بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ومصطفاه سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.
قال الحافظ ابن كثير -رحمه الله تعالى:
وقوله تعالى: وَقُومُواْ لِلّهِ قَانِتِينَ [سورة البقرة:238] أي: خاشعين ذليلين مستكينين بين يديه، وهذا الأمر مستلزم ترك الكلام في الصلاة لمنافاته إياها، ولهذا لما امتنع النبي ﷺ من الرد على ابن مسعود حين سلم عليه وهو في الصلاة اعتذر إليه بذلك وقال: إن في الصلاة لشغلاً[1]، وفي صحيح مسلم أنه ﷺ قال لمعاوية بن الحكم السُلمي حين تكلم في الصلاة: إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هي التسبيح والتكبير وذكر الله[2].
وروى الإمام أحمد بن حنبل عن زيد بن أرقم قال: كان الرجل يكلم صاحبه في عهد النبي ﷺ في الحاجة في الصلاة، حتى نزلت هذه الآية: وَقُومُواْ لِلّهِ قَانِتِينَ، فأمرنا بالسكوت[3]، رواه الجماعة سوى ابن ماجه.
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فقد أورد بعض المفسرين في معنى القنوت ثلاثة عشر قولاً، وهذا الاشتراك في اللفظ مع الاختلاف في المعنى يعرف عند الأصوليين بالمشترك اللفظي، بحيث يكون للفظ في كل موضع معنى يفهم من السياق، ومدلولات الألفاظ قد تختلف بحسب الإفراد والتركيب كما هو مقرر عند علماء التفسير.
ولا شك أن استعمال هذه اللفظة في بعض المواضع يكون أعلق ببعض المعاني من المواضع الأخرى، فهنا جاء ذكر القنوت بعد أمر الله عباده بالمحافظة على الصلاة، قال سبحانه: حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى ثم قال: وَقُومُواْ لِلّهِ قَانِتِينَ، مما يؤكد أن هذا الأمر يتصل بالصلاة، ولذا فسر بعض السلف القنوت في الصلاة بمعنى السكوت.
وهذا المعنى من أقرب ما يفسر به القنوت في الآية، ذلك لأن الرواية جاءت نصاً في هذا المعنى، فقد كانوا يتكلمون في الصلاة فلما نزلت هذه الآية سكتوا، ولا يمكن الجزم بذلك؛ وذلك لأنه جاء عن النبي ﷺ قوله: أفضل الصلاة طول القنوت [4].
قال أهل العلم المقصود به: طول القيام، فلا يمكن أن يفسر هذا الحديث بطول السكوت؛ لأن السكوت لازم في الصلاة بإطلاق، وهذا مما يدلل على أن السياق هو الذي يبين المعنى من بين المعاني المتنوعة بما هو أعلق به في المقام.
وأحياناً في بعض المواضع لا بد من الترجيح، وتارة يمكن الجمع بين هذه المعاني التي تواردت على اللفظ الواحد، ولشيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية -رحمه الله- رسالة خاصة في القنوت ضمن بعض المجاميع، خرج فيها بنتيجة -بعد استقراء هذه اللفظة ودلالاتها في القرآن- أن القنوت يرجع إلى معنى واحد، وهو: دوام الطاعة.
وأما ما ذكره الحافظ ابن كثير -رحمه الله- في أن المراد من القنوت في الآية الخشوع والاستكانة بين يدي الله ، وقال: هذا الأمر مستلزم ترك الكلام في الصلاة لمنافاته إياها، فمراده أن هذا إنما هو معنىً من معاني القنوت وإلا فله معانٍ أخرى، فقد فسر القنوت بالطاعة، وفسر بالخشوع، والاستكانة، والسكون، والسكوت، وطول القيام ...
وأما طريقة الجمع فيمكن أن يقال: إن الله أمر أن يقوموا لله قانتين: أي مطيعين، ويدخل في هذه الطاعة السكوت في الصلاة وطول القيام والسكون والخشوع ...، وكل ما أمر الله به فهو داخل تحت الطاعة، وهذا ما اختاره كبير المفسرين ابن جرير الطبري -رحمه الله، إذ أدخل جميع هذه المعاني تحت الآية؛ باعتبار أن جميعها يدخل في طاعة الله -تبارك وتعالى.
ولهذا جاء أثر عن مجاهد -رحمه الله- يؤيد هذا، يقول: "من القنوت الركوع والخشوع وطول الركوع -يعني القيام، وغض البصر، وخفض الجناح والرهبة..." فكل هذه المعاني أدخلها مجاهد في القنوت، وقول مجاهد هذا موافق لما ذكره ابن جرير -رحمه الله، وهذا من التفسيرات الحسنة عن السلف التي توضح سعة نظرهم وشمول تفسيرهم للمعاني التي تحتملها الآية، وأنهم حينما يذكرون أحد هذه المعاني في كثير من الأحيان فإنما يقصدون بذلك التقريب والتمثيل لا الحصر، والله أعلم.
