بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال المفسر -رحمه الله تعالى:
سورة النساء
قال العوفي عن ابن عباس -ا: نزلت سورة النساء بالمدينة، وكذا روى ابن مردويه عن عبد الله بن الزبير وزيد بن ثابت -، وروى الحاكم في مستدركه عن عبد الله بن مسعود قال: إن في سورة النساء لخمس آيات ما يسرني أن لي بها الدنيا وما فيها: إِنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ... [سورة النساء:40] الآية، وقوله: إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ... [سورة النساء:31] الآية، وقوله: إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء... [سورة النساء:48]، وقوله: وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآءُوكَ.. [سورة النساء:64] الآية.
وفي رواية وقوله: وَمَن يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللّهَ يَجِدِ اللّهَ غَفُورًا رَّحِيمًا [سورة النساء:110]، ثم قال: هذا إسناد صحيح إن كان عبد الرحمن سمع من أبيه فقد اختلف في ذلك.
وروى الحاكم عن ابن عباس -ا- قال: سلوني عن سورة النساء فإني قرأت القرآن وأنا صغير، ثم قال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.
بسم الله الرحمن الرحيم: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [سورة النساء:1]، يقول تعالى آمراً خلقه بتقواه، وهي عبادته وحده لا شريك له، ومنبهاً لهم على قدرته التي خلقهم بها من نفس واحدة وهي آدم ، وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وهي حواء عليها السلام خلقت من ضلعه الأيسر من خلفه وهو نائم، فاستيقظ فرآها فأعجبته فأنس إليها وأنست إليه، وفي الحديث الصحيح: إن المرأة خلقت من ضلع وإن أعوج شيء في الضلع أعلاه، فإذا ذهبت تقيمه كسرته، وإن استمتعت بها استمتعت بها وفيها عوج [1].
وقوله: وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء أي: وذرأ منهما، أي: من آدم وحواء رجالاً كثيراً ونساء ونشرهم في أقطار العالم على اختلاف أصنافهم وصفاتهم، وألوانهم ولغاتهم، ثم إليه بعد ذلك المعاد والمحشر، ثم قال تعالى: وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ: أي واتقوا الله بطاعتكم إياه.
قال إبراهيم ومجاهد والحسن: الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ أي: كما يقال: أسألك بالله وبالرحم، وقال الضحاك: واتقوا الله الذي به تعاقدون وتعاهدون، واتقوا الأرحام أن تقطعوها، ولكن بروها وصلوها، قاله ابن عباس -ا، وعكرمة، ومجاهد، والحسن، والضحاك، والربيع وغير واحد، وقرأ بعضهم وَالأَرْحَامِ بالخفض على العطف على الضمير في به، أي تساءلون بالله وبالأرحام، كما قال مجاهد وغيره.
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فقوله -تبارك وتعالى: وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ بالنصب على نزع الخافض هي قراءة الجمهور، ولها معنيان:
المعنى الأول: أي كما يقال أسألك بالله وبالرحم، ومعلوم أنه لا يجوز السؤال بالأرحام، وإنما هذا نوع استحلاف جرى على ما كانوا يقولونه في الجاهلية، فنزل القرآن الكريم مذكراً ومنبهاً لهم.
المعنى الآخر: أي واتقوا الأرحام أن تقطعوها.
وقراء حمزة بالجر وَالأَرْحَامِ وهي قراءة متواترة، وحولها كلام كثير لأهل العربية وللمفسرين وأرباب القراءات، إذ استشكلوا عطف الأرحام على الضمير المجرور بالباء، على خلاف القاعدة النحوية أن الاسم الظاهر لا يعطف على الضمير، لكن إن ثبتت القراءة بذلك فإنه يوقف عندها ولا تحاكم إلى قواعد العربية، كما يقول الحافظ ابن القيم -رحمه الله: ولو كانت ألف قاعدة، فإنما تؤخذ قواعد العربية من الاستقراء، أي: استقراء القرآن وكلام العرب، فإذا جاءت قراءة ثابتة صحيحة عن إمام من أئمة القراءة فلا ينبغي العدول عنها لأي حجة.
وأهل اللغة يثبتون وجود أمثلة على عطف الاسم الظاهر على الضمير من كلام العرب وأشعارهم، وهو إن لم يكن الأكثر والأشهر، إلا أنه ليس من شروط صحة القراءة الثلاثة وهي: نقلها بالتواتر، موافقتها لوجه من وجوه العربية ولو غير مشهور، وموافقتها للرسم العثماني.
والأقرب في تفسير قوله سبحانه: وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ أن يقال: واتقوا الأرحام أن تقطعوها، والقراءتان إذا كان لكل واحدة معنىً يخصها، ولم توجد منافاة بينهما فإنهما تنزلان بمنزلة الآيتين. والله أعلم.
