الخميس 24 / جمادى الآخرة / 1446 - 26 / ديسمبر 2024
[23] من قول الله تعالى: {فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ} الآية 84 إلى قوله تعالى: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ حَدِيثًا} الآية 87.
تاريخ النشر: ٢٦ / شوّال / ١٤٢٦
التحميل: 3338
مرات الإستماع: 2303

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

قال المفسر -رحمه الله تعالى- في تفسير قوله تعالى:

فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللّهُ أَن يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَاللّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنكِيلًا ۝ مَّن يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُن لَّهُ نَصِيبٌ مِّنْهَا وَمَن يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُن لَّهُ كِفْلٌ مِّنْهَا وَكَانَ اللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقِيتًا ۝ وَإِذَا حُيِّيْتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا ۝ اللّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ حَدِيثًا [سورة النساء:84-87]

يأمر تعالى عبده ورسوله محمدًا ﷺ أن يباشر القتال بنفسه، ومن نكل عنه فلا عليه منه؛ ولهذا قال: لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ [سورة النساء:84].

روى ابن أبي حاتم عن أبي إسحاق قال: سألت البراء بن عازب عن الرجل يلقى مائة من العدو فيقاتل أيكون ممن يقول الله: وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ؟ [سورة البقرة:195] قال: قد قال الله تعالى لنبيه ﷺ: فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ [سورة النساء:84].

ورواه الإمام أحمد عن سليمان بن داود عن أبي بكر بن عياش عن أبي إسحاق قال: قلت للبراء: الرجل يحمل على المشركين أهو ممن ألقى بيده إلى التهلكة؟ قال: لا؛ لأن الله بعث رسوله ﷺ وقال: فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ [سورة النساء:84] إنما ذلك في النفقة.

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فقوله -تبارك وتعالى: فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ [سورة النساء:84] يحتمل أن تكون الفاء في هذه الآية عائدة إلى الآية الرابعة والسبعين من السورة هكذا: وَمَن يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيُقْتَلْ أَو يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا [سورة النساء:74] فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ [سورة النساء:84].

ويحتمل أن يكون الكلام متعلقًا بمحذوف هو ”إذا كان الأمر كذلك من عدم طاعة المنافقين وما ذكر الله عنهم قبلها فقاتل في سبيل الله“، حيث ذكر الله عن المنافقين أنهم يقولون: طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُواْ مِنْ عِندِكَ بَيَّتَ طَآئِفَةٌ مِّنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ [سورة النساء:81] إلى آخره، فإذا كان الأمر على ما ذكر فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ [سورة النساء:84] لأن الله قال: فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ وَكَفَى بِاللّهِ وَكِيلًا [سورة النساء:81] ثم قال: فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ [سورة النساء:84]. 

ويحتمل أن يكون الكلام متعلقًا بقوله قبلُ في الآية الخامسة والسبعين هكذا: وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا [سورة النساء:75] إلى آخره فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ [سورة النساء:84] والله تعالى أعلم.

وقوله تعالى: لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ [سورة النساء:84] يقول الحافظ ابن كثير -رحمه الله: ”أمره أن يباشر القتال بنفسه، ومن نكل عنه فلا عليه منه“ يعني أنت مأمور بالقيام بما تعبدك الله به في هذا الباب، ولست مسئولًا ولا حفيظًا ولا وكيلًا على الناس حيث نكَل كثير منهم عنه، كما وصف الله حال المنافقين، وهذا قد يشبه من بعض الوجوه قوله -تبارك وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ [سورة المائدة:105] أي: أن المؤمن إذا كان على طاعة الله فإنه لا يضره نكول الناكلين ولو كانوا من أقرب الأقربين فما عليك إلا أن تقوم بحق الله وهذا هو القدر الذي تعلق بك، وأما كفر من كفر وإعراض من أعرض فذلك إنما يضر صاحبه ولا يضرك شيئًا.

يقول تعالى: وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ [سورة النساء:84] أي الذين هم أهل للاستجابة لله -تبارك وتعالى- والقبول عنه.

