بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال المفسر -رحمه الله تعالى- في تفسير قوله تعالى:
إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيرًا إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللّهُ عَفُوًّا غَفُورًا وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلى اللّهِ وَكَانَ اللّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا [سورة النساء:97-100].
روى البخاري عن محمد بن عبد الرحمن أبي الأسود قال: قطع على أهل المدينة بعثٌ فاكتتبت فيه فلقيت عكرمة مولى ابن عباس -ا- فأخبرته، فنهاني عن ذلك أشد النهي، ثم قال: أخبرني ابن عباس أن ناسًا من المسلمين كانوا مع المشركين يكثِّرون سواد المشركين على رسول الله ﷺ يأتي السهم فيرمى به فيصيب أحدهم فيقتله أو يضرب عنقه فيقتل فأنزل الله: إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ [سورة النساء:97].
وقال الضحاك: نزلت في ناس من المنافقين تخلفوا عن رسول الله ﷺ بمكة وخرجوا مع المشركين يوم بدر فأصيبوا فيمن أصيب، فنزلت هذه الآية الكريمة عامة في كل من أقام بين ظهراني المشركين وهو قادر على الهجرة وليس متمكنًا من إقامة الدين فهو ظالم لنفسه مرتكب حرامًا بالإجماع وبنص هذه الآية حيث يقول تعالى: إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ [سورة النساء:97] أي: بترك الهجرة.
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فقوله: تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ [سورة النساء:97] يعني بنزع أرواحهم، ولا يلزم أن يقول: توفتهم؛ لأن الملائكة ليس مؤنثًا حقيقيًا، وبناء عليه يصح أن يأتي الفعل قبله من غير إشعار بالتأنيث.
ولفظ "توفاهم" يحتمل أن يكون فعلًا ماضيًا بمعنى إن الذين توفتهم الملائكة، كما تقول: توفاه الله، يعني في الزمن الماضي.
والمعنى الثاني -وهو المتبادر- أن قوله: إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ [سورة النساء:97] يعني في المستقبل، والمعنى تتوفاهم الملائكة في حال كونهم ظالمين لأنفسهم، وهذا الظلم هو الذي تبينه رواية البخاري هنا: أن هؤلاء خرجوا مع المشركين في يوم بدر فقتلوا حيث كانوا ممن دخل في الإسلام لكنه لم يهاجر.
وعلى الرواية الثانية التي ذكرها عن الضحاك أنها نزلت في أناس من المنافقين، يقال: ما ذكرنا سابقًا أنه لا يوجد في مكة نفاق، فعلى كل حال هذه الآية -والله تعالى أعلم- هي فيمن بقي بين ظهراني المشركين مع قدرته على الانتقال والهجرة في حال كونه مستضعفًا لا يستطيع إقامة دينه فربما حمله المشركون على الخروج معهم ليتقووا به ولتكثير سوادهم كأولئك الذين أخرجهم المشركون يوم بدر؛ حيث أخرجوهم فقتل بعضهم في تلك الغزوة كما هو معروف، وأسماؤهم موجودة -ذكرها ابن هشام وغيره في السيرة- فأنزل الله فيهم هذه الآيات، والله أعلم.
قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ [سورة النساء:97] أي: لِمَ مكثتم هاهنا وتركتم الهجرة؟ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ [سورة النساء:97] أي: لا نقدر على الخروج من البلد ولا الذهاب في الأرض قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً الآية [سورة النساء:97].
وروى أبو داود عن سمرة بن جندب -: أما بعد، قال رسول الله ﷺ: من جامع المشرك وسكن معه فإنه مثله[1].
هذا الحديث ثابت صحيح، وهو من الأحاديث التي تتوعد المتشبهين بالكفار والمحاكين لهم والذين يوالونهم، فإن من أنواع الولاية للمشركين أن يساكنهم وأن يجامعهم اختيارًا، ولا يجوز مساكنة المشركين ولا أن يسكن في ديارهم مختارًا لكن قد يحصل ذلك إما اضطرارًا وإما لمصلحة للمسلمين -لا لمصلحة شخصية- فاضطرارًا كأن لا يجد مكانًا في بلاد المسلمين يذهب إليه فيُضطر، وأصحاب النبي ﷺ هاجروا من مكة إلى الحبشة، مع أن مكة أحب البقاع إلى الله لكن هاجروا منها إلى الحبشة وهي بلاد للنصارى اضطرارًا، فالإنسان يهاجر إلى الأرض التي يأمن فيها، ويستطيع أن يقيم دينه، فإذا كان الإنسان في أرض وإن كان أهلها من المسلمين لكنه لا يستطيع أن يقيم دينه فإنه ينتقل إلى حيث يأمن؛ فالمقصود أن الإنسان المضطر يجوز له ذلك.
