الخميس 24 / جمادى الآخرة / 1446 - 26 / ديسمبر 2024
[119] من قوله تعالى: {وَإِن كُنتُمْ عَلَى سَفَرٍ} الآية 283 إلى قوله تعالى: {فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} الآية 286.
تاريخ النشر: ٢٣ / ربيع الأوّل / ١٤٢٦
التحميل: 4256
مرات الإستماع: 2319

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

قال المفسر -رحمه الله تعالى- في تفسير قوله تعالى:

وَإِن كُنتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُواْ كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَّقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللّهَ رَبَّهُ وَلاَ تَكْتُمُواْ الشَّهَادَةَ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ [سورة البقرة:283].

يقول تعالى: وَإِن كُنتُمْ عَلَى سَفَرٍ أي مسافرين، وتداينتم إلى أجل مسمى ولم تجدوا كاتباً يكتب لكم، قال ابن عباس -ا: أو وجدوه ولم يجدوا قرطاساً أو دواة أو قلماً فرُهُن مقبوضة، أي فليكن بدل الكتابة رهان مقبوضة في يد صاحب الحق، وقد استُدل بقوله: فَرِهَانٌ مَّقْبُوضَةٌ على أن الرهن لا يلزم إلا بالقبض.

وقد ثبت في الصحيحين عن أنس -: أن رسول الله ﷺ توفي ودرعه مرهونة عند يهودي على ثلاثين وسقاً من شعير، رهنها قوتاً لأهله[1]، وفي رواية من يهود المدينة.

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فقوله -تبارك وتعالى: كَاتِبًا جاء في قراءة أخرى منسوبة إلى ابن عباس، وأبي العالية، وعكرمة، وجماعة من السلف {ولم تجدوا كتاباً ويدل عليها أثر ابن عباس السابق حيث قال: أو وجدوه ولم يجدوا قرطاساً أو دواة... "، فأرشدهم الله سبحانه إلى طريقة أخرى إذا لم يجدوا كاتباً فقال: فَرِهَانٌ مَّقْبُوضَةٌ هذه إحدى القراءات المتواترة في الآية، وقرئت بتخفيف الهاء، وقرئت بالإفراد فَرَهْنٌ مقبوضة، وقرئت فَرُهُن مقبوضة، وجميعها ترجع إلى معنىً واحد، إذ الرُهُن: جمع رِهان، والرَّهْن هو الواحد من الرُّهُن، والمعنى: فليكن بدل الكتابة رهان مقبوضة في يد صاحب الحق.

وقد استُدل بقوله: فَرِهَانٌ مَّقْبُوضَةٌ كما ذكر الحافظ ابن كثير على أن الرهن لا يلزم إلا بالقبض، وهذا عليه عامة أهل العلم، خلافاً لمن صححه بالإيجاب والقبول، كالإمام مالك -رحمه الله، ولكن لما كان المقصود من الرهان الاستيثاق، والاحتراز، وحفظ الحق؛ لئلا يبطل ويضيع، كانت المقابضة فيه أولى وأحرز لحق الغير.

وأخذ بعض أهل العلم من ظاهر الآية أن الرهن إنما يكون في السفر، ولكن السنة دلت على عمومه في السفر والحضر، واستشهدوا برهنه ﷺ درعه عند يهودي من يهود المدينة، وكان حينها مقيماً في المدينة، والله أعلم.

وقوله: فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ روى ابن أبي حاتم بإسناد جيد عن أبي سعيد الخدري أنه قال: هذه نسخت ما قبلها.

وقال الشعبي: إذا ائتمن بعضكم بعضاً فلا بأس ألا تكتبوا أو لا تشهدوا.

وقوله: وَلْيَتَّقِ اللّهَ رَبَّهُ يعني المؤتمن كما جاء في الحديث الذي رواه الإمام أحمد وأهل السنن من رواية قتادة عن الحسن عن سمرة -: أن رسول الله ﷺ قال: على اليد ما أخذت حتى تؤديه[2].

الحديث فيه ضعف، ورواية الحسن عن سمرة فيها كلام كثير لأهل العلم، ومنهم من يصحح ذلك مطلقاً، ومنهم من يرده مطلقاً، ومنهم من لا يصحح من روايات الحسن عن سمرة إلا حديثاً واحداً، باعتباره الحديث الوحيد الذي سمعه منه، وبقية تلك الأحاديث لم يسمعها منه.