وقوله: إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا أي: هو مراقب لجميع أعمالكم وأحوالكم، كما قال: وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ [سورة المجادلة:6]، وفي الحديث الصحيح: اعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك[2]، وهذا إرشاد وأمر بمراقبة الرقيب، ولهذا ذكر تعالى أن أصل الخلق من أب واحد وأم واحدة؛ ليعطف بعضهم على بعض، ويحننهم على ضعفائهم.
وقد ثبت في صحيح مسلم من حديث جرير بن عبد الله البجلي أن رسول الله ﷺ حين قدم عليه أولئك النفر من مضر، وهم مجتابوا النمار، أي: من عريهم وفقرهم، قام فخطب الناس بعد صلاة الظهر فقال في خطبته: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ حتى ختم الآية، وقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ [سورة الحشر:18]، ثم حضهم على الصدقة فقال: تصدق رجل من ديناره من درهمه من صاع بره من صاع تمره[3] وذكر تمام الحديث، وهكذا رواه أحمد وأهل السنن عن ابن مسعود في خطبة الحاجة وفيها: ثم يقرأ ثلاث آيات هذه منها: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الآية[4].
وَآتُواْ الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَامَى فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُواْ وَآتُواْ النَّسَاء صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَّرِيئًا [سورة النساء:2-4] يأمر تعالى بدفع أموال اليتامى إليهم إذا بلغوا الحلم كاملة موفرة، وينهى عن أكلها وضمها إلى أموالهم.
إنما سمى اليتيم يتيماً وقد بلغ الحلم، باعتبار ما كان وإلا فقد ارتفع عنه اليتم حينما بلغ، ولذلك لا يعطى ماله إلا بعد البلوغ والرشد، وهذا كقوله -تبارك وتعالى- عن السحرة: وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ [سورة الأعراف:120]، ومعلوم أنه ارتفع عنهم وصف السحر بعد توبتهم، وهذا التفسير مشى عليه ابن كثير –رحمه الله، وجماعة من المحققين سلفاً وخلفاً، وممن قال بهذا ورجحه العلامة محمد بن الأمين الشنقيطي -رحمة الله عليه.
وراعى بعض أهل العلم لفظ الآية، ورأى أن المقصود بقوله سبحانه: وَآتُواْ الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ أي: ما يعطون منها في حال اليتم على سبيل النفقة بالمعروف، وهذا المعنى وإن كانت تحتمله الآية إلا أن المعنى الأول أقرب وهو المتبادر.
لكن إذا فسرت وَآتُواْ الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ بالمعنى الأول فإنها مقيدة بالآية الأخرى وهي قوله -تبارك وتعالى: وَابْتَلُواْ الْيَتَامَى حَتَّىَ إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ [سورة النساء:6] فيكون هذا العطاء الذي أمر الله به والدفع والإيتاء لليتيم مقيداً ببلوغه سن الرشد والتمييز، فلا يُعطَ ماله في حال صغره ولا مع سفه، والله أعلم.
وصْفُ الخبيث والطيب في الآية راجع إلى الجودة والرداءة في المال، فأما الطيب من الأموال فمعلوم ومعهود، وأما الخبيث فمقصوده في الآية هو المسترذل منها كما قال النبي ﷺ: كسب الحجام خبيث[5] أراد أنه من المكاسب المرذولة التي يترفع عنها أصحاب النفوس الكريمة، ولا تعلق للوصف بالحل والحرمة، ومال إلى هذا القول جماعة من السلف، وهو معنى تحتمله الآية.
وذهب جمع من المفسرين إلى أن معنى قوله سبحانه: وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ أي: لا تتبدلوا الحلال من المكاسب بالحرام فتأخذوا ما يحرم عليكم أخذه وهو مال اليتيم، وتتأثلوا وتدعوا ما أحل الله لكم من المكاسب الطيبة من أموالكم، وهو أقرب ومتبادر إلى الذهن، اختاره كبير المفسرين ابن جرير، وقاله جماعة من السلف والخلف، والله أعلم بالصواب.
إذا كان المراد لا تخلط مال اليتيم بمالك، فيكون النهي متضمناً الضم؛ لأن الضم يتعدى بحرف الجر إلى، والمعنى أي مضمومة إلى أموالكم، وهذا مقتضى كلام ابن كثير، وقيل: بل النهي متضمن معنى الحرف، والمعنى لا تأكلوا أموالهم مع أموالكم، فتكون إلى بمعنى مع، ومعلوم أن حروف الجر تتناوب، فلا يحل لولي اليتيم أن يخلط ماله بماله احتياطاً لمال اليتيم من الذهاب، وقد ثبت الوعيد الشديد من الرب في حق من تهاون بأموال اليتامى كما قال سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا [سورة النساء:10]، ولذلك الصحابة بعد نزول هذه الآية كان أحدهم يعزل طعامه عن طعام اليتيم، وشرابه عن شرابه، ولباسه عن لباسه فشق ذلك عليهم، ثم أذن الله ورخص لهم في المخالطة بقوله: وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاء اللّهُ لأعْنَتَكُمْ [سورة البقرة:220] فأباح الله المخالطة لمال اليتيم بشرط الاحتياط له، لا أن يحتاط ولي اليتيم لنفسه ويتوسع في مال اليتيم على حسابه، ولذا قال بعده: وَاللّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ أي: من قصده الإصلاح لمال اليتيم، ومن قصده إفساده وإتلافه وإضاعته.
