بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال المفسر -رحمه الله تعالى:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فإن الكلام ينقسم إلى منطوق ومفهوم، فالمنطوق هو ما دلَّ عليه اللفظ في محل النطق، والمسكوت هو ما دلَّ عليه لا في محل النطق بل من جهة السكوت، وهو ينقسم إلى مفهوم موافقة ومفهوم مخالفة وكلاهما حجة أي: يُحتج بهما في الأحكام، ومعنى مفهوم المخالفة أن يكون حكم المسكوت عنه مخالفًا لحكم المنطوق به.
ومن الأمثلة البسيطة على مفهوم المخالفة أنك إذا قلت لإنسان: أعط هذه الصدقة للفقراء فكأنك قلت له: لا تعطها للأغنياء مع أنك لم تتلفظ بذلك لكنه عُرف من جهة مفهوم المخالفة وهو المعنى المسكوت عنه.
وبالنسبة لمنطوق اللفظ في قوله تعالى: فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلاَةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ [سورة النساء:101] أنه يجوز القصر في الصلاة حال خوف فتنة الكافرين، ومفهوم المخالفة في هذه الآية أنه لا يجوز لكم قصر الصلاة في حال الأمن، بمعنى أنه لا يجوز القصر حتى في السفر ما دام المسافر آمنًا.
ومع أن مفهوم المخالفة حجة -وهو في هذه الآية أنه لا قصر للصلاة في السفر حال عدم الخوف- فإنه هنا غير معتبر؛ لأن مفهوم المخالفة حجة إلا في نحو سبع أو ثمان حالات مستثناة ومنها:
أن يكون اللفظ المنطوق به روعي فيه الحال الغالبة في الوقوع، بمعنى أنه خرج مخرج الغالب، أي: أن المنطوق جيء به مراعىً فيه حال كثيرة الوقوع، وقد كان حال الصحابة في زمانهم أنهم في غالب أسفارهم يعانون من الخوف ولذلك قال الله: إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ [سورة النساء:101]..
فإن قيل: فماذا كانوا يصنعون في حال الأمن؟ أليسوا كانوا يقصرون الصلاة أيضًا؟ فالجواب: نعم كانوا يقصرون؛ لأنه ثبت في السنة من فعل النبي ﷺ أنه كان يقصر الصلاة في السفر حال الأمن، ومثال ذلك ما حصل له ﷺ حينما كان في حجته حيث كان يصلي في منى قصرًا ومعه نحو مائة ألف من الصحابة ولا قتال ولا خوف حينئذ، كما أنه ثبت من قوله ﷺ ما يلغي هذا المفهوم كما سيأتي.
إذن: مفهوم المخالفة معتبر إلا في مواضع منها هذا الموضع؛ وذلك أن هذه الآية كانت نازلة في حال يغلب عليها حال معينة؛ ثم إنه ثبت في السنة من قوله وفعله –عليه الصلاة والسلام- ما يلغي هذا المفهوم، والله أعلم.
وهذا الجواب إنما يقال باعتبار تفسير من فسر القصر في الصلاة بالكم لا بالكيف، أعني على تفسير الجمهور، وأما على قول ابن جرير وقول الشنقيطي ومن وافقهم فإنه يقال: إن مفهوم المخالفة في هذه الآية معتبر؛ وذلك أنهم يقولون: إن القصر المراد بالآية هو قصر كيفية الصلاة لا كميتها؛ بمعنى أنه يكفي الإيماء عن الركوع والسجود وتصلي إلى غير القبلة ونحو ذلك، وهذا كله حال الخوف الشديد وحال الاقتحام وحال المسايفة، وأما الخوف الذي يمكن أن تقيموا فيه الصلاة كما أمركم الله بركوعها وسجودها، فهذا لا تقصروا فيه من الصلاة، ففي حال الأمن لا تقصروا قصر كيفية من باب أولى وإنما يقصر قصر كمية، والخلاصة أنه على قول ابن جرير والشنقيطي ومن وافقهم يكون مفهوم المخالفة هنا معتبرًا.
إذن: لو سأل سائل فقال: هل مفهوم المخالفة معتبر أم غير معتبر في قوله تعالى: فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلاَةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ؟ [سورة النساء:101] فيكون الجواب باختصار: مفهوم المخالفة في الآية غير معتبر على قول الجمهور؛ لأنه يكون خرج مخرج الغالب، وهو معتبر على قول ابن جرير ومن وافقه؛ لأن المراد بالقصر قصر الكيفية الذي لا يجوز إلا في حال الخوف الشديد، والله أعلم.
لو كان المقصود بالقصر قصر الكيفية –كما فهم ابن جرير رحمه الله- فإنه لا يرد سؤال يعلى لعمر، وسؤال عمر للنبي ﷺ لأنهما إنما فهما من مفهوم المخالفة أنه في حال الأمن لا يجوز قصر الكمية، ودليل هذا أنه لو كان المقصود قصر الكيفية لقيل: ليس الأمر كما فهمتما -أنه لا قصر للرباعية حال الأمن- وإنما فعلًا لا تقصر الصلاة –في كيفيتها- إلا في حال الخوف فقط، ولذلك يتضح أن الأمر ليس كما فهم ابن جرير –رحمه الله- إطلاقًا، والله أعلم.