والحالة الأخرى هي أن يكون ذلك لمصلحة للمسلمين، كالذي يقوم بأعمال تتصل بهم وما أشبه ذلك من الوظائف التي يحتاج إليها الناس في علاقاتهم وارتباطاتهم وما أشبه هذا، فهذا لا إشكال فيه، لكن بالشروط المعروفة ومنها أن يكون قادرًا على إظهار دينه.
وأما أن يسكن في بلاد المشركين لغير مصلحة المسلمين مثل أن يسكن في بلادهم من أجل تحسين الوضع المادي بالنسبة إليه -فرص عمل كما يقولون- أي أن المرتبات عالية، أو لوجود بيئة علمية مهيأة من مختبرات ونحوها فينتقل ويعمل هناك فيتقوى به الكفار وتقوم عليه وعلى أمثاله حضارتهم وقوتهم فهذا لا يجوز، والجوع يُطرد بكسرة خبز، أما أن يوظف الإنسان علمه وعقله ومهارته من أجل خدمة أعداء الله فهذا من موالاتهم، ولا عذر له لكونه يبحث عن بيئة علمية أو غير ذلك.
وأما من ذهب إلى الدراسة، فينظر في هذه الدراسة إن كانت لا توجد في بلاد المسلمين فلا بأس، وأما ما يجد فيه مندوحة في بلاد المسلمين فلا يذهب؛ لأنه يُفتن من حيث شعر أو لم يشعر، فهو يفتن بالشهوات -ولم يصدُق من قال: إنه لا يتأثر- كيف وهو يرى أمورًا تشيب لها المفارق ولا تقوم لها الجبال، وكل إنسان يعرف نفسه ولو حاول أن يظهر خلاف ذلك أمام الناس، وأنه لا يتأثر وأنه لا يكترث، فليس بصحيح أنه لا يكترث إلا أن يكون عنده علة فهذا شأن آخر.
والنوع الآخر من الفتن هي فتنة الشبهات، وهي نوعان: نوع ظاهر يدركه الإنسان، ونوع لا يدركه وذلك بما يحصل له من ألوان التأثير غير المباشر، فيرجع منبهرًا ويرجع وقد تغيرت كثير من الأمور التي ينظر إليها، وينظر إلى هذا التأثير أنه من قبيل سعة الأفق، بل يرجع وهو يثني عليهم وعلى حضارتهم ويثني على أخلاقهم وعلى كل ما رأى منهم، ثم بعد ذلك يبدأ عنده ذوبان في الولاء والبراء ويتحدث أن هؤلاء لا يخلون من جوانب جيدة وطيبة وخيرة، ويبدأ يتكلم على الطرف الآخر والسماع من الآخر، والتواصل مع الآخر، فالمقصود أنه يبتلى، وهذا الابتلاء يجده الناظر في كثير ممن يذهب إليهم، فإن كان متدينًا فهو يرجع ونزعة الولاء والبراء عنده قد ضعفت، وأما من كان غير متدين فالله المستعان.
قوله: لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلًا [سورة النساء:98] أي: لا يستطيعون خلاصًا ولا يهتدون إلى طريق يتخلصون فيه من المشركين الذين يستضعفونهم، ويدخل في السبيل الطريق الحسي الذي هو الطريق إلى المدينة، فهم لا يعرفون الطريق وليس لهم بصر فيها فلا يستطيعون الوصول من مكة إلى المدينة ولا يعرفون طريق المدينةً، وكذلك هم لا يهتدون سبيلًا أيًا كان نوعه للخلاص ومفارقة هؤلاء المشركين.
قوله: "و"عسى" من الله موجبة" هذه جاءت في كلام ابن عباس وفي كلام جماعة من السلف، وأشرت إليها في بعض المناسبات السابقة وقلت: إن المقصود بها إذا صدرت في كلام الله أنه يخبر بذلك عن فعله أو عن نفسه، كما قال تعالى: عَسَى اللَّهُ أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُم مِّنْهُم مَّوَدَّةً [سورة الممتحنة:7] وهنا يقول: فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللّهُ أَن يَعْفُوَ [سورة النساء:99] وذكرنا أن ذلك متحقق فهي أصلًا للترجي لكن الترجي إنما يقع ممن لا يعلم عواقب الأشياء، وأما الله فهو يعلم كل شيء، ما كان وما لم يكن وما سيكون كيف يكون، لكن جرى على طريقة العرب أن العظماء يخرجون الوعد المحقق بمثل هذه العبارة.
