الثلاثاء 17 / جمادى الأولى / 1446 - 19 / نوفمبر 2024
[8] تتمة تفسير قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} الآية 23 إلى قوله تعالى: {إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} الآية 24.
تاريخ النشر: ٠٩ / شوّال / ١٤٢٦
التحميل: 3653
مرات الإستماع: 2594

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

قال المفسر -رحمه الله تعالى:

وقوله تعالى: وَحَلاَئِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلاَبِكُمْ [سورة النساء:23] أي: وحرمت عليكم زوجات أبنائكم الذين ولدتموهم من أصلابكم، يحترز بذلك عن الأدعياء الذين كانوا يتبنونهم في الجاهلية؛ كما قال تعالى: فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ [سورة الأحزاب:37] الآية، وقال ابن جريج سألت عطاء عن قوله: وَحَلاَئِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلاَبِكُمْ قال: كنا نحدث -والله أعلم- أن النبي ﷺ لما نكح امرأة زيد قال المشركون بمكة في ذلك، فأنزل الله : وَحَلاَئِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلاَبِكُمْ، ونزلت: وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءكُمْ أَبْنَاءكُمْ [سورة الأحزاب:4]، ونزلت: مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ [سورة الأحزاب:40].

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فالحلائل: جمع حليلة وهي الزوجة، سميت بذلك لأنها تحل مع زوجها حيث حل، فهي فعيلة بمعنى فاعلة، تتبع زوجها وتنتقل معه حيث انتقل.

وذهبت طائفة إلى أنها من لفظة الحلال فهي حليلة بمعنى محللة، يحل لزوجها أن يستمتع بها، ويمكن أن يكون الوصف شاملاً للطرفين، باعتبار أن كل واحد يحل له أن يستمتع بالآخر كما قال ابن جرير، أو لأن كل واحد منهما يحل إزار صاحبه.

والأقرب للسياق القول: إنها التي تكون حلالاً له يستمتع بها ويطؤها، والله تعالى أعلم.

وأما القول بأنها تحل معه حيث حل، أو بأن كل واحد يحل إزار الآخر، وكذا أنها تحل معه في فراش واحد فهذا يمكن أن يكون من قبيل التفسير باللازم.

ويدخل في الحلائل ما كان من جهة الرضاع؛ لعموم قوله ﷺ: يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب[1] فلا يجوز للإنسان أن يتزوج زوجة ابنه من الرضاع، والله أعلم

وروى ابن أبي حاتم عن الحسن بن محمد أن هؤلاء الآيات مبهمات وَحَلاَئِلُ أَبْنَائِكُمُ وَأُمَّهَاتُ نِسَآئِكُمْ ثم قال: وروي عن طاوس وإبراهيم والزهري ومكحول نحو ذلك، قلت: معنى مبهمات أي عامة في المدخول بها وغير المدخول، فتحرم بمجرد العقد عليها، وهذا متفق عليه.

النصوص المبهمات في كلام السلف يعني الباقية على العموم والإطلاق بدون تخصيص أو قيد، فيدخل في تحريم الحلائل كل زوجة ابن من رضاع أو نسب، ولو أن ظاهر الآية تحدّث عن الابن الصلب دون غيره قال سبحانه: وَحَلاَئِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلاَبِكُمْ إلا أن السنة دلت على أن ما كان من الرضاع فحكمه حكم النسب، وأيضاً لا يكون ذلك مقيداً بالدخول كما في الربيبة، بل يشمل الوصفُ المدخولَ بها وغير المدخول بها فتحرم بمجرد العقد عليها، وكذا أمهات نسائكم يدخل فيها كل أم لزوجتك وإن علت من جهة الأب أو من جهة الأم، ولا يكون ذلك مختصاً بالمدخول بها أو غير المدخول بها، والله أعلم.

