الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد.
قال المفسر -رحمه الله تعالى- في قوله تعالى: وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ [سورة البقرة:3]
"قال ابن عباس -ا: وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ أي: يقيمون الصلاة بفروضها.
وقال الضحاك عن ابن عباس -ا: إقامة الصلاة إتمام الركوع والسجود والتلاوة والخشوع والإقبال عليها فيها.
وقال قتادة: إقامة الصلاة المحافظة على مواقيتها ووضوئها، وركوعها وسجودها.
وقال مقاتل بن حيان: إقامتها: المحافظة على مواقيتها، وإسباغ الطهور بها وتمام ركوعها وسجودها وتلاوة القرآن فيها، والتشهد والصلاة على النبي ﷺ، فهذا إقامتها."
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فهذه الأقوال التي ذكرها الحافظ ابن كثير -رحمه الله- وغيرها مما قاله السلف في معنى إقامة الصلاة كلها صحيحة، وهي داخلة في معناها، والمراد أنهم يأتون بها مقيمين لأركانها كما في قول ابن عباس هنا: أي يقيمون الصلاة بفروضها: يعني يأتون بما افترض عليهم فيها من أركان وواجبات، وهكذا أيضاً الأقوال الأخرى يحافظون على الأوقات، ويحققون ما شرط لصحتها كالطهارة، واستقبال القبلة، وما أشبه هذا، كل هذه الأمور هي من إقامة الصلاة.
وعلى كل حال فالصلاة لم يأمر الله بها في القرآن إلا بلفظ الإقامة، كقوله تعالى: وَأَقِمِ الصَّلَاةَ [سورة العنكبوت:45]، وكذلك نجد ذلك غالباً حينما يذكرها الله في القرآن، كقوله تعالى: وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاَةَ [سورة النساء:162]، ولم يرد ذكر المصلين من غير إقامة إلا في ثلاثة مواضع:
- الموضع الأول قوله تعالى: قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ [سورة المدثر:43]، وليس هذا على سبيل الأمر ولا على سبيل المدح، وإنما الإخبار عن حال أهل النار وما أوجب لهم من الدخول فيها.
- والموضع الثاني قوله تعالى: فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ [سورة الماعون:4]، وهذا أيضاً في مقام الوعيد.
- الموضع الثالث قوله تعالى: إِلَّا الْمُصَلِّينَ [سورة المعارج:22].
هذه هي المواضع الثلاثة التي لم تذكر الإقامة مع ذكر الصلاة، وأما ما سوى ذلك فإنه يقول: وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاَةَ [سورة النساء:162]، وَأَقِمِ الصَّلاَةَ [سورة هود:114]، وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ [سورة البقرة:43]، وما أشبه ذلك، ويدل ذلك على أن المراد هو إقامة الصلاة وليس مجرد أداء الصلاة وأما في الزكاة فيقول: وَآتُواْ الزَّكَاةَ [سورة البقرة:43]، فالصلاة التي تقام هي التي تؤثر في الإنسان.
والنبي ﷺ قد أخبر أن المصلي ليس له من صلاته إلا ما عقل منها، فقد صح ذلك عنه أنه قال: إن الرجل لينصرف وما كتب له إلا عشر صلاته، تسعها ثمنها سبعها سدسها خمسها ربعها ثلثها نصفها[1].
فهي تسقط عنه التبعة إن لم تكن كما ينبغي من الخشوع واستحضار القلب بما يقوله ويفعله الإنسان في هذه الصلاة، فيخرج ليس له من صلاته إلا كما أخبر النبي -عليه الصلاة والسلام- أي: بحسب ما عقل منها.
ولذلك لما قال الله : وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ [سورة العنكبوت:45]، فإنه قد علق هذا الحكم بوصف، فنهي الصلاة عن الفحشاء والمنكر هو حكم مترتب على وصف وهو الإقامة، ومعلوم أن الحكم المعلق على وصف يزيد بزيادته وينقص بنقصانه، فعلى قدر إقامتك للصلاة تؤثر في انتهائك عن الفحشاء والمنكر، وهذا جواب للسؤال الذي يطرح دائماً وهو لماذا لا تؤثر الصلاة في كثير من المصلين، وربما تسمع إجابات كثيرة عن هذا السؤال منها ما هو متكلف، لكن هذا هو الجواب الصحيح.
"وقال علي بن أبي طلحة، وغيره عن ابن عباس -ا: وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ قال: زكاة أموالهم.
