بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير خلق الله أجمعين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
أقسام القلوب:
روى الإمام أحمد عن أبي سعيد قال: قال رسول الله ﷺ: القلوب أربعة: قلب أجرد فيه مثل السراج يزهر، وقلب أغلف مربوط على غلافه، وقلب منكوس، وقلب مصفح، فأما القلب الأجرد، فقلب المؤمن، فسراجه فيه نوره، وأما القلب الأغلف فقلب الكافر، وأما القلب المنكوس، فقلب المنافق الخالص، أعرف ثم أنكر، وأما القلب المصفح فقلب فيه إيمان ونفاق، ومثل الإيمان فيه كمثل البقلة يمدها الماء الطيب، ومثل النفاق فيه كمثل القرحة يمدها القيح والدم، فأي المادتين غلبت على الأخرى، غلبت عليه وهذا إسناد جيد حسن.
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:
فإن وجه إيراد الحافظ ابن كثير -رحمه الله- لهذا الحديث عند تفسير هذه الآية هو أن المثَلين المضروبين للمنافق في قوله سبحانه: مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضَاءتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ [سورة البقرة:17-18].
والثاني في قوله سبحانه: أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السَّمَاء فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصْابِعَهُمْ فِي آذَانِهِم مِّنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ [سورة البقرة:19]، وَلَوْ شَاء اللّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ [سورة البقرة:20].
فالأول: هو حال المنافق الخالص بحيث أنه لا رجاء فيه ولا رجعة له وقد أغلق منافذه جميعاً فهو لا ينتفع بموعظة ولا بوحي ولا بغير ذلك. والثاني يبين أن هؤلاء إذا أضاء لهم يكاد البرق يخطف أبصارهم، كلما أضاء لهم مشوا فيه، وإذا أظلم عليهم قاموا.
فالحافظ ابن كثير -رحمه الله- يرى أن كلَّ مثل من هذين المثلين لطائفة غير الطائفة الأخرى، فالمثل الأول كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً: هو مثل للمنافق الخالص الذي طبع على قلبه، فوصفهم الله بالصمم والبكم، والعمى.
والمثل الثاني: أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السَّمَاء فِيهِ ظُلُمَاتٌ: كالمطر، فهو يقول: هؤلاء كلما أضاء لهم مشوا فيه، وإذا أظلم عليهم قاموا، فهذا مثل لطائفة أخرى من المنافقين -عند الحافظ ابن كثير- والمراد بهم من تستقيم حالهم تارة وتنتكس أخرى، فإذا أصابتهم النعمة والأمن والرخاء صلح حالهم وسكنوا إلى الإسلام واطمأنوا إليه، وإذا أصابتهم شدة ونكبة نجم النفاق وانتكسوا كالذي يعبد الله على حرف، فمثل هؤلاء تارة هكذا وتارة هكذا بحسب الحال، وهذا على قول الحافظ ابن كثير أن كل مثل لطائفة مغايرة، من المنافقين، فالأول أشد، والثاني من كان تارة وتارة.
وطائفة من أهل العلم كما سبق، يرون أن المثلين المائي: أَوْ كَصَيِّبٍ [سورة البقرة:19]، والناري: الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً [سورة البقرة:17]، كلاهما في طائفة واحدة، وهم أهل النفاق، وسبق الكلام على معنى المثلين.
وعلى كل حال الحافظ ابن كثير -رحمه الله- أورد هذا الحديث ليدلل به على ما قال من أن المنافقين على نوعين:
النوع الأول: هذا الذي وصفه النبي ﷺ بأن قلبه منكوس، وهو قلب المنافق الخاص عرف ثم أنكر، ثم ذكر القلب المصفح، وهو القلب الذي فيه إيمان ونفاق، وهذا للمثل الثاني، على قول ابن كثير، فهو من أجل هذا أورد هذا الحديث.
