بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال المفسر في تفسير قوله تعالى: يُخَادِعُونَ اللّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا [سورة البقرة:9] أي: بإظهارهم ما أظهروه من الإيمان مع إسرارهم الكفر، يعتقدون بجهلهم أنهم يخادعون الله بذلك، وأن ذلك نافعهم عنده وأنه يروج عليه كما قد يروج على بعض المؤمنين، كما قال تعالى:يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ [سورة المجادلة:18].
ولهذا قابلهم على اعتقادهم ذلك بقوله:وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ [سورة البقرة:9]، يقول: وما يَغُرُّون بصنيعهم هذا ولا يخدعون إلا أنفسهم، وما يشعرون بذلك من أنفسهم، كما قال تعالى: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ [سورة النساء:142].
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
عرفنا أن المخادعة أصلها من الإخفاء، وذلك أن هذا الإنسان الذي يخادع أهل الإيمان يخفي أمراً غير ما يُظهر؛ ليروج عندهم أو ليحصِّل شيئاً من المطامع، كأن يحرز ماله، أو يحقن دمه، وما أشبه ذلك، فاصل المخادعة مأخوذة من معنى الإخفاء.
وفي قوله: وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُم في قراءة ثلاثة من السبعة، وهم نافع وابن كثير وأبو عمرو، وَمَا يَخْادَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُم، فهي قراءة متواترة، والأصل في المعنى واحد، إلا أن المفاعلة تأتي عادة لما يكون بين اثنين فأكثر، وإن كان ذلك ليس بلازم.
هؤلاء يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر، وهذا هو النفاق الأكبر المخرج من الملة، وأما النفاق الأصغر والذي يسمى بالنفاق العملي، فهم كما قال النبي ﷺ: أربع من كن فيه كان منافقا خالصاً ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها [1] فذكر أربعة أمور عملية.
أي أنه ليس له مبدأ يلتزمه، وإنما هو يتلون بحسب ما يرى أن مصلحته تقتضيه، فهو مع من غلب كما قال الله : وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِم مِّنْ أَقْطَارِهَا أي: المدينة ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا [سورة الأحزاب:14]، ومعنى سئلوا الفتنة أي: لو سئلوا الكفر لاستجابوا.
إذا ذكر المرض في كتاب الله فتارة يراد به مرض الشك والنفاق، وتارة يراد به ضعف الإيمان، وهذا بناء على القول بالتفريق في قوله -تبارك وتعالى- في سورة الأحزاب: وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ [سورة الأحزاب:12]، فعلى أن الواو هنا عطفت طائفة على طائفة يكون أهل النفاق غير الذين في قلوبهم مرض، فيكون المقصود بالذين في قلوبهم أي ضعفاء الإيمان الذين اهتزت ثقتهم في يوم الأحزاب.
ومن أهل العلم من يقول: إنها طائفة واحدة، وأن هذا العطف من باب عطف الصفات كما سبق في قوله تعالى:سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى [سورة الأعلى:1-3]، وكذلك في أول سورة البقرة: هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ [سورة البقرة:2-4].
ومن باب قول الشاعر:
هو الملك القرم وابن الهمام | وليث الكتيبة في المزدحم |
كلها طائفة واحدة في موصوف واحد، فالذين في قلوبهم مرض تارة يراد بهم أهل النفاق كما هنا، وتارة يراد به ضعف الإيمان وتارة يراد به مرض الشهوة والميل المحرم إلى النساء كما في الموضع الوحيد من القرآن في سورة الأحزاب: فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ [سورة الأحزاب:32]، بمعنى الميل المحرم إلى النساء.
وعلى كل حال إذا رأيت المرض في القرآن فالغالب أنه أن المراد به مرض النفاق أو ضعف الإيمان إلا في موضع واحد، وهنا لا شك أن المراد به مرض النفاق، وإلا فالقلوب على كل حال تمرض وتعتل بصور شتى، فتارة بالشك وما أشبهه، وتارة يكون ذلك بضعف الإيمان، وتارة تمرض بالقسوة، وتارة تمرض بالرياء وحب المحمدة، وتارة تمرض بالعجب والزهو، وغير ذلك مما يعتريها من الأمراض.
وكذلك قال مجاهد، وعكرمة، والحسن البصري، وأبو العالية، والرّبيع بن أنس، وقتادة.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ قال: هذا مرض في الدين وليس مرضًا في الأجساد.
