السبت 28 / جمادى الأولى / 1446 - 30 / نوفمبر 2024
[1] من أول السورة إلى قوله تعالى: {وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاء وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} الآية:6
تاريخ النشر: ٠٢ / صفر / ١٤٣٥
التحميل: 6306
مرات الإستماع: 3500

بسم الله الرحمن الرحيم

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، لعلنا قبل أن نبدأ بالدرس نبدأ باختيارات شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم في سورتي الفلق والناس، عملها أحد الإخوان -جزاه الله خيراً- وروجعت، فهذا خلاصة أكثر من مائة وثلاثين أو مائة وأربعين صفحة، في نظري أنها مهمة، نقرؤها سريعًا.

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد، وعلى آله وصحابته الطيبين الطاهرين، أما بعد:

"فهذه اختيارات شيخ الإسلام ابن تيمية في معاني سورة الفلق.

الْفَلَقِ: فَعَل بمعنى: مفعول، كالقبْض بمعنى: المقبوض، فكل ما فلقه الرب فهو: فلق، وفي الفلق أقوال ترجع إلى تعميم وتخصيص، فإنه فسر بالخلق عمومًا، وفسر بكل ما يفلق منه كالفجر والحب والنوى، وهو غالب الخلق، وفسر بالفجر.

ومن قال بأنه وادٍ في جهنم، أو أنه اسم من أسماء جهنم فهذا أمر لا تعرف صحته، لا بدلالة الاسم عليه، ولا بنقلٍ عن النبي ﷺ.

وأما تفسيره بالنار أو بجب أو شجرة فيها فهذا مرجعه إلى التوقيف.

مِن شَرِّ مَا خَلَقَ: شر المخلوقات عمومًا.

وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ، غَاسِقٍ هو: الزمان الذي يعم شره، ووجَّه حديث عائشة[1]: أن القمر آية الليل، وكذلك النجوم إنما تطلع فترى بالليل، فأمْرُه بالاستعاذة من ذلك أمرٌ بالاستعاذة من آية الليل، ودليله، وعلاماته، والدليل مستلزم للمدلول، فإذا كان شر القمر موجودًا فشر الليل موجود.

ظاهر كلام الشيخ في معنى غَاسِقٍ: أنه يرى الغاسق هو: الليل، ومن هنا يأتي ليشرح دلالة أمر النبي ﷺ عائشة الاستعاذة من القمر، وتسميته له: غاسقًا، وربط ذلك بالليل، وذكر الحكمة من تخصيص الاستعاذة من شر الليل دون النهار، والليل مظلم تنتشر فيه شياطين الإنس والجن ما لا تنتشر بالنهار، ويجري فيه من أنواع الشر ما لا يجري بالنهار من أنواع الكفر والفسوق والعصيان والسحر والسرقة والخيانة والفواحش، وغير ذلك، فالشر دائمًا مقرون بالظلمة؛ ولهذا إنما جعله الله لسكون الآدميين وراحتهم، لكن شياطين الإنس والجن تفعل فيه من الشر ما لا يمكنها فعله بالنهار.

إِذَا وَقَبَ هو: دخول الظلام، ويدخل في شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ ما يؤثِّر من العلويات في السفليات من الليل، وما فيه من الكواكب كالثريا، وسلطانه الذي هو: القمر، ودخل في ذلك سحر التَمَرْسُحات الذي هو أعلى السحر وأرفعه.

وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ، النفاثات في العقد هن السواحر اللواتي يتصورن بأفعال في أجسام، النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ، خص من السحر النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ وهن النساء، والحاسد: الرجال في العادة، ويكون من الرجال ومن النساء.

وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ، هي: النفوس المضرة سفهًا، والحسد يكون من الأنفس الخبيثة، إما بالعين، وإما بالظلم وباللسان واليد.

قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ، رب الناس الذي يربيهم بقدرته ومشيئته وتدبيره، وهو رب العالمين كلهم، فهو الخالق للجميع ولأعمالهم.

مَلِكِ النَّاسِ: الذي يأمرهم وينهاهم، فإن الملك يتصرف بالكلام، والجماد لا مُلك له؛ فإنه لا يعقل الخطاب، لكن له مالك، وإنما المُلك لمن يفهم، والحيوان يفهم بعضه بعضًا.

الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ: يتناول وسوسة الجن، ووسوسة الإنس، وإلا فأي معنى للاستعاذة من وسوسة الجن فقط، مع أن وسوسة نفسه وشياطين الإنس هي مما تضره، وقد تكون أضر عليه من وسوسة الجن؟

الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ: لفظ الناس أشهر وأظهر وأعرف من أن يحتاج إلى تنويعه إلى الجن والإنس.

مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ: الذي يوسوس من الجنة ومن الناس في صدور الناس، القول الصحيح الذي عليه أكثر السلف أن معنى الآيات: من شر الموسوِس مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ من شياطين الإنس والجن، الصحيح: أن الاستعاذة من شر الموسوِس من الجنة ومن الناس في صدور الناس، فأمر بالاستعاذة من شر شياطين الإنس والجن الذي يوسوس في صدور الناس، نفسه، وشياطين الجن، وشياطين الإنس.

قول من قال: إن المعنى: الذي يوسوس في صدور الناس من الجنة ومن الناس، وإنه جعل الناس أولاً تتناول الجنة والناس..."

يعني هذا القول الآخر في المسألة: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ ۝ مَلِكِ النَّاسِ ۝ إِلَهِ النَّاسِ ۝ مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ ۝ الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ [سورة الناس:1-5]، من هم الناس على هذا القول؟ الذين يُوسوَس في صدورهم -الجنة والناس، فيكون مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ تفسيرًا للناس الذي قبلها.

هذا الذي رده شيخ الإسلام، ورده ابن القيم، وقال: لا معنى له.

"وإنه جعل الناس أولاً تتناول الجنة والناس، فسماهم ناسًا كما سماهم رجالاً: قول ضعيف.

وكذلك قول من قال: إن المعنى من شر الموسوِس في صدور الناس من الجن، ومن شر الناس مطلقًا، قول ضعيف.

يعني: على الوقف، مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ ۝ الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ ۝ مِنَ الْجِنَّةِ، فاستعاذ من الموسوس الذي يوسوس في صدور الناس من الجن، الشيطان من الجن، ثم قال: وَالنَّاسِ يعني: أعوذ أيضًا، كما أعوذ من الشيطان الموسوس إلى آخره، استعاذ من الإنس عمومًا وليس فيما يتصل بالوسوسة، يعني: والناس أعوذ بك منهم.

"ولم يُنقل هذان القولان إلا عن بعض النحاة.

قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ أصل الاستعاذة مأخوذ من الستر، ومأخوذ من لزوم المجاورة، وأصلها: أعْوُذ بتسكين العين وضم الواو، ثم أعل بنقل حركة الواو إلى العين، وتسكين الواو.

الْفَلَقِ: الصبح والنور، الْفَلَقِ هو: الصبح الذي هو مبدأ ظهور النور، واعلم أن الخلق كله فلق؛ وذلك أن فلقًا فَعَلٌ بمعنى مفعول.

مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ، الشر يقال على شيئين: على الألم، وعلى ما يفضي إليه، ولذا كانت استعاذات النبي ﷺ جميعًا مدارها على هذين الأصلين، فكل ما استعاذ منه أو أمر بالاستعاذة منه فهو إما مؤلم، وإما سبب يفضي إليه.

مَا هنا موصولة ليس إلا، وفيها عموم تقييدي".

يعني: ليست مصدرية، مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ، ليست بمعنى: من شر خلقه على أنها مصدرية، يقول: هنا موصولة، مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ: من شر الذي خلق.

"وفيها عموم تقييدي وصفي، لا عموم إطلاقي، والمعنى.."

ما معنى عموم تقييدي؟ العموم التقييدي هو الذي يسميه الشاطبي: العموم الاستعمالي، يعني: لِمَا يصلح له، مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ: فهنا عموم؛ الاسم الموصول يفيد العموم، شَرِّ مَا خَلَقَ، يعني: شر كل ما خلق، الله خلق الجنة فهل فيها شر؟ الله خلق الملائكة فهل فيهم شر؟

الجواب: لا.

الحور العين هل فيها شر؟

لا، إذًا هذا غير داخل، طيب هو من جملة ما خلق الله، يقال: هذا عموم تقييدي، وليس بعموم إطلاقي، هو العموم الاستعمالي الذي يذكره الشاطبي، تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا [سورة الأحقاف:25]، يعني: كل شيء مما جاءت لتدميره، لم تدمر السموات ولا الأرض ولا الجبال ولا البيوت أيضًا، فبقيت بيوتهم، وهكذا في مكة يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ [سورة القصص:57]، مع أن هناك ثمرات في الدنيا لا تجبى إلى مكة، لا في ذلك الوقت، ولا الآن، لكن ما اعترض المشركون وقالوا: كيف وهناك ثمرات لا تجبى؟

وهكذا في قول الله تعالى عن ملكة سبأ: وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ [سورة النمل:23]، قالوا: ما أوتيت ملك سليمان مثلاً، ولا لحية سليمان، وإنما أوتيت من كل شيء يصلح لملكها، يسمونه العموم الاستعمالي.

س: هل يمكن أن يسمى يا شيخ عمومًا عرفيًّا؟

ج: هو لا يسمى عموماً عرفياً؛ لأن القضية ليس لها علاقة بالعرف، وإنما يمكن أن يقال: العام المراد به الخصوص مثلاً، وليس العام المخصوص؛ لأن الأصوليين يقولون: إنه عام مخصوص، تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا [سورة الأحقاف:25]، خصصه الحس، نرى السموات والأرض ما دمرت، والجبال، الحس خصص، يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ، يعني: خصصه الحس، اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ [سورة الزمر:62]، يقولون: ذاته ليست داخلة بهذا قطعًا، فهو خالق وليس بمخلوق، قالوا: خصصه العقل، فيجعلون العقل مخصصًا، والحس مخصصًا.

ويرد عليهم الشاطبي، ويقول لهم: العقل لا يخصص، والحس لا يخصص، إنما هذا تعرفه العرب من خطاب من خاطبها بحسب السياق، وبحسب المقام، وتحمل كلامه على هذا؛ ولذلك لا يعترضون.

فالشاطبي لا يرى أن تكثر هذه المخصصات، وهذا كلام مهم؛ لأن هؤلاء -أعني: المتكلمين الذين يكثرون من هذه المخصصات- هم يُوَهِّنُون ويضعفون العام، ثم يقولون: أكثر النصوص من قبيل العمومات، فدخلها التخصيص؛ ولهذا يقولون: عامة النصوص العامة دخلها تخصيص؛ فإذا دخلها تخصيص أضعفها، يعني: لم تبقَ على عمومها، هذا كلامهم هم.

إذًا: هذه العمومات دخلها التخصيص فأضعفها، ومن ثَمَّ يقولون: إنها تفيد الظن من حيث الدلالة، غير الثبوت، يعني: حتى لو كانت متواترة من القرآن.

طبعًا الرد عليهم أنواع، فمن الوجوه التي تقال في الرد: إنه غير صحيح أن أكثر العمومات مخصصة، وابن القيم يسرد نصوصًا كثيرة جدًّا، حشدًا من النصوص، يقول: أين التخصيص؟ مثل: اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ [سورة الزمر:62]، وَاللّهُ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [سورة آل عمران:189]، ونحو ذلك، وهم يقولون: العام الباقي على عمومه نادر، هذا كلام المتكلمين، فيفضي إلى الطعن في النصوص، ومن ثَمَّ العقل عندهم هو المعول عليه في العقائد، يريدون أن يصلوا إلى هذا.

"وفيها عموم تقييدي وصفي، لا عموم إطلاقي، والمعنى: من كل مخلوق فيه شر، فعمومها من هذا الوجه، وليس المراد: الاستعاذة من شر كل ما خلقه الله، والشر مسند في الآية إلى المخلوق، إلى المفعول، لا إلى خلق الرب تعالى الذي هو فعله وتكوينه، فإنه لا شر فيه بوجه ما، فدخل في قوله: مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ الاستعاذة من كل شر في أي مخلوق قام به الشر، من حيوان أو غيره، إنسيًّا كان أو جنيًّا، أو هامة أو دابة أو ريحًا أو صاعقة، وأي نوع كان من أنواع البلاء، غَاسِقٍ: الليل، ولا منافاة بين من قال: سمي غاسقًا؛ لظلمته، أو من البرد".

البرد هذا قال به بعض أصحاب المعاني، كما سبق، مع أنه بعيد، وإن كان له وجه في اللغة، والمشهور أنه لظلمته، لكن شيخ الإسلام لديه القدرة على الجمع بين الأقوال، حتى لو كان في بعضها بُعد، وانظر طريقته في الجمع:

"فإن الليل بارد مظلم، إلا أن الظلمة في الآية أنسب لمكان الاستعاذة، فإن الشر الذي يناسب الظلمة أولى من الاستعاذة من البرد الذي في الليل.

وأما تسمية النبي ﷺ القمر غاسقًا فذلك حق، ولا يناقض التفسير الأول؛ بل يوافقه ويشهد لصحته، فالقمر هو آية الليل وسلطانه فيه، فهو أيضًا غاسق إذا وقب، كما أن الليل غاسق إذا وقب.

وأما تخصيص الغاسق بالنجم إذا غرب فباطل، وإن أراد أن اسم الغاسق يتناول ذلك بوجه ما فهذا يحتمل أن يدخل اللفظ عليه بفحواه، ومقصودٌ، وتنبيهٌ".

يعني: من باب دلالة الإيماء والتنبيه مثلاً، فهو ينبه، كون هذا النجم إلى الثريا أو غير ذلك، هذه النجوم كالقمر إنما تظهر في الليل، يعني: بهذا الاعتبار، يعني: تحتاج إلى معالجة حتى تدخل في المراد، يعني: ليست هي المعاني المتبادرة، المعنى الأساس، المعنى القريب، وإنما تحتاج إلى شيء من المعالجة يعني: ورشة، والأصل: أن مثل هذه المعاني يمكن أن تضم إلى المعنى الأساس، لكن أن يقال: هي المرادة هنا الإشكال.