ولا شك أن النفاق كالكفر ليس على مرتبة واحدة، وإنما هو على مراتب، فالنفاق في الشخص الواحد المعين، تارة يزداد وينقص، كما أنه يتفاوت من شخص إلى آخر، فمن الناس من يكون مغموصاً عليه بالنفاق، ومنهم من يكون بين بين، ومنهم من يكون من ضعفاء الإيمان الذي يحصل له شيء من التردد والتشكك في بعض الأوقات، كما قال الله في سورة الأحزاب لما ذكر أحوالهم قال: وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا [سورة الأحزاب:12]، فالذين في قلوبهم مرض هنا، عطفوا على المنافقين، فبعض أهل العلم يقول: هذا من أوصاف المنافقين، حيث تتابع الأوصاف، كما في قول الشاعر:
هو الملك القرم وابن الهمام | وليث الكتيبة في المزدحم |
عني هي أوصاف متعددة لشخص واحد، فالمنافقون والذين في قلوبهم مرض هم طائفة واحدة عند بعض أهل العلم، وعند بعضهم أن الأمر يختلف، فالمنافقون هم المنافقون، والذين في قلوبهم مرض هم ضعفاء الإيمان، لما حصلت الشدة والحصار حصل لهم تزلزل، وتشكك بوعد الله .
فعلى كل حال هذا تحتمله الآية، ولا شك أن النفاق يتفاوت، ومن قال بأن المثلين لطائفة واحدة هي طائفة المنافقين، فهو يصور أحوالهم، وهذا لربما يكون هو المتبادر، والله تعالى أعلم.
وقوله تعالى: وَلَوْ شَاء اللّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّه عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [سورة البقرة:20].
روى محمد بن إسحاق عن ابن عباس في قوله تعالى: وَلَوْ شَاء اللّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ قال: لما تركوا من الحق بعد معرفته.
إِنَّ اللَّه عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، قال ابن عباس: أي إن الله على كل ما أراد بعباده من نقمة أو عفو قدير.
أي أن قوله تعالى: إِنَّ اللَّه عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ متعلقة بما قبلها، وهنا عمم المعنى، تعميماً ليس مطلقاً، وإنما متوسطاً، بحيث إنه ما قال: إن الله على كل شيء قدير أي بإذهاب سمعهم وأبصارهم، هذا هو ربط خاتمة الآية بما ذكر فيها، وما تضمنته من ذهاب سمعهم وأبصارهم، فهنا قال: على ما أراد بعباده من نقمة أو نعمة، ومن ذلك: إذهاب السمع والأبصار، وإذا عممتها تعميماً مطلقاً تقول: إن الله على كل شيء قدير كما هو ظاهر اللفظ من حيث هو، أي: على كل شيء قدير فيما يتعلق بالخلق والتدبير، وما يتعلق بالعذاب والإنعام وغير ذلك، فهو كذلك.
على كل حال إِنَّ اللَّه عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ: لا شك أن مما يدخل بذلك دخولاً أولياً هو الذهاب بسمعهم وأبصارهم.
هذا الذي يسمونه بالمناسبة، علم المناسبات من أنواعه ما يكون في الربط بين خاتمة الآية وبين موضوعها.
لماذا قال في خاتمة الآية هنا: إِنَّ اللَّه عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ؟
يقال: هذا نوع من علم المناسبات، إذ أنه لما ذكر وعيده بالذهاب بسمعهم وأبصارهم، ذكر قدرته الكاملة، وأن ذلك لا يعجزه، فهذا لون من المناسبات.
كذلك ختم الآيات كما هو معلوم، بالأسماء الحسنى كما في قوله تعالى: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [سورة المائدة:38]، فهذا في غاية المناسبة.
وهناك أشياء قد تشكل ولربما عرضنا لبعضها في بعض المناسبات مثل قوله تعالى: إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [سورة المائدة:118]، والجواب عنها معروف، ذكرته في المرات السابقة، أو في بعض الدروس.
يعني لا تطع منهم آثماً أو كفوراً، لا تطع منهم آثماً ولا كفوراً، نعم، لا تطع لا هذا، ولا هذا؛ لأن "أو" تارة تكون للتخيير والإباحة، وتارة تكون للتقسيم، وتارة تكون بمعنى الواو.