يقصد أن هذا المرض الذي يصيب هذه القلوب هو مرض معنوي، وليس مرضاً حسياً مما يحتاج الإنسان معه إلى عملية جراحية أو نحو ذلك.
قال: هذا مرض في الدين، وليس مرضًا في الأجساد وهم المنافقون. والمرض: الشك الذي دخلهم في الإسلام.
فَزَادَهُمُ اللّهُ مَرَضاً قال: زادهم رجسًا، وقرأ:الَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ [سورة التوبة:124-125] قال: شرًا إلى شرهم وضلالة إلى ضلالتهم.
وهذا الذي قاله عبد الرحمن، رحمه الله، حسن، وهو الجزاء من جنس العمل، وكذلك قاله الأولون، وهو نظير قوله تعالى أيضًا: وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ [سورة محمد:17].
وقوله: بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ، وقرئ: "يكذّبون".
قوله: "وقرئ: "يكذّبون": هذه قراءة متواترة وهي قراءة ابن كثير من السبعة، والفرق بين القراءتين أن يكذْبون –بالتخفيف- تعني أن الكذب يصدر منهم، أي أنهم يكذبون في قولهم وفي دعواهم للإيمان.
ويكذّبون –بالتشديد- هي أشمل في المعنى إذ تدل على الكثرة؛ لأن زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى، فيكذْب يعني لا يكون صادقاً فيما صدر منه من الأقوال والأفعال، ويكذّب أي بالقرآن وبالوحي وبالنبوة، فهو مكذب في ذلك كله، ولا شك أن هذا جميعاً من الكفر، وبالتالي لما أظهر الإسلام وأبطن هذا التكذيب صار كاذباً في دعواه الإيمان.
وهذه المعاني متلازمة، فالقاعدة أن الآية إذا احتملت معنيين بينهما ملازمة فإنها تحمل عليهما جميعاً، ومن أمثلته: وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ [سورة الفلق:3]، فمنهم من قال: إنه القمر، ومنهم من قال إنه الليل، فنقول: إنما يظهر القمر ليلاً، كما قال تعالى: فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ، يعني القمر، وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً [سورة الإسراء:12] يعني الشمس، فهما قولان متلازمان لا نحتاج أن نرجح بينهما.
ومثل ذلك قوله -تبارك وتعالى- في آية الكرسي: وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ [سورة البقرة:255]، هل يقال: المقصود أنهم لا يحيطون بشيء من علم ما بين أيديهم وما خلفهم أو من علم الله، يقال: لا تعارض بين المعنيين؛ لأن علم ما بين أيديهم وما خلفهم هو جزء من علم الله، والباء في قوله: بِشَيْءٍ سببية.
يقول تعالى: فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللّهُ مَرَضاً [سورة البقرة:10] أي تعاطوا الأسباب التي أوقعتهم في الريبة والشك حتى ابتلوا بهذا النفاق، فلما أعرضوا عن الصدق قولاً وفعلاً وحالاً، عاقبهم الله بما يصلح ويناسب لفعلهم القبيح فزادهم من هذا المرض، وهذا بخلاف من أقبل على الله بصدق ولجأ إليه واهتدى بالقرآن فإن الله يزيده إيماناً وينقله من هداية إلى هداية؛ فهو أرحم بعباده كما قال : هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا [سورة الأحزاب:43]، فهو ينقلهم من رحمة إلى رحمة، ومن هدى إلى هدى، حتى يتم لهم هذا الإيمان، قال تعالى: وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ [سورة التوبة:115].
هذا هو تفسير هذه الآية عند أهل السنة والجماعة، وهو أن الله يجازيهم على هذا النفاق وهذا الكفر وهذا الرجس وتعاطي أسباب الشر أن يزيدهم مرضاً إلى مرضهم، وهذا أصل معروف دلَّ عليه القرآن في مواضع كثيرة، فمن أعرض عما هو مطالب به من الحق والعمل الصالح والإيمان ابتلي بالاشتغال بما يضره.
والشيخ عبد الرحمن بن سعدي في كتابه القواعد الحسان تكلم على هذا الأصل وجاء له بأمثلة كثيرة، من ذلك أن اليهود لما تركوا التوراة والعمل بها ابتلوا باتباع الشياطين، كما قال تعالى: وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ [سورة البقرة:102].
