الجمعة 27 / جمادى الأولى / 1446 - 29 / نوفمبر 2024
[2] من قوله تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ} الآية:7 إلى قوله تعالى: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا} الآية:16
تاريخ النشر: ٠٣ / صفر / ١٤٣٥
التحميل: 4791
مرات الإستماع: 3090

بسم الله الرحمن الرحيم

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ ۝ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلَا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَى بِهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ۝ قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ [سورة الأحقاف:7-9].

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد، وعلى آله وصحابته الطيبين الطاهرين، أما بعد:

فاللهم اغفر لنا ولشيخنا ولوالدينا وللحاضرين والمستمعين، يقول ابن كثير-رحمه الله: يقول مخبراً عن المشركين في كفرهم وعنادهم أنهم إذا تتلى عليهم آيات الله بينات، أي: في حال بيانها ووضوحها وجلائها، يقولون: هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ أي: سحر واضح، وقد كَذَبوا وافتروا وضَلّوا وكفروا أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ يعنون: محمداً ﷺ.

قال الله : قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أي: لو كذبتُ عليه وزعمت أنه أرسلني -وليس كذلك- لعاقبني أشد العقوبة، ولم يَقْدر أحد من أهل الأرض لا أنتم ولا غيركم أن يجيرني منه، كقوله: قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا ۝ إِلا بَلاغًا مِنَ اللَّهِ وَرِسَالاتِهِ [سورة الجن:22، 23].

وقال تعالى: وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ ۝ لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ۝ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ ۝ فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ [سورة الحاقة:44-47]؛ ولهذا قال هاهنا: قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَى بِهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ، هذا تهديد لهم، ووعيد أكيد، وترهيب شديد.

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فيخبر الله -تبارك وتعالى- عن هؤلاء الكافرين إذا سمعوا آيات الله تتلى كذبوا بها وقالوا: هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ، أي: سحر بيِّنٌ واضح، مع وضوح هذه الآيات، وما فيها من الهدايات، والله -تبارك وتعالى- قد أخبر في مواضع من كتابه عن قول المكذبين للرسل -عليهم الصلاة والسلام- في كل زمان أنهم قالوا عما جاءت به الرسل -صلوات الله وسلامه عليهم: إن هذا سحر مبين، وقالوا عن هؤلاء الرسل -عليهم الصلاة والسلام- مثل ذلك، قال فرعون والملأ من قوم فرعون عن موسى -عليه الصلاة والسلام: إنه ساحر، وحينما خاطبوه، وطلبوا منه أن يدعو الله لهم قالوا: يَا أَيُّهَ السَّاحِرُ [سورة الزخرف:49]، على اختلاف بين أهل العلم في توجيهه، فالمقصود أن هذه سنّة المكذبين.

أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلَا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، "أم": هذه منقطعة، يعني: هي منقطعة بمعنى: بل والهمزة، ويمكن أن تكون أيضاً مع ذلك للإضراب، فيكون المعنى: دع هذا، واسمع قولهم المُستنكَر؛ لظهور كذبهم فيه، فيقولون: إن النبي ﷺ قد اختلقه، قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلَا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، يعني: أن الله -تبارك وتعالى- يعاقبه على ذلك، وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ ۝ لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ۝ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ ۝ فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ [سورة الحاقة:44-47].

قال آمرًا له أن يجيب عن مقالتهم هذه: أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلَا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ، أي: تخوضون فيه من التكذيب، والإفاضة في الشيء بمعنى: الاندفاع والخوض فيه، هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ، يعني: بما تقولون في هذا القرآن من التكذيب، وأنه سحر، أو شعر، أو أساطير الأولين، أو نحو ذلك، كما يقول ابن جرير -رحمه الله- عند هذه الآية: هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ يقول: أفاضوا في حديثهم عن كذا بمعنى: اندفعوا يتحدثون عن هذا الأمر.

وقوله -جل وعلا: وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ترغيب لهم في التوبة والإنابة، أي: ومع هذا كله إن رجعتم وتبتم تاب عليكم وعفا عنكم، وغفر ورحم.

وهذه الآية كقوله في سورة الفرقان: وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا ۝ قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا [سورة الفرقان:5، 6].

