بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال المفسر -رحمه الله تعالى- في تفسير قوله تعالى:
مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَادًا لِّي مِن دُونِ اللّهِ وَلَكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الْمَلاَئِكَةَ وَالنِّبِيِّيْنَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ [سورة آل عمران:79-80].
أي ما ينبغي لبشر آتاه الله الكتاب والحكم والنبوة أن يقول للناس: اعبدوني من دون الله، أي مع الله، فإذا كان هذا لا يصلح لنبي ولا لمرسل، فلئلا يصلح لأحد من الناس غيرهم بطريق الأولى والأحرى، فالجهلة من الأحبار والرهبان ومشايخ الضلال يدخلون في هذا الذم والتوبيخ، بخلاف الرسل وأتباعهم من العلماء العاملين؛ فإنهم إنما يأمرون بما أمر الله به، وبلغتهم إياه رسله الكرام، وإنما ينهونهم عما نهاهم الله عنه، وبلغتهم إياه رسله الكرام، فالرسل -صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين- هم السفراء بين الله وبين خلقه في أداء ما حملوه من الرسالة وإبلاغ الأمانة، فقاموا بذلك أتمَّ قيام، ونصحوا الخلق وبلغوهم الحق.
وقوله: وَلَكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ [سورة آل عمران:79]، أي ولكن يقول الرسول للناس: كونوا ربانيين، قال ابن عباس -ا- وأبو رزين وغير واحد: أي حكماء علماء حلماء.
وقال الضحاك في قوله: بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ [سورة آل عمران:79] حق على من تعلم القرآن أن يكون فقيهاً، وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ تحفظون ألفاظه.
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله, أما بعد..
فقوله تبارك وتعالى: وَلَكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ، بعض أهل العلم يقول: هذا منسوب إلى الرب، والرب يطلق على معانٍ -كما سبق في الكلام على الفاتحة- منها السيد ومنها المربي الذي يربي خلقه بالنعم الظاهرة والباطنة، يربي قلوبهم بالإيمان، ويربي أجسادهم بما يسبغ عليهم من نعمه وإفضاله وعطائه وجوده، فالرباني هنا من أهل العلم من يقول: إنه منسوب إلى الرب، ففيه معنى التربيب والتربية، فهو الذي يربي الناس بصغار العلم قبل كباره.
ومنهم من يقول: وَلَكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ، يعني أرباب العلم، يعني العالمين بدين الرب -تبارك وتعالى- ورب الشيء هو صاحبه، كما في قول عبد المطلب: أنا رب الإبل، والبيت له رب يحميه، يعني أنا صاحب الإبل، فمنهم من يقول: إن الربانيين بمعني الأصحاب, أى أنهم أصحاب العلم، يعني أهل العلم، ومنهم من يقول: إن الرباني منسوب إلى الرَّبَّان.
وعلى كل حال كثير من السلف يجمع في معناها وتفسيرها بين العلم والحكمة، أو العلم والعمل، والذي يظهر -والله أعلم- أن هذه اللفظة لا تدل على العلم فحسب، بل هي تدل على العلم وعلى معنىً آخر، فمعنى الحكمة والفقه متحقق فيها، ويضاف إلى ذلك العالم الذي يعمل بعلمه، ويعلم الناس صغار العلم قبل كباره، ويكون مصلحاً لغيره، فهو الذي يُحسن سياسة الناس بهذا العلم، ويتكلم حيث يظن أن الكلام ينفع، ويمسك عن بعض العلم حيث لا يكون محلاً لبثه وإشاعته، وما إلى ذلك من المعاني، فهي تشمل هذه الأقوال التي قالها السلف -.
وقوله تبارك وتعالى: بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ [سورة آل عمران:79]، أي بسبب كونكم عالمين بالكتاب وبسبب دراستكم للعلم، فإن هذا يحمل ويقتضي من صاحبه أن يكون ربانياً، أي أن يكون عاملاً بعلمه، وأن يكون حكيماً مصلحاً لحاله ولحال غيره.
وهذا على هذه القراءة، وَلَكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ، يعني بهذا السبب، أي أن تعليمكم الكتاب ينتج عنه هذه الصفة، والمعنى كونوا ربانيين بسبب تعليمكم؛ فإن الذي يعلم الناس بالكتاب ينبغي أن يكون عاملاً وأن يكون حكيماً في تعليمه، فلا يلقي عليهم كل ما يعلمه، وإنما يلقي عليهم ما يصلح لمثلهم في كل مقام بحسبه، ومن ذلك أنه يعلم الناس صغار العلم قبل كباره، ويحمله تعليم الكتاب أو العلم بالكتاب إلى العمل به, وإلى أمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر أيضاً، وحثهم على طاعة الله وما أشبه ذلك.