ومن أعرض عن كتاب الله فلا يسمعه ولا يقرؤه ولا يتدبره ابتلي بسماع الأغاني واللهو والغيبة والكذب والباطل والزور وما أشبه ذلك، وهكذا كل من أعرض عما هو بصدده مما طلب به ابتلي بالاشتغال بضده.
دلالة القراءة الثانية -أعني قراءة يكذّبون بالتشديد- فيها زيادة، وهي أنها تدل على التكثير، أي على كثرة الكذب منهم، أضف إلى ذلك أنها دلت على معنىً آخر وهو أنهم يكذبون بالقرآن وبالوحي والرسالة.
وصنيع ابن كثير -رحمه الله- بناءً على أنه حمل الآية على معنييها، والقاعدة أن تعدد القراءات ينزل منزلة تعدد الآيات، فإذا كان لكل قراءة معنىً يخصها فإنها تنزل منزلة الآية المستقلة، ومن ثم يفسر القرآن بهذه المعاني جميعاً.
وهذا التفسير أنواع: منه ما يرجع إلى ذات واحدة فيكون من باب زيادة الأوصاف، مثل قوله -تبارك وتعالى: وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ [سورة الكهف:86]، أي: منتنة متغيرة من طول المكث، وعلى القراءة السبعية الأخرى: وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَاميَةٍ يعني حارة، فهذا من باب تعدد القراءات؛ لأنه يرجع إلى ذات واحدة موصوفة هي العين، وهو من باب زيادة الأوصاف، فهي عين متغيرة منتنة وحارة.
وتارة تكون كل قراءة عائدة إلى معنىً آخر، مثل قول الله : وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىَ يَطْهُرْنَ [سورة البقرة:222]، في القراءة الأخرى يطَّهَّرْنَ، فعلى قراءة يَطْهُرْنَ يعني انقطاع الدم، وعلى قراءة يطَّهَّرْنَ يعني الاغتسال، ومن هذا النوع قوله تعالى: بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ ويُكَذِّبونَ.
(تنبيه) قول من قال: كان -عليه الصلاة والسلام- يعلم أعيان بعض المنافقين إنما مستنده حديث حذيفة بن اليمان في تسمية أولئك الأربعة عشر منافقًا في غزوة تبوك الذين هموا أن يفتكوا برسول الله ﷺ في ظلماء الليل عند عقبةٍ هناك؛ عزموا على أن ينفروا به الناقة ليسقط عنها، فأوحى الله إليه أمرهم فأطلع على ذلك حذيفة.
فأما غير هؤلاء فقد قال الله تعالى: وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى النِّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ الآية [سورة التوبة:101].
وقال تعالى: لَئِن لَّمْ يَنتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا [سورة الأحزاب:60-61]، ففيها دليل على أنه لم يغر بهم ولم يدرك على أعيانهم، وإنما كانت تذكر له صفاتهم فيتوسمها في بعضهم كما قال تعالى: وَلَوْ نَشَاء لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ [سورة محمد:30].
وقد كان من أشهرهم بالنفاق عبد الله بن أبي بن سلول.
من أهل العلم من يقول: إن النبي ﷺ أطلعه الله بعد ذلك على المنافقين، وأسر بذلك إلى حذيفة، ولهذا كان عمر يسأل حذيفة هل سماه له رسول الله ﷺ، مع أن عمر يعلم قطعاً أنه ليس من النفر الأربعة عشر الذين نفروا ناقة رسول الله ﷺ عند العقبة، حتى إن عمر كان لا يصلي على ميت حتى ينظر هل صلى عليه حذيفة أو لا يصلي عليه.
يعني أن عمر عاتب النبي ﷺ لماذا تصلي على هذا المنافق.
ومما يدل على نفاق ابن أبيّ ما حدث في غزوة المريسيع حيث اختصم الجهجاه -وهو رجل من غفار كان مولى لعمر- مع رجل من جهينة كان مولى لعبد الله بن أبي، اختصموا على الماء، فلطم الجهجاه الجهني، وكان الجهجاه كما في بعض الروايات كثير الدعابة، فكسع الجهني، أي ضربه بظهر قدمه على دبره، وكان العرب يكرهون هذا النوع من الضرب، ويكرهون الضرب على القفا أيضاً، كما قال القائل:
كنت أرى أن زيداً كما قيل سيداً | إذا قيل عبد القفا واللهازم |
فالعبد هو الذي يضرب على قفاه، أما الحر فلا يضرب هكذا، ولذلك فالأستاذ الذي يضرب الطلاب من بهذه الطريقة مخطئ؛ لأنه بهذا يذلهم.