وقوله -تبارك وتعالى: قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ، أي: لست بأول رسولٍ طرق العالم، بل قد جاءت الرسل من قبلي، فما أنا بالأمر الذي لا نظير له حتى تستنكروني، وتستبعدوا بعثتي إليكم، فإنه قد أرسل الله -جل وعلا- قبلي جميع الأنبياء إلى الأمم.

هنا قوله -تبارك وتعالى: وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ بعد ذكر مقالتهم في القرآن، وأن النبي ﷺ افتراه، وكذا في قولهم: إن هذا القرآن سحر مبين، هذا كله من المواضع الدالة على الرجاء، فالله -تبارك وتعالى- يرجّيهم بالتوبة والإنابة إليه، ويذكر مغفرته لهؤلاء، وهذا لا شك أنه يدل على سعة رحمته، كما قال -تبارك وتعالى- في أصحاب الأخدود: إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ [سورة البروج:10] أحرقوا أهل الإيمان، أحرقوا أولياءه، وحينما توعدهم قال: ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا، ولما ذكر مقالة النصارى في نسبة الصاحبة والولد إلى الله -تبارك وتعالى- دعاهم إلى التوبة بألطف عبارة: أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ [سورة المائدة: 74]، بهذه العبارة اللطيفة، فهذا وأمثاله يدل على هذا المعنى، فهنا هؤلاء يقولون في القرآن هذه الأقوال الشنيعة، ثم تختم هذه الآية بقوله: وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.

أما قوله -تبارك وتعالى: قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ، فيقول: أي: لست بأول رسول طرق العالم؛ بل جاءت الرسل من قبلي.

البِدْع من كل شيء هو: المبدأ، والابتداء معروف يعني: الشيء الذي لا نظير له، الشيء المبتكر، يعني: ما أنا بأول رسول حتى تستغربوا، وتستنكروا، وتستنكفوا من الإيمان، وهذا المعنى هو الذي عليه المفسرون سلفًا وخلفًا، وبنحو هذا قال ابن جرير، ومن المعاصرين الشيخ محمد الأمين الشنقيطي -رحم الله الجميع- والله يقول: إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ [سورة النساء:163] الآية، فالله -تبارك وتعالى- قد جرت سنته أن يختار من هؤلاء البشر من يصطفيهم لرسالته، وينزل عليهم وحيه، فلم يكن النبي ﷺ ببدع في هذا الأمر.

وبعض أهل العلم يقول: إن المراد بقوله: قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ: ما أنا بأول رسول، وبعضهم يقول: إن الشيء البديع هو الذي لم يُرَ مثله، وكلها عبارات وأقوال مقاربة لهذا وترجع إليه، فهي بنفس المعنى، وترجع إلى المعنى نفسه، الشيء الذي ليس له مثال سابق يقال له: بِدْع، مُبْتَدَع.

وقوله: وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ، قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس -رضي الله عنهما- في هذه الآية: نزل بعدها: لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ [سورة الفتح:2][1]، وهكذا قال عكرمة، والحسن، وقتادة: إنها منسوخة بقوله تعالى: لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ، قالوا: ولما نزلت هذه الآية قال رجل من المسلمين: هذا قد بيّن الله تعالى ما هو فاعل بك يا رسول الله، فما هو فاعل بنا؟ فأنزل الله تعالى: لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ [سورة الفتح:5][2]، هكذا قال، والذي هو ثابت في الصحيح أن المؤمنين قالوا: هنيئا لك يا رسول الله، فما لنا؟ فأنزل الله هذه الآية[3].

قوله -تبارك وتعالى: وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ، هذا يحتمل أن يكون المراد بذلك في الدنيا، ومن ثَمَّ فإنه لا إشكال فيه، لا إشكال في المعنى، ويحتمل أن يكون المراد بذلك في الآخرة، وهذا موضع الإشكال، فهنا ما ذكره الحافظ ابن كثير -رحمه الله- من قول هؤلاء من السلف -رضي الله تعالى عنهم- من أنه نزل بعدها: لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ، وما ذكر من الروايات من كونها منسوخة: كل هذا باعتبار أن ذلك في الآخرة، وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ، يعني: في الآخرة كيف تكون حالنا، وما نصير إليه، أن الله يدخلنا الجنة، ويرحمنا، أو أنه يعاقبنا، فهذا باعتبار أن ذلك في الآخرة، ويكون ذلك موضع الإشكال باعتبار أن الله -تبارك وتعالى- أخبر عن نبيه ﷺ بقوله: لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ، فكيف قال: وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ؟

