الخميس 26 / جمادى الأولى / 1446 - 28 / نوفمبر 2024
[103] تتمة قوله تعالى: {وإذا طلقتم النساء} الآية 232.
تاريخ النشر: ٢٦ / صفر / ١٤٢٦
التحميل: 3574
مرات الإستماع: 2406

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

قال المفسر -رحمه الله تعالى:

هذا إرشاد من الله تعالى للوالدات أن يرضعن أولادهن كمال الرضاعة وهي سنتان، فلا اعتبار بالرضاعة بعد ذلك ولهذا قال: لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ [سورة البقرة:233]، فلا يحرم من الرضاعة إلا ما كان دون الحولين، فلو ارتضع المولود وعمره فوقهما لم يحرم.

قال الترمذي: باب ما جاء أن الرضاعة لا تحرم إلا في الصغر دون الحولين.

ثم روى عن أم سلمة -ا- قال: قال رسول الله ﷺ: لا يحرم من الرضاع إلا ما فتق الأمعاء في الثدي وكان قبل الفطام[1]، وقال: هذا حديث حسن صحيح، والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم من أصحاب رسول الله ﷺ وغيرهم أن الرضاعة لا تحرم إلا ما كان دون الحولين، وما كان بعد الحولين الكاملين فإنه لا يحرم شيئاً.

قلت: تفرد الترمذي برواية هذا الحديث، ورجاله على شرط الصحيحين.

ومعنى قوله: إلا ما كان في الثدي أي: في محل الرضاعة قبل الحولين، كما جاء في الحديث الذي رواه أحمد عن البراء بن عازب قال: لما مات إبراهيم ابن النبي ﷺ قال: إن ابني مات في الثدي، إن له مرضعاً في الجنة[2].

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فقد مضى الكلام على قوله تعالى: وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وما يتعلق به من مسائل، مما يغنينا عن الإعادة.

لكن ينبغي أن نفهم أن مراده ﷺ في قوله: ما كان في الثدي أي: ما كان في فترة الرضاع، وهي في العامين الأولين من حياة الطفل، ولذا إذا قيل: فلان لازال في الثدي، فإنهم يعنون بذلك أنه لم يتجاوز فترة الرضاع، والله أعلم.

ويؤيده ما رواه الدارقطني عن ابن عباس -ا- قال: قال رسول الله ﷺ: لا يحرم من الرضاع إلا ما كان في الحولين[3].

قلت: وقد رواه الإمام مالك في الموطأ عن ثور بن زيد عن ابن عباس -ا- مرفوعاً.

ورواه الدراوردي عن ثور عن عكرمة عن ابن عباس -ا- وزاد: وكان بعد الحولين فليس بشيء[4] وهذا أصح.

وقد روي في الصحيح عن عائشة -ا: أنها كانت ترى رضاع الكبير يؤثر في التحريم، وهو قول عطاء بن أبي رباح، والليث بن سعد، وكانت عائشة -ا- تأمر بمن تختار أن يدخل عليها من الرجال لبعض نسائها فترضعه، وتحتج في ذلك بحديث سالم مولى أبي حذيفة -: حيث أمر النبي ﷺ امرأة أبي حذيفة أن ترضعه وكان كبيراً، فكان يدخل عليها بتلك الرضاعة، وأبى ذلك سائر أزواج النبي ﷺ، ورأين ذلك من الخصائص وهو قول الجمهور.

وهذا جاء صريحاً في بعض الروايات عن أم سلمة -ا- أنها أنكرت ذلك على عائشة –ا- ورأت أن ذلك مختص بسالم مولى أبي حذيفة ، وهذا الذي سار عليه جماهير العلماء سلفاً وخلفاً أن رضاع الكبير لا يؤثر في المحرمية، إلا أن شيخ الإسلام يرى جواز ذلك للحاجة، وأن الواقعة ليس فيها دليل على اختصاصها بسالم، والعلم عند الله.

وقوله: وَعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ أي: وعلى والد الطفل نفقة الوالدات وكسوتهن بالمعروف.

قيل: الآية عامة في عموم النساء، وبعض أهل العلم يرى أن الآية خاصة بالمطلقات، والأصل أنه لا يلزمها إرضاع ولدها في حال الخيار، ولها الحق أن تأخذ أجرة مقابل هذا الإرضاع، وتطالب بالكسوة والنفقة، وأوجب العلماء عليها إرضاع ابنها في صور معدودة منها:

  • إذا لم يقبل الرضاع إلا من ثدي أمه.
  • إذا كان الأب معدماً فقيراً لا يملك نفقة المرضعة.
  • إذا فقدت المرضعات في البلد بعد البحث والتحري.

