بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، وصلى الله وسلم على رسول الله.
قال الحافظ ابن كثير -رحمه الله- في قوله تعالى:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فقوله سبحانه: فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ يعني لما خرج بهم، وذلك بعد أن تبين لهم ما أوجب انقيادهم لحكمه، وإذعانهم لأمره، وإقرارهم لملكه فتبعوه، وجاء في بعض الروايات أن عددهم كان ثلاثمائة ألف وثلاثة آلاف وثلاثمائة وثلاثة عشر تقريباً.
والحقيقة أن الاختلاف في العدد بين هذه الروايات على الرغم من كونها واقعة واحدة، يدل دلالة واضحة على عدم صحتها، فلا يعول عليها في الاستناد، والعلم عند الله.
فالله أعلم، أنه قال: إِنَّ اللّهَ مُبْتَلِيكُم أي مختبركم بنهر، قال ابن عباس وغيره: وهو نهر بين الأردن وفلسطين، يعني نهر الشريعة المشهور.
فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي أي: فلا يصحبني اليوم في هذا الوجه.
مراده من قوله: فَلَيْسَ مِنِّي يعني ليس مؤمناً بي، ولا هو من أتباعي أو ممن يصحبني بدليل أنه قال: فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ.
القراءة بالضم للغين في قوله: غُرْفَةً بِيَدِهِ هي قراءة أكثر القراء، وخالف في ذلك نافع وابن كثير وأبو عمرو فقرءوها بالفتح إلا من اغترف غَرفة بيده ومن أهل العلم من يعد القراءتين –الضم والفتح- بمعنى واحد، وبعضهم يفرق فيجعل الغَرفة بالفتح: ما يكون باليد، والغُرفة بالضم: ما يكون بالإناء، لكن هذا الكلام فيه نظر؛ لأنه قال: إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ ولذلك يستبعد هذا المعنى.
وذهب آخرون إلى أن الغُرفة بالضم: الماء المأخوذ، وتقدير أخذه باليد من باب الملازمة، وأما الغَرفة بالفتح: فالمرة الواحد، وهذا الذي اختاره جماعة من المحققين في الجمع بينهما، ومنهم كبير المفسرين ابن جرير الطبري -رحمه الله، والله أعلم بالصواب.
ظاهر الآية أن هذا الصنيع صدر من الذين لم يشربوا من النهر إلا بالمقدار الذي حدده لهم، أولئك الذين نجحوا في اجتياز الاختبار الأول، لكنهم سقطوا بعد ذلك حينما رأوا جيش العدو، وهذا ما عليه عامة أهل العلم.
وذهب ابن جرير -رحمه الله- إلى أن هذه الطائفة هي الطائفة الأولى التي شربت، ووجَّه قوله: بأن هؤلاء الذين شربوا لم يرجعوا وإنما ساروا معه، وأن الله إنما خص بالذكر في كتابه الذين يستحقونه ممن أتبعو الملك الذي عينه رسوله، وأغفل ذكر الباقين الذين نكصوا على أعقابهم، وهذا فيه غرابة، وظاهر القرآن يخالفه؛ لأن الله قال: فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ وهذا يعني أنه لم يبق معه سوى من امتنعوا عن الشرب إلا بالمقدار المحدد لهم، لكنهم لما رأوا كثرة جيش عدوهم تخاذلوا وتناخروا، ولم يثبت إلا فئة قليلة، ورد في بعض الروايات أن عددهم ثلاثمائة وبضعة عشر، والله أعلم.
وهنا لفتة تربوية ومعنى كبير يؤخذ من هذه الآيات فأكثر الناس على هذه الحال التي قصها الله في خبر طالوت، إذا تأملت حالهم في شتى الأبواب تجدهم يتطلعون إلى أشياء، ثم بعد ذلك لا يسعون إلى تحققيها، وكثيراً ما يتساقطون إما في الوهلة الأولى، أو في وسط الطريق، أو في آخره، ولا يبقى ولا يستمر إلا أصحاب العزائم القوية، وهذا الأمر لم يسلم منه حتى جيل الصحابة، فإن أصحاب محمد ﷺ لما سألوه، عن أحب الأعمال إلى الله، فأخبرهم أنه القتال، تراجع وتباطأ وتثاقل من تثاقل، فأنزل الله : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُم بُنيَانٌ مَّرْصُوصٌ [سورة الصف:2-4] فهذا في القتال، وكذلك في سائر الأمور.