فهنا جاء عن هؤلاء من السلف أنها منسوخة، ولا يقصد بالنسخ: النسخ المصطلح عليه، أو المعروف، أو في عرف المتأخرين الذي هو بمعنى رفع الحكم المتقدم بخطاب متأخر متراخٍ عنه، فهذا لا يكون في الأخبار -وهذا خبر؛ فإن وقوع ذلك في الأخبار تكذيب لها، وإنما يكون ذلك في الأحكام، ويمكن أن يقع في الخبر الذي بمعنى الإنشاء، يعني: الأمر والنهي.

وقولهم: إنها منسوخة، السلف كانوا يطلقون النسخ على معنى أوسع، وذلك كل ما يعرض للنص من تقييد للمطلق، وتخصيص للعام، وبيان للمجمل، إضافة إلى المعنى عند المتأخرين وهو: الرفع.

فالمراد هنا: أن هذه الآية بينت ذلك، أي ما يكون عليه حال النبي ﷺ أن الله غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وحال أهل الإيمان: لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ.

ويقول ابن كثير: هكذا قال، والذي هو ثابت في الصحيح أن المؤمنين قالوا: هنيئًا لك يا رسول الله، فما لنا؟ فأنزل الله هذه الآية.

الذي في الصحيح هو نزول: إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا [سورة الفتح:1][4]، وليس فيه الكلام على هذا: أنهم قالوا له: هنيئًا لك يا رسول الله... إلى آخره، وإنما جاء هذا عن عكرمة مرسلاً، يعني: أن قوله: إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا سبب النزول في قصة الفتح، هذا لا إشكال فيه، هذا ثابت في الصحيح، ولكن ما بعده من قولهم: هنيئًا لك يا رسول الله، فما لنا؟ هذا عن عكرمة مرسلا، وليس في الصحيح، بل لا يصح.

وقوله: وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ بعض أهل العلم حمل ذلك على أنه في الدنيا، يعني: لا أدري ما يفعل بي ولا بكم في الدنيا، هل أخرج من مكة -لأن السورة مكية، أو أبقى فيها؟ أو هل أُقتل؟ أو أنكم تدخلون في هذا الدين، ويظهرني الله على من خالفني، وناوأني، وما أشبه ذلك؟ هذا الذي اختاره ابن جرير -رحمه الله، أن هذا في الدنيا لا أدري ما يفعل بي ولا بكم، وهذا الذي رجحه أيضًا الشيخ محمد الأمين الشنقيطي -رحم الله الجميع، ماذا يكون في شأنكم، وفي حقكم؟ هل تعجل لكم العقوبة في الدنيا كما وقع ذلك لأمم خلت، أو أن الله يمهلكم؟ هل تحصل لكم الهداية فتدخلون في الإسلام، أو غير ذلك؟ ما أدري ما يفعل بي ولا بكم.

أو أن يكون المراد: ما أدري ما يفعل بي ولا بكم فيما يفترضه الله عليّ، وينزل عليّ من الشرائع والأحكام في مستقبل الزمان، فأنا أتلقى عن الله -تبارك وتعالى- ولست مفتريًا عليه، لما قالوا: إنه افتراه، فيرد عليهم: مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ يعني: أنا أستقبل من الله -تبارك وتعالى- هذا الوحي وهذه الهدايات، ولست بالذي يأتي بشيء من عند نفسه، فالله -تبارك وتعالى- ينزل عليّ وحيه وشرائعه وأحكامه، هكذا قال بعض أهل العلم.

وبعضهم -وهم الذين قالوا: إن ذلك في الآخرة، وقالوا: هي في حق النبي ﷺ وفي حق أتباعه- قالوا: هذه الآية منسوخة، يعني مبيَّنة بقوله: لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ.