"وأما أن يختص اللفظ به فباطل.

إِذَا وَقَبَ، الوقوب هو: الدخول، من قولهم: وقبت العين: إذا غارت، وركيّة وقْباء: غار ماؤها فدخل في أعماق التراب، ومنه الوقب للثقب الذي يدخل فيه المحور، وتقول العرب: وقب يقب وقوبًا: إذا دخل.

وأما تفسير وقب بمعنى: إذا دخل القمر في الخسوف، أو غاب خاسفًا فقول ضعيف، ولا نعلم به سلفًا".

مع أن شيخ الإسلام يقول هذا، لكن هو أيضًا يقول: يمكن أن يدخل تحت المعنى، بمعنى أنه إذا خسف فإن خسوفه منذر لعقوبة، وآية يخوف الله بها عباده، فإذا خسف فمعنى ذلك هذه أمارة للخوف؛ فيفزع الناس إلى الصلاة.

"النفث هو: النفخ مع ريق، وهو دون التفل، وهو مرتبة بينهما".

بعض من فسر "النفث" قالوا: النفخ، وذكرت لكم عندها أنه ليس كما ذكروا، هو أعلى من مجرد النفخ، النفث مع ريق، هذه أعلى مراتب الرقية.

النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ: هن السواحر اللاتي يعقدن الخيوط، وينفثن على كل عقدة، حتى ينعقد ما يردن من السحر".

لاحظ أن الكثيرين أو أن البعض فسره بالنفوس السواحر، يعني: ما يختص بالنساء، شيخ الإسلام يقول: النساء السواحر، طبعًا لا ينفي عن الرجال، لكن لما كان السحر في النساء أكثر خُص النساء.

"فإن قيل: فالسحر يكون من الذكور والإناث، فلِمَ خص الاستعاذة من الإناث دون الذكور؟

فالجواب المحقق: أن النفاثات هنا: الأرواح والأنفس النافثات، لا النساء النافثات".

هذا غير الكلام الأول: هن السواحر اللاتي يعقدن الخيوط، يعني النساء السواحر، وبعد ذلك أورد هذا السؤال: لماذا خص الإناث؟ فجاء الجواب غير مطابق لما قبله، يعني: كان الأصل أن يقال: إنه خص النساء لكثرة وقوع السحر منهن، كما أجاب أهل العلم في مثل هذا السؤال لمن فسره بالنساء النفاثات، هنا جاء الجواب غير مطابق لما قرر قبله، قال: هن الأرواح والأنفس النافثات.

فالجواب المحقق: أن النفاثات هنا الأرواح والأنفس النافثات، لا النساء النافثات.

يعني: هذا الجواب يصلح أن يكون سؤالاً على النحو الآتي: أن يقال: لماذا جاء التأنيث في النفاثات؟ لا أن يفسر النفاثات بالنساء، ثم يقال: المقصود النفوس النفاثات، لا، لكن أحيانًا النساخ لربما، وأحيانًا يسبق القلم، وأحيانًا الذهن، وهذا يحصل للإنسان، الإنسان عرضة، ابن جرير ذكرت لكم في بعض المناسبات أني كنت أريد أن أختصر تفسيره، ليس أختصر؛ لكن أقتصر على المعنى الإجمالي الذي يذكره؛ لأنه دائمًا يذكر المعنى الإجمالي بعد الآية، بحيث يصلح أن يقرأ في المساجد، تفسير إجمالي حرفيًّا لابن جرير.

لكن ما منعني من هذا -سنوات وأنا أقلب النظر فيه، حتى ظهر اختصار الدكتور بشار عواد معروف في سبعة مجلدات- أن ابن جرير -رحمه الله- رأيته في بعض المواضع يقرر في المعنى الإجمالي معنى، ثم يذكر الأقوال والآثار، ثم يقول: قال أبو جعفر، يرجح بين الأقوال، ثم يذكر معنى غير الذي قرره في المعنى الإجمالي، فتحيرت في هذا، هل أقر المعنى الأعلى، أو المعنى الجديد الآخر؟ هذا في بعض المواضع، هذا كبير المفسرين ابن جرير، فالإنسان الله يريه من عجزه ومن ضعفه أشياء عجيبة، أنا أحيانًا إذا سمعت درسًا أو كلمة أو محاضرة قبل أن تخرج أستغرب أحيانًا كيف قلت هذا الكلام؟ كيف نطقت هذه العبارة؟ كيف أخطأت في هذه الآية؟

"لأن تأثير السحر إنما هو من جهة الأنفس الخبيثة، والأرواح الشريرة، وسلطانه إنما يظهر منها؛ فلهذا ذكرت النفاثات هنا بلفظ التأنيث دون التذكير، والله أعلم.

وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ، أصل الحسد هو: بغض نعمة الله على المحسود وتمني زوالها.

إِذَا حَسَدَ بيان؛ لأن شره إنما يتحقق إذا حصل منه الحسد بالفعل؛ لأن الرجل قد يكون في طبعه الحسد وهو غافل عن المحسود، لاهٍ عنه".

يعني: النفوس فيها حسد كامن، فالاستعاذة هنا حينما تتحرك دواعيه، تنبعث النفس بهذا الداء، وإلا فكما يقول شيخ الإسلام في موضع آخر: ما خلا جسد من حسد، ولكن الكريم يخفيه -يعني: يدفعه، واللئيم يبديه.

"فإذا خطر على ذكره وقلبه انبعثت نار الحسد من قلبه إليه، وتوجهت إليه سهام الحسد من قبله؛ فيتأذى المحسود بمجرد ذلك، وقد يكون الرجل عنده حسد ولكن يخفيه، ولا يترتب عليه أذى بوجه ما، لا بقلبه، ولا بلسانه، ولا بيده، بل يجد في قلبه شيئًا من ذلك، ولا يعامل أخاه إلا بما يحب الله، فهذا لا يكاد يخلو منه أحد إلا من عصمه الله.

جاء ذكر الحاسد دون العائن؛ لأنه أعم، فكل عائن حاسد ولابدّ، وليس كل حاسد عائنًا، فإذا استعاذ من شر الحاسد دخل فيه العائن".

يعني: هذا الحاسد الذي يحسد الإنسان قد لا يكون عائنًا، يعني: قد يحسده ثم بعد ذلك يبدأ يفتح له "هشتاج" يسمونه في "تويتر"، ثم بعد ذلك يبدأ يطعن فيه، ويسب فيه، ويشتم فيه، وينتقصه، ويتتبع عيوبه وعثراته، وهكذا في المجالس يظلمه، ويأخذ ماله، وغير ذلك، من شر الحاسد، قد لا يكون بالعين.

"وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ يعم الحاسد من الجن والإنس، والوسواس أخص بشياطين الجن، والحسد أخص بشياطين الإنس، والوسواس والحسد يعمهما".