فإن قيل: فمن أين تحرم امرأة ابنه من الرضاعة -كما هو قول الجمهور ومن الناس من يحكيه إجماعاً- وليس من صلبه؟ فالجواب من قوله ﷺ: يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب.

وممن نقل الإجماع على تحريم امرأة الابن من الرضاعة ابن المنذر -رحمه الله.

وقوله تعالى: وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إَلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ الآية [سورة النساء:23] أي: وحرم عليكم الجمع بين الأختين معاً في التزويج، وكذا في ملك اليمين إلا ما كان منكم في جاهليتكم فقد عفونا عن ذلك وغفرناه، فدل على أنه لا مثنوية فيما يستقبل ولا استثناء فيما سلف كما قال: لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى [سورة الدخان:56]، فدل على أنهم لا يذوقون فيها الموت أبداً.

تحريم الجمع بين الأختين من النسب ومن الرضاع، فالإجماع قائم على ذلك، وأما ملك اليمين ففيه خلاف مشهور بين الصحابة فقد روي عن جمع منهم كعثمان بن عفان وابن عباس القول بجواز الجمع بين الأختين بملك اليمين في الوطء، وقالوا: حرمتها آية وأحلتها آية، فالله أطلق في ملك اليمين فقال: وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ  ۝ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ [سورة المؤمنون:5-6]، فيدخل فيه كل ملك لليمين، وحرمتها آية وهي قوله سبحانه: وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إَلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ [سورة النساء:23]. 

وتوقف بعض السلف في الجمع بين الأختين بملك اليمين في الوطء لتعارض العمومان، ولا بد عند الترجيح في المسألة من أمر خارج ولا يوجد عن النبي ﷺ فيما أعلم ما يرفع الخلاف إلا أن الاحتياط للدين هو مجانبة ذلك، والله أعلم.

وقد أجمع العلماء من الصحابة والتابعين والأئمة قديماً وحديثاً على أنه يحرم الجمع بين الأختين في النكاح.

ومن أسلم وتحته أختان خيّر فيمسك إحداهما ويطلق الأخرى لا محالة، روى الإمام أحمد عن الضحاك بن فيروز عن أبيه قال: أسلمت وعندي امرأتان أختان فأمرني النبي ﷺ أن أطلق إحداهما[2].

وقوله تعالى: وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاء إِلاَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ [سورة النساء:24] أي: وحرم عليكم من الأجنبيات المحصنات وهن المزوجات.

الإحصان: أصله التمنع، وله صور: فقد يكون التمنع بالإسلام، فإذا أسلمت فإنها لا يحل فرجها، ويكون بالزواج فإذا تزوجت فلا يحل لأحد أن يطأها غير الزوج ولو كانت أمة، إلا ما حصل بملك اليمين من سبايا الكفار؛ لأن نكاحها الأول ينقطع بسبي المسلمين لها.

ولسبايا الكفار ثلاثة أحوال:

الأولى: أن تكون مدخولاً بها وهي حامل فإنها لا توطأ حتى تضع الحمل.

الثانية: أن تكون مدخولاً بها غير حامل فإنها تستبرأ بحيضة قبل أن يطأها.

الثالثة: أن تكون بكراً فله وطؤها مباشرة.

وأما ما ذكره ابن كثير في تفسير المحصنات بأنهن ذوات الأزواج فهو الذي عليه كثير من المحققين، وهو اختيار الحافظ ابن القيم –رحمه الله، وقاله من المعاصرين: الشيخ محمد بن الأمين الشنقيطي –رحمه الله؛ وعللوا ذلك بأن الله لما عدد المحرمات ذكر في جملتهن وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاء فقال بعضهم: وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاء أي: العفائف المتزوجات الحرائر، وقال آخرون: الحرائر فوق الأربع، ويمكن أن يكون هذا التفسير من باب الملازمة، وابن جرير يحمل الآية على الجميع، والعلم عند الله .

إِلاَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ يعني: إلا ما ملكتموهن بالسبي فإنه يحل لكم وطؤهن إذا استبرأتموهن فإن الآية نزلت في ذلك.

الاستثناء في الآية على المعنى السابق يكون منقطعاً، وإذا صار المعنى وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاء: يعني والمتزوجات إِلاَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ غير المتزوجات فإن الاستثناء يكون متصلاً، والله أعلم.

وروى الإمام أحمد عن أبي سعيد الخدري قال: أصبنا نساء من سبي أوطاس ولهن أزواج فكرهنا أن نقع عليهن ولهن أزواج، فسألنا النبي ﷺ فنزلت هذه الآية: وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاء إِلاَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فاستحللنا بها فروجهن، وهكذا رواه الترمذي ورواه النسائي وابن جرير، ورواه مسلم في صحيحه.

وقوله تعالى: كِتَابَ اللّهِ عَلَيْكُمْ أي: هذا التحريم كتاب كتبه الله عليكم فالزموا كتابه ولا تخرجوا عن حدوده، والزموا شرعه وما فرضه.

ويحتمل في نصب كِتَابَ أمرين:

أن يكون منصوباً على المصدرية، أي: كتب الله ذلك عليكم كتاباً، أو يكون منصوباً على الإغراء -بفعل محذوف- والمعنى: الزموا كتاب الله عليكم.

وقوله تعالى: وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ أي: ما عدا من ذكرنا من المحارم هن لكم حلال، قاله عطاء وغيره.

هذه القراءة بالبناء على المجهول، والمُحل والمُحرم هو الله ، وفي القراءة الأخرى المتواترة وَأَحَلَ لَكُم مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ بالفتح.

وقوله تعالى: أَن تَبْتَغُواْ بِأَمْوَالِكُم مُّحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ أي: تحصلوا بأموالكم من الزوجات إلى أربع، أو السراري إلى ما شئتم بالطريق الشرعي، ولهذا قال: مُّحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ.

أصل مسافحين من سفْح الماء، يعني صبه وسيلانه وعبر بذلك عن الزنا لما فيه من السفح المحرم للماء وذلك بوضعه في غير موضعه، والمعنى: أنهم متعففون عن الزنا.

وأما الوطء المحرم فالراجح أنه لا تنتشر بسببه الحرمة؛ لأن الله أراد بالتحريم ذوات العقود والمتزوجات الزواج الشرعي، وخالف في المسألة بعض الفقهاء فذهبوا إلى أن الوطء المحرم تنتشر بسببه الحرمة، والله أعلم.

وقوله تعالى: فَمَا اسْتَمْتَعْتُم بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً أي: كما تستمتعون بهن فآتوهن مهورهن في مقابلة ذلك؛ كما قال تعالى: وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ [سورة النساء:21] وكقوله تعالى: وَآتُواْ النَّسَاء صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً [سورة النساء:4]، وكقوله: وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا [سورة البقرة:229].

تفسير ابن كثير -رحمه الله- هنا جرياً منه على أن المقصود بالاستمتاع في الآية: التلذذ بالنساء اللاتي تزوجتموهن بنكاح شرعي فالواجب فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً [سورة النساء:24]، والمراد بإيتاء الصداق أي المهر كما في الآيات الأخرى، وهذا الذي عليه جماهير أهل العلم سلفاً وخلفاً؛ لأن المعروف أن المهر يؤخذ في مقابل ما استحل من بضعها سواء أعطاها ابتداء قبل أن يستمتع بها أو أخره أو أخر بعضه إلى أجل مسمى بحسب ما يتفقون عليه.