وبعضهم قال: إن هذا الخطاب: وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ موجه لأتباعه، يعني النبي ﷺ يخاطب أتباعه، وأن الخطاب هذا ليس للمشركين، فالنبي ﷺ يقول لأتباعه: وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ، حتى أعلمه الله كما سبق في آيتي الفتح، وهؤلاء كأنهم أخذوا ذلك مما سيأتي في قصة عثمان بن مظعون -رضي الله تعالى عنه- حينما مات، الحافظ ابن كثير ذكر هذا في الرواية التي ذكرها بعد هذا مباشرة.

روى الإمام أحمد عن خارجة بن زيد بن ثابت عن أم العلاء -وهي امرأة من نسائهم- أخبرته وكانت بايعت رسول الله ﷺ قالت: طار لهم في السكنى حين اقترعت الأنصار على سكنى المهاجرين عثمانُ بن مظعون ، فاشتكى عثمان عندنا فَمرَّضناه، حتى إذا توفي أدْرَجناه في أثوابه، فدخل علينا رسول الله ﷺ فقلت: رحمة الله عليك أبا السائب، شهادتي عليك لقد أكرمك الله، فقال رسول الله ﷺ: وما يدريك أن الله تعالى أكرمه؟ فقلت: لا أدري بأبي أنت وأمي، فقال رسول الله ﷺ: أما هو فقد جاءه اليقين من ربه، وإني لأرجو له الخير، والله ما أدري وأنا رسول الله ما يفعل بي، قالت: والله لا أزكي أحدًا بعده أبدًا، وأحزنني ذلك، فنمت فرأيت لعثمان عينًا تجري، فجئت إلى رسول الله ﷺ فأخبرته بذلك، فقال رسول الله ﷺ: ذاك عمله، انفرد بإخراجه البخاري دون مسلم[5]، وفي لفظ له: ما أدري وأنا رسول الله ما يفعل به[6].

الآن لاحظ هذه اللفظة: ما أدري وأنا رسول الله ما يفعل به، ابن كثير -رحمه الله- في الأصل يقول: "وهذا أشبه أن يكون هو المحفوظ؛ بدليل قولها: "فأحزنني ذلك"، يعني: ما أدري وأنا رسول الله ما يفعل به؛ لأن النبي ﷺ لا يعلم الغيب، وإنما يوحي الله إليه بشأن عثمان، وغير عثمان -رضي الله عن الجميع، يعني في الآخرة هل هو في الجنة أو لا، والسياق في النهي عن التزكية.

فمثل هذا حينما تكون الرواية: ما أدري وأنا رسول الله ما يفعل به، يكون لا إشكال، فكأن الذين قالوا: وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ: إن المراد في الآخرة نظروا إلى الرواية الأولى، قالوا: هذه موافقة للآية، لكن إذا كان محمل الرواية على هذا اللفظ: ما أدري وأنا رسول الله ما يفعل به، فهذا لا إشكال فيه، وتكون الآية باعتبار الدنيا، وهذا المعنى هو الذي رجحه الشيخ الشنقيطي -رحمه الله- أيضاً، ورجح هذه الرواية، أنها هي المحفوظة.

وفي هذا وأمثاله دلالة على أنه لا يقطع لمعين بالجنة إلا الذي نص الشارع على تعيينهم، كالعشرة، وابن سلام، والغُميصاء، وبلال.

لأن عبد الله بن سلام شهد له النبي ﷺ بهذا، كما سيأتي في قوله -تبارك وتعالى: وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ، سيأتي ما يدل على هذا المعنى: أن النبي ﷺ شهد له بالجنة، والغميصاء هي: أم سليم -رضي الله تعالى عنها- لحديث: دخلتُ الجنة فسمعتُ خَشْفة -صوت حركة- بين يدي، فقلت: ما هذه؟ ثم ذَكر أنه أجيب بأنها الغميصاء، أو أم سليم -رضي الله تعالى عنها[7]، فهذه شهادة لها بالجنة.

وبلال كذلك لمّا ذكر النبي ﷺ أنه سمع أيضًا صوت نعليه في الجنة[8].

وسراقة، وعبد الله بن عمرو بن حرام والد جابر.

لمّا ذكر النبي ﷺ أن الله كلمه كفاحًا[9].

والقراء السبعين الذين قتلوا ببئر معونة.