يعني: "الأخص" ليس المقصود أنه يختص به، وإنما أعلق به فقط، وإلا فكما أخبر النبي ﷺ عن الجارية التي رأى في وجهها سوادًا: إن بها النظرة[2]، ففسرت النظرة بأنها: عين الجن، فالجن يصيبون بالعين، لكن غالب ما يصيب الناس إنما هو من الإنس، والوسوسة غالبًا ما تكون من الجن، وقد تكون من الإنس أيضًا.

"والوسواس والحسد يعمهما، فكلا الشيطانين حاسد موسوس، فالاستعاذة من شر الحاسد تتناولهما جميعًا.

الحاسد والساحر يؤذيان المحسود والمسحور بلا عمل منه، بل هو مِن أمر خارج عنه، وأما الوسواس فإنما يؤذي العبد من داخلٍ بواسطة مساكنته له".

يعني سورة الناس، وسورة الفلق.

فالفلق: أشياء خارجة عنه، الشرور التي في العالم، الغاسق، الظلمة، الشرور التي تنتشر فيها، وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ: السواحر، ومن شر هؤلاء الحسدة.

بينما سورة الناس: الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ ۝ الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ، فهذا في داخل النفس.

"وأما الوسواس فإنما يؤذي العبد من داخلٍ بواسطة مساكنته له، وقبوله منه".

قبوله منه يعني: إذا وجد المحل القابل أثرت هذه الوسوسة، سواء كانت في العبادة، في الطهارة، في الصلاة، في غير ذلك، أو كانت في أمور أخرى، أوهام يلقيها في قلبه، فيضيق صدره، وتنحسر الآمال في عينه، يترقب، يتخوف، إلى آخره.

"ولهذا يعاقب العبد على الشر الذي يؤذيه به الشيطان من الوسواس الذي تقترن به الأفعال والعزم الجازم؛ لأن ذلك بسعيه وإرادته، بخلاف شر الحاسد والساحر؛ فإنه لا يعاقب عليه، إذ لا يضاف إلى كسبه ولا إرادته، فلهذا أفرد شر الشيطان في سورة، وقرن بين شر الساحر والحاسد في سورة".

يعني: بمعنى أن الإنسان إذا استقبل هذه الوساوس والخواطر كما هي في أولها، ثم بعد ذلك ساكنها حتى صار ذلك عزيمة مصممة فإنه يؤاخذ على هذا العزم، فكيف لو تحول إلى فعل في الخارج؟! فتبدأ خواطر، ثم بعد ذلك تكون إرادات، ثم بعد ذلك تتحول إلى عزيمة، ثم الفعل.

"قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ، رب الناس: فيه إضافة الربوبية المتضمنة لخلقه، وتدبيرهم، وتربيتهم، وإصلاحهم، وجلب مصالحهم، وما يحتاجون إليه، ودفع الشر عنهم، وحفظهم مما يفسدهم، هذا معنى ربوبيته لهم، ذلك يتضمن قدرته التامة، ورحمته الواسعة، وإحسانه وعلمه بتفاصيل أحوالهم، وإجابة دعواتهم، وكشف كرباتهم.

مَلِكِ النَّاسِ: فيه إضافة المُلك، فهو ملكهم المتصرف فيهم، وهم عبيده ومماليكه، وهو المتصرف لهم المدبر لهم كما يشاء، النافذ القدرة فيهم، الذي له السلطان التام عليهم، فهو ملكهم الحق، الذي إليه مفزعهم عند الشدائد والنوائب، وهو مستغاثهم، ومعاذهم، وملجأهم، فلا صلاح لهم ولا قيام لهم إلا به وبتدبيره، فليس لهم ملك غيره يهربون إليه إذا داهمهم العدو، ويستصرخون به إذا نزل العدو بساحتهم.

إِلَهِ النَّاسِ فيه إضافة الإلهية، فهو إلههم الحق، ومعبودهم الذي لا إله لهم سواه، ولا معبود لهم غيره، فكما أنه وحده هو ربهم ومليكهم لم يَشْركه في ربوبيته ولا في ملكه أحد فكذلك هو وحده إلههم ومعبودهم، فلا ينبغي أن يجعلوا معه شريكًا في إلهيته، كما لا شريك معه في ربوبيته وملكه، كرر الاسم الظاهر الناس ولم يوقع المضمر موقعه تحقيقًا لهذا المعنى، وتقوية له".

يعني: قال: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ ۝ مَلِكِ النَّاسِ ما قال: ملكهم، إلههم، وإنما قال: مَلِكِ النَّاسِ ۝ إِلَهِ النَّاسِ، والأصل: أن العرب تكني بالضمير اختصارًا.

"تحقيقًا لهذا المعنى، وتقوية له، فأعاد ذكرهم عند كل اسم من أسمائه، ولم يعطف بالواو؛ لما فيها من الإيذان بالمغايرة.

والمقصود: الاستعاذة بمجموع هذه الصفات حتى كأنها صفة واحدة.

مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ، الوسواس: فَعْلال من وسوس، وأصل الوسوسة: الحركة أو الصوت الخفي الذي لا يحس، فيحترز منه، فالوسواس: الإلقاء الخفي في النفس، إما بصوت خفي لا يسمعه إلا من ألقي إليه، وإما بغير صوت، كما يوسوس الشيطان إلى العبد، ومن هذا وسوسة الحلي وهو حركته الخفية في الأذن، والظاهر -والله أعلم- أنها سميت وسوسة؛ لقربها، وشدة مجاورتها لمحل الوسوسة من شياطين الإنس، وهو الأذن، فقيل: وسوسة الحلي؛ لأنه صوت مجاور للأذن، كوسوسة الكلام الذي يلقيه الشيطان في آذان من يوسوس له، ولما كانت الوسوسة كلامًا يكرره الموسوس ويؤكده عند من يلقيه إليه كرروا لفظها بإزاء تكرير معناها".

هنا يتكلم على تكرار الحروف.

"فقالوا: وسوس وسوسة، فراعوا تكرير اللفظ؛ ليفهم منه تكرير مسماه، فلما كان الموسوس يكرر وسوسته، ويتابعها قيل: وسوس.

الوسواس المستعاذ منه في الآية هو: الشيطان نفسه، وأنه ذات لا مصدر، يرى أن الوسواس وصف للشيطان لا مصدر لفعل الوسوسة، وساق الأدلة على ذلك".

لأن بعض أهل العلم يقول: هو مصدر، مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ يعني: الوسوسة التي تقع في صدور الناس، هو يقول: لا، هو وصف للشيطان.

"الْخَنَّاسِ هو: فعّال من خنس يخنس، إذا توارى واختفى، وحقيقة اللفظ: اختفاء بعد ظهور، فليست لمجرد الاختفاء، الخناس مأخوذ من هذين المعنيين: الاختفاء والرجوع، فهو من الاختفاء والرجوع والتأخر، فإن العبد إذا غفل عن ذكر الله جثم على قلبه الشيطان، وانبسط عليه، وبذر فيه من أنواع الوساوس التي هي أصل الذنوب كلها، فإذا ذكر العبد ربه، واستعاذ به انخنس وانقبض، كما ينخنس الشيء؛ ليتوارى، وذلك الانخناس والانقباض هو أيضًا تجمُّعٌ ورجوع وتأخر عن القلب إلى خارج، فهو تأخر ورجوع معه اختفاء، وخنس وانخنس يدل على الأمرين معًا".