وَكَانَ اللّهُ عَفُوًّا غَفُورًا [سورة النساء:99] روى البخاري عن أبي هريرة قال: بينا رسول الله ﷺ يصلي العشاء إذ قال: سمع الله لمن حمده ثم قال قبل أن يسجد: اللهم أنج عياش بن أبي ربيعة، اللهم أنج سلمة بن هشام، اللهم أنج الوليد بن الوليد، اللهم أنج المستضعفين من المؤمنين، اللهم اشدد وطأتك على مضر، اللهم اجعلها سنين كسِنِيِّ يوسف[2].
وقال البخاري أنبأنا أبو النعمان قال: حدثنا حماد بن زيد عن أيوب عن ابن أبي مليكة عن ابن عباس -ا: إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ [سورة النساء:98] قال: كنت أنا وأمي ممن عذر الله .
وقوله: وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً [سورة النساء:100] هذا تحريض على الهجرة وترغيب في مفارقة المشركين وأن المؤمن حيثما ذهب وجد عنهم مندوحة وملجأ يُتحصَّن فيه.
والمراغم: مصدر، تقول العرب: راغم فلان قومه مراغمًا ومراغمة، وقال ابن عباس: المراغم التحول من أرض إلى أرض، وكذا روي عن الضحاك والربيع بن أنس والثوري، وقال مجاهد: مُرَاغَمًا كَثِيرًا [سورة النساء:100] يعني متزحزحًا عما يكره.
هذه العبارات -متزحزحًا ومتحولًا، ويجد عوضًا- كل هذه عبارات متقاربة في معنى قوله: مُرَاغَمًا، وهذه اللفظة يلوح فيها معنى الإرغام، وذلك أن من يخرج من بيته مهاجرًا إلى الله ورسوله رغمًا عن أنوف المشركين الذين يستضعفونه فإنه يجد في الأرض مجالًا واسعًا للانطلاق والعمل في طاعة الله ، وما إلى ذلك مما يحصل به إعزاز الدين؛ فيرفع رأسه ويعمل من غير إهانة ولا إذلال، فيكون عمله ذلك إرغامًا لأعدائه الكفار ولعدوه الأول الذي هو الشيطان، ولذلك ذكر النبي ﷺ في سجدتي السهو إذا شك المصلي في صلاته أنه إذا كان وقع له نقص كانت السجدتان تكميلًا لذلك النقص وإن لم يكن فيها نقص فإنها تكون ترغيمًا للشيطان[3].
كما أنه –عليه الصلاة والسلام- رخص في التبختر بين الصفين في القتال، مع أن هذه الصفة مذمومة، لكن لما كان فيها إرغام للعدو وإغاظة له لم تكن كذلك.
ومن أمثلة إرغام العدو ما ذكره تعالى بقوله: مَا قَطَعْتُم مِّن لِّينَةٍ الآية [سورة الحشر:5] حيث ختم الآية بقوله: وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ [سورة الحشر:5] فكذلك إذا انتقل الإنسان وتحول من حال الاستضعاف إلى حال يقوى فيها ويستطيع أن يعمل بطاعة ربه -تبارك وتعالى- وأن يقدم لدينه كان ذلك إرغامًا لعدوه.
والحافظ ابن القيم -رحمه الله- تكلم على عبودية المراغمة كلامًا جيدًا في كتابه مدارج السالكين فليُراجع، لذلك لا يجوز للإنسان أن يبقى في حال من الاضطهاد والضعف والعجز بحيث لا يستطيع أن يقوم بالعبودية والأعمال التي تعبّده الله بها فضلًا عن أن يقوم بما هو أكثر من ذلك إذا كان يستطيع أن يبتعد عن ذلك.
هنا لم يحدد الله -تبارك وتعالى- معنىً في السعة، فأقوال السلف التي ذكروها كلها تدخل في الآية سواء قيل: يجد سعة في الرزق، أو يجد سعة في العمل، أو ويجد سعة في الصدر، أو يجد سعة في ألوان الهدايات، كل ذلك داخل فيه، ولذلك لا يخص معنىً دون معنى إلا بدليل يجب الرجوع إليه.