وهذا كسؤال يعلى لعمر عن القصر، وكل هذا يرجح قول الجمهور، وهو أن المراد قصر الكمية لا الكيفية.
وروى البخاري عن أنس قال: خرجنا مع رسول الله ﷺ من المدينة إلى مكة فكان يصلي ركعتين ركعتيـن حتى رجعنا إلى المدينة، قلت: أقمتم بمكة شيئًا؟ قال: أقمنا بها عشرًا، وهكذا أخرجه بقية الجماعة[3].
وروى الإمام أحمد عن حارثة بن وهب الخزاعي قال: صليت مع النبي ﷺ الظهر والعصر بمنى -أكثر ما كان الناس وآمنه- ركعتين، ورواه الجماعة سوى ابن ماجه، ولفظ البخاري قال: صلى بنا رسول الله ﷺ آمن ما كان- بمنىً ركعتين[4].
الحديث الأول -حديث أنس- كان في عام الفتح وليس في حجة النبي ﷺ والله أعلم.
وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاَةَ فَلْتَقُمْ طَآئِفَةٌ مِّنْهُم مَّعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُواْ فَلْيَكُونُواْ مِن وَرَآئِكُمْ وَلْتَأْتِ طَآئِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّواْ فَلْيُصَلُّواْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُم مَّيْلَةً وَاحِدَةً وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن كَانَ بِكُمْ أَذًى مِّن مَّطَرٍ أَوْ كُنتُم مَّرْضَى أَن تَضَعُواْ أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُواْ حِذْرَكُمْ إِنَّ اللّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا [سورة النساء:102].
صلاة الخوف أنواع كثيرة.
الحافظ ابن كثير -رحمه الله- هنا لم يعتنِ ببيان الألفاظ وإنما تكلم على صلاة الخوف إجمالًا..
قوله تعالى: وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاَةَ فَلْتَقُمْ طَآئِفَةٌ مِّنْهُم مَّعَكَ [سورة النساء:102] هذا الخطاب لا يختص بالنبي ﷺ بل هذا في صلاة الخوف عامة.
وإذا قلنا: إن الآية الأولى في قصر الكيفية -على قول ابن جرير- أعني قوله تعالى: وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلاَةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ [سورة النساء:101] فهذه الصلاة فيها ركوع وسجود وهي في قصر الكمية سواء على قول من قال: إن صلاة الخوف تكون ركعة لكل طائفة -وهو قول معروف قال به كثير من الصحابة ومن بعدهم- أو من قال: إن الرباعية تصلى مقصورة.
يقول تعالى: وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاَةَ [سورة النساء:102] هذا كقوله : فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ فَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ [سورة النساء:103] فهناك على قول ابن جرير في حال المسايفة والالتحام مع الأعداء، وعلى قول الجمهور تكون هذه في بيان صفة صلاة الخوف كيف تصلى، فالله ذكر صفة من صفاتها، وقد ورد لها صفات متعددة في السنة ربما تصل إلى سبع صفات أو أكثر، وذلك كله يفعل بحسب حالهم وحال عدوهم وما يحتاجون إليه توسعة من الله .
قوله تعالى: فَلْتَقُمْ طَآئِفَةٌ مِّنْهُم مَّعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ أَسْلِحَتَهُمْ [سورة النساء:102] هذا الخطاب ظاهره أنه موجه للطائفة التي تقوم تصلي مع أنه يحتمل -كما قال بعض المفسرين- أن الخطاب موجه للطائفة التي تقوم مواجهة للعدو، أي التي تحرس، ويحتمل أن يكون الخطاب موجهًا للجميع، والظاهر -والله أعلم- أنه يعود للطائفة المتحدث عنها وهي الطائفة التي تقوم تصلي معه؛ لأن الضمير يعود إلى أقرب مذكور.
والمعنى: أن هذه الطائفة التي تصلي يحمل أفرادها السلاح؛ ولهذا رخص الله لهم في حال المطر والمرض أن يضعوا أسلحتهم، وأما الطائفة الأخرى فلا يفهم إطلاقًا أنها لا تحمل السلاح؛ لأنه إذا كان الذين يصلون يحملون السلاح فحمل السلاح بالنسبة للحراس من باب أولى؛ فالذين يقفون إنما يقفون للحراسة فلا حاجة لتنبيههم على حمل السلاح، فالمقصود أن الجميع يحملون أسلحتهم -الذين يصلون والذين يحرسون- لكن ذكر الذين يصلون؛ لأن انشغالهم بالصلاة مظنة لوضع السلاح، فأمرهم الله بحمله.