والخلاصة أن الإنسان إذا انتدب نفسه لشيء فلا بد أن يستمر عليه حتى آخر لحظة، ولذلك كان الأولى للإنسان أن لا يدخل في شيء إلا إذا كان كما قال ابن القيم: يعلم أن لديه القدرة عليه، وأنه أصلح له في دينه ودنياه ومعاشه وعاقبة أمره وعاجله وآجله، ثم يستخير الله قبل أن يقدم عليه.
ولا يكون ممن يجيد الكلام ولا يحسن الفعل، فمثله حسبك به ذماً ونقصاً، ولا يصلح إطلاقاً للمؤمن أن يتحلى بغير هذا الخلق، وإلا فلا يضع نفسه في مثل هذه الأمور، ولا يتكلم في شيء منها، وقد قيل: إن في الصمت حكمة.
ابن جرير يقول: إن الذين قَالُواْ لاَ طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنودِهِ هم المنافقون والكفار الذين شربوا من النهر، واستمروا مع طالوت، لكن لسوء صنيعهم لم يستحقوا الذكر، والذي يظهر أن هؤلاء ليسوا الذين شربوا أكثر مما قدر لهم، وإنما هم الذين سقطوا في المواجهة والمجابهة إذ إنهم لما رأوا العدو انكسروا وضعفوا، والله أعلم.
ذكر أهل التاريخ أن جالوت هو أمير من العمالقة، وكانت بلدتهم في أريحا في الغور من أرض الأردن.
الإذن المراد في هذا المقطع من الآية هو الإذن الكوني القدري، لا الإذن الشرعي، والمعنى أن هزيمتهم إنما كانت بإرادة الله وتقديره.
المقلاع: أداة يوضع فيها شيء ليرمى على الخصم، وقد يكون الشيء المرمي صغيراً أو كبيراً.
وبعضهم يقول: وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاء مما ذكره الله في موضع آخر من كتابه، فقد قال سبحانه: وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ [سورة الأنبياء:80]، فعلمه نسج الدروع، والتقدير في السرد، لكن هذا من جملة ما علمه الله إياه ولا يختص به.
ثم قال تعالى: وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ أي: لولا الله يدفع عن قوم بآخرين، كما دفع عن بني إسرائيل بمقاتلة طالوت، وشجاعة داود لهلكوا، كما قال تعالى: وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا [سورة الحـج:40] الآية.
وقوله: وَلَكِنَّ اللّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ أي: ذو منٍّ عليهم ورحمة بهم، يدفع عنهم ببعضهم بعضاً، وله الحكم والحكمة، والحجة على خلقه في جميع أفعاله وأقواله، ثم قال تعالى: تِلْكَ آيَاتُ اللّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ: أي هذه آيات الله التي قصصناها عليك من أمر الذين ذكرناهم بالحق، أي بالواقع الذي كان عليه الأمر المطابق لما بأيدي أهل الكتاب من الحق الذي يعلمه علماء بني إسرائيل، وإِنَّكَ يا محمد لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ، وهذا توكيد وتوطئة للقسم.
تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِن بَعْدِهِم مِّن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُواْ فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ وَمِنْهُم مَّن كَفَرَ وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا اقْتَتَلُواْ وَلَكِنَّ اللّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ [سورة البقرة:253] يخبر تعالى أنه فضل بعض الرسل على بعض.
يحتمل في قوله سبحانه: تِلْكَ الرُّسُلُ ثلاثة احتمالات:
الأول: يحتمل أن تكون (أل) في الرسل للجنس، فتشمل المفاضلة جميع المرسلين عليهم الصلاة والسلام.