كلام ابن عباس السابق الذي استشكلناه في البداية، ثم جاء كلام ابن جرير يوافقه: أنه يدل على الرجوع وأيضًا الانقباض، خنس بمعنى: انقبض، وكذلك رجع، كيف رجع؟ هو يوسوس ثم يرجع، يلقي الوساوس ثم يرجع، وإذا استعاذ انقبض، وهنا ظاهر كلام ابن القيم أنه جمع بين الأمرين؛ لكن كأنه يميل إلى أن رجوعه بسبب الاستعاذة، إذا استعاذ تراجع، كلام ابن عباس وكلام ابن جرير: أنه يلقي الوساوس ثم يرجع، يعني: يكرر كرة بعد كرة.

"جيء من هذا الفعل بوزن فعّال الذي للمبالغة دون الخانس والمنخنس؛ إيذانًا بشدة هروبه ورجوعه وعظم نفوره عند ذكر الله، وأن ذلك دأبه وديدنه، لا أنه يعرض له ذل عند ذكر الله أحيانًا".

يعني: ليس ذلك قليلا أو نادرًا، وإنما كثير الخنوس.

"بل إذا ذكر الله هرب وانخنس وتأخر.

تأمل حكمة القرآن وجلالته كيف أوقع الاستعاذة من شر الشيطان الموصوف بأنه: مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ ۝ الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ ولم يقل: من شر وسوسته؛ لتعم الاستعاذة شره جميعه، فإن قوله: مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ يعم كل شره، ووصفه بأعظم صفاته، وأشدها شرًّا، وأقواها تأثيرًا، وأعمها فسادًا، وهي: الوسوسة التي هي مبادئ الإرادة".

يعني هنا لم يقل: من شر وسوسته، بل قال: مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ ۝ الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ، ذكر أسوأ صور هذه الوسوسة التي هي في صدور الناس، فهي أكثر تأثيرًا وإفسادًا.

"الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ: صفة ثالثة للشيطان، فذكر وسوسته أولاً، ثم ذكر محلها ثانيًا، وأنها في صدور الناس ثالثًا.

تأمل السر في قوله تعالى: يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ، ولم يقل: في قلوبهم، والصدر هو ساحة القلب وبيته، فمنه تدخل الواردات إليه، فتجتمع في الصدر، ثم تلج في القلب، فهو بمنزلة الدهليز له، ومن القلب تخرج الأوامر والإرادات إلى الصدر، ثم تتفرق على الجنود، فالشيطان يدخل إلى ساحة القلب وبيته فيلقي ما يريد إلقاءه إلى القلب، فهو موسوس في الصدر، ووسوسته واصلة إلى القلب.

مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ لم يقم دليل على أن الجنيَّ يوسوس في صدر الجني، ويدخل فيه كما يدخل في الإنسي، ويجري منه مجراه من الإنسي".

يعني هنا يرد على الذين قالوا: إن قوله: مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ تفسير للناس في قوله تعالى: الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ، من هؤلاء الناس؟ جن وإنس، فمن وجوه الرد التي يرد بها ابن القيم على هذا القول: أنه ما عندنا دليل على أن هذا الوسواس يدخل في صدور الجن، ويوسوس لهم، هذا أحد الوجوه.

"تقسيم الناس إلى الجن والإنس قول ضعيف، وساق وجوه ضعف القول".

هذا وجه آخر في الرد على هذا القول، هو طبعًا قاله بعض أهل اللغة، لكن يقول: هذا ضعيف، يقول: نعم رجال من الجن، صحيح، هذا ثابت في القرآن، لكن الناس يصدق على الجن، لا.

طيب وأثر ابن مسعود "ناس من الجن"؟ يناقِش هذا على كل حال.

"النَّاسِ اسم لبني آدم، فلا يدخل الجن في مسماهم".

يعني ابن القيم في مثل: "جاء ناس من الجن"، إلى آخره، يقول: هذا بقيد، لكن إذا أطلق الناس فهم البشر، إذا قيل للجن: ناس فيقال: ناس من الجن، أما عند الإطلاق فلا يكون إلا الإنس، هذا جوابه على أثر ابن مسعود .

"النَّاسِ: اسم لبني آدم، فلا يدخل الجن في مسماهم.

الْجِنَّةِ: لا يطلق عليهم اسم الناس بوجه، لا أصلاً ولا اشتقاقًا ولا استعمالاً، ولفظهما يأبى ذلك، فإن الجن سموا جنًّا من الاجتنان وهو الاستتار، فهم مستترون عن أعين البشر؛ فسموا جنًّا لذلك.

وأما الناس فبينه وبين الإنس مناسبة في اللفظ والمعنى، وبينها اشتقاق أوسط، وهو عقد تقاليب الكلمة على معنى واحد".

تعرفون الاشتقاق: أكبر وأصغر، ابن القيم هنا يذكر الأوسط كجبذ وجذب، لاحظ الحروف نفسها، ذاك صار فيها تقديم وتأخير، نفس الحروف: جبذ وجذب، وأحيانًا يكون بتغيير شيء من هذه الحروف: الناس من الأُنْس مثلاً، فهذا يحتمل كالناس والأُنْس، أو أنه من ناس ينوس بمعنى: الحركة.

"لا يلزم من إطلاق اسم الرجل على الجني أن يطلق عليه اسم الناس.

الإنس والإنسان مشتق من الإيناس، وهو الرؤية والإحساس، ومنه قوله تعالى: آنَسَ مِن جَانِبِ الطُّورِ نَارًا، أي: رآها، ومنه: فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْدًا أي: أحسستموه ورأيتموه، فالإنسان سمي إنسانًا؛ لأنه يونس أي: بالعين يُرى، فالناس من النوس، وهو: الحركة المتتابعة، فسمي الناس ناسًا للحركة الظاهرة والباطنة، فأصل ناس: نَوَس، تحركت الواو وقبلها فتحة فصارت ألفًا.

القول بأن الناس مقلوب من أنس بعيد، والأصل عدم القلب.

القول بأنه من النسيان، وسمي الإنسان إنسانًا؛ لنسيانه، وكذلك الناس سموا ناسًا؛ لنسيانهم: ليس بشيء.

الصواب: أن قوله: مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ بيان للذي يوسوس، وأنهم نوعان: إنس وجن، فالجني يوسوس في صدور الإنس، والإنسي أيضًا يوسوس في صدور الإنس، فالموسوس نوعان: إنس وجن، فإن الوسوسة هي الإلقاء الخفي في القلب، وهذا مشترك بين الجن والإنس".