يعني: لاحظ هناك بعض هذه الأشياء يفهم منها ضمنًا، يعني: كمثل ما ذكر النبي ﷺ فيما أوحى الله إليه وكان قرآنًا يتلى ثم نسخ لفظه: "أنا لقينا ربنا فرضي عنا ورضينا عنه"[10].

وزيد بن حارثة، وجعفر، وابن رواحة، وما أشبه هؤلاء .

هؤلاء استشهدوا وشهد لهم النبي ﷺ في مؤتة، هؤلاء القادة الثلاثة -رضي الله تعالى عنهم.

طبعًا مَن شهد له النبي ﷺ بالجنة فهذا لا شك فيه، سواء كان ذلك صراحة أو ضمنًا، والذين شهد لهم النبي ﷺ أكثر من هؤلاء، وأكثر من العشرة، ومن أهل العلم كشيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- مَن ذكر أن من استفاض في الأمة فضله فإنه يشهد له بالجنة، هكذا قال، يعني: مثل عمر بن عبد العزيز، مثل الإمام أحمد، ومالك، والشافعي،والأوزاعي، وسعيد بن المسيب، والحسن البصري، وابن سيرين، وأمثال هؤلاء، -رحم الله الجميع- أئمة المسلمين، هؤلاء الأئمة أئمة الهدى، فشيخ الإسلام -رحمه الله- يرى أن مثل هذه الاستفاضة تجعل الشخص يُشهد له بالجنة، فعنده أن مثل هؤلاء يُشهد لهم بالجنة، والوقوف مع النص أولى.

وقوله: إِنْ أَتَّبِعُ إِلا مَا يُوحَى إِلَيَّ أي: إنما أتبع ما ينزله الله عليَّ من الوحي، وَمَا أَنَا إِلا نَذِيرٌ مُبِينٌ أي: بيِّن النّذَارة، وأمري ظاهر لكل ذي لب وعقل، والله أعلم.

قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ۝ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ ۝ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ ۝ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ۝ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [سورة الأحقاف:10-14].

يقول تعالى: قُلْ يا محمد، لهؤلاء المشركين الكافرين بالقرآن: أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ هذا القرآن مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ أي: ما ظنكم أن الله صانع بكم إن كان هذا الكتاب الذي جئتكم به قد أنزله عليَّ لأبلغكموه، وقد كَفَرتم به وكذبتموه، وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ أي: وقد شهدت بصدقه وصحته الكتب المتقدمة المنزلة على الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- قبلي، بشرت به وأخبرت بمثل ما أخبر هذا القرآن به؟

قوله -تبارك وتعالى: قُلْ أَرَأَيْتُمْ يعني: أخبروني إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إن كان هذا القرآن، هذا قول الجمهور، إن كان هذا القرآن الذي قلتم: إنه سحر ومفترى، وبعضهم يقول: إن كان محمد ﷺ مرسلا من الله، أن الله أرسله، مرسل من عند الله، والأول هو الأشهر، وَكَفَرْتُمْ بِهِ أي: ما ظنكم أن الله صانع بكم؟

وهنا يشير ابن كثير-رحمه الله- إلى أن الجواب محذوف في قوله -تبارك وتعالى: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ أين جوابه؟ هل هو مذكور أو محذوف؟ بعضهم يقول: هو مذكور، وهو قوله: فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ، ولكن الذي عليه الجمهور أنه محذوف، وإن اختلفوا في تقديره.

يعني: الحافظ ابن كثير-رحمه الله- يشير إلى الجواب هنا، وأنه محذوف مقدر بقوله: "ما ظنكم أن الله صانع بكم؟"، إن كان من عند الله وكفرتم به فما ظنكم أن الله صانع بكم؟

وبعضهم كالزجاج يقول: أتؤمنون؟ يعني: هذا هو التقدير: أتؤمنون إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ، يعني: وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ أتؤمنون، أتصدقون، أتنقادون؟

وبعضهم يقول: التقدير: فقد ظلمتم.

وبعضهم يقول: فمن أضل منكم إذا كذبتم به وهو من عند الله -تبارك وتعالى، مع هذه الشهادة المذكورة؟

وبعضهم يقول: إن التقدير: أتؤمنون به؟ أو نحو ذلك من العبارات المقاربة لما ذكره الزجاج.