وعلى القراءة الأخرى -قراءة أبي عمرو وأهل المدينة: بِمَا كُنتُمْ تَعْلَمون الْكِتَابَ -بفتح التاء وتخفيف اللام المفتوحة- يكون المعنى كونوا ربانيين بسبب علمكم بالكتاب.
ومن أشمل من تكلم في هذه الآية –فيما وقفت عليه- ابن جرير -رحمه الله تعالى، وخلاصة كلامه:
يقول ابن جرير -رحمة الله تعالى عليه:
"قال أبو جعفر، وأولى الأقوال عندي بالصواب في الربانيين أنهم جمع رباني، وأن الرباني الذي يرب الناس، وهو الذي يصلح أمورهم ويربها ويقوم بها، ومنه قول علقمة بن عبدة:
وكنت امرأً أفضت إليك ربابتي | وقبلك ربتني فضعت ربوب |
قال: فإذا كان الأمر في ذلك على ما وصفنا، وكان الربان ما ذكرنا، والرباني هو المنسوب إلى من كان بالصفة التي وصفت وكان العالم بالفقه والحكمة من المصلحين يرب أمور الناس، بتعليمه إياهم الخير، ودعائهم إلى ما فيه مصلحتهم، وكان كذلك الحكيم التقي لله والوالي الذي يلي أمور الناس على المنهاج الذي وليه المقسطون من المصلحين أمور الخلق، بالقيام فيهم بما فيه صلاح عاجلهم وآجلهم، وعائدة النفع عليهم في دينهم ودنياهم، كانوا جميعاً يستحقون أن يكونوا ممن دخل في قوله : وَلَكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ [سورة آل عمران:79].
فالربانيون إذاً هم عماد الناس في الفقه والعلم وأمور الدين والدنيا، ولذلك قال مجاهد: وهم فوق الأحبار؛ لأن الأحبار هم العلماء، والرباني الجامع إلى العلم والفقه والبصر بالسياسة والتدبير والقيام بأمور الرعية وما يصلحهم في دنياهم ودينهم".
يعني ليس الفقيه فقط أو العالم فقط، بل العالم الذي يربي الناس، ويرجعون إليه، ويفزعون إليه فيما نابهم في مشكلاتهم، ويكون له قيام بالحق ودعوة لهؤلاء الناس، وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر، وما أشبه ذلك.
قال ابن كثير -رحمه الله تعالى:
ثم قال الله تعالى: وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الْمَلاَئِكَةَ وَالنِّبِيِّيْنَ أَرْبَابًا [سورة آل عمران:80] أي: ولا يأمركم بعبادة أحد غير الله، لا نبي مرسل ولا ملك مقرب.
أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ [سورة آل عمران:80]، أي لا يفعل ذلك لأن من دعا إلى عبادة غير الله فقد دعا إلى الكفر، والأنبياء إنما يأمرون بالإيمان، وهو عبادة الله وحده لا شريك له، كما قال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ [سورة الأنبياء:25]، وقال تعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ الآية [سورة النحل:36]، وقال: وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ [سورة الزخرف:45]، وقال إخباراً عن الملائكة عليهم السلام: وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِّن دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ [سورة الأنبياء:29].
وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ فَمَن تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [سورة آل عمران:81-82].
يخبر تعالى أنه أخذ ميثاق كل نبي بعثه من لدن آدم إلى عيسى لَمَهْمَا آتى الله أحدهم من كتاب وحكمة، وبلغ أي مبلغ، ثم جاءه رسول من بعده ليؤمنن به ولينصرنه، ولا يمنعه ما هو فيه من العلم والنبوة من اتباع من بعث بعده ونصرته، ولهذا قال تعالى وتقدس: وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ أي: لَمَهْمَا أعطيتكم من كتاب وحكمة.
قوله تبارك تعالى: وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ الميثاق: هو العهد المؤكد، والمعنى أن الله أخذ عليهم الميثاق بالإيمان بكل رسول يبعثه الله فيدركه زمانهم بحيث يتابعونه ويصدقونه.