وقال السدي عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس، وعن مرة عن ابن مسعود، وعن أناس من أصحاب رسول الله ﷺ ورضي عنهم، وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ قال: نفقة الرجل على أهله، وهذا قبل أن تنزل الزكاة."
القول الأول بأن قوله: وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ قال: زكاة أموالهم، قالوا هذا بناءً على القول بأن هذه السورة هي أول سورة نزلت في المدينة، ولم تفرض الزكاة بعد، وإنما فرضت بعد ذلك.
ويوجد خلاف معروف في الزكاة متى فرضت، والأقرب أن أصل الزكاة فرض في مكة، كما قال الله في سورة الأنعام: وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ [سورة الأنعام:141]، وسورة الأنعام سورة مكية قطعاً، فكانت الزكاة مفروضة بمكة لكن الأنصباء والأموال الزكوية لم تفصل إلا في المدينة.
ومن أهل العلم من يقول: إن الزكاة لم تفرض إلا في المدينة ونزل أول سورة البقرة قبل فرض الزكاة، فبعضهم يقول: هي النفقة على الأقارب، وبعضهم يقول: هي الزكاة بناءً على التفسير بجزء المعنى، وعلى هذا يمثلون على العام بأحد الأفراد ولا يقصدون بذلك الحصر، فهنا قال: يؤتون زكاة أموالهم وهو أعم.
وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ [سورة البقرة:3]، النفقة أعم، وهذا من باب البيان والإيضاح بجزء المعنى، وإلا فالنفقة أوسع من هذا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ من الزكاة ومن غير الزكاة.
بعض أهل العلم يقول: إن في المال حقاً غير الزكاة، وعلى كل حال آية الأنعام كانت قبل فرض التقادير والأنصباء وبيان الأنواع التي تجب فيها الزكاة، فكان قدراً غير محدد يخرجه الإنسان عند الحصاد يعطيه من حضره من الفقراء.
وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ "من" هنا تبعيضية، ووجه دخولها هنا أنك لست مطالباً بأن تخرج كل المال، وإنما المطلوب منك أن تخرج بعض المال فقط، فهي دخلت على هذا الأساس.
وبعض العلماء يقول: لأن المقصود إنما هو إخراج الأموال الطيبة وبالتالي وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ أي من المكاسب الصحيحة؛ لأن الرزق يشمل الحلال والحرام، وهذه عقيدة أهل السنة، خلافاً للمعتزلة.
فكل ما حصله الإنسان فهو من الرزق، لكن منه ما يكون حلالاً ومنه ما يكون حراماً وبالتالي فقوله: وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يستدلون بها على أن الإنسان يتحرى بصدقته، وأنه لا يخرجها إلا من كسب طيب، لكن على كل حال ليس المراد إخراج الكل.
هذا أحد الأجوبة في سبب الاقتران بين الصلاة والزكاة، وهو أمر يتكرر كثيراً كقوله تعالى: وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ [سورة البقرة:83]، وكقوله تعالى: وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاَةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ [سورة النساء:162]، فلماذا يحصل هذا الاقتران؟
الجواب الأول: أن الصلاة هي صلة بين العبد وبين ربه، والزكاة هي إحسان إلى المخلوقين، فسعادة العبد دائرة بين الأمرين.
ويمكن أن يقال: إن الصلاة هي رأس العبادات البدنية، والزكاة هي رأس العبادات المالية؛ لأنه ما تقرب المتقربون إلى الله بشيء أحب إليه مما افترض عليهم، فالزكاة مفروضة، وهي أفضل من الصدقة المستحبة، ومن أهل العلم من يقول: إن الصلاة هي طهارة للنفس والبدن، بسبب الطهارة التي هي من شروطها، وأما الزكاة فهي طهارة للمال، فجمع له بين الأمرين.
"ولهذا ثبت في الصحيحين عن ابن عمر -ا- أن رسول الله ﷺ قال: بُنِيَ الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت[2]، والأحاديث في هذا كثيرة.
وأصل الصلاة في كلام العرب الدعاء، ثم استعملت الصلاة في الشرع في ذات الركوع والسجود والأفعال المخصوصة في الأوقات المخصوصة، بشروطها المعروفة، وصفاتها، وأنواعها المشهورة."