قوله: وَلاَ تَكْتُمُواْ الشَّهَادَةَ أي لا تخفوها وتغلوها ولا تظهروها، قال ابن عباس -ا- وغيره: شهادة الزور من أكبر الكبائر، وكتمانها كذلك، ولهذا قال: وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ قال السدي: يعني فاجر قلبه، وهذا كقوله تعالى: وَلاَ نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللّهِ إِنَّا إِذًا لَّمِنَ الآثِمِينَ [سورة المائدة:106] 

وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقَيرًا فَاللّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُواْ وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا [سورة النساء:135].

وهكذا قال هاهنا: وَلاَ تَكْتُمُواْ الشَّهَادَةَ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ.

أضيف الآثم إلى القلب في الآية باعتبار أن القلب هو ملك الجوارح، وقد يكون باعتبار أن الكتمان إنما يكون في القلب، والله أعلم.

لِّلَّهِ ما فِي السَّمَاواتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللّهُ فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاء وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [سورة البقرة:284] يخبر تعالى أن له ملك السماوات والأرض وما فيهن وما بينهن، وأنه المطلع على ما فيهن، لا تخفى عليه الظواهر ولا السرائر والضمائر، وإن دقت وخفيت، وأخبر أنه سيحاسب عباده على ما فعلوه وما أخفوه في صدورهم كما قال تعالى: قُلْ إِن تُخْفُواْ مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [سورة آل عمران:29]. 

وقال: يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى [سورة طـه:7]، والآيات في ذلك كثيرة جداً، وقد أخبر في هذه بمزيد على العلم، وهو المحاسبة على ذلك، ولهذا لما نزلت هذه الآية اشتد ذلك على الصحابة -، وخافوا منها ومن محاسبة الله لهم على جليل الأعمال وحقيرها، وهذا من شدة إيمانهم وإيقانهم.

هذه الآية شقت على أصحاب النبي ﷺ كما جاء ذلك في عدد من الروايات، واختلفت آراء المفسرين في الحكم عليها –نسخاً وإثباتاً- إلى قولين:

القول الأول: أنها منسوخة، وهم يريدون بذلك النسخ في عرف السلف، وهو أنها مُبَيَّنة بما بعدها وهو قوله سبحانه: رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا... [سورة البقرة:286] قال: قد فعلت، فخفف ذلك عنهم، لكن القول بالنسخ يُستدرك عليه أمران:

  • أن النسخ لا يثبت بالاحتمال.
  • أن الآية أفادت خبراً، والنسخ لا يتعلق بالأخبار؛ لأن نسخ الخبر تكذيب له، وإنما النسخ يتعلق بالإنشاء -الأمر والنهي والأخبار التي هي بمعنى الإنشاء، فلا يمكن أن يقال: إن هذا الخبر منسوخ.

القول الثاني: أنها محكمة، وإنما اختلفوا في توجيه المعنى، فذهبت طائفة إلى أن الآية من العام الباقي على عمومه، والمعنى: أن الله  يعلم ما في النفوس، ومحيط بما تنطوي عليه الضمائر، وأنهم إذا أخفوا أمراً أو أظهروه فإنه سيحاسبهم عليه، فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء. 

لكن قد يرد اعتراض على هذا القول، وهو كيف يحاسبهم الله على أمر لا يملكه الواحد منهم؟ إذ الإنسان لا يملك حديث النفس، ولا الخواطر التي تهجم على القلب من غير تطلّب ولا إرادة لها، فإذا حوسب عليها كان ذلك من قبيل التكليف بما لا يطاق، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن حديث النفس أمر قد تجاوز الله عنه كما قال سبحانه في الآية بعدها: رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا... وأن الله قال: قد فعلت، والنبي ﷺ يقول: إن الله تجاوز عن أمتي عما حدثت به أنفسها، ما لم تعمل أو تتكلم [3] فكيف يحاسبون بحديث النفس؟

وردَّ أرباب هذا القول: بأن المحاسبة لا تقتضي التعذيب، واستدلوا بما جاء عن عائشة –ا- أن النبيﷺ قال: من نوقش الحساب عذب، قالت: فقلت: أفليس قال الله تعالى: فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ ۝ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا [سورة الانشقاق:7-8]؟ قال: ليس ذاك بالحساب، ولكن ذلك العرض، من نوقش الحساب يوم القيامة عذب[4].