هذه الاختيارات؛ لكن هذا لا يغني عن الرجوع إلى الأصل، وهذا يغنيك ببيان ما رجحه شيخ الإسلام وابن القيم في هذا الكلام الطويل الممتد، كما قلت: مجموع كلام الشيخين في نحو مائة وأربعين صفحة، لكن الكلام والتعليقات الجميلة، والهدايات، وكذا فهذا شأن آخر، لاسيما في كلام ابن القيم.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

بسم الله الرحمن الرحيم

حم ۝ تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ۝ مَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ ۝ قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ۝ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ ۝ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ  [سورة الأحقاف:1-6].

يقول الإمام الحافظ ابن كثير: يخبر تعالى أنه أنزل الكتاب على عبده ورسوله محمد -صلوات الله عليه دائما إلى يوم الدين.

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فهذه السورة سورة الأحقاف سميت بهذا؛ لورود ذلك فيها: إِذْ أَنذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ [سورة الأحقاف:21]، وهذا اسمها المعروف، لا يعرف لها اسم سوى هذا، وهي سورة مكية بالاتفاق، وعامة أهل العلم يطلقون ذلك، يعني: أنها مكية من غير استثناء، هكذا جرى عامة أهل العلم عند الكلام على مكان نزولها، ولكن في ثنايا كلامهم يذكر بعضهم أنه يستثنى منها آية: وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ [سورة الأحقاف:10]، كما سيأتي، باعتبار أنها نزلت في عبد الله بن سلام، وهذا يحتمل -يعني حتى وإن نزلت فيه، وذلك أن الآية قد تنزل قبل تقرير حكمها.

والمقصود بالحكم ليس الحلال والحرام، كما ذكرت في مناسبات شتى، وإنما المضمون، ولكن ألفاظ المرويات الصحيحة في النزول تدل على أن هذه الآية نزلت في المدينة، يعني ليس مما نزل في مكة قبل تقرير حكمه، سيأتي مزيد إيضاح لهذا -إن شاء الله تعالى- عند الكلام على هذه الآية، أن من الألفاظ الواردة في المرويات الصحيحة ما يدل على أنها نزلت في المدينة، إلا إن قيل: إن ذلك تكرر، أي أنها نزلت مع السورة بمكة؛ لأن السورة مكية، ثم نزلت -أي هذه الآية- مرة ثانية في المدينة، هذا يحتمل، لكنه خلاف الأصل.

فيما يتعلق بالموضوع: هذه السورة في مجمل آياتها تتحدث عن الكافرين، وتحتج عليهم، الجاحدين للإيمان، والتوحيد، والوحي، والنبوة، والقرآن، وتذكر المؤمنين، وتتوعد الكافرين، وتعد المؤمنين، وكذلك أيضًا تذكر محال ملل الكفر، وطوائف الكفار الذين أهلكهم الله ، كما تذكر أيضًا الجن الذين آمنوا بهذا الرسول ﷺ، وبما جاء به من القرآن.

في مجمل الآيات تتحدث عن هذا، وفي ثنايا ذلك عند الحديث عن أهل الإيمان أثنى الله -تبارك وتعالى- على صنف من عباده، وهم أولئك الذين إذا بلغوا مبلغًا من الرشد، عند قوله: بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ.. [سورة الأحقاف:15] إلى آخره، في سياق ذكر أهل الإيمان، وما يقابله: وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَّكُمَا [سورة الأحقاف:17]، فإن هذا من أوصاف الكافرين، لكن في موضوعها هي قريبة جدًّا من سورة الجاثية، ويوجد ارتباط فيما يتصل بالمعنى مع سورة الفتح في بعض الآيات، كما سيأتي -إن شاء الله تعالى- في قوله: وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ [سورة الأحقاف: 9]، ففي سورة الفتح ذكر فيها مغفرته له.

قوله -تبارك وتعالى: حم سبق الكلام على الحروف المقطعة، وأن هذه الأحرف المقطعة ليس لها معنى في نفسها على الأرجح، وإنما هي تشير إلى الإعجاز أن هذا القرآن مركب من هذه الأحرف، ومع ذلك أنتم عاجزون عن المجيء بمثله، ولا بسورة واحدة، ولذلك لا تكاد تذكر هذه الحروف المقطعة إلا ويذكر بعدها القرآن، أو ما يدل عليه غالبًا، إلا فيما قل من المواضع، مع أن بعض أهل العلم يتكلف لها تكلفات يحاول أن يقول: في جميع المواضع.

وقوله -تبارك وتعالى- هنا: تَنْزِيلُ الْكِتَابِ: مضى الكلام على هذا في سورة الزمر، وفي سورة غافر أيضًا، في سورة الزمر: تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ [سورة الزمر:1]، وفي سورة غافر: تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ [سورة غافر:2]، وأيضًا في سورة الأحقاف هنا في هذا الموضع الذي نتكلم فيه.

تَنْزِيلُ الْكِتَابِ: هذا تنزيل، يعني يكون "تنزيل" خبرًا لمبتدأ محذوف، أو أنه مبتدأ، والخبر: الجار والمجرور مِنَ اللَّهِ، مضى الكلام على هذا.

ويذكر الله هنا: تَنْزِيلُ الْكِتَابِ، وفي سورة الزمر، وفي المواضع الأخرى يذكر الكتاب، وأن الله -تبارك وتعالى- نزل الكتاب، هنا قال: تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ، وفي سورة الزمر: تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ [سورة الزمر:1].

الشنقيطي -رحمه الله- يذكر أنه دل استقراء القرآن -كما ذكرنا في الزمر- على أن الله إذا ذكر تنزيله لكتابه أتبع ذلك بذكر أسمائه الحسنى، ففي الجاثية تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ [سورة الجاثية:2]، كذا في الأحقاف، وفي غافر: الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ [سورة غافر:2]، وفي فصلت: تَنزِيلٌ مِّنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [سورة فصلت:2]، وهكذا.

يقول الإمام الحافظ ابن كثير: ووصف نفسه بالعزة التي لا ترام، والحكمة في الأقوال والأفعال، ثم قال تعالى: مَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ أي: لا على وجه العبث والباطل.

إِلَّا بِالْحَقِّ هذا الاستثناء مفرغ من أعم الأحوال، أي: إلا خلقًا متلبسًا بالحق، هذا الذي يذكره عامة المفسرين، ابن جرير -رحمه الله- يقول: إلا لإقامة الحق والعدل في الخلق، الشنقيطي -رحمه الله- ذكر المعنى السابق: إلا خلقًا متلبسًا بالحق، ثم ذكر أوجهًا في ذلك من استقراء القرآن قد لا تجدها في كتاب من كتب التفسير، ذكر هذه الأوجه، استنبطها، واستخرجها من القرآن، وذكر ما يدل عليها، وأورد النصوص الدالة عليها، أعطيك فقط رءوسًا من هذه الأشياء التي ذكرها[3].