الصلاة معناها اللغوي عموماً هو الدعاء، ثم صارت في الشرع الصلاة المعروفة، والعلماء يتكلمون في هذا هل هي باقية على أصلها اللغوي، ثم زيد عليها؟ هذه مسألة معروفة عند الأصوليين، وهل ما يسمى بالحقائق الشرعية والمصطلحات الشرعية -مثل الصلاة والصوم والجهاد والحج العمرة، وما أشبه هذا- هل هذه باقية على أصلها اللغوي ثم زيد عليها أشياء، أو أن الشارع استعملها في شيء آخر غير المعنى اللغوي، بمعنى هل هي مرتجلة من قبل الشارع؟ ما معنى مرتجلة؟ أي: أن الشارع جاء باستعمال جديد غير المعهود عند العرب، يعني أنها أشياء غير معهودة وغير معروفة قبل خطاب الشارع، فالعرب قبل خطاب الشرع إذا قيل لهم: ما هي الصلاة؟ يكون الجواب هي الدعاء في لغتهم إلا ما عرفوا عن حقيقة الصلاة عند الأنبياء السابقين.
كذلك الصيام كان معروفاً عند العرب، وكان أهل الجاهلية يصومون يوم عاشوراء، قال تعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ [سورة البقرة:183]، فهذا المعنى جاء به الشارع لكن أصل كلام أهل اللغة في الصيام هو الإمساك.
وكذلك العمرة في اللغة هي الزيارة، والحج هو القصد، مع أنه كان معروفاً عندهم بمعناه الشرعي الذي عرف من قبل الشارع، وهذه مسألة مشهورة وهي أن الشارع يأتي بمصطلحات جديدة -الحقيقة الشرعية- أو أنها هي المعنى اللغوي ثم زاد عليها بعض الأشياء.
فالعلماء يتكلمون على هذا، فمنهم من يقول: هي المعنى اللغوي وزيد عليها، وبعضهم ينكر هذا، ويقول: كيف تكون الزيادات أصولا وأركانا، بمعنى أن الدعاء –مثلاً- واجب في الصلاة مثل: "اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم" أين هو من الركوع والسجود وتكبيرة الإحرام والقيام، وما أشبه ذلك من هيئات الصلاة التي هي أركان فيها؟ فيقولون: كيف تكون هذه الزيادات العظيمة الكثيرة غير الدعاء من الأقوال والأفعال في الصلاة ثم تكون الصلاة هي الدعاء وزيد عليها؟!
المقصود أن هذه حقائق شرعية سواء كانت مرتجلة من قبل الشارع أو منقولة، فالشارع إذا ذكر الصلاة فالأصل أنها ذات الركوع والسجود إلا لقرينة، كقوله: وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ [سورة التوبة:103]، واللهم صلِّ على آل أبي أوفى[3].
فهنا المقصود بالصلاة الدعاء لهم، أما إذا قال: وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ [سورة البقرة:43]، فلا يحمل على المعنى اللغوي، والقاعدة هي أن ألفاظ الشارع تحمل على المعنى الشرعي، فإن لم يوجد فالعرفي -يعني عرف المخاطبين- ثم المعنى اللغوي.
"والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ [سورة البقرة:4] قال ابن عباس -ا: وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزلَ مِنْ قَبْلِكَ أي: يصدقون بما جئت به من الله، وما جاء به مَنْ قبلك من المرسلين، لا يفرقون بينهم ولا يجحدون ما جاءوهم به من ربهم.
وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ أي: بالبعث والقيامة، والجنة، والنار، والحساب، والميزان، وإنما سميت الآخرة؛ لأنها بعد الدنيا."
والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يعني: القرآن، والتعبير في هذه الرواية التي ذكرها عن ابن عباس والتي قال فيها: يصدقون يدل على أن السلف يفسرون اللفظة بما يقرب المعنى، وإلا الإيمان لا يفسر بمجرد التصديق، وإنما هو تصديق خاص، أي: يصدقون بما جئت به من الله، وبما جاء من قبلك.
قال: "لا يفرقون بينهم ولا يجحدون": هذا كقوله تعالى: آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ [سورة البقرة:285].
وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ أي: بالبعث والقيامة، والجنة، والنار، والحساب، والميزان، وإنما سميت الآخرة؛ لأنها بعد الدنيا؛ الآخرة بعد الدنيا لأنها متأخرة، ولفظ الآخرة مؤنث على تقدير الدار الآخرة، فحذفت الدار هنا لغلبة الاستعمال، فصار يقال: الآخرة، ثم صارت علماً بالغلبة على اليوم الآخر، فإذا قيل: الآخرة فهي اليوم الآخر، مع أن ذلك يصدق على اليوم الآخر، وعلى غيره مما يوصف بالتأخر لكن صارت علماً بالغلبة.