يعني هذا من باب اللازم -مستقبلي القبلة وغير مستقبليها، وإلا فأصل معنى رِجَالاً الذين يسيرون على أقدامهم كما قال سبحانه: وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا [سورة الحـج:27] يعني على أرجلهم راجلين، أَوْ رُكْبَانًا يعني كل من ركب شيئاً فإنه يقال له: راكب، والخلاصة أنه رخص لهم ذلك في حال الحرب، فمن مقتضيات ذلك أنهم يصلون على أحوال مختلفة من حيث جهة الاستقبال، والله أعلم.
إذا كان الناس يستطيعون أن يصلوا صلاة الخوف في حالة عدم المواجهة على الهيئات الواردة عن النبي ﷺ جماعة مع استقبال القبلة فهذا هو المطلوب، وأما في حال المواجهة فلا يمكن أن يصلوا جماعة بالطريقة التي وردت، فعندئذ يصلون فرادى بحسب ما يتيسر لهم.
هذا قول معروف لطائفة من السلف فقد جعلوا الركعة تجزئ عن الفرض في حال الالتحام والخوف الشديد، وخالف الجمهور في ذلك فقالوا: إن الصلاة لا تختصر في الخوف، فإذا لم يتيسر له الركوع فيومئ إيماء، وإذا لم يتيسر له الإيماء فهل يصلي بمجرد التكبير وهو قائم؟ خلاف بين أهل العلم فمنهم من يرى أنه يصلي؛ واستدلوا بقوله سبحانه: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [سورة التغابن:16].
ومنهم من يرى أنه لا يصلي ولو خرج الوقت، ويحتجون على ذلك بأن النبي ﷺ في يوم الأحزاب لم يصل العصر إلا بعد غروب الشمس، واستدرك هذا الدليل بأنهم لشدة ما وقع عليهم في ذلك الموقف كأنهم نسوا الصلاة، أو كأنهم شغلهم العدو عنها فلم يتفطنوا لها، وهذا واضح جلي من رواية الحديث.
وبعض أهل العلم مثل ابن جرير الطبري -رحمه الله- يقول: لا أحب له أن يختصر الصلاة إلى ركعة واحدة، فإن اضطر إلى ذلك فتجزئه ركعة ذات سجود وركوع.
وقال البخاري: باب الصلاة عند مناهضة الحصون ولقاء العدو.
وقال الأوزاعي: إن كان تهيأ الفتح ولم يقدروا على الصلاة صلوا إيماء كل امرئ لنفسه، فإن لم يقدروا على الإيماء أخروا الصلاة حتى ينكشف القتال، أو يأمنوا فيصلوا ركعتين، فإن لم يقدروا صلوا ركعة وسجدتين، فإن لم يقدروا لا يجزئهم التكبير ويؤخرونها حتى يأمنوا، وبه قال مكحول، وقال أنس بن مالك: حضرت مناهضة حصن تُستَر
في بلاد فارس.
عند إضاءة الفجر، واشتد اشتعال القتال فلم يقدروا على الصلاة، فلم نصلِّ إلا بعد ارتفاع النهار فصليناها ونحن مع أبي موسى، ففتح لنا، قال أنس: وما يسرني بتلك الصلاة الدنيا وما فيها، هذا لفظ البخاري.
وقوله: فَإِذَا أَمِنتُمْ فَاذْكُرُواْ اللّهَ [سورة البقرة:239] أي: أقيموا صلاتكم كما أمرتم، فأتموا ركوعها وسجودها وقيامها وقعودها وخشوعها وهجودها.
فَاذْكُرُواْ اللّهَ كَمَا عَلَّمَكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ أي: مثل ما أنعم عليكم وهداكم وعلمكم ما ينفعكم في الدنيا والآخرة، فقابلوه بالشكر والذكر، كقوله بعد صلاة الخوف: فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ فَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَّوْقُوتًا [سورة النساء:103]، وستأتي الأحاديث الواردة في صلاة الخوف وصفاتها في سورة النساء عند قوله تعالى: وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاَةَ [سورة النساء:102].
وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِّأَزْوَاجِهِم مَّتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِيَ أَنفُسِهِنَّ مِن مَّعْرُوفٍ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [سورة البقرة:240-242] قال الأكثرون: هذه الآية منسوخة بالتي قبلها وهي قوله: يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا [سورة البقرة:234].