وأما القول: إن المقصود بقوله سبحانه: فَمَا اسْتَمْتَعْتُم بِهِ مِنْهُنَّ يعني نكاح المتعة -وهو العقد المؤقت بوقت معين بحيث ينتهي بانتهاء هذه المدة- فهذا ليس مراداً، وإنما المقصود بذلك النكاح الشرعي المعروف كما قال في الآية الأخرى: وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ [سورة النساء:25] فسمى الله المهر في الآيات الأخرى أجراً، فليس لأحد أن يتشبث بهذه الآية، ويقول: إن الأجر المقصود به الأجرة التي تُعطاها المرأة المعقود عليها مدة مؤقتة بأجرة معينة، فلا إشكال في كونه عبر بالأجر عن المهر، فقد جاءت آيات أصرح من هذه الآية تدل على أنه يريد بالأجر المهر، ومن ذلك قوله تعالى: فَانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلاَ مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ [سورة النساء:25]. 

وأصرح من ذلك قوله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ [سورة الأحزاب:50] وقال تعالى: وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَن تَنكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ [سورة الممتحنة:10] فهذه آيات صريحة لا تحتمل نكاح المتعة بحال من الأحوال، وإن كان بعض السلف قد قال: إن المقصود هنا نكاح المتعة –كما نقل ذلك عن ابن عباس –ا- إلا أنه قد تراجع عن ذلك .

ثمَّ إن حمل هذه الآية على نكاح المتعة يجعلها منسوخة؛ لأن النبي ﷺ حرم المتعة في عام خيبر، ثم أبيحت عام أوطاس بعد الفتح ثم حرمت عليهم في نفس ذلك السفر، كما صح ذلك عن النبي ﷺ وعلى هذا يكون هذا مثالاً نادراً على ما نسخ مرتين إلا أن كثيراً من أهل العلم -وذكر هذا الحافظ ابن حجر- يرون أنه لا يوجد حكم نسخ مرتين، ويجيبون عن هذا بأجوبة ليس هذا موضع ذكرها.

وكان ابن عباس وأبي بن كعب وسعيد بن جبير والسدي يقرءون: (فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمى فآتوهن أجورهن فريضة) وقال مجاهد: نزلت في نكاح المتعة.

قال بعض أهل العلم: إن هذا قول الجمهور، ومعلوم أن بعض أهل العلم في بعض الكتب يتوسع فيقول: وهذا قول الجمهور وهو ليس كذلك، وعلى القول: إنها في المتعة فإن بعض السلف كسعيد بن جبير -رحمه الله- يقول: إن المتعة نسختها آيات المواريث؛ لأن المتعة لا ميراث فيها ولا يترتب على أحكام المتعة إلا الاستمتاع. 

وبعضهم يقول كعائشة -ا- وبعض التابعين: نسخها قوله تعالى: وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ ۝ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ [سورة المؤمنون:5-6] وهذه ليست زوجةً، وخلاصة الأمر أن المتعة منسوخة، فلا يجوز لأحد أن يتزوج امرأة بالمتعة، والله أعلم.

والعمدة ما ثبت في الصحيحين عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب قال: نهى رسول الله ﷺ عن نكاح المتعة وعن لحوم الحمر الأهلية يوم خيبر[3].

وفي صحيح مسلم عن الربيع بن سبرة بن معبد الجهني عن أبيه أنه غزا مع رسول الله ﷺ يوم فتح مكة، فقال: يا أيها الناس إني كنت أذنت لكم في الاستمتاع من النساء وإن الله قد حرم ذلك إلى يوم القيامة، فمن كان عنده منهن شيء فليخل سبيله، ولا تأخذوا مما آتيتموهن شيئاً[4].

وقوله تعالى: وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُم بِهِ مِن بَعْدِ الْفَرِيضَةِ [سورة النساء:24] معناه كقوله: وَآتُواْ النَّسَاء صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً الآية [سورة النساء:4] أي: إذا فرضت لها صداقاً فأبرأتك منه أو عن شيء منه فلا جناح عليك ولا عليها في ذلك.

وروى ابن جرير قال: زعم الحضرمي أن رجالاً كانوا يفرضون المهر ثم عسى أن يدرك أحدهم العسرة فقال: ولا جناح عليكم أيها الناس فيما تراضيتم به من بعد الفريضة، يعني إن وضعت لك منه شيئاً فهو لك سائغ.

