب النظرة الواسعة في النصوص، وفي مآخذ العلماء، والاطلاع على مبرراتهم عند الجنوح إلى هذا الرأي أو ذاك.

ولمسلم عن جابر مثله، وله عن ابن عمر -ا- أن رسول الله ﷺ قال: الدنيا متاع، وخير متاع الدنيا المرأة الصالحة[6]، وقوله: وَلاَ تُنكِحُواْ الْمُشِرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُواْ [سورة البقرة:221] أي: لا تزوجوا الرجال المشركين النساء المؤمنات كما قال تعالى: لَا هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ [سورة الممتحنة:10].

استنبط الفقهاء من قوله سبحانه: وَلاَ تُنكِحُواْ الْمُشِرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُواْ حكماً وهو أن المرأة لا تتزوج إلا بولي؛ لأنه قال: وَلاَ تُنكِحُواْ والمعنى: لا تزوِّج يا ولي المرأة المشرك ما بقي على شركه، ولم يقل: ولا تَنكح المؤمناتُ المشركين، وجعلوا هذا الفهم من الآية عاضداً لقول النبي ﷺ: أيما امرأة نكحت نفسها بغير إذن وليها، فنكاحها باطل[7].

ثم قال تعالى: وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ [سورة البقرة:221]، أي: ولرجل مؤمن ولو كان عبداً حبشياً، خير من مشرك وإن كان رئيساً سرِياً.

ابن كثير لم يحمل الآية على خصوص الحر أو العبد، وهذا تفسير جيد منه، فإذا كان الله فضل العبد المؤمن على الكافر، فمن باب أولى القول: إن المؤمن الحر أفضل من المشرك، فجمع –رحمه الله- بين القولين بهذه العبارة الوجيزة.

أُوْلَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ، أي: معاشرتهم ومخالطتهم تبعث على حب الدنيا، واقتنائها، وإيثارها على الدار الآخرة، وعاقبة ذلك وخيمة، وَاللّهُ يَدْعُوَ إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ، أي: بشرعه، وما أمر به وما نهى عنه، وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ.

قوله سبحانه: أُوْلَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ ليست دعوتهم محتكرة في المخالطة والمعاشرة التي تبعث على حب الدنيا، وإيثارها، بل تشمل الدعوة في جميع المناحي كالدعوة إلى مذاهبهم الباطلة، ونحلهم المحرفة، وآرائهم الفاسدة. 

ومعلوم أن الناس أسرى لعقائدهم وأفكارهم، ولذا تجدهم أكثر تحمساً لدعوة الناس إليها، وهذه طبيعة، وسجية في الإنسان، فإذا اقتنع بشيء فتجده كثيراً ما يدافع وينافح عنه، حتى لو كان في الأشياء البسيطة، وإذا أعجب بشخص يتبناه، ويجادل ويخاصم عنه، وقد يصل به الحد إلى الإطراء والثناء عليه كلما جلس في مجلس، أو جاءت مناسبة لذكره، ويريد من جميع الناس أن ينظروا بنفس النظرة التي ينظر بها إليه، فما بالك إذا كانت القضية عقيدة ومذهباً!! 

ولذلك تجد أصحاب العقائد تلح عليهم عقائدهم، وهو يكتب في التفسير، ويكتب في اللغة، ويكتب في أصناف الفنون، تجد هذا النفس في كتاباته، ويبحث عما يؤيدها، ولا يستطيع التخلص مهما حاول أن يتجرد إلا أن هذه اللوثة تلاحقه، فالناس أسرى لأفكارهم معتقداتهم.

وَاللّهُ يَدْعُوَ إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ أي: بشرعه، وما أمر به ونهى عنه، وبينه غاية البيان بهذا القرآن، وبما أنزل على الرسول ﷺ مما يوصلكم إلى مرضاته حيث بين الصراط المستقيم بياناً شافياً، وأمركم باتباعه والسير عليه لتدركوا الفلاح المبين.

والله أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه محمد وآله وصحبه أجمعين.

  1. رواه أبو داود برقم (2873) (3/73)، والنسائي برقم (3669) (6/256)، والحاكم في مستدركه برقم (2499) (2/113)، وحسنه الألباني في صحيح وضعيف سنن أبي داود برقم (3669).
  2. رواه البخاري في كتاب مواقيت الصلاة – باب لا يتحرى الصلاة قبل غروب الشمس برقم (130) (1/281).
  3. رواه البخاري في كتاب مواقيت الصلاة – باب من نسي الصلاة فليصل إذا ذكرها ولا يعيد إلا تلك الصلاة برقم (572) (1/215)، ومسلم في كتاب المسجد ومواضع الصلاة – باب قضاء الصلاة الفائتة واستحباب تعجيل قضائها برقم (684) (1/477).
  4. رواه البخاري في كتاب النكاح – باب الأكفاء في الدين برقم (4802) (5/1958)، ومسلم في كتاب الرضاع –باب استحباب نكاح ذات الدين (1466) (2/1086).
  5. رواه البخاري في كتاب الصلح – باب إذا اصطلحوا على صلح جور فالصلح مردود برقم (2550) (2/959)، ومسلم في كتاب الأقضية –باب نقض الأحكام الباطلة ورد محدثات الأمور برقم (1718) (3/1343).
  6. رواه مسلم في كتاب الرضاع – باب خير متاع الدنيا المرأة الصالحة برقم (1467) (2/1090).
  7. رواه أبو داود برقم (2085) (2/190)، والترمذي برقم (1102) (3/407)، وابن ماجه بلفظ: أيما امرأة لم ينكحها الولي .... برقم (1879) (1/605).

مواد ذات صلة