الثاني: يحتمل أن يكون المراد عائداً إلى الرسل الذين ذكرهم الله في هذه السورة، ممن قص الله خبرهم وأتى على ذكرهم.
الثالث: يحتمل أن المقصود بالرسل أولئك الذين أعلم الله نبيه ﷺ خبرهم من الأنبياء، ولعل حمل الآية على العموم أقرب هذه المعاني، والله أعلم.
فأما تكليم موسى لربه فقد ذكره الله في كتابه بقوله سبحانه: وَكَلَّمَ اللّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا [سورة النساء:164]، وأما محمد ﷺ فكلمه ربه في ليلة المعراج، حينما نادى الله : إني قد أمضيت فريضتي وخففت عن عبادي، وأما تكليم آدم فقد ورد في صحيح ابن حبان من حديث أبي ذر المعروف وفيه: أنه سأل النبي ﷺ عن عدد الأنبياء والمرسلين...، فلما سأله عن آدم قال: نبي مكلم... والحديث مشهور وفيه ضعف؛ لجهالة بعض رواته، وضعْف بعضهم، ومن أهل العلم من يحسن الحديث، بناء على مجموع طرقه وشواهده، لكن الضعف فيها شديد فهي ما بين رجل متروك أو مجهول.
وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ كما ثبت في حديث الإسراء حين رأى النبي ﷺ الأنبياء في السماوات بحسب تفاوت منازلهم عند الله .
فإن قيل: فما الجمع بين هذه الآية وبين الحديث الثابت في الصحيحين عن أبي هريرة قال: استب رجل من المسلمين ورجل من اليهود، فقال اليهودي في قسم يقسمه: لا والذي اصطفى موسى على العالمين، فرفع المسلم يده، فلطم بها وجه اليهودي، فقال: أي خبيث! وعلى محمد ﷺ؟ فجاء اليهودي إلى النبي ﷺ فاشتكى على المسلم، فقال رسول الله ﷺ: لا تفضلوني على الأنبياء، فإن الناس يصعقون يوم القيامة، فأكون أول من يفيق فأجد موسى باطشاً بقائمة العرش فلا أدري أفاق قبلي، أم جوزي بصعقة الطور، فلا تفضلوني على الأنبياء[2] وفي رواية: لا تفضلوا بين الأنبياء.
فالجواب: أن هذا نهي عن التفضيل في مثل هذه الحال التي تحاكموا فيها عند التخاصم والتشاجر، وأن مقام التفضيل ليس إليكم، وإنما هو إلى الله ، وعليكم الانقياد والتسليم له، والإيمان به".
وقال بعض أهل العلم: إن النبي ﷺ ذكر ذلك تواضعاً، فقد جاء في حديث آخر: لا ينبغي لأحد أن يقول: أنا خير من يونس بن متَّى عليه الصلاة والسلام [3].
ومن أهل العلم من يقول: إن الممنوع هو ما كان على سبيل العصبية والحمية بأن تحمل صاحبها على انتقاص الأنبياء والازدراء بهم، والتنزيل من قدرهم، فإذا أدت المفاضلة بين الأنبياء إلى هذا فتحرم.
ولا شك أن فتح باب المفاضلة على وجه الحمية يؤدي إلى أمور لا تحمد عقباها، خاصة بين الجهلة الذين لا يفقهون في دين الله، ولذلك ذكّر شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- بأن من الناس من إذا سمع الوقيعة في أبي بكر من بعض الرافضة، فإنه يسب علياً ، وأنه كان في صف القتال، إذا قام النصارى بسب النبي ﷺ، قام بعض المسلمين بسب عيسى ﷺ، إغاظة لهم ورداً عليهم، فهذا لا يجوز، وهو وجه من الجمع.
وهذه القاعدة عامة فتشمل الكلام على القراءات القرآنية، إذ يوجد في كثير من كتب التفسير ما يسمى بتوجيه القراءات، فحينما يوجهون القراءة تجد كلاماً يشعر بانتقاص القراءة المفضل عليها، وهذا أمر لا يليق لأن هذا كلام الله ، لكن يمكنه الترجيح دون انتقاص أو تطاول على القراءة الأخرى.