ولهذا جاء في كلام كبير المفسرين ابن جرير الطبري في بعض المواضع ما يوافق هذا المعنى، حيث حملها على أعم معانيها، فقال بأن الله يُعرِّفه ويقرره بصنيعه، ثم يتجاوز عنه، ويتفضل عليه بالعفو، إلا من كان مستحقاً للعقوبة، كالمنافق والكافر، وهذا قول جيد، ويجمع بعض الأقوال بطريقة حسنة، لا تخالف ظاهر القرآن، والله أعلم.

وبعضهم حمل الآية على معنى العام المراد به الخصوص، لكنهم اختلفوا في تحديد هذا المعنى الخاص:

فقيل: إن الآية متعلقة بكتمان الشهادة في الآية قبلها وهي قوله: وَلاَ تَكْتُمُواْ الشَّهَادَةَ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ، وتوجيه المعنى: أن الله لما أمر الشهود ألا يخفوا الشهادة ولا يكتموها، وترجح أن بعض الشهود قد تسول لهم أنفسهم التلاعب بالشهادة، نبههم الله إلى أنه يعلم ما في النفوس، وما تنطوي عليه الضمائر، وأنه سيحاسبهم على ما يختلج في نفوسهم وصدورهم، قاله جماعة من السلف، ونقله ابن جرير في أحد المواضع عند كلامه على الآية.

وقيل: إن ذلك مختص بعمل، وهو ما يتصل بالكفر والنفاق والريب؛ لأن هذا الأمر إذا وقع في النفوس، شك العبد في وحدانية الله ، والله يحاسب الإنسان على هذه العقائد والريب والشكوك التي تقع في التوحيد والإيمان وما أشبه ذلك، وهي من أسباب العقوبة والخلود في النار.

وقيل: إن ذلك مختص بطائفة، وهو يرجع إلى القول الذي قبله، قالوا: هذه في المنافقين والكفار، وأما أهل الإيمان فيغفر الله لهم، باعتبار أن حديث النفس عند أهل الإيمان ليس فيه نفاق ولا كفر، فيغفر لمن يشاء، يعني من أهل الإيمان.

لكن من المقرر أن الأشياء التي يخفيها العبد في نفسه هي أنواع: منها ما يتعلق بالإيمان، ومنها ما يتعلق بالشك، ومنها ما يتعلق بالنفاق، وأيضاً بالكفر، وكذا كتمان الشهادة، إلى غير ذلك من المعاني التي تنطوي عليها النفوس، ولاشك أن قدراً مما تنطوي عليه النفوس يؤاخذ به العبد، وقدراً يعفو الله عنه ويتجاوز، كحديث النفس، والخواطر التي ترد على الإنسان فيدفعها؛ لأنه لا حيلة له فيها، وقد مر بنا قوله ﷺ: إن الله تجاوز لي عن أمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تقل أو تعمل، ولذا فليس من الصواب القول بإطلاق: إن ما يختلج في النفوس لا يحاسب عليه الإنسان ولا يعاقب، وإنما في ذلك التفصيل المذكور. والله أعلم.

ولعل الملاحظ أن أمر المحاسبة على ما تنطوي عليه النفوس، جاء بعد الكلام على سعة ملكه سبحانه وإحاطته، بقوله: لِّلَّهِ ما فِي السَّمَاواتِ وَمَا فِي الأَرْضِ فهو لما أمرهم ونهاهم، وذكر لهم ما يتعلق بكثير من الأحكام، من العِدد وما يتصل بالقضايا المالية من الربا والصدقات وأحكام المداينة، ذكر بعد ذلك تمجده وعظم نفسه، بذكره سعة ملكه وإحاطته، وأنها بلغت مبلغاً جسيماً عظيماً حتى إنه يعلم ما تكنه الضمائر، وتخفيه النفوس، ويحاسب على ذلك، وهذا القدر لا إشكال فيه، والله أعلم.