ثم ذكر رواية ابن أبي حاتم عن أبي إسحاق قال: ”سألت البراء بن عازب عن الرجل يلقى مائة من العدو فيقاتل أيكون ممن يقول الله: وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ؟ [سورة البقرة:195] فذكر له هذه الآية: فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ [سورة النساء:84] ويقصد بذكر الآية جوابًا لسؤاله أنه لو لم يخرج معه أحد فقاتلهم وحده فإنه يكون قد قام بحق الله عليه وأن النبي ﷺ سينصره الله -تبارك وتعالى- وقد جاء في قصة الحديبية أن النبي ﷺ في كتاب حاطب الذي كتبه للمشركين أنه كان مما قال لهم حاطب: وأنه قد أقسم أنه لو لم يسر إليكم إلا وحده لأظفره الله بكم.

فالمقصود من ذكر قوله: فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ [سورة النساء:84] في هذا الأثر عن البراء أن ذلك لا يكون من الإلقاء باليد إلى التهلكة.

ثم ذكر رواية الإمام أحمد عن أبي إسحاق قال: قلت للبراء: الرجل يحمل على المشركين أهو ممن ألقى بيده إلى التهلكة؟ فكان مما قال في جوابه: “إنما ذلك في النفقة”؛ لأن الله قال في تلك الآية: وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ [سورة البقرة:195] وقد مضى قول أبي أيوب الأنصاري لما خرج رجل إلى المشركين حاسرًا وليس عليه درع فقالوا: يلقي بيده إلى التهلكة، فبيّن لهم أن المراد بذلك الأنصار وذلك أنهم بعد أن أعز الله دينه وأظهره وكثر الداخلون في الإسلام قالوا فيما بينهم: لو رجعنا إلى أموالنا فأصلحناها حيث كانوا أهل زرع وقد أهملوا زروعهم، فأنزل الله : وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ [سورة البقرة:195].

وقال ابن عباس في تفسيرها: إنكم إن منعتم النفقة عن المجاهدين في سبيل الله أوشك العدو أن يظفر بكم ويقوى عليكم فيأخذ ما في أيديكم وتغلبوا، بمعنى أنكم إن منعتم النفقة عن الجهاد في سبيل الله ألقيتم بأيديكم إلى التهلكة لما يحصل من قوة العدو وظفره فيأخذ ما في أيديكم ويقتلكم.

فالمقصود أن هذا هو وجه إيراد هذه الآية هنا، أي: أن ذلك في النفقة، وهذه الآثار التي وردت إنما هي في الإقدام في قتال العدو على وجه فيه مخاطرة وقد تكون هذه المخاطرة كبيرة جدًا لكن لا إشكال في ذلك؛ لأن القتل في تلك الحال إنما يكون بيد عدوه، والقاعدة أنه يسع الإنسان في نفسه ما لا يسعه في غيره، بمعنى أنه لو كان قائدًا معه مجموعة من الجيش ككتيبة أو نحو ذلك فلا يجوز أن يغرر بهم وأن يركب بهم الأهوال والمخاطر فهذا لا يسعه، لكن الإنسان بنفسه له أن يغير لوحده على العدو ويدخل في الصف ولو كانت نسبة وقوعه في القتل بيد عدوه تصل إلى مائة بالمائة، وفرق بين هذا وبين من يكون قتله بيد نفسه، فهذا غير هذا. 

ولذلك فكل الأدلة التي يستدل بها المجيز على أن يقدم الإنسان على قتل نفسه نكاية بالعدو إنما يراد بها أن يكون قتله بيد عدوه لا بيد نفسه؛ إذ لا يوجد دليل واحد على جواز أن يكون القتل بيد نفسه إطلاقًا، ولذلك يمكن أن يقال: لا يجوز للإنسان أن يقدم على عمل يكون فيه قاتلًا لنفسه بيده ولو كان في ذلك نكاية بالعدو؛ لأن الإنسان لا يملك نفسه أصلًا، ولعموم قول الله : وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا [سورة النساء:29] ولأن القاعدة تقول: إن الغاية لا تبرر الوسيلة، فالإنسان لا يقدم على شيء لا يكون مرضيًا لله -تبارك وتعالى- وإنما هي نفس واحدة إذا ذهبت فلا يمكن للإنسان أن يستدرك، والله أعلم.

وقوله: وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ [سورة النساء:84] أي: على القتال ورغبهم فيه وشجعهم عنده، كما قال لهم ﷺ يوم بدر وهو يسوي الصفوف: قوموا إلى جنة عرضها السماوات والأرض[1].