ثم قال: فَإِذَا سَجَدُواْ فَلْيَكُونُواْ مِن وَرَآئِكُمْ [سورة النساء:102] يعني الذين يحرسون، وَلْتَأْتِ طَآئِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّواْ فَلْيُصَلُّواْ مَعَكَ [سورة النساء:102] يعني هؤلاء يصلون معه ركعة ثم يتأخرون، ثم تأتي الطائفة التي كانت تحرس وتتقدم وتصلي معه ركعة -على اختلاف في الصيغ والصور والهيئات والكيفيات- إما على قول من قال: إنه تجزئهم ركعة واحدة، وإما على قول من قال: يصلون ركعتين.
والمقصود أنهم –على القول بركعتين لكل طائفة- يتراجعون، ويتقدم الآخرون فيصلون مع النبي ﷺ ركعة ثم يتمون لأنفسهم ركعة وأولئك يتمون لأنفسهم ركعة، فتكون ركعة مع النبي ﷺ وركعة منفردين، وهذا كله يدل على أهمية صلاة الجماعة، كما يدل هذا على أن المجاهد أحوج ما يكون للارتباط بالله -تبارك وتعالى- فأين الذي ينام على فراشه والناس يصلون؟!
يقول تعالى: وَلْيَأْخُذُواْ حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ [سورة النساء:102] يلاحظ أنه أمر بأخذ الحذر عند ذكر الطائفة الثانية ولم يذكره مع الطائفة الأولى، والسبب –والله أعلم- هو أن العدو إذا رأى الجميع يحمل السلاح ظن أنهم قد اصطفوا للقتال واستعدوا له، فإذا تبيّن له أنهم يصلون لم يرى من التأخر والسجود والركوع والتبديل بعد ذلك فإنه قد يقدم عليهم ويهاجمهم لذلك أمرهم بأخذ الحذر.
ويحتمل أن يكون السبب هو أن الطائفة الأخرى هي الأحرى بمزيد من الحذر؛ لأن العدو إنما يريد أن يهاجمهم قبل الفراغ من الصلاة وفرصته تكون مواتيه وهم يصلون وهو لا يريد أن يفوت هذه الفرصة، فأمرت الطائفة الأخرى بالحذر؛ لأنها آخر فرصة للعدو للإغارة؛ حيث إنهم إذا سلموا من الصلاة وانصرفوا انتهى مقصود العدو الذي كان يتربص بهم ويعرف أن لهم صلاة هي أحب إليهم من كل شيء، فالهجوم سيكون في الصلاة، فالمقصود أنه يمكن أن يقال هذا، والعلم عند الله ، وعلى كل حال فإن مثل هذه القضايا يستنبطها العلماء -رحمهم الله- فقد تكون صحيحة وقد لا تكون، لكن لها وجه فيما يبدو وإن كان عند التأمل يمكن أن يستخرج غير هذا السبب، فالله أعلم.
طبعًا هذا المعنى يحمل على الآية السابقة: فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلاَةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ [سورة النساء:101] بناء على قول ابن جرير بأن المراد بالقصر قصر الكيفية، وعليه تكون هذه الآية في حال كونهم يستطيعون إقامتها بالركوع والسجود، والله أعلم.
ولهم أن يمشوا والحالة هذه ويضربوا الضرب المتتابع في متن الصلاة.
ومن العلماء من قال: يصلون والحالة هذه ركعة واحدة، لحديث ابن عباس -ا: فرض الله الصلاة على لسان نبيكم ﷺ في الحضر أربعًا وفي السفر ركعتين، وفي الخوف ركعة" [رواه مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه] وبه قال أحمد بن حنبل.
قال المنذري في الحواشي: وبه قال عطاء وجابر والحسن ومجاهد والحكم وقتادة وحماد، وإليه ذهب طاوس والضحاك، وقد حكى أبو عاصم العبادي عن محمد بن نصر المروزي أنه يرى رد الصبح إلى ركعة في الخوف وإليه ذهب ابن حزم أيضًا.
وقال إسحاق بن راهويه: أما عند المسايفة فيجزئك ركعة واحدة تومئ بها إيماء، فإن لم تقدر فسجدة واحدة؛ لأنها ذكر الله.
طبعًا ليس مقصود ابن راهويه بسجدة واحدة أنها ركعة -باعتبار أن الركعة يعبر عنها بالسجدة أحيانًا، وإنما قصد هنا السجود المعروف، والله أعلم
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، والحمد لله رب العالمين.
- أخرجه مسلم في كتاب صلاة المسافرين وقصرها – باب صلاة المسافرين وقصرها (686) (ج 1 / ص 478).
- أخرجه أحمد (6194) (ج 2 / ص 135) والطبراني في الصغير (997) (ج 2 / ص 184) وفي الكبير (63) (ج 11 / ص 110) وقال شعيب الأرنؤوط: صحيح لغيره وهذا إسناد محتمل للتحسين.
- أخرجه البخاري في أبواب تقصير الصلاة - باب ما جاء في التقصير وكم حتى يقصر (1031) (ج 1 / ص 367).
- أخرجه البخاري في أبواب تقصير الصلاة - باب الصلاة بمنى (1033) (ج 1 / ص 367) ومسلم في كتاب صلاة المسافرين وقصرها – باب قصر الصلاة بمنى (696) (ج 1 / ص 483).