الجمهور من المفسرين والفقهاء على القول بأن التربص لمدة سنة منسوخ بالأربعة الأشهر والعشر، وهذا النسخ جرى على غير العادة؛ لأن الناسخ يأتي بعد المنسوخ في ترتيب المصحف، بخلاف هذه الآية؛ فالذي نسخها جاء قبلها في ترتيب المصحف، ولكن هذا ليس في النزول قطعاً؛ لأن النسخ هو رفع الخطاب الشرعي المتقدم بخطاب متأخر متراخ عنه، فلا يمكن أن يكون معه، فكيف يكون قبله، فهذا في الترتيب، وترتيب الآيات كما هو معروف توقيفي، فتنزل الآية فيقول النبي ﷺ: ضعوها في مكان كذا.
وأما الوصية في قوله: وَصِيَّةً لِّأَزْوَاجِهِم مَّتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فذهب عامة أهل العلم إلى أنها منسوخة بآية المواريث، فصار لها من الميراث الثمن والربع مما ترك الزوج.
وأما شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- فيقول بأن هذه الآية لم تنسخ فيها الوصية إلى الحول، وإنما ذلك على سبيل الاستحباب فقط لا الوجوب، والأقرب: أنها منسوخة، والله أعلم.
روى البخاري عن ابن الزبير قال: قلت لعثمان بن عفان: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا قد نسختها الآية الأخرى، فلم تكتبها -أو تدعها؟ قال: يا ابن أخي لا أغير شيئاً منه من مكانه.
ومعنى هذا الإشكال الذي قاله ابن الزبير لعثمان: إذا كان حكمها قد نسخ بالأربعة الأشهر فما الحكمة في إبقاء رسمها مع زوال حكمها، وبقاء رسمها بعد التي نسختها يوهم بقاء حكمها، فأجابه أمير المؤمنين: بأن هذا أمر توقيفي، وأنا وجدتها مثبتة في المصحف كذلك بعدها، فأثبتها حيث وجدتها.
روى ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِّأَزْوَاجِهِم مَّتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فكان للمتوفى عنها زوجها نفقتها وسكناها في الدار سنة فنسختها آية المواريث، فجعل لهن الربع أو الثمن مما ترك الزوج.
القراءة في قوله سبحانه: وَصِيَّةً لِّأَزْوَاجِهِم جاءت بالرفع وبالنصب، فمن قرأها بالنصب قدر في إعرابها فعلاً محذوفاً تقديره: فليوصوا وصية، أو أوصى الله وصية، أو كتب الله عليهم وصية، والمعنى أن الله يطالب الأزواج أن يوصوا قبل موتهم لزوجاتهم أن يمتعن في بيوتهم سنة تجرى عليهن النفقة ولا يخرجهم الورثة.
وعلى قراءة الرفع وصيةٌ لأزواجهم تعرب مبتدأ والخبر لأزواجهم، ويكون المعنى أن عليهم وصية تلزمهم لأزواجهم وهي إمتاعهن سنة في بيوتهم، وأكثر الأقوال والتقديرات ترجع إلى الأول.
ولعل من أدق ما قيل في معناها -وهو المتبادر من ظاهر الآية- هو ما ذكره ابن جرير الطبري -رحمه الله- بأن المعنى: كتب الله لأزواجهم عليكم وصية منه لهن أيها المؤمنون ألا تخرجوهن، فالخطاب لأهل الإيمان من الورثة والأولياء، ومن يتحاكمون ويتراجعون إليه، فهم مأمورون بأن ينفذوا ما ذكر الله ، وذلك ليس على سبيل اللزوم بالنسبة للمرأة في أول الأمر، لكن ذلك يلزم الورثة ومن بيده ذلك كالوصي والوكيل ومن يتراجعون إليه ويتحاكمون كالقاضي.
قوله سبحانه: مَّتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ: يمكن أن يكون منصوباً بفعل محذوف والتقدير: أي متعوهن متاعاً إلى الحول، أو جعل الله لهن ذلك متاعاً، ويمكن أن تقدر على الحال.
قوله: غَيْرَ إِخْرَاجٍ يمكن أن يكون هذا حالاً: أي غير مخرجات، والمعنى متعوهن إلى الحول غير مخرجات، أو مخفوض بنزع الخافض والتقدير أي: من غير إخراج، والله أعلم بالصواب.
وروي من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: كان الرجل إذا مات وترك امرأته، اعتدت سنة في بيته يُنْفَق عليها من ماله، ثم أنزل الله بعد: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا [سورة البقرة:234] فهذه عدة المتوفى عنها زوجها، إلا أن تكون حاملاً فعدتها أن تضع ما في بطنها، وقال: وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِن لَّمْ يَكُن لَّكُمْ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ [سورة النساء:12] فبيّن ميراث المرأة وترك الوصية والنفقة.
قال: وروي عن مجاهد والحسن وعكرمة وقتادة والضحاك والربيع ومقاتل بن حيان قالوا: نسختها أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا.