"والموصوفون هنا هم الموصوفون بما تقدم من قوله تعالى: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ [سورة البقرة:3].
عن مجاهد أنه قال: أربع آيات من أول سورة البقرة في نعت المؤمنين، وآيتان في نعت الكافرين، وثلاث عشرة في المنافقين، فهذه الآيات الأربع عامَّات في كل مؤمن اتصف بها من عربي وعجمي، وكتابي من إنسي وجني، وليس تصح واحدة من هذه الصفات بدون الأخرى، بل كل واحدة مستلزمة للأخرى وشرط معها، فلا يصح الإيمان بالغيب وإقام الصلاة والزكاة إلا مع الإيمان بما جاء به الرسول ﷺ وما جاء به مَنْ قبله من الرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، والإيقان بالآخرة."
هذا الكلام الذي ذكره الحافظ ابن كثير -رحمه الله- كلاماً جيداً، ففيه بيان لمعنى الآية مع توجيه للقول الذي اختاره؛ إذ في هذه الآية ثلاثة أقوال مشهورة، هي:
الأول: أن هذه الآيات الأربع على ما ذكره ابن كثير، وهو الظاهر، وهو الذي يدل عليه السياق، وهو أيضاً ما تدل عليه النصوص، وتعليله ما ذكره ابن كثير من أنه لا يصح الإيمان إلا باجتماع هذه الأمور جميعاً.
والقول الثاني: أن ما قبلها إنما المقصود به العرب الذين خاطبهم القرآن، ودخلوا في الإسلام، وأن هذه الآية والتي بعدها، والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ قالوا: هذه في أهل الكتاب.
القول الثالث: أنها جميعاً في من آمن من أهل الكتاب.
وأما قوله تعالى: الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ [سورة البقرة:1-3]، قالوا: هذه في غير أهل الكتاب.
فقوله تعالى: والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ [سورة البقرة:4]، قالوا: هذه في أهل الكتاب حيث إن عندهم كتابا آمنوا به فمدحهم الله على إيمانهم بهذا وهذا، يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ، وهذا هو الذي اختاره كبير المفسرين ابن جرير، وجمع من السلف.
ومن ثمّ فإن قوله -تبارك وتعالى: أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [سورة البقرة:5] إذا قلنا: إن الآيات الأربع في طائفة واحدة، سواء قلنا بأنهم عموم أهل الإيمان من عرب وعجم وأهل كتاب -كما قال ابن كثير هنا- أو قلنا القول الثالث –وهو قول بعيد- وهو أنها جميعاً في من آمن من أهل الكتاب فإن قوله أُوْلَئِكَ يرجع إلى الجميع، وإذا قلنا بقول ابن جرير ومن وافقه: إن الآيتين قبلُ في غير أهل الكتاب، وهذه الآية والتي بعدها في أهل الكتاب فيكون قوله: أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ يعود على إحدى الطائفتين، وما ذكره ابن كثير -رحمه الله- هو الراجح.
وقد ردَّ شيخ الإسلام على من فرق بين هذه الآيات الأربع ممن جعل الآيتين الأوليين في من آمن من غير أهل الكتاب، والثالثة والرابعة فيمن آمن منهم.
مسألة:
هل يصح إيمان من لم يؤمن بمحمد ﷺ وإيمان من لم يؤمن بالأنبياء السابقين؟
لا يصح أبداً إيمان من لم يؤمن بمحمد ﷺ، ولا يصح إيمان من لم يؤمن بالأنبياء السابقين.
يقول الله تعالى: الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ [سورة البقرة:1-4].
ويقول تعالى: آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ [سورة البقرة:285].
ويقول تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ آمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِيَ أَنزَلَ مِن قَبْلُ وَمَن يَكْفُرْ بِاللّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيدًا [سورة النساء:136].
فالله –جل وعلا- أمرهم بالإيمان به، وأمرهم بالإيمان بملائكته ورسله وكتبه وما أشبه ذلك، سواء يذكر ذلك على سبيل الثناء عليهم أو على سبيل التعليم أو على سبيل الأمر أو غير ذلك، فهذه الأمور كلها مطلوبة، ولا يحصل الفلاح إلا باجتماعها جميعاً، فكل هذه الآيات الأربع في طائفة واحدة هي طائفة أهل الإيمان.