وبعض أهل العلم يقول: إن هذه الآية لو فسرت بمعنى المخالطة فإنها منسوخة بقوله: وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ، لكن الأرجح أن الآية محكمة، وإنما تلك الآية ترخص بمخالطتهم مع الاحتياط لأموالهم وحفظها لوجود المشقة، وهذا الآية تنهى عن مخالطتهم بنية أكل أموالهم وإتلافها وإضاعتها، ولسنا بحاجة إلى القول بالنسخ؛ عملاً بالقاعدة الأصولية: النسخ لا يثبت بالاحتمال، والله أعلم.
ذكر أهل اللغة أكثر من سبعة معانٍ للحوب تفسر في كل موطن بحسب السياق، وما ذكره ابن كثير في معنى الحوب في الآية هو الذي يناسب السياق، والله أعلم.
الخوف في الآية قد يكون بمعنى العلم، والمراد إن خفتم أي علمتم، كما قال أبو محجن الثقفي موصياً ابنه:
إذا مت فادفني إلى جنب كرمة | تروي عظامي في الممات عروقها |
ولا تدفنني في الفلاة فإنني | أخاف إذا ما مت ألا أذوقها |
وتأتي خاف بمعنى غلبة الظن، والمراد إن غلب على ظنكم أن لا تقسطوا مع اليتيمة فانكحوا من الزوجات غيرها، وأما مع اليقين فذلك من باب أولى، وهذا المعنى أقرب.
ولا اعتبار لمفهوم المخالفة في قوله سبحانه: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَامَى فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء بالإجماع، إذ المعنى على مفهوم المخالفة: إن لم تخافوا ألا تعدلوا مع اليتيمة فليس لكم أن تتزوجوا ما طاب لكم من النساء.
وأما وجه الارتباط بين الشرط والجزاء في الآية، فقد ذكر بعض أهل العلم أن أهل الجاهلية كانوا لا يتورعون من عدم توريث النساء، ولهم في ذلك أخبار من المظالم التي تقع عليها، فقد كان الرجل إذا مات ألقى الورثة على زوجته ثوباً، فلا تتزوج بعده ولا تتصرف بنفسها، إلى غير ذلك من المظالم المعروفة، فربط الله بين الأمرين ليعلمهم أن تحرجهم المتقرر عندهم في مال اليتيم، لا بد أن يشمل النساء فيعدل ويقسط معهن، بأن تعطى نصيبها من الميراث؛ لأن ذلك لم يكن معتبراً عندهم في الجاهلية.
والأمر بقوله سبحانه: فانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مراده مما لا يقع معه الجور، كل بحسبه مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ فإن خشيتم ألا يحصل منكم عدل بالتعدد فَوَاحِدَةً، فإن خفتم أن لا تعدلوا حتى مع الواحدة فـمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ؛ لأن ملك اليمين لا يجب القسم لهن كما هو معروف على قول عامة أهل العلم، وهذا المعنى رجحه جماعة من أهل العلم كابن جرير الطبري –رحمه الله.
وقيل: المعنى: إنّ تخوفكم من التجني على اليتامى وتحرجكم وتورعكم في أموالهم علامة على أهليتكم للتعدد، وواضح أن الآية ما سيقت من أجل تقرير هذا المعنى.
وقال مجاهد في معنى قوله: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى أي: إن تحرجتم في ولاية اليتامى وأكل أموالهم، فتحرجوا كذلك من الزنا، ولكم في التعدد مندوحة فانكحوا "مثنى وثلاث ورباع"، وهذا قول بعيد جداً.
والأقرب ما ذكره ابن كثير بقوله: أي إذا كان تحت حجر أحدكم يتيمة، وخاف ألا يعطيها مهر مثلها فليعدل إلى ما سواها من النساء فإنهن كثير، ولم يضيق الله عليه، وهذا المعنى هو المتبادر؛ لأن سياق الآية يتحدث عن القسط في حق اليتامى، لا العدل في النساء، وهذا ما رجحه الشيخ محمد الأمين الشنقيطي -رحمة الله عليه- والله أعلم.