هذا بناء على التفسير الذي مشى عليه ابن كثير وهو أن المراد بالفريضة المهر الذي يدفعه الزوج عند إرادة الزواج المعروف، فتضع الزوجة جزءاً من المهر المؤخر مثلاً أو تتنازل عنه بالكلية أو تعطيه من المبلغ الذي دفعه إليها برغبتها كل ذلك جائز إن كان ذلك بطيب نفس منها من غير إحراج ولا ضغط ولا إلحاح.

وعلى القول: إن هذه الآية في نكاح المتعة –المنسوخة- فيمكن أن تفسر الفريضة هنا بالأجرة التي أعطاها إياها، والمعنى أنها يمكن أن تضع له منها، أو تزيد له في المدة بحيث إذا اتفق معها على عشر ساعات أو يوم وليلة مثلاً فلها أن تقول له: أزيدك من عندي يوماً وليلة أخرى في المدة، أو أن تضع له شيئاً من المهر.

وقوله تعالى: إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا [سورة النساء:24] مناسب ذكر هذين الوصفين بعد شرع هذه المحرمات.

يقول الله تعالى: إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا [سورة النساء:24] يعني أن الله يعلم ما ينفعكم وما فيه صلاحكم فيشرِّع من الأحكام ما يكون به صلاح معاشكم ومعادكم، فهو عليم لا يخفى عليه شيء، وبالتالي لا يتطرق الخلل بسبب نقص العلم. 

وهو حكيم يضع الأمور في مواضعها ويوقعها في مواقعها، وبالتالي لا يقع الخلل من جهة وضع الشيء في غير موضعه، فالله –جل وعلا- أباح المتعة -على القول بأن هذه الآية في المتعة- مدة للحاجة إليها ثم حرمها بعد ذلك بعلمه وحكمته، وإن كانت الآية في النكاح الشرعي المعروف فالمعنى أن الله عليم حكيم فيما شرع لكم من المهور ومن جواز أخذ ما تنازلت عنه المرأة، وما إلى ذلك.

والله أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.

  1. رواه البخاري في كتاب الشهادات – باب الشهادة على الأنساب والرضاع المستفيض والموت القديم برقم (2502) (2/935).
  2. رواه أبو داود في كتاب الطلاق - باب في من أسلم وعنده نساء أكثر من أربع أو أختان (2245) (ج 2 / ص 240) والترمذي في كتاب النكاح - باب ما جاء في الرجل يسلم وعنده أختان (1130) (ج 3 / ص 436) وابن ماجه في كتاب النكاح - باب الرجل يسلم وعنده أختان (1951) (ج 1 / ص 627) وأحمد في مسنده برقم (18070) (4/232) وحسنه الألباني في صحيح أبي داود برقم (1940) فقال –رحمه الله: "قلت: حديث حسن؛ كما قال الترمذي، وصححه ابن حبان والبيهقي واحتجّ به الإمام الأوزاعي وترك رأيه لأجله وروي العمل به عن عُمَرَ وعلي -ا-" انظر صحيح أبي داود (ج 7 / ص 12).
  3. أخرجه البخاري في كتاب النكاح - باب نهى رسول الله ﷺ عن نكاح المتعة آخراً (4825) (ج 5 / ص 1966) ومسلم في كتاب النكاح - باب نكاح المتعة وبيان أنه أبيح ثم نسخ ثم أبيح ثم نسخ واستقر تحريمه إلى يوم القيامة (1407) (ج 2 / ص 1027).
  4. أخرجه مسلم في كتاب النكاح - باب نكاح المتعة وبيان أنه أبيح ثم نسخ ثم أبيح ثم نسخ واستقر تحريمه إلى يوم القيامة (1406) (ج 2 / ص 1023).

مواد ذات صلة