ولا شك أن النبي ﷺ هو أفضل الأنبياء والمرسلين، كما يدل عليه حديث الشفاعة، ويدل عليه قوله ﷺ: آت محمداً الوسيلة والفضيلة[4] وقوله: أنا سيد ولد آدم...[5] إلى آخره.
وهناك من أهل العلم من يقول: إنه لا حاجة لهذا الجمع أصلاً، ولا يجوز التفضيل بين الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- على سبيل الخصوص، وأن الآية إنما هي إخبار من الله على تفضيله بعض الأنبياء على بعض، ولذا ورد أن النبي ﷺ نهى الناس أن يفضلوا بين الأنبياء؛ لأنه أمر ليس إليهم كما قال ابن كثير، وهذا الكلام فيه نظر، والجمع بين الأحاديث لا شك أنه أوفق، والله أعلم.
حكى القرطبي عن مجاهد والحسن البصري أنهما قالا: القدُس: هو الله تعالى، وروحه: جبريل، وقيل غير هذا، والله أعلم بالصواب.
ثم قال تعالى: وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِن بَعْدِهِم مِّن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُواْ فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ وَمِنْهُم مَّن كَفَرَ وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا اقْتَتَلُواْ أي بل كل ذلك عن قضاء الله وقدره، ولهذا قال: وَلَكِنَّ اللّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ [سورة البقرة:254] يأمر تعالى عباده بالإنفاق مما رزقهم في سبيله، سبيل الخير؛ ليدخروا ثواب ذلك عند ربهم ومليكهم، ويبادروا إلى ذلك في هذه الحياة الدنيا، مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ يعني يوم القيامة، لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ أي لا يباع أحد من نفسه، ولا يفادي بمال ولو بذله، ولو جاء بملء الأرض ذهباً، ولا تنفعه خلة أحد، يعني صداقته، بل ولا نسابته.
ذكر ابن القيم مراتب المحبة وعدها عشر مراتب، ونقلها أيضاً من غير عزوٍ شارحُ الطحاوية ابن أبي العز الحنفي في الكلام على المحبة، وعد منها الخلة: وهي المحبة الشديدة التي تخالل شغاف القلب، ولذلك جعلها الله لخيرة أنبيائه إبراهيم ومحمد عليهما -الصلاة والسلام- فقد قال سبحانه: وَاتَّخَذَ اللّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً [سورة النساء:125]
وجاء عن أبي الأحوص قال: سمعت عبد الله بن مسعود يحدث عن النبي ﷺ أنه قال: لو كنت متخذاً خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً، ولكنه أخي وصاحبي وقد اتخذ الله صاحبكم خليلاً[6] فالخلة درجة عالية في المحبة، وليست مطلق المحبة أو الصداقة أو الصحبة أو القرابة أو نحو ذلك، والمعنى أنه لا تنفع الإنسان خلة أحد، وإن بلغت ما بلغت.
لأن الظلم أوسع من الكفر، وعلى هذا المعنى يصير كل ظالم كافراً، ودخول ضمير الفصل بين طرفي الكلام مشعر بالحصر إضافة إلى تعريف الطرفين -الكافرون والظالمون، كأنه يقول: الظلم مختص بهم، والظلم له صوره وأشكاله ومنه ما هو دون الكفر، لكن الظلم الأكبر والأعظم المقصود بهذه الآية هو الشرك: أن يجعل العبد لله نداً وهو خلقه ورزقه...، كما قال الله تعالى: لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [سورة لقمان:13]، وقال: الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ [سورة الأنعام:82] فهم بإشراكهم قد استجمعوا الوصف الكامل من الظلم، هذا هو المراد، والله أعلم.