يقول: إلا خلقًا متلبسًا بالحق، يعني: أنه خلقهما لحكم باهرة، ولم يخلقهما باطلاً، ولا عبثًا، ولا لعبًا، ثم بدأ يذكر هذه الأوجه، يقول: فمن الحق الذي كان خلقهما متلبسًا به: إقامة البرهان -هذا أولاً- على أنه الواحد المعبود وحده -جل وعلا- كما أوضح ذلك في آيات كثيرة لا تكاد تحصيها في المصحف، كقوله في البقرة: وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ [سورة البقرة: 163]، ثم أقام البرهان على أنه هو الإله الواحد بقوله: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ إلى أن قال: لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [سورة البقرة: 164].

وهنا يقول في قوله: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ إلى قوله لَآيَاتٍ بعد قوله: وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، يقول: هذا واضح في أنه خلق السموات والأرض خلقًا متلبسًا بالحق؛ لأن إقامة البرهان القاطع على صحة معنى لا إله إلا الله هو أعظم الحق.

طبعًا الشنقيطي يذكر أنه في مواضع كثيرة جدًّا في القرآن يقرر الله فيها أن الذي يستحق العبادة هو من خلق، ويورد على هذا نصوصًا كثيرة جدًّا، يحسن مراجعته، يقول: كقوله: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ۝ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا إلى أن قال: فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [سورة البقرة:21، 22]، ويورد في هذا أشياء كثيرة.

لكن من الأوجه الداخلة تحت قوله في المعنى: خلقًا متلبسًا بالحق، يقول: وقد بين -جل وعلا- أن من الحق الذي خلق السموات والأرض وما بينهما خلقًا متلبسًا به تعليمه خلقه أنه تعالى على كل شيء قدير، وأنه قد أحاط بكل شيء علمًا، وذكر الآية: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا  [سورة الطلاق:12]، يقول: هذا مما يدخل في ذلك، خلقًا متلبسًا بالحق لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.

يقول: وبه تعلم أن خلقه السموات السبع والأرضين السبع، وجعل الأمر يتنزل بينهن، ما جعل ذلك، ما خلقه إلا خلقًا متلبسًا بالحق.

ومن الحق الذي خلق السموات والأرض وما بينهما خلقًا متلبسًا به هو: تكليف الخلق وابتلاؤهم أيهم أحسن عملاً، ثم جازاهم على أعمالهم، كما قال في أول سورة هود: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [سورة هود:7]، فاللام للتعليل، متعلقة بقوله: خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ، فهذا من التلبس بالحق في خلقهما.

وذكر أيضًا آية الكهف: إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [سورة الكهف:7]، وقوله في الملك: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [سورة الملك:2].

يقول: ومما يوضح أنه ما خلق السموات والأرض إلا خلقًا متلبسًا بالحق قوله في آخر الذاريات: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [سورة الذاريات: 56]، وكذلك أيضًا يذكر من ذلك مجازاة الناس بأعمالهم كقوله: وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى [سورة النجم:31]، يعني: خلقهما من أجل أن يجزي الناس، وهكذا، وهنا أيضًا تُراجع هذه المواضع.

يقول الإمام الحافظ ابن كثير: وَأَجَلٍ مُسَمًّى أي: وإلى مدة معينة مضروبة لا تزيد ولا تنقص، وقوله تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ أي: لاهون عما يراد بهم.

يعني أن قوله في قوله تعالى: مَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى، أي: وبتقدير أجل مسمى، هذا الذي رجحه الشنقيطي، وهذا الأجل هو يوم القيامة، وقال بهذا جماعة من المفسرين، هذا هو الأجل المسمى، يعني أنه في يوم القيامة تتغير أحوال هذا العالم، كما قال الله -تبارك وتعالى: وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ [سورة الزمر:67]، هذا حال السموات، والأرض قال عنها: وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [سورة الزمر:67]، وذكر تغير أحوال هذا العالم العلوي والسفلي، وتبديل الأرض مثلاً: يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ [سورة إبراهيم:48]، فهذا الأجل المسمى هو يوم القيامة. 

وبعضهم يقول: المقصود بالأجل المسمى انتهاء أجل كل فرد من أفراد هذه المخلوقات، يعني سواء كان ذلك يوم القيامة أو قبله، يعني الناس يموتون، فهذا أجلهم، هناك أشياء تتحول وتتغير قبل يوم القيامة من هذه المخلوقات.

ابن جرير يقول: وإلا بأجل لكل ذلك معلوم عنده يفنيه إذا هو بلغه، وهذا لا يخالف ما سبق، بل يرجع إلى ما سبق.

وَأَجَلٍ مُسَمًّى: محدد عند الله -تبارك وتعالى- لا يتبدل، لا يتقدم ولا يتأخر.

قوله: وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ أي: لاهون.

عَمَّا أُنْذِرُوا "ما" هذه يحتمل أن تكون موصولة، يعني عن الذي أنذروا، أي معرضون عن الذي أُنذروه، ويحتمل أن تكون مصدرية، يعني "عما أنذروا" أي: عن الإنذار معرضون.

يقول الإمام الحافظ ابن كثير: وقد أنزل الله تعالى إليهم كتابًا، وأرسل إليهم رسولا، وهم معرضون عن ذلك كله، أي: وسيعلمون غِبّ ذلك.

الإنذار معروف وهو إعلام مقترن بتهديد، يعني كل إنذار فهو إعلام، وليس كل إعلام إنذارًا، فالإعلام المقترن بتهديد هو الإنذار، وقال سبحانه: وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ [سورة الأنعام:4] كما ذكر الله هنا عن هؤلاء: وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ، وكما قال: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ [سورة البقرة:6].

ثم قال: قُلْ أي: لهؤلاء المشركين العابدين مع الله غيره: أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أي: أرشدوني إلى المكان الذي استقلوا بخلقه من الأرض.

يعني: هؤلاء الذين تعبدونهم ليس لهم إيجاد خلق، ولا شراكة، وكما سبق في كلام الشنقيطي أن الذي يستحق أن يعبد هو الذي خلق، يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [سورة البقرة:21].

وقوله هنا -تبارك وتعالى: قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ يحتمل أن تكون "ما" هذه في قوله تعالى: مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ استفهامية، و"ذا" موصولة، يعني: ما الذي خلقوه من الأرض؟ ويحتمل أن تكون كلمة واحدة للاستفهام "ماذا"، فإنها من أدوات الاستفهام، يعني: أروني أي شيء خلقوه من الأرض؟

يقول الإمام الحافظ ابن كثير: أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَوَاتِ أي: ولا شرك لهم في السموات ولا في الأرض، وما يملكون من قطمير.

"أم" هذه منقطعة، تقدر ببل مع الهمزة، يقول: أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَوَاتِ أي: بل ألهم شَرِكة مع الله فيها، يعني: ليس لهم شيء من الأرض، ما خلقوا شيئًا من الأرض، وليس لهم شراكة في السموات، فيُعبَدون على ماذا؟!

إن المُلْك والتصرّف كله إلا لله ، فكيف تعبدون معه غيره، وتشركون به؟ من أرشدكم إلى هذا؟ من دعاكم إليه؟ أهو أمركم به أم هو شيء اقترحتموه من عند أنفسكم؟ ولهذا قال: ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا، أي: هاتوا كتابًا من كتب الله المنزلة على الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- يأمركم بعبادة هذه الأصنام.