وأما قوله -تبارك وتعالى: هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ [سورة البقرة:2-3] فقد سبق الكلام عليها أيضاً، وهو أن هؤلاء إما أن يكونوا على حال صدق النية في طلب الحق والتمحض لذلك ومفارقة الهوى، فهم متهيئون للهداية، فالقرآن هداية لأمثالهم، أو يكون هؤلاء ممن أسلم فالله يهديهم بهذا القرآن إلى التفاصيل، فلا إشكال في الآية.
"كما أن هذا لا يصح إلا بذاك، وقد أمر الله المؤمنين بذلك، كما قال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ آمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِيَ أَنزَلَ مِن قَبْلُ الآية [سورة النساء:136].
وقال تعالى: وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ الآية [سورة العنكبوت:46].
وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ آمِنُواْ بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِّمَا مَعَكُم [سورة النساء:47].
وقال تعالى: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّىَ تُقِيمُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ [سورة المائدة:68].
وأخبر تعالى عن المؤمنين كلهم بذلك، فقال تعالى: آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ [سورة البقرة:285].
وقال تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُواْ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُواْ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ [سورة النساء:152]، إلى غير ذلك من الآيات الدالة على جميع أمر المؤمنين بالإيمان بالله ورسله وكتبه."
المقصود أن الإيمان بالكتب السابقة ليس مختصاً بأهل الكتاب حتى يقال: إن قوله تعالى: والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ [سورة البقرة:4] المقصود بهم أهل الكتاب؛ لأنهم خوطبوا به، وإنما الصواب أن ذلك يشمل الجميع.
وكذلك لا يشكل قوله: بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ بأن يقال: كيف يؤمنون مع ما يوجد ويقع فيها من التناقضات؟ لأنها حرفت بما يتعارض مع القرآن، ولأنها منسوخة أصلاً، إذ إن حقائق الإيمان واحدة عند جميع الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- فما دخله التحريف فلا يؤمنون به، وإنما يؤمنون بأصل المنزل، وما نسخ فهم مطالبون باتباع الناسخ وهو القرآن، لكن يؤمنون بأن هذه الكتب في أصلها نزلت من عند الله .
وهنا فيما ذكره ابن جرير -رحمه الله- لاحَظوا التفريق في التعبير في ذكر هذه الأوصاف، حيث قال: هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ ثم لما ذكر هؤلاء قال: والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ [سورة البقرة:2-4]، حيث جاء بالواو العاطفة مع الاسم الموصول "الذين" فأشعر ذلك أنهم طائفة أخرى، وهذا هو السبب الذي حدا بهؤلاء أن يقولوا: إن هذه طائفة، وهذه طائفة، وعلى كل حال هذا كله من عطف الصفات، كقوله -تبارك وتعالى: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى [سورة الأعلى:1-3] فتارة يذكر الواو وتارة مع حذف الواو العاطفة وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى [سورة الأعلى:3-4]، فهذا كله لموصوف واحد، وهذا معروف في كلام العرب، ومنه قول الشاعر:
هو الملك القرم وابن الهمام | وليث الكتيبة في المزدحم |
هذا يخرَّج على قاعدة ذكرتها سابقاً وهي أن المزية لا تقتضي الأفضلية، فهؤلاء يؤتون أجرهم مرتين، ولكن لا يقتضي أنهم أفضل من غيرهم، فأبو بكر لم يكن على دين أهل الكتاب، ومع ذلك فإن منزلته وأجره عند الله أعظم من الكتابي الذي دخل في الإسلام، وكما ذكر النبي ﷺ في الذي يقرأ القرآن ويتتعتع فيه وهو عليه شاق، قال: فله أجران[5] والآخر الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة، فالماهر أفضل أجراً ومنزلة وحالاً ووصفاً، فالمزية لا تقتضي الأفضلية.
يقول تعالى: وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ معنى اليقين الثبوت والرسوخ والاستقرار والسكون، يقال: يقن الماء إذا استقر وسكن، وهو يدل هنا على سكون العلم وثبوته ورسوخه، والعلم هو المبدأ، واليقين هو المنتهى، فإذا زاد العلم واستقر ورسخ وثبت بحيث لا يقبل التشكيك صار ذلك من قبيل اليقين، فأنت تعرف مثلاً أن هذه المسألة حكمها كذا، فإذا ترددت في هذا فهذا شك، وإذا غلب صار ظناً، فإذا قطعت وجزمت به فهو علم، وإذا صار ذلك العلم ثابتاً لا يقبل التشكيك فهو اليقين.