لِيَهْنِكَ العلم أبا المنذر هذا دعاء له كأنه يقول: هنيئاً لك العلم الذي استطعت به أن تستنبط من آيات القرآن على كثرتها أعظم آية في القرآن الكريم من غير سابق علم ولا دراية، فهذا أمر يدل على ثقوب النظر، والقدرة العالية في الاستنباط والاستحضار عند ذلك الجيل الأكمل والرعيل الأنبل.
قال الجزري -في النهاية: السهوة: بيت صغير منحدر في الأرض قليلاً شبيه بالمخدع والخزانة، وهذا هو الأشهر، وقيل: هو كالصفة تكون بين يدي البيت، وقيل: شبيه بالرف أو الطابق يوضع فيه الشيء، انتهى.
الغول: الجن أو الشياطين حينما تتمثل للناس في الليل أو تتبدى لهم بصورة آدمي أو غير ذلك، يقال: تغولت الغيلان، يعني تبدت لهم الجن بصور يرونها.
هذا الحديث صحيح ثابت عن النبي ﷺ، وهو يدل على صحة وجود هذه الغول -الجن، ومن أهل العلم من يقول: إن الغول ومثله العنقاء أشياء لا وجود لها ولا حقيقة، وإنما تجري على ألسنة الناس وفي القصص والأخبار وأشعار العرب، ومن ذلك قول صاحب مراقي السعود، لما ذكر مذهب الإمام مالك في بلاد المغرب
وغيره مثل عنقاء مُغْرِب | في كل قطر من نواحي المغربِ |
الشياطين: هم كفار الجن، وبعضهم يقول: إن السعالي هم سحرة الجن، إلا أن الحديث الوارد فيه ضعفه أهل العلم.
فائدة:
إقرار النبي ﷺ الشيطان على قوله: لا يزال عليك من الله حافظ، يحمل على أعم معانيه، فهذا الحافظ من الله يحفظه من شر الآدميين، ومن شر كل ذي شر من السباع والهوام وكل ما يتخوف من جهته، وقوله بعده: ولا يقربك شيطان حتى تصبح، هذه الجملة الأخيرة في الشياطين، وما قبلها في كل ذي شر، والله أعلم.
وصلى الله وسلم وبارك على نبيه وآله وصحبه، وسلم تسليماً كثيراً، ومزيداً إلى يوم الدين.
- رواه أحمد في مسنده برقم (21586) (5/178)، قال شعيب الأرنؤوط: إسناده ضعيف جدا لجهالة عبيد بن الخشخاش.
- رواه البخاري في كتاب الخصومات –باب ما يذكر في الأشخاص والملازمة والخصومة بين المسلم واليهودي برقم (2280) (2/849).
- رواه البخاري في كتاب التفسير –باب تفسير سورة النساء برقم (4327) (4/1681)، و- رواه مسلم بلفظ لا ينبغي لعبد في كتاب الفضائل –باب في ذكر يونس وقول النبي ﷺ: لا ينبغي لعبد أن يقول أنا خير من يونس بن متى برقم (2377) (4/1846).
- رواه البخاري في كتاب الأذان –باب الدعاء عند النداء برقم (589) (1/222).
- رواه مسلم في كتاب الفضائل –باب تفضيل نبينا محمد ﷺ على جميع الخلائق برقم (2278) (4/1782).
- رواه مسلم في كتاب الفضائل –باب من فضائل أبي بكر الصديق برقم (2383) (4/1855).
- رواه مسلم في كتاب صلاة المسافرين وقصرها –باب فضل سورة الكهف وآية الكرسي برقم (810) (1/556)، ورواه أحمد في مسنده برقم (21315) (5/141)، قال شعيب الأرنؤوط: إسناده صحيح على شرط مسلم.
- رواه الترمذي في سننه برقم (2880) (5/158)، وأحمد في مسنده برقم (23640) (5/423)، وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن الترمذي برقم (2880).
- رواه البخاري في كتاب الوكالة –باب إذا وكل رجلا فترك الوكيل شيئاً فأجازه الموكل فهو جائز، وإن أقرضه إلى أجل مسمى جاز برقم (2187) (2/812).