تارة تكون للتقسيم مثل قول الله : وَقَالُواْ كُونُواْ هُودًا أَوْ نَصَارَى [سورة البقرة:135]، فليس هذا للتخيير قطعاً؛ لأن اليهود لا يمكن أن يقولوا: كونوا نصارى تهتدوا، والنصارى لا يمكن أن يقولوا: كونوا على دين اليهود تهتدوا؛ لما بينهم من الخلاف والشر، والعداوة، ولكن هذه للتقسيم، وقالت اليهود كونوا هوداً تهتدوا، وقالت النصارى كونوا نصارى تهتدوا، فهي للتقسيم.
وَقَالُواْ: يعني اليهود والنصارى، كُونُواْ هُودًا أَوْ نَصَارَى: أي كل طائفة قالت: كونوا كذا تهتدوا، أي على دينها، فإذن "أو" هذه للتقسيم.
وهنا "أو" في قوله: أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السَّمَاء ليست للتقسيم على قول ابن جرير، فتكون هنا بمعنى الواو، يعني أن المثلين لطائفة واحدة، وهي حال أهل النفاق من غير تنويع لهم.
وعلى قول ابن كثير لا تكون "أو" بمعنى الواو هنا، وإنما يمكن أن تكون بمعنى التقسيم، أي أن المثل الأول لطائفة، والمثل الثاني لطائفة أخرى.
أو تكون للتخيير، أي اضرب لهم مثلاً بهذا، وإن شئت بهذا، قال القرطبي: أو للتساوي، مثل: جالس الحسن أو ابن سيرين، على ما وجهه الزمخشري أن كلاً منهما مساو للآخر في إباحة الجلوس إليه، ويكون معناه على قوله: سواء ضربت لهم مثلاً بهذا أو بهذا فهو مطابق لحالهم.
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاء بِنَاء وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ [سورة البقرة:21-22].
توحيد الألوهية:
شرح تبارك وتعالى في بيان وحدانية ألوهيته بأنه تعالى هو المنعم على عبيده بإخراجهم من العدم إلى الوجود، وإسباغه عليهم النعم الظاهرة والباطنة، بأن جعل لهم الأرض فراشاً، أي مهداً كالفراش.
اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ: هذا يسمونه دليل الإيجاد والخلق والاختراع، وهو كثير في القرآن.
ثم قال: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاء بِنَاء وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمَْ [سورة البقرة:22]: وهذا يقال له: دليل الحكمة والتعليل، وهذا كثير في القرآن أيضاً، حيث يذكر الله لهم أنه الذي خلق ويستدل لهم على ذلك، ومن ثم يتوصل بهذا إلى إلزامهم بتوحيد الإلهية، الذي خلق ينبغي أن تكون العبادة مختصة به، ومن هنا قيل: إن توحيد الربوبية مستلزم لتوحيد الإلهية، إذا أقررتم بأن الله هو المنفرد بالخلق والإيجاد والتصرف فينبغي أن يكون ذلك حاملاً لكم على توحيده وإفراده بالعبادة.
ثم قال لهم: فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ [سورة البقرة:22]: أي: من كان بهذه المثابة من الخلق والإيجاد والإنعام والإفضال، فينبغي أن تكون العبادة له وحده لا شريك له، وهذا الأسلوب كثير في آيات القرآن.
الآن في قوله: اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً [سورة البقرة:21-22]، أي: اعبدوا ربكم، العبادة المعروفة، وهذا أمر بتوحيد الإلهية، وما يندرج تحته ويتضمنه ويستلزمه.
اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ: أفردوه بالعبادة والتوجه، فلا تتوجهوا إلى أحد سواه، وذكر اسم الرب -تبارك وتعالى- هنا وهو في غاية المناسبة، فقوله: اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ أي: أن المربي بالنعم الظاهرة والسيد هو الذي ينبغي أن يوحد ويفرد، فليس لكم رب سواه، فكيف تعبدون غيره، وتتوجهون بالشكر والعبادة، وتضعون ذلك في غير من خلق؟ فهذا غاية الظلم كما قال تعالى: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [سورة لقمان:13]، فالرب هو الذي يستحق أن يعبد.
