الخميس 24 / جمادى الآخرة / 1446 - 26 / ديسمبر 2024
[24] من قول الله تعالى: {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ} الآية 88 إلى قوله تعالى: {وَأُوْلَـئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُّبِينًا} الآية 91.
تاريخ النشر: ٢٧ / شوّال / ١٤٢٦
التحميل: 3130
مرات الإستماع: 2493

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

قال المفسر -رحمه الله تعالى- في تفسير قوله تعالى:

فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللّهُ أَرْكَسَهُم بِمَا كَسَبُواْ أَتُرِيدُونَ أَن تَهْدُواْ مَنْ أَضَلَّ اللّهُ وَمَن يُضْلِلِ اللّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا ۝ وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَاء فَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ أَوْلِيَاء حَتَّىَ يُهَاجِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدتَّمُوهُمْ وَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلاَ نَصِيرًا ۝ إِلاَّ الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَىَ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ أَوْ جَآءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَن يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُواْ قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاء اللّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْاْ إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا ۝ سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَن يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُواْ قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوَاْ إِلَى الْفِتْنِةِ أُرْكِسُواْ فِيِهَا فَإِن لَّمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُواْ إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوَاْ أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثِقِفْتُمُوهُمْ وَأُوْلَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُّبِينًا [سورة النساء:88-91].

يقول تعالى منكرًا على المؤمنين في اختلافهم في المنافقين على قولين، واختُلف في سبب ذلك فروى الإمام أحمد عن زيد بن ثابت أن رسول الله ﷺ خرج إلى أُحد فرجع ناس خرجوا معه، فكان أصحاب رسول الله ﷺ فيهم فرقتين، فرقة تقول: نقتلهم، وفرقة تقول: لا، فأنزل الله: فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ [سورة النساء:88] فقال رسول الله ﷺ: إنها طيبة، وإنها تنفي الخبث كما ينفي الكير خبث الحديد [أخرجاه في الصحيحين].

وقال العوفي عن ابن عباس -ا: نزلت في قوم كانوا بمكة وقد تكلموا بالإسلام وكانوا يظاهرون المشركين فخرجوا من مكة يطلبون حاجة لهم فقالوا: إن لقينا أصحاب محمد فليس علينا منهم بأس، وإن المؤمنين لما أخبروا أنهم قد خرجوا من مكة قالت فئة من المؤمنين: اركبوا إلى الجبناء فاقتلوهم فإنهم يظاهرون عليكم عدوكم، وقالت فئة أخرى من المؤمنين: سبحان الله -أو كما قالوا- أتقتلون قومًا قد تكلموا بمثل ما تكلمتم به، أمن أجل أنهم لم يهاجروا ولم يتركوا ديارهم تستحل دماؤهم وأموالهم؟ فكانوا كذلك فئتين، والرسول عندهم لا ينهى واحدًا من الفريقين عن شيء فأنزل الله: فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ [سورة النساء:88] رواه ابن أبي حاتم.

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فهذه الآيات المبتدأة بقوله: فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللّهُ أَرْكَسَهُم بِمَا كَسَبُواْ [سورة النساء:88] يظهر -والله تعالى أعلم- أنها تتحدث عن قضية المنافقين عمومًا فلا يختص ذلك بطائفة بعينها وليست هذه الأوصاف جميعًا تنطبق على تلك الطائفة، وإنما ذكر الله موقفًا حصل لأهل الإيمان مع المنافقين أو مع بعض المنافقين في واقعة معينة، ثم ذكر الله بعض الأمور المتعلقة بالمنافقين ومنها ما يتوجه إلى طوائف منهم، ولذلك فإن من أراد أن يفهم الكلام على نسق واحد وأن ذلك يتحدث عن طائفة تتصف بجميع هذه الصفات فإن المعنى سيشكل عليه، وهذا الأمر في كثير من المواضع في القرآن، أعني إذا أردت أن تأخذ السياق من أوله إلى آخره على أن تلك الأوصاف في طائفة محددة فهذا سيشكل عليك.