وهنا مسألة: إن ثبت أن الأب موسر والمراضع حاضرات فهل يجب على المرأة غير المطلقة أن ترضع الولد، وأن تطالب بالنفقة؟ أم أن هذا يختلف من امرأة لامرأة؟ كأن يقال الشريفة لا يجب عليها الإرضاع، والمرأة التي دونها في الشرف والمرتبة يجب عليها الإرضاع فيفرق بين النساء بهذا الاعتبار، هذه مسائل معروفة محلها الفقه.

لكن من رأى عموم الآية في المطلقات وغيرهن كالإمام أحمد وإسحاق بن راهويه ومن وافقهم، فإنهم لا يوجبون على المرأة أن ترضع الولد إلا في الحالات المذكورة، وبعضهم يخص الوجوب في أول الولادة حيث يكون لبن الأم اللِّبَأ؛ إذ يرون أنه لا غنى للصبي عنه أو للمولود بحال.

وبعضهم قال بالنسخ كما ينقل ابن عطية ويرويه عن قتادة أنه نزل أولاً: وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ... ثم نسخت بقوله تعالى: لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ إلا أن هذا القول متداع وضعيف؛ لأن الشيء إنما ينسخ بنقيضه، وما محمله هنا إلا أنّه نسخ في الأخف.

وآية سورة الطلاق واضحة الدلالة: وَإِن تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى [سورة الطلاق:6] فهي تدل على أن المطلقة لا شك أنها تستحق أجر الرضاعة، وأما غير المطلقة فهذا محل خلاف، ولعل الأقرب -والله أعلم- أن المرأة لا يجب عليها إرضاع الولد، ومن حقها أن تطالب بالنفقة والأجرة، والله أعلم.

وقوله: وَعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ أي: وعلى والد الطفل نفقة الوالدات وكسوتهن بالمعروف، أي: بما جرت به عادة أمثالهن في بلدهن من غير إسراف ولا إقتار، بحسب قدرته في يساره وتوسطه وإقتاره كما قال تعالى: لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا [سورة الطلاق:7].

في القرآن أشياء كثيرة أحال فيها على العرف منها هذه الصورة، والعرف يختلف بحسب الزمان والمكان، وحال الرجل وحال المرأة من الإعسار والإيسار، ويختلف من وقت إلى آخر، ومن بلد إلى بلد غيره، والعلماء تكلموا في المقدار الذي تعطاه الأم المرضعة فقالوا: ما اعتادت عليه في بيت أهلها من اللباس والطعام والسكنى فإن ذلك يطلب منه.

قال الضحاك: إذا طلق زوجته وله منها ولد فأرضعت له ولده، وجب على الوالد نفقتها وكسوتها بالمعروف.

وكلام الضحاك يعني به المرأة المطلقة.

وقوله: لاَ تُضَآرَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا أي: بأن تدفعه عنها لتضر أباه بتربيته، ولكن ليس لها دفعه إذا ولدته حتى تسقيه اللِّبَأ الذي لا يعيش بدون تناوله غالباً، ثم بعد هذا لها دفعه عنها إن شاءت، ولكن إن كانت مضارة لأبيه فلا يحل لها ذلك كما لا يحل له انتزاعه منها لمجرد الضِّرار لها، ولهذا قال: وَلاَ مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ.

قوله -تبارك وتعالى: لاَ تُضَآرَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا يحتمل معنيين من جهة التصريف:

الأول: لا تُضارِرُ بالرفع، ويكون ذلك على سبيل الإخبار، ويمكن أن تتضمن معنى النهي.

الثاني: لا تُضارِرَ بالنصب، ويكون ذلك على سبيل النهي، وكل واحد من هذين المعنيين تشهد له قراءة غير متواترة يمكن حمل معنى الآية عليها، وهذا الحمل يعتبر من قبيل المشترك اللفظي السائر على طريقة القرآن في التعبير عن الشيء بالألفاظ القليلة الدالة على المعاني الكثيرة، فالأم منهية أن تضار والد الصبي، وكذا والده منهي عن مضارة الأم، وهذا القول ذهب إليه كبير المفسرين ابن جرير الطبري -رحمه الله، والله أعلم.

وصلى الله وسلم وبارك على نبيه وآله وصحبه.

  1. رواه الترمذي برقم (1152) (3/458)، وصححه الألباني في صحيح وضعيف الجامع الصغير برقم (13591).
  2. رواه أحمد في مسنده برقم (18686) (4/300)، ورواه البخاري عن البراء عن النبي ﷺ قال: لما مات إبراهيم: إن له مرضعاً في الجنة في كتاب بدء الخلق –باب ما جاء في صفة الجنة وأنها مخلوقة برقم (3082) (3/1188).
  3. رواه الدارقطني بلفظ لا رضاع إلا ما كان... (10) (4/174).
  4. رواه البيهقي في السنن الكبرى برقم (15445) (7/426).

مواد ذات صلة