الحاصل أن ذلك الرجل غضب، فقال: يا للأنصار، فقال الجهجهاه: يا للمهاجرين، فقال عبد الله بن أبي لما بلغه ذلك: أو قد فعلوها، والله ما مثلنا ومثل هؤلاء إلا كما قال الأول: سمن كلبك يأكلك، لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ [سورة المنافقون:8]، ثم لام قومه، فقال: إني نهيتكم عن إيوائهم لكنكم خالفتموني وساكنتموهم وأطعمتموهم ولو تركتموهم لطلبوا داراً أخرى غير المدينة.
وقد صور الله تعالى ذلك بقوله: هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنفِقُوا عَلَى مَنْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنفَضُّوا [سورة المنافقون:7]، أي: اقطعوا عنهم الأموال فيتفرقوا عنه.
وقد كان من أشهرهم بالنفاق عبد الله بن أبي بن سلول، وقد شهد عليه زيد بن أرقم : شهد عليه زيد لما قال: ليخرجن الأعز منها الأذل.
وقد عاتبه ﷺ عمرُ بن الخطاب فيه فقال: إني أكره أن تتحدث العرب أن محمدًا يقتل أصحابه [2].
مع أن الرجل قال كفراً، وشتم النبي ﷺ بأقبح الشتم، ومع ذلك النبي ﷺ لم يقتله من باب ارتكاب أخف الضررين بدفع أعلاهما.
وكذلك في تسمية المنافقين، لم يسمهم النبي ﷺ للصحابة، وإنما أعطاها لحذيفة، فلم يخبر بها حذيفة ؛ لئلا يؤدي ذلك إلى مفسدة أعظم، فيكفي معرفة الأوصاف ليحتفظ كل إنسان بمعلوماته لنفسه، فإذا أظهر هذا وحكم على الناس علناً بمثل هذه الأمور فإنه يحصل من المفاسد ما لا يخفى، يكفي أن هذه أوصافهم فمن وجدت فيه هذه الأوصاف فهو منافق.
لأن كل من أبطن الكفر وأظهر الإسلام يجري عليه حكم الظاهر وأمره إلى الله ، لكن هذا غير مسألة الاغترار به، والثناء عليه، وتوليته، وما أشبه ذلك، ولذلك النبي ﷺ لم يولِّ أحداً منهم، لا على سرية ولا على أكثر من ذلك ولا أقل.
هذه أخلاق الكبار قلَّ من يصل إليها، رجل يتكلم بهذا ويرمي عرض النبي ﷺ ويتهم عائشة -ا- بالزنا، وينشر هذا في الناس، ويقول: سمن كلبك يأكلك، ولئن رجعنا إلى المدينة..، ولا يزال يفسد في داخل الصف كالسوسة تنخر ثم يصلي عليه ويكفنه في قميصه -عليه الصلاة والسلام- ويقول: لو أعلم أني لو زدت على السبعين يغفر الله له لزدت، من يفعل هذا؟
تصور الآن واحد يفعل هذه الأشياء كلها ووصل أذاه إلى عرضك وهو منافق يفسد في المجتمع، ويفسد في الناس، هل ستقول: أستغفر له سبعين مرة، وأكثر من سبعين مرة، وأدفنه في ثوبي؟
ستقول: اللهم كفنه في جهنم، وهذا هو الذي يقوله الناس عادة إلا من روض نفسه وغلبها وقهرها وارتفع.
هذه أمور لا يصلها كثير من الناس، بل كثير من الناس يتمرغ في دائرة ضيقة في داخل نفسه تغمرها الأحقاد والحسد وتصفية الحسابات، فلا يستطيع أن يرتفع، كلما ارتفع قعدت به نفسه فلا يسمو، وقد يكون هذا مع أقرب الناس إليه.
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ ألا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِن لاَّ يَشْعُرُونَ [سورة البقرة:11-12].
قال السدي في تفسيره عن ابن عباس، وعن ابن مسعود، وعن أناس من أصحاب النبي -ﷺ ورضي عنهم: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَقال: هم المنافقون، أما لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ، قال: الفساد هو الكفر والعمل بالمعصية.