قال تعالى: الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ، قوله: لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ: تحتمل أن تكون بمعنى الترجي، وهنا يرد الإشكال المعروف، وهو: كيف يقع الترجي من الله وهو عالم ما كان وما يكون من الخفيات، وإنما يترجى من كان لا يعلم عواقب الأمور.
فنحن نترجى نزول المطر، ونترجى قدوم زيد، نرجو حصول كذا، ولا ندري هل يحصل أم لا، فإذا كان قريب المنال فهذا هو الرجاء، وإذا كان من المحال أو البعيد جداً، فهذا هو التمني، نتمنى نزول المطر.
وعلى كل حال فإن الله لا يترجى، فمن قال: لَعَلَّكُمْ للترجي، قال: ذلك بحسب حال المخاطب، المخاطب يخاطب بحسب نظره، كما سمى معبودات المشركين آلهة، وهي ليست آلهة، وسمى الترَّهات والشبهات التي يحتجون بها سماها حجة، قال تعالى: حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِندَ رَبِّهِمْ [سورة الشورى:16] وهي ليست بحجة، لكن هم يعتقدون أنها حجة فسماها حجة، وهذا إذا قلنا: إن لعلَّ للترجي، وإذا قلنا: إنها للتعليل في جميع المواطن في القرآن -إلا في قوله: وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ [سورة الشعراء: 129] أي: كأنكم تخلدون، وباقي المواضع كلها تكون للتعليل- فهنا في قوله تعالى: اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ لا إشكال؛ إذ يكون المعنى اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم من أجل أن تحصل لكم التقوى.
فقوله: لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ هنا هل يكون عائداً إلى ما ذكر من الأمر بالعبادة، اعبدوا ربكم لعلكم تتقون، أو يكون عائداً إلى ما ذكر من الخلق، الذي خلقكم لعلكم تتقون، أي من أجل أن تتقوه.
بعض أهل العلم، يقولون: إنه يعود إلى الأمر بالعبادة، اعبدوا ربكم من أجل أن تحصل لكم التقوى، فالله يأمرنا بالعبادة لتربية التقوى في نفوسنا.
وعلى المعنى الآخر يكون ذلك عائداً إلى الخلق، فهو خلقنا من أجل أن نحقق التقوى، من أجل أن نتقيه .
فإذا قلنا: إنه عائد إلى العبادة، فقد يشكل عليه أن العبادة هي التقوى، أليست التقوى هي فعل ما أمر واجتناب ما نهى؟ وفعل ما أمر واجتناب ما نهى هو العبادة، فهذا قد يلزم منه ما يسمى بالدور.
فعلى هذا يمكن أن يقال: إن الله أمر بعبادته لتحصل التقوى، وهي أن يجعل العبد بينه وبين عقاب الله وقاية، بفعل ما أمر واجتناب ما نهى، فيكون متقياً إذا امتثل، إذا كان عابداً يكون متقياً، ويحتمل أن يكون المعنى الآخر، أن الله خلقنا من أجل أن نتقيه بتحقيق العبودية، فيكون ذلك كقوله -تبارك وتعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [سورة الذاريات:56 ].
فإذا أردنا أن نرجح بين المعنيين فالمعنى الثاني هو أقرب، ويشهد له هذه الآية، وهي قوله -تبارك وتعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [سورة الذاريات:56]، فعبادته هي تقواه، بفعل ما أمر واجتناب ما نهى.
ويمكن أن نقول: إن الآية تحمل على المعنيين، فيقال بأن الله يأمرنا بعبادته لتربية التقوى في النفوس وقد خلقنا أيضاً من أجل تحقيق التقوى، والقرآن يعبر به بالألفاظ القليلة الدالة على المعاني الكثيرة، فيكون خاتمة الآية: لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ تعليلاً للأمر بالعبادة، وتعليلا للخلق والإيجاد، والله تعالى أعلم..