روى الأمام أحمد عن أبي هريرة قال: لما نزلت على رسول الله ﷺ لِّلَّهِ ما فِي السَّمَاواتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللّهُ فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاء وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [سورة البقرة:284]، اشتد ذلك على أصحاب رسول الله ﷺ، فأتوا رسول الله ﷺ، ثم جثوا على الركب، وقالوا: يا رسول الله كلفنا من الأعمال ما نطيق، الصلاة والصيام والجهاد والصدقة، وقد أنزلت عليك هذه الآية ولا نطيقها، فقال رسول الله ﷺ: أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم: سمعنا وعصينا، بل قولوا: سمعنا وأطعنا، غفرانك ربنا وإليك المصير

فلما أقر بها القوم وذلت بها ألسنتهم أنزل الله في أثرها آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ [سورة البقرة:285]، فلما فعلوا ذلك نسخها الله، فأنزل لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا... [سورة البقرة:286]، إلى آخره[5].

يمكن أن يكون هذا النسخ بمعنى بيان ما أجمل في الآية السابقة، ويمكن أن يراد به النسخ الحقيقي وهو رفع الحكم.

ورواه مسلم فذكر مثله، ولفظه: فلما فعلوا ذلك نسخها الله فأنزل الله لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا... قال: نعم، رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ قال: نعم، وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَآ أَنتَ مَوْلاَنَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ قال: نعم.

القول بالنسخ الذي هو رفع الحكم نسب إلى طائفة من الصحابة منهم أبو هريرة وابن مسعود وعائشة -ا، وجماعة من التابعين مثل ابن سيرين والشعبي وغيرهم، وهم يعرفون أن النسخ ما يدخل الأخبار؛ لأن النسخ في الخبر تكذيب له، فكيف يوجه هذا القول؟

الجواب أن يقال بأن في قوله سبحانه: يُحَاسِبْكُم بِهِ اللّهُ أثراً ونتيجة لحكم، فالحكم هو المؤاخذة بما تنطوي عليه النفوس، إذ صار من التكاليف الشرعية التي يخاطب بها المكلف، ووجهت إليه وطالبه الشارع بها، فصار من جملة التكاليف، ثم رفع، فلما رفع الحكم ارتفع الأثر وهو المحاسبة؛ لأن المحاسبة كانت نتيجة لخطاب وتكليف شرعي، وبهذا لا يكون الحكم من قبيل نسخ الخبر، لكن أحسن منه والله أعلم ما ذكرته آنفاً.

روى الإمام أحمد عن مجاهد قال: دخلت على ابن عباس -ا- فقلت: يا أبا عباس كنت عند ابن عمر فقرأ هذه الآية فبكى، قال: أية آية؟ قلت: وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللّهُ

بكاء ابن عمر فيه شبه الدلالة على أن مذهبه في الآية أنها تجرى على ظاهرها وأنه لم يتطرق إليها النسخ.

قال ابن عباس: إن هذه الآية حين أنزلت غمت أصحاب رسول الله ﷺ غماً شديداً، وغاظتهم غيظاً شديداً، وقالوا: يا رسول الله هلكنا إنا كنا نؤاخذ بما تكلمنا وبما نعمل، فأما قلوبنا فليست بأيدينا، فقال لهم رسول الله ﷺ: قولوا: سمعنا وأطعنا. فقالوا: سمعنا وأطعنا، قال: فنسختها هذه الآية آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ إلى لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ [سورة البقرة:286]، فتجوّز لهم عن حديث النفس، وأُخذوا بالأعمال.

وقد روى الجماعة في كتبهم الستة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: إن الله تجاوز لي عن أمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تكلم أو تعمل. وفي الصحيحين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: قال الله: إذا هم عبدي بسيئة فلا تكتبوها عليه، فإن عملها فاكتبوها سيئة، وإذا هم بحسنة فلم يعملها، فاكتبوها حسنة، فإن عملها فاكتبوها عشراً[6].