وقال أبو جعفر، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية، في قوله تعالى: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قال: يعني: لا تعصُوا في الأرض، وكان فسادهم ذلك معصية الله؛ لأن من عصى الله في الأرض أو أمر بمعصية الله، فقد أفسد في الأرض.
هذا هو المعنى العام للإفساد في الأرض، ويدخل فيه الإيقاع بين الناس، والتثبيط عن اتباع النبي ﷺ وعن الجهاد معه، وَقَالُواْ لاَ تَنفِرُواْ فِي الْحَرِّ [سورة التوبة:81].
والتثبيط عن النفقة: لَا تُنفِقُوا عَلَى مَنْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنفَضُّوا [سورة المنافقون:7].
لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً [سورة التوبة:47]، خبالاً: يعني وهناً وضعفاً، ولأَوْضَعُواْ خِلاَلَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ [سورة التوبة:47]، أي الدسائس والمؤامرات للإفساد بينكم مع قلة الجدوى.
وإذا حضروا أرض المعركة فهم كما قال الله : وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا [سورة الأحزاب:18]، فالمنافق ما حضر إلا لدفع التهمة عنه وللحصول على شهادة حضور، فإن حصلت غنيمة فهو معهم، فهو يحضر أرض المعركة حتى يُرى أنه حضر ولكنه لا يفعل شيئاً، فإذا ذهب الخوف وجاء وقت تقسيم الغنائم فهو كما قال الله: أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ [سورة الأحزاب:19].
فإذا جاء الخوف رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ [سورة الأحزاب:19]، فهو من شدة الخوف من الموت لا يستطيع أن يلتفت؛ لأنه يخاف أن يؤتى من هنا أو من هنا، وإنما العين فقط هي التي تدور يمنة ويسرة.
فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُم بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ [سورة الأحزاب:19]، والسلق هو البسط، والمعنى أنه إذا كان الأمن تكلموا كلاماً بليغاً فصيحاً عالياً، وادعوا لأنفسهم المقامات العالية في الشجاعة والنجدة وهم يكذبون في ذلك.
فالحاصل أن هذا كله من الإفساد في الأرض، وأعظم الإفساد في الأرض هو الكفر بالله والصد عن سبيله
وكان فسادهم ذلك معصية الله؛ لأن من عصى الله في الأرض أو أمر بمعصية الله فقد أفسد في الأرض؛ لأن صلاح الأرض والسماء بالطَّاعة، وهكذا قال الربيع بن أنس، وقتادة.
قال ابن جرير: فأهل النفاق مفسدون في الأرض بمعصيتهم فيها ربهم، وركوبهم فيها ما نهاهم عن ركوبه، وتضييعهم فرائضه، وشكّهم في دينه الذي لا يُقْبَلُ من أحد عمل إلا بالتصديق به والإيقان بحقيقته، وكذبهم المؤمنين بدعواهم غير ما هم عليه مقيمون من الشك والريب، ومظاهرتهم أهل التكذيب بالله وكتبه ورسله على أولياء الله، إذا وجدوا إلى ذلك سبيلاً.
ومثل هذا ما فعلوه مع يهود بني النضير في القصة المعروفة لما قالوا: لا تنزلوا عن دياركم وأموالكم، ولا تطيعوا محمداً فنحن معكم، وقالوا: نحن نعينكم بأربعة آلاف مقاتل، ثم خذلوهم.
وكانوا قد وعدوا النبي ﷺ في بداية الأمر بشيء من هذا، ثم رجعوا إليه، وقالوا: لا، ليس بيننا وبينك شيء، ووضعوا المتاريس واستعدوا للقتال، وتباطؤوا عبد الله بن أبي الذي وعدهم بأنه سيمدهم بالمقاتلين، فأرسلوا إليه رجلاً فوجدوه يتعشى، فقالوا له: أين ما وعدتنا؟ فقال: سنبعث إلى حلفائنا في غطفان، ولم يلتفت إلى الرجل، وهكذا خذلهم فلم يقاتل معهم، ولم يخرج معهم حينما أخرجوا.
وهكذا هو إفسادهم وهذه صورة من إفسادهم.
ومن صور إفساده أنه إذا لم يستطع أن يفعل شيئاً فلا أقل من أن يشوش على الناس ويرجف، كما قال حينما قتل النبي ﷺ رجالات بني قريضة: يقتل أربعمائة دارع في غداة واحدة؟!