وعلى كل حال يقول الله هنا: فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ [سورة النساء:88] هذا إنكار على أهل الإيمان يقول لهم: لماذا تنقسمون في المنافقين إلى فريقين تختلف آراؤكم فيهم وَاللّهُ أَرْكَسَهُم بِمَا كَسَبُواْ؟ [سورة النساء:88].

وقد ذكر ابن كثير –رحمه الله- هنا سببين لنزول الآية، الأول: حديث زيد بن ثابت أنها في أولئك الذي رجعوا من أحد -عبد الله بن أبي ومن معه حيث رجع بثلث الجيش- فاختلف المجاهدون فيهم فقالوا: إذا رجعنا إليهم هل نؤدّبهم فنقتلهم أو نتركهم؟ فقائل يقول: نقتلهم وقائل يقول: نتركهم.

ثم ذكر –رحمه الله- أثر ابن عباس -ا: ”نزلت في قوم كانوا بمكة وقد تكلموا بالإسلام وكانوا يظاهرون المشركين“ ومعلوم أنه إذا تعددت الروايات في أسباب النزول فإننا أول ما ننظر إلى الثبوت فنقتصر على الثابت، ثم ننظر إلى العبارة فنقتصر على الصريح، وهنا نجد أن أثر ابن عباس -ا- لا يصح؛ لأنه من طريق العوفي، وأما الأثر الذي ذكره عن زيد بن ثابت فهو في الصحيحين، وقد وردت روايات كثيرة في سبب النزول لكنها ضعيفة، ولذلك نخلص إلى أن سبب نزول هذه الآية هو حديث زيد بن ثابت وهو أن الصحابة اختلفوا في أولئك الذي رجعوا من أحد -عبد الله بن أبي ومن معه، فالله ينكر على أهل الإيمان هذا الاختلاف فيهم ويقول: لماذا تشتطون مع هؤلاء ويشغلكم أمرهم وتختلفون فيهم أَتُرِيدُونَ أَن تَهْدُواْ مَنْ أَضَلَّ اللّهُ؟ [سورة النساء:88].

وقوله تعالى: وَاللّهُ أَرْكَسَهُم بِمَا كَسَبُواْ [سورة النساء:88] أي: ردَّهم وأوقعهم في الخطأ، قال ابن عباس -ا: أركسهم أي: أوقعهم.

قوله تعالى: وَاللّهُ أَرْكَسَهُم بِمَا كَسَبُواْ [سورة النساء:88] الركس والنكس يأتي بمعنى قلب الشيء، وإن شئت فقل: يأتي بمعنى رد آخر الشيء إلى أوله وأول الشيء إلى آخره، هذا هو المعنى اللغوي للنكس والركس، ومن هنا قال ابن جرير -رحمه الله: أي ردهم إلى أحكام أهل الكفر من إباحة دمائهم وأموالهم، لكن هل المعنى المراد هو ردُّهم إلى أحكام الكفر بإباحة دمائهم وأموالهم؟ أعني هل كان النبي ﷺ يستبيح دماء المنافقين وأموالهم أم كان يأخذهم بظاهرهم من إظهار الإسلام؟ وهل نقل عن النبي ﷺ أنه بعد أن رجع إلى المدينة عاقب المنافقين الذين رجعوا من أحد؟ لم ينقل عن النبي ﷺ هذا، فهو لم يُجرِ عليهم أحكام الكفار الظاهرين أبدًا، ولذلك لا يصح أن يقال: إن هذا هو المعنى المراد، لكن إذا نظرنا إلى قول ابن عباس –ا- نجده يقول: ”أركسهم أي: أوقعهم“ وهذا المعنى قريب، فمعناه أوقعهم بجرمهم، تقول: فلان مرتكس بجرمه، أي أن جرمه أوقعه في ضلال وانحراف وشرٍّ.

وقوله: بِمَا كَسَبُواْ أي: بسبب عصيانهم ومخالفتهم الرسول ﷺ وإتباعهم الباطل.

هذه الآية كقوله تعالى عن المنافقين في سورة التوبة: وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ [75سورة التوبة:] فلما لم يفعلوا قال الله عنهم: فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُواْ اللّهَ مَا وَعَدُوهُ [سورة التوبة:77] فالباء للسببية.