وقد وردت أحاديث كثيرة في الترغيب في ذلك، فمن ذلك ما رواه البخاري عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: من آمن بالله ورسوله وأقام الصلاة وآتى الزكاة وصام رمضان كان حقًا على الله أن يدخله الجنة، هاجر في سبيل الله أو جلس في أرضه التي ولد فيها قالوا: يا رسول الله، أفلا نبشر الناس بذلك؟ فقال: إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيل الله بين كل درجتين كما بين السماء والأرض، فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس فإنه وسط الجنة وأعلى الجنة، وفوقه عرش الرحمن ومنه تفجر أنهار الجنة[2] وروي من حديث عبادة ومعاذ وأبي الدرداء نحو ذلك.

وعن أبي سعيد الخدري أن رسول الله ﷺ قال: يا أبا سعيد، من رضي بالله ربًا وبالإسلام دينًا وبمحمد ﷺ رسولًا ونبيًا وجبت له الجنة قال: فعجب لها أبو سعيد فقال: أعدها عليَّ يا رسول الله، ففعل ثم قال رسول الله ﷺ: وأخرى يرفع الله العبد بها مائة درجة في الجنة ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض قال: وما هي يا رسول الله، قال: الجهاد في سبيل الله رواه مسلم[3].

وقوله: عَسَى اللّهُ أَن يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ [سورة النساء:84] أي: بتحريضك إياهم على القتال تنبعث هممهم على مناجزة الأعداء ومدافعتهم عن حوزة الإسلام وأهله ومقاومتهم ومصابرتهم.

قوله تعالى: عَسَى اللّهُ أَن يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ [سورة النساء:84] هذه نتيجة وأثر من آثار هذه الفريضة التي فرضها الله على عباده، و“عسى” من الله واجبة، كما جاء عن ابن عباس وغيره وهذه قاعدة، وإلا فالأصل في كلام العرب في معنى “عسى” أنها للترجي، وإنما يقع الترجي ممن لا يعلم العواقب، فهو يترجى حصول الشيء ولا يدري هل يقع أو لا يقع ولكنه يؤمِّل وقوعه، فيقول: عسى أن ينزل المطر، عسى أن يقدم زيد، ونحو ذلك، أما إذا قال الله : عسى في كلامه فالله يعلم العواقب، ويعلم ما كان وما يكون؛ ولذلك يكون ما بعد عسى متحققًا كما قال الله : عَسَى اللَّهُ أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُم مِّنْهُم مَّوَدَّةً [سورة الممتحنة:7] وهذا قد تحقق حيث أسلموا وصارت بينهم مودة، فأبو سفيان كان أول من قاتل أهل الردة لما لقي ذا الخمار وهو عائد من اليمن بعد وفاة النبي ﷺ. 

فالحاصل أن “عسى” من الله واجبة؛ ولذلك فقوله: عَسَى اللّهُ أَن يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ [سورة النساء:84] أي: إنكم إن جاهدتم أعداء الله نتج عن ذلك أن يُكفَّ بأسهم ويُدفعون عنكم ولا يحصل مقصودهم، وهذا أمر يدركه كل أحد.

وقوله تعالى: عَسَى اللّهُ أَن يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ [سورة النساء:84] له نظائر من حيث المعنى من جهة ما ذكرت من أن “عسى” من الله واجبة وإن كان أصل معناها الترجي، ومن ذلك قوله تعالى: قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنكُمْ [سورة الأحزاب:18] فـ“قد” في الأصل إذا دخلت على المضارع فإنها للتقليل لكنها إذا جاءت في كلام الله فهي للتحقيق، فقوله تعالى: قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنكُمْ [سورة الأحزاب:18] وقوله تعالى: قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ [سورة النــور:64] يعني أن ذلك متحقق وليس للتقليل. 

وبعض أهل العلم يقول: إن هذا جرى على طريقة العرب في الكلام وذلك أن من عادة العظماء أنهم قد يخرجون الأمر الذي هو محقق عندهم بمثل هذه الصيغة، فيقولون مثلًا: قد ننجز لك ما أردت، ويقولون: عسى أن نأمر لك بكذا وكذا، مع أنه يقصد الجزم والتحقيق لا الترجي لكنه يخرجه هذا المخرج؛ ولذلك يفهم السامع أن ذلك من قبيل الوعد المحقق، والله أعلم.