وهكذا بدأ يثير بلبلة، كيف يقتل أربعمائة دارع في خنادق في صبيحة واحدة، فهو يستغل مثل هذه الفرص ويثير هذه البلبلة مع أنه ليس له وسائل إعلام كما هو الحال اليوم، فكيف ستكون النتائج لو كانت وسائل الإعلام في ذلك الوقت كاليوم وطلب لمقابلة في قناة من القنوات!!.
فذلك إفساد المنافقين في الأرض، وهم يحسبون أنهم بفعلهم ذلك مصلحون فيها.
وهذا الذي قاله حسن، فإن من الفساد في الأرض اتخاذ المؤمنين الكافرين أولياء، كما قال تعالى: وَالَّذينَ كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ [سورة الأنفال:73].
ولذلك لما كانت هذه الوشيجة موجودة بينهم وبين الكفار، كانوا يقولون لأهل الإيمان يوم الأحزاب: هلم إلينا، قال تعالى:قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا [سورة الأحزاب:18].
على أحد التفسيرات المشهورة في الآية: أنهم كانوا يقولون: نحن بيننا وبين هؤلاء الأحزاب خطوط اتصال، وصلة، وكانوا يحرضونهم أن يدخلوا المدينة ويعدونهم بأنهم سيحمونهم ويدافعون عنهم وسيدَّعون أن هؤلاء ليسوا من الأحزاب فلا يقع عليهم القتل والأسر، وستكون فرصة للبطش بالنبي ﷺ وأصحابه على حدِّ اعتقادهم.
ولذلك لما ذهبت الأحزاب لم يصدق المنافقون ذلك؛ فهم كانوا متيقنين أن الأحزاب سيدخلون ويبطشون ويقتلون النبي ﷺ ويأسرون المسلمين، ويضعونهم في أقفاص كما قال تعالى:يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا [سورة الأحزاب:20].
والحقيقة أنهم جبناء كما قال تعالى: وَإِن يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُم بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنبَائِكُمْ [سورة الأحزاب:20]، أي أنهم يسألون عن أنبائهم من بعيد من خلال تلقي الركبان وسؤال الناس الذين يأتونهم بالأخبار، وإلا فلو كانوا في المدينة لم يقاتلوا معهم إلا قليلاً، كما قال تعالى: وَلَوْ كَانُوا فِيكُم مَّا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا [سورة الأحزاب:20].
فقطع الله الموالاة بين المؤمنين والكافرين كما قال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَن تَجْعَلُواْ لِلّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُّبِينًا [سورة النساء:144]، ثم قال: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا [سورة النساء:145].
فالمنافق لما كان ظاهره الإيمان اشتبه أمره على المؤمنين، فكأن الفساد من جهة المنافق حاصل؛ لأنه هو الذي غَرّ المؤمنين بقوله الذي لا حقيقة له، ووالى الكافرين على المؤمنين، ولو أنه استمر على حاله الأول لكان شرّه أخف، ولو أخلص العمل لله وتطابق قوله وعمله لأفلح ونجح؛ ولهذا قال تعالى: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ أي: نريد أن نداري الفريقين من المؤمنين والكافرين، ونصطلح مع هؤلاء وهؤلاء.
في أول سورة الأحزاب الله يقول: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا [سورة الأحزاب:1، 2].
جاء بعض كبراء قريش سراً إلى المدينة، فنزلوا عند عبد الله بن أبي، فجاء إلى النبي ﷺ يطرح له رأياً وهو أن ينزع الفتيل -كما يقال- فلا تكون هناك حرب إعلامية، ولا أي مناوشات، أي: لا يتعرض للمشركين ولا لدينهم، ولا لآلهتهم، .
والمشركون بالمقابل يكفون عن النبي ﷺ وعن أصحابه، وتكون القضية بهذا علاقات، فالمنافقين بهذا الطرح كانوا يزعمون أنهم يريدون توفيق العلاقات بين المسلمين والكافرين، فيصطلحون مع هؤلاء ومع هؤلاء، فقال الله : يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا [سورة الأحزاب:1-3] أي: لا تخف فالله لن يضيعك.