وقوله تبارك وتعالى: لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ كلام أهل العلم كثير في تفسير هذه اللفظة لَمَا والمراد بها، وقد سأل عنها سيبويه شيخه الخليل -رحمهما الله- ففسرها بمعنى قريب، حيث فسرها بمعنى الذي، وهذا هو المتبادر والله تعالى أعلم، أي لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ بمعنى للذي آتيتكم من كتاب وحكمة، فـ"ما" بمعنى الذي، واللام هذه، منهم من يقول: إنها للتحقيق، ومنهم من يقول: غير ذلك، وهذا المعنى ظاهر وهو المتبادر والله تعالى أعلم.
وقوله: لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ وفي قراءة حمزة -وهي قراءة متواترة- قرأها بكسر اللام في لِمَا، والتعليل في هذه القراءة أظهر.
ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي [سورة آل عمران:81] وقال ابن عباس -ا- ومجاهد والربيع وقتادة والسدي: يعني عهدي، وقال محمد بن إسحاق: إصري: أي ثقل ما حملتم من عهدي: أي ميثاقي الشديد المؤكد.
الإصر هو بمعنى العهد المؤكد الموثق المشدد فيه، فهذه اللفظة تدل على معنى التشديد، فقوله تعالى: وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ [سورة الأعراف:157] يعني التكاليف الشاقة.
وعلى كل حال سواء كان هذا بإلزام الله لهم بذلك، أو بما أخذ عليهم من المواثيق والعهود فالمقصود أن فيها معنى التشديد، فقوله: وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي يعني العهد الموثق المشدد فيه والله أعلم.
قوله: لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ أي الكتاب الذي أنزله الله عليهم، والحكمة يعني ما أوحي إليهم من غير الكتاب أي السنّة -كما سبق في كلام ابن جرير- وليس بالضرورة أن يكون المقصود سنة النبي ﷺ فالأنبياء يوحى إليهم أشياء غير الكتاب الذي ينزل عليهم.
قَالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ فَمَن تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ [سورة آل عمران:81-82]، أي عن هذا العهد والميثاق، فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [سورة آل عمران:82].
قال علي بن أبي طالب وابن عمه عبد الله بن عباس -ا: ما بعث الله نبياً من الأنبياء إلا أخذ عليه الميثاق لئن بعث الله محمداً وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه، وأمره أن يأخذ الميثاق على أمته لئن بُعث محمد ﷺ وهم أحياء ليؤمنن به ولينصرنه.
وقال طاوس والحسن البصري وقتادة: أخذ الله ميثاق النبيين أن يصدق بعضهم بعضاً.
وهذا لا يضاد ما قاله علي وابن عباس فالرسول محمد خاتم الأنبياء -صلوات الله وسلامه عليه دائماً إلى يوم الدين- هو الإمام الأعظم الذي لو وجد في أي عصر وجد، لكان هو الواجب الطاعة، المقدم على الأنبياء كلهم، ولهذا كان إمامهم ليلة الإسراء لما اجتمعوا ببيت المقدس، وكذلك هو الشفيع في يوم المحشر في إتيان الرب لفصل القضاء بين عباده، وهو المقام المحمود الذي لا يليق إلا له، والذي يحيد عنه أولوا العزم من الأنبياء والمرسلين حتى تنتهي النوبة إليه، فيكون هو المخصوص به -صلوات الله وسلامه عليه.
أَفَغَيْرَ دِينِ اللّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ قُلْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ [سورة آل عمران:83-85].
يقول تعالى: منكراً على من أراد ديناً سوى دين الله الذي أنزل به كتبه، وأرسل به رسله، وهو عبادة الله وحده لا شريك له، الذي له أسلم من في السماوات والأرض، أي استسلم له من فيهما طوعاً وكرها، كما قال تعالى: وَلِلّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا الآية [سورة الرعد:15].
وقال تعالى: أَوَ لَمْ يَرَوْاْ إِلَى مَا خَلَقَ اللّهُ مِن شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلاَلُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالْشَّمَآئِلِ سُجَّدًا لِلّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ وَلِلّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مِن دَآبَّةٍ وَالْمَلآئِكَةُ وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [سورة النحل:48-50] فالمؤمن مستسلم بقلبه وقالبه لله، والكافر مستسلم لله كرهاً؛ فإنه تحت التسخير والقهر والسلطان العظيم الذي لا يخالف ولا يمانع.