يقول الحافظ ابن حجر في الفتح: هكذا قال هشام عن ابن جريج فأوهم أنها نزلت في شخص معين، والمعروف عن هشام بن عروة التعميم، وكذلك أخرجه الإسماعيلي من طريق حجاج بن محمد عن ابن جريج ولفظه: "أنزلت في الرجل يكون عنده اليتيمة... "، وكذا هو عند المصنف في الرواية التي تلي هذه من طريق ابن شهاب عن عروة.
والعَذْق بالفتح: النخلة، والعِِذْق بالكسر: هو القنو من الرطب أو التمر.
ثم روى البخاري عن عروة بن الزبير أنه سأل عائشة -ا- عن قول الله تعالى: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَامَى قالت: يا ابن أختي، هذه اليتيمة تكون في حجر وليها تشركه في ماله، ويعجبه مالها وجمالها، فيريد وليها أن يتزوجها بغير أن يقسط في صداقها، فيعطيها مثلما يعطيها غيره، فنهوا أن ينكحوهن إلا أن يقسطوا لهن، ويبلغوا بهن أعلى سُنتهن في الصداق، وأمروا أن ينكحوا ما طاب لهم من النساء سواهن[7].
قال عروة: قالت عائشة: وإن الناس استفتوا رسول الله ﷺ بعد هذه الآية فأنزل الله: وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاء [سورة النساء:127]، قالت عائشة: وقول الله في الآية الأخرى: وَتَرْغَبُونَ أَن تَنكِحُوهُنَّ [سورة النساء:127] رغبة أحدكم عن يتيمته إذا كانت قليلة المال والجمال، فنهوا أن ينكحوا من رغبوا في ماله وجماله من يتامى النساء إلا بالقسط من أجل رغبتهم عنهن إذا كن قليلات المال والجمال.
استشكل بعض أهل العلم كلام عائشة وقول الله في الآية الأخرى: وَتَرْغَبُونَ أَن تَنكِحُوهُنَّ... "، إذ كيف قالت ذلك مع أن الآية واحدة؟ فبعض أهل العلم قال: مقصود عائشة -ا- من كلامها أنها طرف من الآية.
والذي رجحه الحافظ ابن حجر -رحمه الله- أن هذه الرواية سقط منها شيء؛ لأنه جاء في إحدى الروايات عند مسلم والنسائي: قالت عائشة: ثم إن الناس استفتوا رسول الله ﷺ بعد هذه الآية فيهن، فأنزل الله : وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاء قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاء إلى قوله وَتَرْغَبُونَ أَن تَنكِحُوهُنَّ... [سورة النساء:127]، قالت: والذي ذكر الله تعالى أنه يتلى عليكم في الكتاب الآية الأولى التي قال الله فيها: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَامَى فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء فهذه الآية تبين الإبهام الذي في الآية الأخرى، وهكذا يخرج الإشكال وبالتالي ينتفي.
ومن أمثلة هذا النوع قوله تعالى في سورة النحل: وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِن قَبْلُ [سورة النحل:118]، وأورد الله ما قصه من التحريم على اليهود في سورة الأنعام بقوله: وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ [سورة الأنعام:146].
وفي الرواية شيء آخر نبه عليه الإسماعيلي وهو قوله: "فكان لها عَذْق فكان يمسكها عليه" فإن هذا نزل في التي يرغب عن نكاحها، وأما التي يرغب في نكاحها فهي التي يعجبه مالها وجمالها فلا يزوجها لغيره ويريد أن يتزوجها بدون صداق مثلها.
والله أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه وآله وصحبه.
- رواه البخاري في كتاب الأنبياء – باب قول الله تعالى: وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً [سورة البقرة:30] برقم (3153) (3/1212)، ومسلم في كتاب الرضاع – باب الوصية بالنساء برقم (1468) (2/1090).
- رواه البخاري في كتاب الإيمان – باب سؤال جبريل النبي ﷺ عن الإيمان والإسلام والإحسان وعلم الساعة برقم (50) (1/27)، ومسلم في كتاب الإيمان – باب بيان الإيمان والإسلام والإحسان ووجوب الإيمان بإثبات قدر الله برقم (8) (1/36)، ولفظ البخاري ومسلم أن تعبد الله ....
- رواه مسلم في كتاب الزكاة – باب الحث على الصدقة ولو بشق تمرة أو كلمة طيبة وأنها حجاب من النار برقم (1017) (2/704).
- رواه النسائي برقم (1404) (3/104)، وأحمد برقم (3720) (1/392)، وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن النسائي برقم (1404).
- رواه أبو داود برقم (3423) (3/278)، والترمذي برقم (1275) (3/574)، وصححه الألباني في صحيح وضعيف الجامع الصغير برقم: (5388).
- رواه البخاري في كتاب التفسير – باب تفسير سورة النساء برقم (4297) (4/1668).
- رواه البخاري في كتاب التفسير – باب تفسير سورة النساء برقم (4298) (4/1668).