ثم يقول الله: مَّا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ [سورة الأحزاب:4]، ومن معانيها المشهورة أنه لا تجتمع طاعة الله وطاعة غير الله من المنافقين والكافرين.
أي: نريد أن نداري الفريقين من المؤمنين والكافرين، ونصطلح مع هؤلاء وهؤلاء، كما روى محمد بن إسحاق عن ابن عباس -ا: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ [سورة البقرة:11] أي: إنما نريد الإصلاح بين الفريقين من المؤمنين وأهل الكتاب.
يقول الله تعالى:أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِن لاَّ يَشْعُرُونَ [سورة البقرة:12] يقول: ألا إن هذا الذي يعتمدونه ويزعمون أنه إصلاح هو عين الفساد، ولكن من جهلهم لا يشعرون بكونه فسادًا.
لاحظ القول الذي قالوه وكيف قابلهم به،قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ [سورة البقرة:11] فوصفوا أنفسهم بالإصلاح، بل حصروا ذلك في أنفسهم وقصروا فعلهم عليه بأسلوب الحصر "إنما" وهي من أقوى صيغ الحصر.
فقابلهم الله بالمثل فقال: أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ فهذا ينادي به عليهم كأنه يحصر الإفساد فيهم، وذلك أنهم استحقوا أكمل ما يمكن أن يتصور من هذا الاتصاف بالإفساد، فهم قالوا: إِنَّمَا نَحْنُ فحصروا أنفسهم في هذا، فهو قابلهم بمثله أَلا إِنَّهُمْ هُمُ وجاء بضمير الفصل "هم" بين طرفي الكلام؛ وذلك لتقوية النسبة.
ثم عقبه بقوله: وَلَكِن لاَّ يَشْعُرُونَ، فلاحظ الفرق بين هذا التعقيب وَلَكِن لاَّ يَشْعُرُونَ وبين التعقيب في قوله في الآية الأخرى: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُواْ أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاء أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاء وَلَكِن لاَّ يَعْلَمُونَ [سورة البقرة:13].
الفرق من حيث أن الشعور بالشيء هو إدراكه بأحد الحواس الخمس أو بغير الحواس الخمس كما يقول بعضهم: إن هناك حاسة فوق الحواس الخمس المعروفة، وعلى كل حال الشعور بالشيء يكون أبلغ من العلم به؛ لأن العلم بالشيء قد يأتي عن طريق المخبر، ولكن الشعور به لا يكون عن طريق المخبِر غالباً، ولذلك عبر هنا بالشعور؛ لأن الإفساد في الأرض أمر يدرك وليس من شأنه أن يخفى، ومع ذلك فهؤلاء خفي عليهم هذا بطمس بصائرهم، فظنوا أن هذا الإفساد هو عين الإصلاح مع أن فعلهم لا يخفى على ذي عينين أنه من الإفساد، فأي طمس للبصائر أعظم من هذا،؟! فهذا هو الفرق بين التعبير بالشعور بالشيء وبين العلم به، والله أعلم.
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُواْ أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاء أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاء وَلَكِن لاَّ يَعْلَمُونَ [سورة البقرة:13].
يقول تعالى: وإذا قيل للمنافقين: آمِنُواْ كَمَا آمَنَ النَّاسُ أي: كإيمان الناس بالله وملائكته وكتبه ورسله والبعث بعد الموت والجنَّة والنَّار وغير ذلك، مما أخبر المؤمنين به وعنه، وأطيعوا الله ورسوله في امتثال الأوامر وترك الزواجر، قَالُواْ أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاء يعنون -لعنهم الله- أصحابَ رسول الله ﷺ و.
قاله أبو العالية والسدي في تفسيره، بسنده عن ابن عباس وابن مسعود وغير واحد من الصحابة، وبه يقول الربيع بن أنس، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وغيرهم، يقولون: أنصير نحن وهؤلاء بمنزلة واحدة وعلى طريقة واحدة وهم سفهاء؟!
والسفهاء: جمع سفيه، كما أن الحكماء جمع حكيم والحلماء جمع حليم، والسفيه: هو الجاهل الضعيف الرّأي القليل المعرفة بمواضع المصالح والمضار.