وقد روى وكيع في تفسيره عن مجاهد: وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا [سورة آل عمران:83] قال: هو كقوله: وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [سورة لقمان:25].
وروى عن ابن عباس: وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا [سورة آل عمران:83] قال: حين أخذ الميثاق، وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ [سورة آل عمران:83]، أي يوم المعاد، فيجازي كلاًّ بعمله.
وجه الإشكال هو كيف يكون إسلام الكافر في قوله: وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا [سورة آل عمران:83]، فقوله: طَوْعًا هذا بالنسبة للمؤمن، وقوله: وَكَرْهًا هذا بالنسبة للكافر، فهي إما أن تفسر بهذا بالتفسير، بمعنى أن الله يتصرف فيه كما يشاء، حتى هذا البدن فإنه يقوم بإقامة الله له حسب سنة أجراها في تدبيره وقيامه كما هو معلوم، أضف إلى ذلك ما يقع له من الأمور التي يقدرها عليه فهو لا يستطيع الخلاص من ذلك ولا الانفكاك منه، فيولد بقدر الله في وقت محدد، ويموت بقدر الله، والله يكتب رزقه وأجله وعمله، ولا يكون له قليل ولا كثير إلا بإرادة الله الكونية، ويصرِّفه كيف يشاء، فهذا المعنى الذي ذكره الحافظ ابن كثير أولاً.
أو يكون أسلم كرهاً بمعنى أنه إذا عاين في الآخرة أو عاين في الدنيا عند الهلكة حين لا يستطيع الخلاص والفكاك والنجاة كما حصل لفرعون ولغير فرعون سواء كان في الدنيا أو في الآخرة عند ذلك يذعن ويقر ويستسلم، وهذا المعنى فيه بعد، والله لم يحدد في ذلك وقتاً وإنما أطلقه، والأصل أن المطلق يبقى على إطلاقه، وهذه الآية لا تفهم بمعزل عن الآيات الأخرى التي تذكر سجود من في السماوات والأرض لله -تبارك وتعالى- وما إلى ذلك من المعاني التي تدل على خضوع الخلق التام لربهم ومليكهم .
ومنهم من يقول غير هذا كما ذكر ابن كثير هنا عن ابن عباس أنه قال: إن هذا حين أخذ الميثاق، قال لهم: أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى [سورة الأعراف:172]، فيكون هذا هو الإسلام، والله أعلم.
سبق الكلام عن الأسباط في سورة البقرة، وهل المراد بهم تلك القبائل أو البطون من بني إسرائيل، المتشعبة عن أولاد يعقوب؟ أو المراد بهم أولاد يعقوب؟
من أهل العلم من يقول: المراد بالأسباط أولاد يعقوب، والكلام قي نبوتهم معروف، وأما ما وقع لهم مع يوسف ﷺ فقالوا: إنه كان قبل نبوتهم.
وعلى كل حال فالقبائل من بني إسرائيل يقال لهم أسباط، والله ذكر الأسباط في سورة الأعراف فقال: أَسْبَاطًا أُمَمًا [سورة الأعراف:160]، وفي بعض المواضع يحتمل المقام أن يكون المراد بهم أولاد يعقوب أو المراد بطون بني إسرائيل بمعنى الأنبياء الذين وجدوا فيهم، فيكون معنى وَالأَسْبَاطِ أي وما أنزل على هؤلاء الأنبياء من بني إسرائيل.
والله -كما سبق- في سورة البقرة يقول: أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطَ كَانُواْ هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللّهُ [سورة البقرة:140]، فالأقرب إلى ظاهر السياق أن يكون المراد بالأسباط أولاد يعقوب -عليه الصلاة والسلام، مع أن بعض أهل العلم يقول: هم الأنبياء الذين كانوا من ذريتهم ونسلهم، بمعنى أن الأسباط قبائل بني إسرائيل المتناسلة من هؤلاء والله أعلم.
وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى [سورة آل عمران:84] يعني بذلك التوراة والإنجيل، وَالنَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ [سورة آل عمران:84]، وهذا يعم جميع الأنبياء جملة، لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ [سورة آل عمران:84]، يعني بل نؤمن بجميعهم، وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ [سورة آل عمران:84] فالمؤمنون من هذه الأمة يؤمنون بكل نبيٍ أرسل، وبكل كتاب أنزل، لا يكفرون بشيء من ذلك، بل هم مصدقون بما أنزل من عند الله، وبكل نبيٍ بعثه الله.