واليقين ثلاث مراتب هي: علم اليقين، وعين اليقين، وحق اليقين، فحقائق ما أخبر الله عنه إذا صدقته وثبت هذا عندك فهذا علم اليقين، فإذا شاهدته في الآخرة فهذا علم اليقين، فإذا دخلت في بحبوحة الجنة فهذا حق اليقين.
وكما يقول شيخ الإسلام وابن القيم: إذا رأيت العسل ووصف لك وعرفت حلاوته بوصف الثقة فهذا علم اليقين، فإذا رأيته فهذا عين اليقين، فإذا ذقته فهذا حق اليقين[6].
كثيراً ما يأتي في الهدى استعمال "على" وفي الضلال استعمال "في" كما قال تعالى: وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ [سورة سبأ:24]، وكأن المراد أن من كان مهتدياً فهو مستعل بهداه، وأما من ضل فهو منغمس في ضلالته، لذلك كان الأنسب في الضلال أن يستعمل "في"، وفي الهدى أن تستعمل "على".
وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ الفلاح خلاصته تحصيل المطلوب والنجاة من المرهوب، وقد يطلق الفلاح على بعض معانيه مثل البقاء في الدنيا، أو البقاء في الآخرة، والبقاء يعني الخلود، كما قال القائل:
لو أن حياً يدرك الفلاح | لناله ملاعب الرماح |
فالفلاح في البيت يعني البقاء، وهذا كثير في كلام العرب.
المقصود أن قوله: وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ أي: الذين يحصل مقصودهم ومطلوبهم بنيل المنى والفوز العظيم في الدنيا وفي الآخرة، ويحصل لهم النجاة من المرهوب الذي هو عذاب الله .
وعلى كل حال فالآيات فيها معان كثيرة وملاحظ دقيقة وفوائد جليلة وجوانب بلاغية يمكن استنباطها.
"إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ [سورة البقرة:6]، يقول تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أي: غَطوا الحق وستروه، وقد كتب الله تعالى عليهم ذلك، سواء عليهم إنذارك وعدمه، فإنهم لا يؤمنون بما جئتهم به."
في الآيات الأربع الأولى ذكر تعالى صفات أهل الإيمان الذين هم أهل الفلاح، والآن يذكر صفة الكفار، ثم بعد ذلك سيذكر صفة من أظهروا الإيمان، وأبطنوا الكفر ممن أظهروا الإيمان وأبطنوا الكفر.
قوله: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أي: غَطوا الحق وستروه، هذا هو التعريف اللغوي للكفر؛ لأن أصل هذه المادة (كَفَرَ) تدل على الستر والتغطية، كما قال الشاعر:
يعلو طريقة متنها متواتراً | في ليلة كفر النجوم ظلامها |
بمعنى غطاها وسترها.
والكفر في المعنى الشرعي لا يختص بالستر والتغطية، وإنما قد يكون هذا الإنسان إنما وقع في الكفر لكونه شاكاً، أو لكونه أصلاً لم يعلم بشيء إطلاقاً، فهو كافر بغض النظر عن كونه يعذر أو لا يعذر، فهو وإن لم يبلغه دين أصلاً فإنه موصوف بالكفر، والكفر أسبابه كثيرة فلا يختص بالجحود أو بمجرد الستر والتغطية.
قوله: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أي: لم يحققوا الإيمان المنجي من عذاب الله، أياً كان السبب.
"كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَاءتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ [سورة يونس:96، 97].
وقال تعالى في حق المعاندين من أهل الكتاب: وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَّا تَبِعُواْ قِبْلَتَكَ الآية [سورة البقرة:145]."
في قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ جواب عن إشكال في قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ خَتَمَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ [سورة البقرة:6، 7]، وهو كيف أن الله أخبر عن الكفار بأنهم لا يؤمنون، ويستوي في حقهم الإنذار وعدم الإنذار حيث إن ظاهر اللفظ العموم؛ لأن الاسم الموصول من صيغ العموم، وعلل ذلك بأن الله ختم على قلوبهم، مع أنه من المعلوم أن من الكفار من خرج من الكفر فآمن بالله بعد الإنذار!