وقوله تعالى: وَاللّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنكِيلًا [سورة النساء:84] أي: هو قادر عليهم في الدنيا وفي الآخرة كما قال تعالى: ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاء اللَّهُ لَانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ الآية [سورة محمد:4].

وقوله: مَّن يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُن لَّهُ نَصِيبٌ مِّنْهَا [سورة النساء:85] أي: من سعى في أمر فترتب عليه خير كان له نصيب من ذلك وَمَن يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُن لَّهُ كِفْلٌ مِّنْهَا [سورة النساء:85] أي: يكون عليه وزر من ذلك الأمر الذي ترتب على سعيه ونيته كما ثبت في الصحيح أن النبي ﷺ قال: اشفعوا تؤجروا ويقضي الله على لسان نبيه ما شاء[4].

في قوله تعالى: وَمَن يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُن لَّهُ كِفْلٌ مِّنْهَا [سورة النساء:85] فرَّق -جل وعلا- بين الشفاعة الحسنة والشفاعة السيئة، فجعل النصيب في جانب الشفاعة الحسنة والكفل في جانب الشفاعة السيئة، مع أن النصيب والكفل متقاربان في المعنى فقد يستعمل الكفل أيضًا في جانب الحُسن كما قال الله : يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ [سورة الحديد:28] فالكفل لا يختص بالسوء أو المعصية أو الذنب أو الإثم، وإنما يكون في هذا وهذا، لكن لما ذكر الله الأمرين -الحسنة والسيئة- ثم عقب هذا بالنصيب وهذا بالكفل أشعر ذلك أن الكفل يستعمل في جانب الحمل والكلفة كما يقول الحافظ ابن القيم -رحمه الله- وأن النصيب هو ما يعمل له الإنسان وينصب له ويطلبه ليحصله ويظفر به، فيكون الكفل أقرب إلى الحمل الثقيل، والنصيب مما يطلبه الإنسان ويعمل له ويكدح حتى يحصله، وعلى هذا يمكن التفريق بين الكفل والنصيب بهذه الطريقة.

يقول تعالى: مَّن يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُن لَّهُ نَصِيبٌ مِّنْهَا وَمَن يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُن لَّهُ كِفْلٌ مِّنْهَا [سورة النساء:85] الشفاعة من الشفع، والشفع عكس الوتر فالواحد يكون وترًا منفردًا، ثم يأتي آخر فيكون شفعًا، ويكون مقويًا للمنفرد في تحصيل مطلوبه وحاجته وذلك ببذل جاهه ونحوه ليتوصل به إلى المطلوب، فالإنسان المنفرد بحاجته يتقوى بغيره ليشفع له.

 والشفاعة الحسنة هي التي لا ظلم فيها ولا عدوان ولا توصل إلى محرم بحال من الأحوال، بمعنى أن الشافع لا يظلم بشفاعته أحدًا ولا يستحوذ على حق أحد ولا يتقدم على أحد ولا يحصل ما لا يستحق، ولا يتوصل إلى المطلوب بطريق المعصية، وأما الشفاعة السيئة فهي ما كان فيها شيء مما ذكر.

وقال مجاهد بن جبر: نزلت هذه الآية في شفاعات الناس بعضهم لبعض.

وقوله: وَكَانَ اللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقِيتًا [سورة النساء:85] قال ابن عباس -ا- وعطاء وعطية وقتادة ومطر الوراق: مقيتًا أي: حفيظًا، وقال مجاهد: شهيدًا، وفي رواية عنه: حسيبًا.

هذه المعاني متقاربة، وكل واحد منها قال به طائفة من السلف وقال بعضهم: وَكَانَ اللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقِيتًا [سورة النساء:85] أي: مقتدرًا، وهذا رجحه كبير المفسرين ابن جرير الطبري -رحمه الله- وبعضهم يقول: المُقيت هو الذي يعطي كل إنسان قوته، وعلى كل حال تفسير ذلك بأن الله على كل شيء حفيظ أو مقتدر أو حسيب، كل ذلك متقارب، والله هو القائم على كل نفس بما كسبت وهو القائم على خلقه بآجالهم وأرزاقهم وأعمالهم وهو المقيم لغيره -- ولذلك كان معنى الحفيظ والحسيب مما يدخل في قوله سبحانه: وَكَانَ اللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقِيتًا [سورة النساء:85].