وقوله: وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلى اللّهِ [سورة النساء:100] أي: ومن خرج من منزله بنية الهجرة فمات في أثناء الطريق فقد حصل له عند الله ثواب من هاجر، كما ثبت في الصحيحين وغيرهما من الصحاح والمسانيد والسنن عن عمر بن الخطاب قال: قال رسول الله ﷺ: إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه[4] وهذا عام في الهجرة وفي جميع الأعمال.
ومنه الحديث الثابت في الصحيحين في الرجل الذي قتل تسعة وتسعين نفسًا ثم أكمل بذلك العابد المائة ثم سأل عالمًا: هل له من توبة؟ فقال: ومن يحول بينك وبين التوبة؟ ثم أرشده إلى أن يتحول من بلده إلى بلد آخر يعبد الله فيه، فلما ارتحل من بلده مهاجرًا إلى البلد الآخر أدركه الموت في أثناء الطريق فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، فقال هؤلاء: إنه جاء تائبًا، وقال هؤلاء: إنه لم يصل بعد، فأمروا أن يقيسوا ما بين الأرضين فإلى أيتهما كان أقرب فهو منها، فأمر الله هذه أن تقترب من هذه، وهذه أن تبعد فوجدوه أقرب إلى الأرض التي هاجر إليها بشبر فقبضته ملائكة الرحمة[5] وفي رواية: أنه لما جاءه الموت نأى بصدره إلى الأرض التي هاجر إليها[6].
وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلاَةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُواْ لَكُمْ عَدُوًّا مُّبِينًا [سورة النساء:101].
يقول تعالى: وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ أي: سافرتم في البلاد كما قال تعالى: عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُم مَّرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ الآية [سورة المزمل:20].
وقوله: فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلاَةِ [سورة النساء:101] أي: تخففوا فيها من كميتها بأن تجعل الرباعية ثنائية.
قوله تعالى: فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ [سورة النساء:101] رفع الجناح بمعنى رفع الحرج، وقد أخذ منه جمهور أهل العلم أن القصر ليس واجبًا، والخلاف في هذه المسألة معروف، فمن السلف من يرى الوجوب -منهم عمر بن عبد العزيز –رحمه الله- وبه قال الظاهرية وجماعة من أهل العلم، ويحتجون بأدلة منها: قول النبي ﷺ: إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه[7] وأمر –عليه الصلاة والسلام- بقبولها حيث قال: صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته[8] فقالوا: هذا الأمر للوجوب، واستدلوا كذلك بأن الصلاة فرضت في أصلها ركعتين كما في حديث عائشة -ا: "فرضت الصلاة ركعتين ثم زيد في صلاة الحضر وأقرت صلاة السفر"[9] فقالوا: هي ركعتين فإذا صلى أربع ركعات في السفر فقد زاد في ذلك.
ومما يذكر في هذا الباب كلام ابن مسعود لما أتم خلف عثمان وما المراد بكلامه حينما قال: "صليت مع رسول الله ﷺ بمنى ركعتين، وصليت مع أبي بكر بمنى ركعتين، وصليت مع عمر بن الخظاب بمنى ركعتين، فليت حظي من أربع ركعاتٍ ركعتان متقبلتان"[10] يعني هل المقصود أنه يتخوف أن لا تقبل أصلًا، أو أنه يريد الفضل، وعلى كل حال فإن هذه الآية بمجردها لا تدل على وجوب القصر وإنما تدل على أن ذلك رخصة.
ثم إن قصر الصلاة هنا يحتمل أن يكون المراد به قصر كيفية الصلاة وليس قصر الكم، وقصر الكيفية يعني أن يصلي حسب استطاعته، ففي حال المسايفة والمواجهة والالتحام يصلي مستقبل القبلة وغير مستقبل لها، مع أن الاستقبال شرط، ويصلي إيماء حسب استطاعته، ويقصر من كيفيتها في ركوعها وسجودها واستقبالها والاستقرار فيها وما إلى ذلك، والقرائن الدالة على ترجيح هذا المعنى موجودة في مثل هذه الآيات التي يذكر الله فيها هذه القضية، ومنها قوله تعالى: إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ [سورة النساء:101].