والجواب هو أن المقصود بالذين لا يؤمنون من الكفار مع حصول الإنذار وعدم حصوله هم من حقت عليهم كلمة الله، أي من قضى الله عليهم وسبق في علمه أنهم لن يؤمنوا، فهم لا يفارقون الكفر ولا يتحولون إلى الإيمان بحال من الأحوال، ولهذا قال ابن كثير في تفسيره: إنهم المعاندون.
ولهذا ذهب ابن جرير -رحمه الله- وطائفة من السلف إلى أن المعنيون بقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ هم طائفة معينة مخصوصة من المشركين واليهود.
وبعضهم يقول قولاً يشبه هذا وهو أنهم قادة أهل الأحزاب من المشركين، وكبارهم ورءوسهم، وهذا لا ينافي القول الأول.
وبعضهم يقول: هم الذين قتلوا في بدر.
وعلى كل حال فهذه الآية لا بد أن يقال فيها: إنها خاصة وليست على ظاهرها في العموم، والذي جاءنا بهذا التخصيص هو الواقع، وبالتالي يمكن أن يكون المقصود بها أهل العناد ومن سبق في علم الله أنه لن يؤمن، فهؤلاء يستوي في حقهم الإنذار وعدم الإنذار، وليس هذا القول بلازم، إلا أنه قول له وجه؛ لأن من كان شاكاً أو غير ذلك، كالذي ذهب وترك النبي ﷺ ولم يؤمن بعد أن ناقش النبي ﷺ مناقشة فيها تورع، فهذا يدخل في الآية مع أنه ليس معانداً، إلا أن القول في هذه الآية إنها في المعاند هو الأقرب، لكن بعض أهل العلم حينما يفسرون الكفر يقولون: هو الستر والتغطية من قولهم للزارع فلاح، يقال له: كافر؛ لأنه يدفن البذر في التربة، فهو يغطيها ويسترها، لكن ليس هذا فقط هو المعنى الشرعي.
"أي: إن من كتب الله عليه الشقاوة فلا مُسْعِد له، ومن أضلَّه فلا هادي له، فلا تذهب نفسك عليهم حسرات، وبلّغهم الرّسالة، فمن استجاب لك فله الحظ الأوفر، ومن تولى فلا تحزن عليهم ولا يُهِِمنَّك ذلك؛ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ [سورة الرعد:40]، إِنَّمَا أَنتَ نَذِيرٌ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ [سورة هود:12].
وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس -ا، في قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ، قال: كان رسول الله ﷺ يحرصُ أن يؤمن جميع النَّاس ويُتَابعوه على الهدى، فأخبره الله تعالى أنه لا يؤمن إلا من سبق له من الله السعادةُ في الذكر الأوّل، ولا يضل إلا من سبق له من الله الشقاوة في الذكر الأوّل."
- أخرجه أبو داود في كتاب: الصلاة - باب: ما جاء في نقصان الصلاة (796) (ج 1/ص 271)، وحسنه الألباني في صحيح أبي داود برقم (714).
- أخرجه البخاري في كتاب الإيمان - باب: الإيمان وقول النبي ﷺ: (بني الإسلام على خمس) (8) (ج 1/ص 12)، ومسلم في كتاب: الإيمان - باب: بيان أركان الإسلام ودعائمه العظام (16) (ج 1/ص 45).
- أخرجه البخاري في كتاب: الدعوات- باب: هل يصلي على غير النبي ﷺ (5998) (ج 5/ص 2339)، ومسلم في كتاب: الزكاة- باب: الدعاء لمن أتى بصد قة (1078) (ج 2/ص 756).
- أخرجه أبو داود في كتاب: العلم - باب: رواية حديث أهل الكتاب (3644) (ج 2/ص 342)، وأحمد (17264) (ج 4/ص 136)، والحاكم (5538) (ج 3/ص 404)، وضعفه الألباني في ضعيف الجامع برقم (5052).
- أخرجه البخاري في كتاب: التفسير - باب: تفسير سورة عبس (4653) (ج 4/ص 1882)، ومسلم في كتاب: صلاة المسافرين وقصرها - باب: فضل الماهر بالقرآن والذي يتتعتع فيه (798) (ج 1/ص 549).
- مجموع الفتاوى (ج 1/ص 645)، ومدارج السالكين (ج 2/ص 403).