فلو عزم على السيئة العزم المصمم وعجز، فإنه يلحقه الإثم ويحاسب، ودليله حديث أبي كبشة الأنماري قال: قال رسول الله ﷺ: مثل هذه الأمة كمثل أربعة نفر: وفيه ورجل آتاه الله مالاً ولم يؤته علماً، فهو يخبط في ماله ينفقه في غير حقه، ورجل لم يؤته الله علماً ولا مالاً، فهو يقول: لو كان لي مثل هذا عملت فيه مثل الذي يعمل، قال رسول الله ﷺ: فهما في الوزر سواء[7]

وحديث القاتل والمقتول في النار، قالوا: هذا القاتل فما بال المقتول؟! قال: إنه كان حريصاً على قتل صاحبه[8]، فالعزم المصمم ينزل منزلة الفعل، فيدخل تحت قوله سبحانه: وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللّهُ.

آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ۝ لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَآ أَنتَ مَوْلاَنَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ [سورة البقرة:286].

ذِكر الأحاديث الواردة في فضل هاتين الآيتين الكريمتين نفعنا الله بهما، روى البخاري عن ابن مسعود قال: قال رسول الله ﷺ: من قرأ بالآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه[9].

وقد أخرجه بقية الجماعة مثله، وهو في الصحيحين من طرق متعددة، وهكذا رواه أحمد بن حنبل.

تعددت أقوال أهل العلم في توجيه قول النبي ﷺ: كفتاه، ولعل الأقرب أنه يحمل على إطلاقه وعمومه، من الكفاية بمعنى أن الله يحفظه ويحوطه، فلا يصل إليه مكروه لا من الجن ولا من الإنس، ولا من الهوام، أو السباع، أو غير ذلك، فيقيه الله شر جميع المخاوف، ومن أهل العلم من يفسر الكفاية ببعض هذه المعاني، ومنهم من يفسره بالكفاية يعني من قيام الليل، أو قراءة القرآن، أو نحو ذلك، والله أعلم.

وروى مسلم عن عبد الله قال: لما أسري برسول الله ﷺ، انتُهى به إلى سدرة المنتهى، وهي في السماء السادسة، وإليها ينتهي ما يُعرَج به من الأرض، فيُقبَض منها، وإليها ينتهي ما يُهبَط به من فوقها فيُقبَض منها.

وجاء في حديث أنس أنها في السماء السابعة وعليه الأكثر، ويمكن الجمع بين الروايتين بالقول بأن أصلها في السادسة، وأن معظمها في السماء السابعة، فهذا قول في التوجيه، ويمكن الترجيح بأنها في السابعة، وهذا اختاره جمع من أهل العلم كثير، والله أعلم.

قال: إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى [سورة النجم:16]، قال: فراشٌ من ذهب، قال: أعطي رسول الله ﷺ ثلاثاً: أعطي الصلوات الخمس، وأعطي خواتيم سورة البقرة، وغفر لمن لم يشرك بالله من أمته شيئاً المُقْحِماتُ[10].

وقد تقدم في فضائل الفاتحة عن ابن عباس -ا- قال: بينا رسول الله ﷺ وعنده جبريل ، إذ سمع نقيضاً فوقه، فرفع جبريل بصره إلى السماء، فقال: هذا باب قد فتح من السماء ما فتح قط، قال: فنزل منه ملك، فأتى النبي ﷺ فقال: أبشر بنورين قد أوتيتهما لم يؤتهما نبي قبلك، فاتحة الكتاب وخواتيم سورة البقرة، لن تقرأ حرفاً منهما إلا أوتيته[11]. رواه مسلم والنسائي وهذا لفظه.

المقحمات: هي الذنوب العظام التي تقحم صاحبها في النار، وهذه الرواية وإن كانت من نصوص الرجاء، إلا أن المنهج الصحيح أن لا تؤخذ بمفردها؛ لأنه لابد من اقتران الخوف والرجاء في قلب المؤمن حتى يكونا كجناحي الطائر؛ لئلا يفضي به الرجاء إلى الأمن من مكر الله، أو يفضي به الخوف إلى القنوط من رحمة الله، واليأس من روحه، وإلا فمن نظر إلى أحد النصوص دون غيرها قد يؤُول به الأمر إلى الانحراف في النظر، وتجد تطبيقات هذه النظرة الأحادية وأثرها السيئ في كثير من القضايا. 