ومن أمثلة ذلك قوله تعالى: فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ [سورة الصف:5] وهذه الآية ليست في المنافقين، لكن المقصود أن الإنسان يعاقب بفعله وجرمه فيطبع على قلبه، أو أن الله يحكم عليه بالضلال والانحراف والكفر ويموت على ذلك عياذًا بالله.

أَتُرِيدُونَ أَن تَهْدُواْ مَنْ أَضَلَّ اللّهُ وَمَن يُضْلِلِ اللّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا [سورة النساء:88] أي: لا طريق له إلى الهدى ولا مخلص له إليه.

هذه الآية فيها من الآداب القرآنية -التي ترد في مواضع شتى- ما ينبغي للناس أن يعتبروها، ومن ذلك أن اختلاف الصحابة في المنافقين لم يتحول إلى قضية انقسمت الأمة على إثرها إلى قسمين كما هو حال الأمة اليوم، حيث تجد اثنين يختلفان في شخص أو كتاب هل هو جيد أم لا؟ ثم يسري هذا الاختلاف إلى الطائفة فتنقسم إلى طائفتين، كل طائفة تضلل الأخرى وتتهمها بالانحراف أو النفاق أو غير ذلك، ويصير همُّ الناس وشغلهم الشاغل هو هذا الأمر -نسأل الله العافية- وهكذا تنقسم الأمة فتتفرق وتتشرذم على كل شيء، أما أصحاب النبي ﷺ فلم يكونوا كذلك إطلاقًا؛ ولذلك لم يتفرقوا قط بل كانوا مجتمعين أمة واحدة، وهكذا هي تربية القرآن لأصحاب النبي ﷺ وعلى ذلك ينبغي أن تُربى الأمة اليوم حتى تكون أمة واحدة.

وقوله: وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَاء [سورة النساء:89] أي: هم يودون لكم الضلالة لتستووا أنتم وإياهم فيها، وما ذاك إلا لشدة عداوتهم وبغضهم لكم، ولهذا قال: فَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ أَوْلِيَاء حَتَّىَ يُهَاجِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ [سورة النساء:89] أي تركوا الهجرة، قاله العوفي عن ابن عباس -ا- وقال السدي: أظهروا كفرهم.

لا شك أن كل طائفة منحرفة تتمنى أن ينحرف الآخرون مثلها، حتى إن هذا التمني يقع في الأفراد أيضًا كما روي عن عثمان أنه قال: تود المرأة الزانية أن كل النساء زوانٍ.

وقد قرأت في بعض التقارير عن انتشار مرض الإيدز أن النساء هن أكثر من ينشر مرض الإيدز؛ وذلك أن المرأة إذا وقع لها هذا المرض صار عندها روح انتقام فتحاول أن تنتقم من أكبر قدر من الرجال؛ ولذلك فهي تتفنن في نقل هذا بينهم بصور من الإغراء، فربما نقلته المرأة الواحدة إلى عشرات أو مئات من الرجال، وهكذا الحال عند الكفار أيضًا بجميع مللهم وطوائفهم مع الآخرين فهم يودون كفر الناس جميعًا كما قال تعالى: وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَاء [سورة النساء:89].

وقوله تعالى: فَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ أَوْلِيَاء حَتَّىَ يُهَاجِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ [سورة النساء:89] الخطاب متوجه إلى طوائف من المنافقين ممن كانوا خارج المدينة ولم يهاجروا إليها، والله تعالى أعلم، واكتفى بذكر الهجرة دون الإيمان باعتبار أنهم تجري عليهم أحكام الإسلام ما داموا يظهرون الإسلام، وهذا الخطاب يدخل فيه المنافقون ممن هم خارج المدينة.

ثم استثنى الله من هؤلاء فقال: إِلاَّ الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَىَ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ [سورة النساء:90] أي: الذين لجئوا وتحيزوا إلى قوم بينكم وبينهم مهادنة أو عقد ذمة فاجعلوا حكمكم كحكمهم وهذا قول السدي وابن زيد وابن جرير.

قوله: يَصِلُونَ إِلَىَ قَوْمٍ أي لجئوا وتحيزوا إليهم بالحلف والجوار، وكذلك بالنسب، كما فسرها بعض السلف لكن لا يختص بذلك فقط.