ثم قال تعالى: وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ الآية [سورة آل عمران:85] أي: من سلك طريقاً سوى ما شرعه الله فلن يقبل منه، وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ، كما قال النبي ﷺ في الحديث الصحيح: من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد[1].
وروى الإمام أحمد عن الحسن حدثنا أبو هريرة إذ ذاك ونحن بالمدينة قال: قال رسول الله ﷺ: تجيء الأعمال يوم القيامة، فتجيء الصلاة فتقول: يا رب أنا الصلاة، فيقول: إنك على خير, وتجيء الصدقة فتقول: يا رب أنا الصدقة، فيقول: إنك على خير، ثم يجيء الصيام فيقول: يا رب أنا الصيام, فيقول: إنك على خير، ثم تجيء الأعمال، كل ذلك يقول الله تعالى: إنك على خير، ثم يجيء الإسلام فيقول: يا رب أنت السلام وأنا الإسلام، فيقول الله تعالى: إنك على خير، بك اليوم آخذ وبك أعطي، قال الله في كتابه: وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ [سورة آل عمران:85] تفرد به أحمد[2].
على كل حال هذا الحديث فيه كلام، فإسناده لا يخلو من ضعف.
كَيْفَ يَهْدِي اللّهُ قَوْمًا كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُواْ أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ أُوْلَئِكَ جَزَآؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللّهِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ خَالِدِينَ فِيهَا لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُواْ فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ [سورة آل عمران:86-89].
روى ابن جرير عن ابن عباس -ا- قال: كان رجل من الأنصار أسلم ثم ارتدَّ ولحق بالشرك، ثم ندم فأرسل إلى قومه أن سلوا لي رسول الله ﷺ هل لي من توبة؟ قال: فنزلت: كَيْفَ يَهْدِي اللّهُ قَوْمًا كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ... [سورة آل عمران:86] إلى قوله: فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ [سورة آل عمران:89] فأرسل إليه قومه فأسلم, وهكذا رواه النسائي والحاكم وابن حبان، وقال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه.
فقوله تعالى: كَيْفَ يَهْدِي اللّهُ قَوْمًا كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُواْ أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ [سورة آل عمران:86] أي: قامت عليهم الحجج والبراهين على صدق ما جاءهم به الرسول، ووضح لهم الأمر ثم ارتدوا إلى ظلمة الشرك، فكيف يستحق هؤلاء الهداية بعدما تلبسوا به من العماية، ولهذا قال تعالى: وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [سورة آل عمران:86].
ثم قال تعالى: أُوْلَئِكَ جَزَآؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللّهِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [سورة آل عمران:87] أي: يلعنهم الله ويلعنهم خلقه، خَالِدِينَ فِيهَا أي: في اللعنة.
في قوله: خَالِدِينَ فِيهَا يحتمل أن يكون المراد أي اللعنة؛ لأنها هي المذكورة قبلُ، أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللّهِ..، ويحتمل أن يكون المراد بذلك العقوبة، وعلى كل حال فإن بين القولين ملازمة لا تخفى، وذلك أن اللعنة هي سبب للعقوبة، والخلود إنما يعبر به غالباً عن العقوبة أي أن صاحبها يكون خالداً في العذاب أو في النار، وهذا أقرب وأكثر في الاستعمال من إضافته إلى اللعن، ولهذا فإن بعض المفسرين ومنهم كبير المفسرين ابن جرير -رحمه الله- يقول: خالدين في العقوبة، والأمر كما ذكرت أنه بين القولين ملازمة، والله أعلم.
لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ [سورة آل عمران:88]، أي لا يفتر عنهم العذاب ولا يخفف عنهم ساعة واحدة.
ثم قال تعالى: إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُواْ فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ [سورة آل عمران:89] وهذا من لطفه وبره ورأفته ورحمته وعائدته على خلقه أنه من تاب إليه تاب عليه.
- أخرجه مسلم في كتاب الأقضية - باب نقض الأحكام الباطلة ورد محدثات الأمور (1718) (ج 3 / ص 1343).
- أخرجه أحمد (8727) (ج 2 / ص 362) وقال شعيب الأرنؤوط: إسناده ضعيف وذكره الألباني في السلسلة الضعيفة.