وقوله: وَإِذَا حُيِّيْتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا [سورة النساء:86] أي: إذا سلم عليكم المسلم فردوا عليه أفضل مما سلم، أو ردوا عليه بمثل ما سلم، فالزيادة مندوبة والمماثلة مفروضة.

وروى الإمام أحمد عن أبي رجاء العطاردي عن عمران بن حصين -ا- أن رجلًا جاء إلى رسول الله ﷺ فقال: السلام عليكم، فرد عليه ثم جلس، فقال: عشر ثم جاء آخر فقال: السلام عليكم ورحمة الله يا رسول الله، فرد عليه ثم جلس، فقال: عشرون ثم جاء آخر فقال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فرد عليه ثم جلس فقال: ثلاثون وكذا رواه أبو داود وأخرجه الترمذي والنسائي والبزار، ثم قال الترمذي: حسن غريب من هذا الوجه[5].

هذه الآية نص صريح في وجوب رد السلام، وأما الزيادة فهي مستحبة، وقد نقل بعض أهل العلم الإجماع على هذا.

في قوله تعالى: وَإِذَا حُيِّيْتُم بِتَحِيَّةٍ [سورة النساء:86] لفظ “تحية” نكرة في سياق الشرط، والنكرة في سياق الشرط تفيد العموم، فيدخل فيها كل تحية سواء كانت التحية بالسلام أو غيره، ومع أن المشروع هو البدء بالسلام، إلا أن التحية في الأصل هي ما يقال في أول اللقاء، وقد كان الناس يقولون: أحياك الله فقيل لها تحية بهذا الاعتبار، أي أنها دعاء له بطول الحياة، فجاء الإسلام بما هو أعظم من هذه التحية فبدلًا من قولهم: أحياك الله، علمهم الإسلام تحية أهل الجنة وتحية الملائكة، وهي أبلغ في المعنى بلا شك. 

فقائل السلام عليكم يلقي على من لقي السلام، فيكون ذلك أمنة لهم منه ودعوة لهم بالسلامة أيضًا؛ وذلك أن معنى السلامة مضمن في هذه التحية، إلى غير ذلك من المعاني التي تدخل في هذه اللفظة، وهي بخلاف قول القائل: أحياك الله، فقد تكون الحياة شرًا له، وفي الحديث لما سئل النبي –عليه الصلاة والسلام- من شر الناس؟ قال: من طال عمره وساء عمله[6] لذلك لا يدعى للإنسان بطول الحياة إلا مقرونًا بحسن العمل، كأن يقال له: أطال الله بقاءك على طاعته، وقد كان الإمام أحمد يكره أن يدعى له بطول العمر، يقول لبيد:

المرء يأمل أن يعيـ ـش وطول عيشٍ قد يضره
تفني بشاشته ويبقى عد حلو العيش مره

وبعض الناس قد يمل من الحياة، فلا يريد أن يدعى له بها كما قال القائل:

ألا موت يباع فأشتريه فهذا العيش لا خير فيه
 جزى الله المهيمن نفس حرٍّ تصدق بالوفاة على أخيه
إذا أبصرت قبرا قلت شوقًا ألا يا ليتني أمسيت فيه

وفي الباب عن أبي سعيد وعلي وسهل بن حنيف -: فإذا بلغ المسلم غاية ما شرع في السلام رد عليه مثل ما قال، فأما أهل الذمة فلا يُبدءون بالسلام ولا يزادون بل يرد عليهم بما ثبت في الصحيحين عن ابن عمر -ا- أن رسول الله ﷺ قال: إذا سلم عليكم اليهود، فإنما يقول أحدهم: السام عليك، فقل: وعليك[7].

وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال: لا تبدءوا اليهود والنصارى بالسلام وإذا لقيتموهم في طريق فاضطروهم إلى أضيقه[8].

وقد جاء في الحديث الذي رواه أبو داود بسنده إلى أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: والذي نفسي بيده لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أفلا أدلكم على أمر إذا فعلتموه تحاببتم، أفشوا السلام بينكم[9].

وقوله: اللّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ [سورة النساء:87] إخبار بتوحيده وتفرده بالإلهية لجميع المخلوقات، وتضمَّن قسمًا لقوله: لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ [سورة النساء:87] وهذه اللام موطئة للقسم، فقوله: اللّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ [سورة النساء:87] خبر وقسم أنه سيجمع الأولين والآخرين في صعيد واحد فيجازي كل عامل بعمله.