قوله تعالى:قَالُواْ أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاء أي إنهم لما قيل لهم: آمنوا كما آمن الناس من صحابة رسول الله ﷺ إيماناً ثابتاً صحيحاً، تطيعون الله فيه ورسوله، وتقفون عند حدوده وتلتزمون أوامره، قالوا:تريدنا أن نفعل فعل هؤلاء السفهاء الذين ليس عندهم تدبير ولا حكمة ولا رأي حصيف، وإنما يفعلون الأفعال التي من شأنها أن تستعدي الناس عليهم، وتوقع بينهم وبينهم الحروب، وما أشبه ذلك.
أما نحن فعن طريق الحكمة نوفق ويكون لنا وشيجة مع هؤلاء ومع هؤلاء، وتكون هناك روابط حسنة طيبة مع الجميع، ونُرضي الجميع، وليس عندنا أي إشكال في أن نتفاوض مع الجميع، وأن نتنازل مع الجميع بحيث تنزع أسباب الشر بين الناس، ويحصل بينهم التقارب والتآلف والتعايش والاجتماع على الإنسانية، وهذا أمر مطلوب وهو عين الحكمة والصواب، ونحن لا ننظر إلى الجانب المظلم عند الآخرين، بل لا بد أن عندهم جوانب ثانية مشرقة وسنتفق معهم فيها، فالذي يتمحض للشر هو الشيطان فقط، لكن الآخرين مهما كان عندهم من شر وفساد فعندهم أيضاً جوانب خير لمن بحث وفتش بنية صحيحة طيبة، وبالتالي تتفق معهم فيها، فلو ركزت النظر في هذه الجوانب فإنك تستطيع أن تمتزج معهم، وتتعاون معهم في مثل هذه الأمور التي يحصل فيها الاتفاق.
وأما الأمور التي يحصل فيها الاختلاف فكل إنسان يحتفظ بما يعتقده لنفسه، وهذه هي الحكمة، وأما من يقف ضد هذا الفكر ويقول عن هذه الأفكار: إنها أفكار فاسدة، وأن الولاء لا يكون إلا بين المؤمنين، ويؤمن بمبدأ البراءة من الكافرين فهذا سفيه لا يفهم، وهذا شخصية تصادمية!!.
إن هذا الكلام في حقيقته هو فلسفة أهل النفاق، ومشكلة هؤلاء القوم في الحقيقة هي مع القرآن، ولو قرأنا سورة براءة لرأينا أعظم من هذا الذي ذكر في سورة البقرة من فضح لحقائق هؤلاء المطموسين، ولذلك فالمؤمن يعرف الحق ويتبعه، ولا يضل بما يسمعه من أعداء الله .
إذا سمع النساء هذا الكلام أو قرأنه من تفسير ابن كثير فإنهن سيلفظن تفسير ابن كثير؛ إذ كيف يقال: إن النساء سفيهات والمرأة اليوم هي السيدة، وهي التي أثبتت وجودها في جميع المجالات وصارت نداً للرجل، فصارت تزاول ما يزاوله الرجل فلا فرق بين المرأة والرجل، فلا بد من أن نعيد كتابة التفسير، ولا بد من تجديد الخطاب الديني، إلى غير ذلك من سحب النفاق التي نسمعها اليوم، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وقد تولى الله سبحانه جوابهم في هذه المواطن كلها، فقال: أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاء فأكد وحصر السفاهة فيهم.
وَلَكِن لاَّ يَعْلَمُونَ يعني: ومن تمام جهلهم أنهم لا يعلمون بحالهم في الضلالة والجهل، وذلك أردى لهم وأبلغ في العمى والبعد عن الهدى.
- أخرجه البخاري في كتاب: الإيمان – باب: علامة المنافق (34) (ج 1/ص 21)، ومسلم في كتاب: الإيمان – باب: بيان خصال المنافق (58) (ج 1/ص 78).
- أخرجه البخاري في كتاب: التفسير - باب قوله: يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ [سورة المنافقون:8] (4624) (ج 4/ص 1863)، ومسلم في كتاب: البر والصلة والآداب- باب نصر الأخ ظالماً أو مظلوماً (2584) (ج 4/ص 1998)، ولفظهما: دعه لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه.
- أخرجه بهذا اللفظ البخاري في كتاب: الجنائز – باب: ما يكره من الصلاة على المنافقين والاستغفار للمشركين (1300) (ج 1/ص 459).
- أخرجه البخاري أيضاً في كتاب: التفسير – باب: اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللّهُ لَهُمْ [سورة التوبة:80] (4394) (ج 4/ص 1715).