وروى البخاري عن مجاهد: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا قال: كانت هذه العدة، تعتد عند أهل زوجها واجب، فأنزل الله وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِّأَزْوَاجِهِم مَّتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِيَ أَنفُسِهِنَّ مِن مَّعْرُوفٍ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [سورة البقرة:240] قال: جعل الله لها تمام السنة سبعة أشهر وعشرين ليلة وصية، إن شاءت سكنت في وصيتها وإن شاءت خرجت، وهو قول الله: غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ.
وقال عطاء: قال ابن عباس: نسخت هذه الآية عدتها عند أهلها، فتعتد حيث شاءت وهو قول الله تعالى: غَيْرَ إِخْرَاجٍ.
المقصود بالعدة عند أهلها، أي: أهل زوجها، ويشهد لهذا أثر مجاهد السابق قال: كانت هذه العدة، تعتد عند أهل زوجها واجب، ولكن نُسخ وجوب أمر العدة في بيت زوجها، فلها أن تعتد في بيت أبيها، أو في بيت آخر تملكه، أو غير ذلك.
وجاء في بعض الروايات: أن نعْيه بلغها وهي في دور بعض الأنصار شاسعة عن أهلها –بعيدة، فلم تكن في بيت زوجها، وهو لم يترك لها داراً ولم يترك لها مالاً، فأخذ منه عامة أهل العلم أن المرأة إنما تعتد في البيت الذي بلغها فيه نبأ وفاة الزوج.
وأما قوله: فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ مِن مَعْرُوفِ هذا بناء على أنها كانت مخيرة، فإن خرجت في أثناء العدة فلا جناح عليكم أيها الورثة بهذا الخروج إذا كان لغير معصية الله من معروف لا يزري بها أو بأهلها، وإلا فإنها تمنع ويؤخذ على يدها.
وأيضاً يحتج بها من ذهب إلى استحباب المتعة لكل مطلقة لا الوجوب، وعللوا ذلك بأن المطلقة قبل الدخول بها تعطى نصف الصداق المسمى لها، كما قال الله : فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ [سورة البقرة:237] فيكفيها ما أخذت، وأن الله سبحانه لم يسم لها متعة في الآية، فلا تستحقها، وعمموا هذا الحكم على المرأة التي طلقت بعد الدخول بها؛ لأنها أخذت من المهر في مقابل ما استحل من بضعها، فلا تستحق معه شيئاً.
لكن الذي يظهر أن الرجل مطالب بأن يمتع المرأة المطلقة شيئاً يجبر خاطرها به، سواء كانت تلك المرأة مطلقة قبل الدخول، أو بعد الدخول؛ لأن الله عم ذلك بقوله: وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ، وتعقب على القائل بأن تلك الحالة ذكرت بمفردها ولم تذكر في بعض صور الطلاق، وبأن الله قد يذكر الحكم في موضع ولا يلزم منه أن يورده في جميع المواضع، والله تعالى أعلم.
قوله سبحانه: حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ مفهوم المخالفة في الآية غير مراد، فلا يجعل المعنى: أن هذا الحق على المتقين، أما غير المتقين فلا يجب عليهم؛ لأن التقوى منها ما هو واجب، ومنها ما هو مستحب، وهذا الأمر بالإمتاع في الآية من تقوى الله الواجبة.
المفوِّضة: هي التي لم يفرض لها صداق معين فهذه تعطى المتعة بنص الآية.
أو مطلقاً قبل المسيس، أو مدخولاً بها، وإليه ذهب سعيد بن جبير وغيره من السلف، واختاره ابن جرير. وقوله تعالى: لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النِّسَاء مَا لَمْ تَمَسُّوهُنُّ أَوْ تَفْرِضُواْ لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدْرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ [سورة البقرة:236] من باب ذكر بعض أفراد العموم.
وقوله: كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ [سورة البقرة:242] أي: في إحلاله وتحريمه، وفروضه وحدوده فيما أمركم به ونهاكم عنه، بيّنه ووضحه وفسره، ولم يتركه مجملاً في وقت احتياجكم إليه، لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ أي: تفهمون وتتدبرون.
وصلى الله وسلم وبارك على نبيه وآله وصحبه.
- رواه أبو داود في سننه برقم (942) (1/347)، وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن أبي داود برقم (923).
- رواه مسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة –باب تحريم الكلام في الصلاة ونسخ ما كان من إباحة برقم (537) (1/381).
- أصله في الصحيحين - رواه البخاري في كتاب أبواب العمل في الصلاة –باب ما ينهى من الكلام في الصلاة برقم (1142) (1/402)، ومسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة –باب تحريم الكلام في الصلاة ونسخ ما كان من إباحة برقم (539) (1/383)، ورواه أحمد في مسنده برقم (19297) (4/368).
- رواه مسلم في كتاب صلاة المسافرين وقصرها –باب أفضل الصلاة طول القنوت برقم (756) (1/520).