قوله: لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ [سورة النساء:87] يحتمل أن يكون المعنى ليجمعنكم إلى حساب يوم القيامة، ويحتمل أن يكون المعنى ليجمعنكم في يوم القيامة بمعنى أن “إلى” مضمن معنى “في”، ومعلوم أن حروف الجر تتناوب، وبعضهم يقول: إنها زائدة، يعني أن قوله: لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ [سورة النساء:87] أي ليجمعنكم يوم القيامة، وهذا المعنى الأخير لا حاجة إليه.

وقوله: لاَ رَيْبَ فِيهِ [سورة النساء:87] يحتمل أن يرجع إلى يوم القيامة، أي ليجمعنكم إلى يومٍ لا ريب في وقوعه، ويحتمل أن يكون المعنى ليجمعنكم جمعًا لا ريب فيه، أي لا ريب في ذلك الجمع الذي سيكون في ذلك اليوم، وهذا المعنى الثاني هو الذي اختاره ابن جرير -رحمه الله- أي أن الضمير يرجع إلى الجمع، والآية تحتمل المعنيين، وقد دل القرآن على أن يوم القيامة لا ريب فيه، ودلَّ كذلك أن هذا الجمع والحشر لا ريب فيه، ودلَّ القرآن على تأكيد جمع الناس وحشرهم، والقرآن يعبر به بالألفاظ القليلة الدالة على المعاني الكثيرة، والضمير المبهم الذي يحتمل عوده إلى أكثر من موضع -ويكون كل واحد منها قد دل عليه القرآن- يمكن أن يحمل عليها جميعًا، فيوم القيامة لا ريب فيه وجمع الناس وحشرهم في ذلك اليوم لا ريب فيه أيضًا، والله أعلم.

وقوله تعالى: وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ حَدِيثًا [سورة النساء:87] أي: لا أحد أصدق منه في حديثه وخبره ووعده ووعيده، فلا إله إلا هو ولا رب سواه.
  1. أخرجه مسلم في كتاب الإمارة - باب ثبوت الجنة للشهيد (1901) (ج 3 / ص 1509).
  2. أخرجه البخاري في كتاب الجهاد والسير - باب درجات المجاهدين في سبيل الله يقال هذه سبيلي وهذا سبيلي (2637) (ج 3 / ص 1028).
  3. أخرجه مسلم في كتاب الإمارة - باب بيان ما أعده الله تعالى للمجاهد في الجنة من الدرجات (1884) (ج 3 / ص 1501).
  4. أخرجه البخاري في كتاب الزكاة - باب التحريض على الصدقة والشفاعة فيها (1365) (ج 2 / ص 520).
  5. أخرجه أبو داود في كتاب الأدب - باب كيف السلام (5197) (ج 4 / ص 516) والترمذي في كتاب الاستئذان – باب ما ذكر في فضل السلام (2689) (ج 5 / ص 52) وأحمد (19962) (ج 4 / ص 439) وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب برقم (2710).
  6. أخرجه الترمذي في كتاب الزهد عن رسول الله ﷺ باب ما جاء في طول العمر للمؤمن 22 (2330) (ج 4 / ص 566) وأحمد (20431) (ج 5 / ص 40) والدارمي (2742) (ج 2 / ص 398) وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (3297).
  7. أخرجه البخاري في كتاب الاستئذان - باب كيف الرد على أهل الذمة بالسلام (5902) (ج 5 / ص 2309) ومسلم في كتاب السلام - باب النهي عن ابتداء أهل الكتاب بالسلام وكيف يرد عليهم (2164) (ج 4 / ص 1706).
  8. أخرجه مسلم في كتاب السلام – باب النهي عن ابتداء أهل الكتاب بالسلام وكيف يرد عليهم (2167) (ج 4 / ص 1707) والترمذي في كتاب السير – باب ما جاء في التسليم على أهل الكتاب (1602) (ج 4 / ص 154) وأحمد (7606) (ج 2 / ص 266).
  9. أخرجه مسلم في كتاب الإيمان - باب بيان أنه لا يدخل الجنة إلا المؤمنون وأن محبة المؤمنين من الإيمان وأن إفشاء السلام سبب لحصولها (54) (ج 1 / ص 74).

مواد ذات صلة