ثم انظر إلى قوله تعالى بعد ذلك: وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاَةَ فَلْتَقُمْ طَآئِفَةٌ مِّنْهُم مَّعَكَ [سورة النساء:102] تجدها كأنها حال أخرى غير الحالة الأولى، ففي الأولى يقول: إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ [سورة النساء:101] فهذا في حال الالتحام، والحالة الثانية: وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاَةَ يعني إذا كنتم تصلون في غير حالة الالتحام لكن مع وجود الخوف؛ وذلك أن الإقامة في قوله: فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاَةَ تقتضي معنىً غير المعنى الذي يكون في حال الالتحام، والله أعلم.
ثم قال تعالى: فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ فَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ [سورة النساء:103] ذهب كبير المفسرين ابن جرير –رحمه الله- إلى أن معنى فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ أي إذا زال خوفكم من عدوكم وأمنتم واطمأنت أنفسكم بالأمن فأتموا حدودَ الصلاة المفروضة عليكم غير قاصريها عن شيء من حدودها، وهذا معنىً قريب رجحه من المعاصرين الشيخ محمد الأمين الشنقيطي.
والمعنى الآخر -وهو المعنى المشهور الذي عليه كثير من أهل العلم وهو الذي مشى عليه ابن كثير هنا: أن المراد أن تقصروا من الصلاة من جهة الكمية، بحيث تقصر الرباعية فتكون ثنائية بحيث إذا انتهى السفر ووصلتم إلى بلادكم واطمأننتم فأتموا الصلاة واجعلوها رباعية.
ويؤيد القول الثاني أن مشروعية قصر الصلاة لا تكون في حال الخوف فقط، وأن عمر لما سئل عن هذا قال: إنه سأل النبي ﷺ عنها فأخبره أن القصر رخصة أو صدقة تصدق الله بها على عباده، ولو كان المراد قصر الكيفية لأجاب بقوله: لا يرخص في حال السفر أن تصلوا إيماء أو نحو ذلك بل يجب أن تقيموا أركانها وشروطها كما أمر الله إلا أنكم تصلون الرباعية ركعتين.
ثم إن ابن عمر ذكر أن الله بعث رسوله ﷺ فصلى بهم ركعتين، فدل على أن القضية توقيفية، كما أن الإجابات التي كانت ترد على تساؤلهم تدل على أن القصر إنما يكون في الكم، والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، والحمد لله رب العالمين.
- أخرجه أبو داود في كتاب الجهاد - باب في الإقامة بأرض الشرك (2789) (ج 3 / ص48) وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (2330).
- أخرجه البخاري في كتاب الاستسقاء - باب دعاء النبي ﷺ: «اجعلها عليهم سنين كسنين يوسف (961) (ج 1 / ص 341)
- أخرجه مسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة - باب السهو في الصلاة والسجود له (571) (ج 1 / ص 400).
- أخرجه البخاري في كتاب بدء الوحي - باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله ﷺ (1) (ج 1 / ص 3) ومسلم في كتاب الإمارة - باب قوله ﷺ: «إنما الأعمال بالنية وأنه يدخل فيه الغزو وغيره من الأعمال (1907) (ج 3 / ص 1515).
- أخرجه البخاري في كتاب الأنبياء – باب {أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ [سورة الكهف:9] (3283) (ج 3 / ص 1280) ومسلم في كتاب التوبة - باب قبول توبة القاتل وإن كثر قتله (2766) (ج 4 / ص 2118).
- صحيح مسلم – كتاب التوبة - باب قبول توبة القاتل وإن كثر قتله (2766) (ج 4 / ص 2766).
- أخرجه الطبراني في الكبير (11907) (ج 11 / ص 323) وفي الأوسط (8032) (ج 8 / ص 82) وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (1885).
- أخرجه مسلم في كتاب صلاة المسافرين وقصرها - باب صلاة المسافرين وقصرها (686) (ج 1 / ص 478).
- أخرجه البخاري في كتاب الصلاة - باب كيف فرضت الصلوات في الإسراء (343) (ج 1 / ص 137) ومسلم في كتاب صلاة المسافرين وقصرها - باب صلاة المسافرين وقصرها (685) (ج 1 / ص 478).
- أخرجه البخاري في أبواب تقصير الصلاة - باب الصلاة بمنى (1034) (ج 1 / ص 368) ومسلم في كتاب صلاة المسافرين وقصرها - باب قصر الصلاة بمنى (695) (ج 1 / ص 483).