والمعنى أن هؤلاء المنافقين يكون بينهم وبين قبيلة من الكفار عهد فمثل هؤلاء لا تقاتلونهم لوجود هذا العهد بينهم، أو أن يكونوا قد دخلوا في حلف قبيلة أنتم وهم في عهد فلا تقاتلون هذه القبيلة أيضًا، ولذلك فإن النبي ﷺ في عام الحديبية لما صالح المشركين فتح المجال أمام القبائل، فكان من أراد أن يدخل في حلف قريش فله ذلك، ومن أراد أن يدخل في حلف النبي ﷺ له ذلك، فبعض المشركين كانوا في حلف النبي ﷺ كقبيلة خزاعة التي كانت سببًا لتجييش الجيش لفتح مكة؛ لأن قريشًا أعانت كنانة على خزاعة، فاستنجدوا بالنبي ﷺ، والله أعلم.

وفي صحيح البخاري في قصة صلح الحديبية: ”فكان من أحب أن يدخل في صلح قريش وعهدهم ومن أحب أن يدخل في صلح محمد ﷺ وأصحابه وعهدهم“.

وقد روي عن ابن عباس -ا- أنه قال: نسخها قوله: فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ الآية [سورة التوبة:5].

هذا الأثر عن ابن عباس ينظر في صحته، وعلى كل حال القول بالنسخ بإطلاق لا يخلو من إشكال؛ لأن الذين حالفوا النبي ﷺ لم يكونوا صنفًا واحدًا وإنما كانوا في ذلك الوقت حينما نزلت سورة براءة على أصناف، ولك أن تتصور أصحاب العهود من خلال قوله تعالى: فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ [سورة التوبة:5] وقوله: إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئًا [سورة التوبة:4] وقوله: وَأَذَانٌ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللّهَ بَرِيءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ [سورة التوبة:5] وقوله: فَسِيحُواْ فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ [سورة التوبة:2] فالناس كان منهم من هو صاحب عهد مطلق، ومنهم من كان صاحب عهد مؤقت، وهؤلاء ينقسمون إلى ثلاثة أقسام، فالحاصل أن هذه الرواية عن ابن عباس -ا- لو صحت فهذا ليس على إطلاقه، والله أعلم.

وقوله: أَوْ جَآءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ الآية [سورة النساء:90] هؤلاء قوم آخرون من المستثنَين عن الأمر بقتالهم وهم الذين يجيئون إلى المصاف وهم حصِرةٌ صدورهم أي ضيقة صدروهم، مبغضين أن يقاتلوكم ولا يهون عليهم أيضًا أن يقاتلوا قومهم معكم بل هم لا لكم ولا عليكم.

وَلَوْ شَاء اللّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ [سورة النساء:90] أي: من لطفه بكم أن كفهم عنكم فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْاْ إِلَيْكُمُ السَّلَمَ [سورة النساء:90] أي المسالمة فَمَا جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا [سورة النساء:90] أي: فليس لكم أن تقتلوهم ما دامت حالهم كذلك، وهؤلاء كالجماعة الذين خرجوا يوم بدر من بني هاشم مع المشركين فحضروا القتال وهم كارهون كالعباس ونحوه، ولهذا نهى النبي ﷺ يومئذ عن قتل العباس وأمر بأسره.

نهى النبي ﷺ عن قتل العباس وأمر بأسره باعتبار أنه خرج مكرهًا، لكن قُتل أيضًا مجموعة ممن خرج في يوم بدر مع المشركين ممن كان يخفي إسلامه، ومن نظر في السير كسيرة ابن هشام وجد مجموعة سماهم ممن كانوا يخفون إسلامهم.

والحاصل أن هذه الآية فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ [سورة النساء:88] هي في قوم من المنافقين هذه صفتهم يريدون السلامة وهذا هو الذي حملهم على النفاق كما قال الله : وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِم مِّنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا [سورة الأحزاب:14] فمعنى سئلوا الفتنة على أحد المعاني المشهورة: أي سئلوا الكفر، يعني لو دخل الكفار المدينة واحتلوها ثم طُلب من هؤلاء أن يكفروا لقالوا: نحن معكم ولا نعترف بهذا الدين الذي جاء به محمد ﷺ فهم مع من غلب حقنًا لدمائهم وحفظًا وإحرازًا لأموالهم، فهم مع قومهم لا يريدون قتالهم ولا يريدون قتال النبي ﷺ قد حصرت صدورهم أن يقاتلوكم أو يقاتلوا قومهم.