فمثلاً: الذين يتكلمون عن الإسلام، منهم من أخذ نوعاً معيناً من النصوص وقال: هذا هو الإسلام، وقابلهم آخرون فأخذوا نصوصاً أخرى وقالوا: هذا هو الإسلام، وهذا غاية السقم في الرؤية، وهكذا في قضايا المنهج فريق نظر إلى نصوص التيسير وحكمها، وفريق غلب النصوص الأخرى واعتمد عليها، ولن يسلك العبد الصراط السوي والمنهج المستقيم، إلا إذا استوعب جميع النصوص في مسألته، والله أعلم.

مسألة:

وردت روايتان ظاهرهما التعارض كلاهما عند مسلم، الأولى: عن ابن عباس –ا- قال: بينا رسول الله ﷺ وعنده جبريل إذ سمع نقيضاً فوقه، فرفع جبريل بصره إلى السماء، وذكر فيه "أبشر بنورين قد أوتيتهما، لم يؤتهما نبي قبلك، فاتحة الكتاب وخواتيم سورة البقرة...، والثانية: عن عبد الله قال: "لما أسري برسول الله ﷺ... وفيه "أعطي ثلاثاً: أعطي الصلوات الخمس، وخواتيم سورة البقرة،..." فيكف الجمع بين الروايتين؟

يذكر العلماء –رحمهم الله- أن من القرآن ما هو سمائي، ومنه ما هو أرضي، ومنه ما نزل بين السماء والأرض، ولعل مكان النزول في الروايتين من هذا الأخير -أي ما نزل بين السماء والأرض، لكن الحديثين وإن لم يدلا على ذلك دلالة قطعية، إلا أنه يستدل بهما على شرف ومنزلة وعظم هاتين الآيتين، وأما أمر مكان نزولهما فلا يعنينا كثيراً.

والله أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه وآله وصحبه.

  1. رواه البخاري في كتاب المغازي - باب وفاة النبي ﷺ برقم (4197) (4 / 1620)، ومسلم في كتاب المساقاة – باب الرهن وجوازه في الحضر والسفر برقم (1603) (3 / 1226).
  2. رواه أبو داود برقم (3563) (3 / 321)، والترمذي برقم (1266) (3 / 566)، وابن ماجه برقم (2400) (2 / 802)، وأحمد برقم (20098) (5 / 8)، وضعفه الألباني في صحيح وضعيف الجامع الصغير برقم (8176).
  3. رواه البخاري في كتاب الطلاق – باب الطلاق في الإغلاق والكره والسكران والمجنون وأمرهما والغلظ والنسيان في الطلاق والشرك وغيره برقم (4968) (5 / 2020)، ومسلم في كتاب الإيمان – باب تجاوز الله عن حديث النفس والخواطر بالقلب إذا لم تستقر برقم (127) (1 / 116).
  4. رواه البخاري في كتاب الرقاق – باب من نوقش الحساب عذب برقم (6171) (5 / 3394)، ومسلم في كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها – باب إثبات الحساب برقم (2876) (4 / 2204).
  5. رواه مسلم في كتاب الإيمان – باب بيان أنه لم يكلف إلا ما يطاق برقم (125) (1 / 115)، ورواه أحمد في مسنده برقم (9333) (2 / 412).
  6. رواه البخاري في كتاب الرقاق - باب من هم بحسنة أو بسيئة (6126) (5 / 2380)، ومسلم في كتاب الإيمان – باب إذا هم العبد بحسنة كتبت وإذا هم بسيئة لم تكتب برقم (128) (1 / 117).
  7. رواه ابن ماجه برقم (4228) (2 / 1413)، وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن ابن ماجه برقم (4228).
  8. رواه مسلم في كتاب الفتن وأشراط الساعة – باب إذا تواجه المسلمان بسيفيهما برقم (2888) (4 / 2213)
  9. رواه البخاري في كتاب صلاة المسافرين وقصرها – باب فضل الفاتحة وخواتيم سورة البقرة والحث على قراءة الآيتين من آخر البقرة برقم (807) (1 / 554).
  10. رواه مسلم في كتاب الإيمان – باب في ذكر سدرت المنتهى برقم (173) (1 / 157).
  11. رواه مسلم في كتاب صلاة المسافرين وقصرها – باب فضل الفاتحة وخواتيم سورة البقرة والحث على قراءة الآيتين من آخر البقرة برقم (806) (1 / 554)، والنسائي برقم (912) (2 / 138).

مواد ذات صلة