الإشارة في قوله: "هذا"، ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا يعني: القرآن، هذا الكتاب قرر الله فيه بطلان الشرك، وأن هذه المعبودات لا تنفع ولا تضر، وأنها باطلة، ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا يقرر صحة عبادة هذه الأصنام، يأمركم بعبادة الأصنام، كقوله تعالى: أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ [سورة الزخرف:21].

أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ أي: دليل بَيِّنٍ على هذا المسلك الذي سلكتموه إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ أي: لا دليل لكم نقليًّا ولا عقليًّا على ذلك؛ ولهذا قرأ آخرون: أو أثَرَة من علم.

هذه ليست قراءة متواترة، هذه مروية عن ابن عباس وقتادة وعكرمة وعمرو بن ميمون والأعمش، من القراءات الشاذة: "أو أثَرَة من علم".

يقول الإمام الحافظ ابن كثير: أي: أو علمٍ صحيح تأثرونه عن أحد ممن قبلهم، كما قال مجاهد في قوله تعالى: أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ: أو أحد يأْثُر علمًا.

كما ذكر في الآية الأخرى التي ذكرتها آنفًا: أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ [سورة الزخرف:21]: ليس عندهم في ذلك مستند يؤثر من الكتب السابقة يدل على صحة هذه العبادة، أو هذه المعبودات لغير الله -تبارك وتعالى، فالأثارة من الشيء: أثارة من علم يعني بقية منه، هكذا يقول أهل اللغة، بقية من علم، يعني تأثرونه عمن قبلكم من الكتب السابقة التي أنزلها الله على الأنبياء، كما يقول ابن جرير: بقية من العلم.

وهكذا عبارات المفسرين وأصحاب المعاني مقاربة لهذا في مجملها، ابن قتيبة يقول: بقية من علم الأولين، "أثارة من علم"، وهكذا قول الفراء والمبرد: ما يؤثر من كتب الأولين، وهذا قول عامة المفسرين، وما نقل عن السلف، كقول عطاء: تأثرونه عن نبي كان قبل محمد ﷺ، وقول مقاتل: رواية من علم الأنبياء.

وأصل الكلمة يقولون: من الأثر والراوية، كما يقال: علم الأثر، مأثور، ما يؤثر، هذا أثر، ونحو ذلك، وتقول: أثَرْتُ الحديث يعني هذا يؤثر، هذا يروى، يذكر، وما إلى ذلك.

بقية من علم، شيء يؤثر عمن سبق من الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام، أو الكتب المنزلة.

يقول الإمام الحافظ ابن كثير: وقوله -تبارك وتعالى: وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ أي: لا أضل ممن يدعو من دون الله أصنامًا، ويطلب منها ما لا تستطيعه إلى يوم القيامة، وهي غافلة عما يقول، لا تسمع ولا تبصر ولا تبطش؛ لأنها جماد حجارة صُمٌّ.

هذا الاستفهام مضمن معنى النفي وَمَنْ أَضَلُّ؟! يعني: لا أحد أضل مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فهكذا كل معبود من دون الله -تبارك وتعالى- فهو بهذه المثابة؛ ولذلك هؤلاء الذين يعجبون بالأمم الغربية أو الشرقية، ويثنون عليهم، وامتحنونا برسائل يرسلونها عن اليابان، وما عليه الناس هناك، والطفل، وعامل النظافة، وغير هذا من الأشياء التي يذكرونها من مآثرهم، ونحو ذلك، فهم في النهاية لا يعرفون الله، يعبدون بوذا، فهؤلاء أضل الناس، وإن وصلوا في العلم والتقنية إلى مراتب عالية، ولكن ذلك لا يغني عنهم شيئًا، هم أضل الناس.

فينبغي أن يُعرف قدر هؤلاء، ولا تؤذى الأسماع بذكر مآثرهم، والإزراء على المسلمين، ومدح هؤلاء من أهل الأوثان، فيكفي ما نحن فيه من هزيمة، وتراجع، حتى أصبحنا نرى الفئام من الفتيات أصبحن يقلدن، فبعد أن قلدوا وشبعوا قلدوا الغرب في أزيائه ولباسه وحاكوه في كل شيء.

الآن بدأنا نسمع أن الموضة الجديدة محاكاة الكوريين، والأمم الشرقية في اللباس، وما إلى ذلك، يلبسون لباسًا كوريًّا، أكَلَة الكلاب والحمير والحشرات، عبدة بوذا، ما بقي إلا هؤلاء يُقلَّدون، انتهينا من أهل الكتاب، النبي ﷺ قال: لتتبعن سنن من كان قبلكم، ولما قيل له: اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟[4] يعني: فمن الناس؟ والآن أصبح عبدة بوذا، وعبدة الأوثان، وعبدة الأًصنام هم الذين يُقلَّدون، ويحاكون، وماذا عند هؤلاء المفاليس حتى يستحقوا أن يكونوا في محل القدوة، والأسوة؟!، وهذا من أعجب الهزيمة والتراجع، نسأل الله العافية.

يقول الإمام الحافظ ابن كثير: وقوله -تبارك وتعالى: وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ، كقوله : وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا ۝ كَلا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا [سورة مريم:81، 82] أي: سيخونونهم أحوج ما يكونون إليهم، وقال الخليل -عليه الصلاة والسلام: إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ [سورة العنكبوت:25].

قوله -تبارك وتعالى: وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ، يرجع إلى من؟ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً يرجع إلى المعبودات، هذا قول الجمهور من المفسرين، وهو الذي اختاره ابن جرير -رحمه الله، أن هذه المعبودات تتحول إلى أعداء لهؤلاء الكفار، أو لهؤلاء العابدين، كما أورد هنا قوله -تبارك وتعالى: وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا ۝ كَلا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا، مع أن بعض المفسرين قال: إن ذلك يرجع إلى الكفار، أنهم يتبرءون من هذه المعبودات في النهاية إذا عرفوا بطلانها، وعاينوا الحقائق؛ ولهذا يقولون: وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ [سورة الأنعام:23]، ولكن الأرجح هو الأول، وهو الذي عليه عامة أهل العلم.

  1. رواه الترمذي، في أبواب تفسير القرآن عن رسول الله ﷺ، باب ومن سورة المعوذتين، برقم: (3366)، ولفظه: عن عائشة -رضي الله عنها- أن النبي ﷺ نظر إلى القمر، فقال: يا عائشة، استعيذي بالله من شر هذا، فإن هذا هو الغاسق إذا وقب، وقال: هذا حديث حسن صحيح، وأحمد في المسند، برقم: (24323)، وصححه الشيخ الألباني في صحيح الجامع، برقم: (7916).
  2. رواه البخاري، في كتاب الطب، باب رقية العين، برقم: (5739).
  3. انظر: أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (7/ 209) وما بعدها.
  4. رواه البخاري، في كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب قول النبي ﷺ: لتتبعن سنن من كان قبلكم، برقم: (7320).

مواد ذات صلة