وقوله: سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَن يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُواْ قَوْمَهُمْ الآية [سورة النساء:91] هؤلاء في الصورة الظاهرة كمن تقدمهم ولكن نية هؤلاء غير نية أولئك فإن هؤلاء قوم منافقون يظهرون للنبي ﷺ ولأصحابه الإسلام ليأمنوا بذلك عندهم على دمائهم وأموالهم وذراريهم ويصانعون الكفار في الباطن فيعبدون معهم ما يعبدون ليأمنوا بذلك عندهم وهم في الباطن مع أولئك كما قال تعالى: وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكْمْ الآية [سورة البقرة:14] وقال هاهنا: كُلَّ مَا رُدُّوَاْ إِلَى الْفِتْنِةِ أُرْكِسُواْ فِيِهَا [سورة النساء:91].

الفرق بين الطائفتين أن الطائفة الأولى تضيق صدورهم بقتالكم ولا يريدون قتال قومهم، فهؤلاء شرط الله فيهم شرطًا فقال: فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْاْ إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا [سورة النساء:90] أي يكفون عنكم، أما الطائفة الثانية فهم يريدون أن يأمنوكم ويأمنوا قومهم، فإن جاءوكم جاءوا بوجه وأسمعوكم ما تحبون وإن ذهبوا إلى قومهم فهم معهم وعلى دينهم واعتقادهم الفاسد، فهؤلاء ذكر الله صفتهم وبين أنهم ما كفوا أيديهم ولا ألقوا إليكم السلم، وإنما حالهم أنهم كُلَّ مَا رُدُّوَاْ إِلَى الْفِتْنِةِ أُرْكِسُواْ فِيِهَا [سورة النساء:91] فهؤلاء ليسوا كأولئك الذين يكفون ويلقون السلم بل هؤلاء في كل مرة يقعون في سوء عملهم.

وقوله هاهنا: كُلَّ مَا رُدُّوَاْ إِلَى الْفِتْنِةِ أُرْكِسُواْ فِيِهَا [سورة النساء:91] أي انهمكوا فيها، وقال السدي: الفتنة هاهنا الشرك.

 وحكى ابن جرير عن مجاهد أنها نزلت في قوم من أهل مكة كانوا يأتون النبي ﷺ فيسلمون رياء ثم يرجعون إلى قريش فيرتكسون في الأوثان يبتغون بذلك أن يأمنوا هاهنا وهاهنا، فأمر بقتالهم إن لم يعتزلوا ويصلحوا ولهذا قال تعالى: فَإِن لَّمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُواْ إِلَيْكُمُ السَّلَمَ المهادنة والصلح وَيَكُفُّوَاْ أَيْدِيَهُمْ أي: عن القتال فَخُذُوهُمْ أُسَراء وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثِقِفْتُمُوهُمْ أي أين لقيتموهم وَأُوْلَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُّبِينًا [سورة النساء:91] أي بيِّنًا واضحًا.

خلاصة الأمر؛ أن الطائفة الأولى هم من ألقوا إليكم السلم وحالهم أنهم تضيق صدورهم بقتالكم ولا يريدون ذلك، ولا يريدون أيضًا قتال قومهم وإنما يعتزلون فهؤلاء دعوهم، والطائفة الثانية هي أسوأ من الطائفة الأولى، فهم يريدون أن يأمنوكم ويريدون أن يأمنوا قومهم فيلقوكم بوجه ويلقوهم بوجه، وحينما يحتدم الموقف يقعون في سوء عملهم، فيشاركون قومهم ويعينونهم عليكم ويظهر كفرهم ونفاقهم فليسوا كالطائفة الأولى، ومثل هؤلاء الذين لم يكفوا أيديهم يقاتَلون وإن أظهروا الإسلام وأسمعوكم ما تحبون فهم مع قومهم عليكم كما قال سبحانه: كُلَّ مَا رُدُّوَاْ إِلَى الْفِتْنِةِ أُرْكِسُواْ فِيِهَا [سورة النساء:91]، والله أعلم.

وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.

مواد ذات صلة