وبعضهم يقول كأبي علي الفارسي: إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ: أتأمنون عقوبة الله -تبارك وتعالى- أن تنزل بكم؟

والشنقيطي -رحمه الله- يقدره بأنتم ضُلال ظالمون، يعني: أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ فأنتم ضلال ظالمون.

من أين أخذ هذا التقدير؟

أولاً: الأصل في القواعد في التقديرات أو المقدرات أن لها ضوابط، منها: أن الأصل عدم التقدير، ومنها: أن التقدير ينبغي أن يراعى فيه الأخصر، والأبلغ، والموافق للسياق.

فالشنقيطي -رحمه الله- عبر بهاتين اللفظتين: "فأنتم ضلال ظالمون"، واحتج بآية فصلت: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ [سورة فصلت:52]، فمن قوله تعالى: مَنْ أَضَلُّ أخذ الضلال، والآية شبيهة بهذه الآية، وفي سورة الأحقاف: فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ أخذ من هذه الآية الظلم، فأنتم ضلال ظالمون؛ ولهذا قال تعالى في آخر هذه الآية: إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ؛ ولهذا قال بعضهم: ألستم ظالمين؟ على أن هذا هو المقدر.

وعامة أهل العلم يقولون: إن الجواب مقدر، وإنْ اختلفوا في تقديره، وهذه أقوال مقاربة، وما ذكره الحافظ ابن كثير هنا: أي: ما ظنكم أن الله صانع بكم؟ ونحو هذا.

قال: وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ، فمن هو هذا الشاهد؟ وما المراد بقوله: عَلَى مِثْلِهِ؟ فهذا الموضع اختلف فيه السلف -رضي الله تعالى عنهم- ومن بعدهم، وذكر ابن كثير -رحمه الله- طرفًا من هذا.

وقوله : فَآمَنَ أي: هذا الذي شهد بصدقه من بني إسرائيل؛ لمعرفته بحقيقته، وَاسْتَكْبَرْتُمْ أنتم عن اتباعه.

وقال مسروق: فآمن هذا الشاهد بنبيه وكتابه، وكفرتم أنتم بنبيكم وكتابكم إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ.

وهذا الشاهد اسم جنس يعم عبد الله بن سلام وغيره، فإن هذه الآية مكية نزلت قبل إسلام عبد الله بن سلام ، وهذه كقوله -تبارك وتعالى: وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ [سورة القصص:53]، وقال: إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا ۝ وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولا [سورة الإسراء:107، 108].

وعن سعد قال: ما سمعت رسول الله ﷺ يقول لأحد يمشي على وجه الأرض: إنه من أهل الجنة، إلا لعبد الله بن سلام[11].

هذه التي ذكرها ابن كثير فيمن شهد لهم النبي ﷺ بالجنة.

قال: وفيه نزلت: وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ، رواه البخاري ومسلم والنسائي، وكذا قال ابن عباس، ومجاهد، والضحاك، وقتادة، وعكرمة، ويوسف بن عبد الله بن سلام، وهلال بن يَسَاف، والسُّدَّي، والثوري، ومالك بن أنس، وابن زيد؛ أنهم كلهم قالوا: إنه عبد الله بن سلام.

قوله -تبارك وتعالى: وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ، هنا قولان في الآية:

الأول: أن الشاهد هو: موسى ﷺ.

والقول الآخر: أنه عبد الله بن سلام -رضي الله تعالى عنه، وهذا الذي عليه الجمهور من السلف ومن بعدهم، وهو الذي يدل عليه أيضًا سبب النزول.

هذه السورة مكية، والأصل في السورة المكية أن جميع الآيات النازلة فيها أنها نازلة بمكة،هذا الأصل، وكما ذكرنا مرارًا: أنه لا يصح أن يُخرَج شيء من ذلك بالنظر إلى المعنى، فلو بقينا مع المعاني لأمكن أن يقال إذا كانت في عبد الله بن سلام -رضي الله تعالى عنه: إن الآية قد تنزل قبل تقرير حكمها -يعني مقتضاها وحصول المضمون الذي دلت عليه، وإن الحكم ليس المقصود به -كما عرفنا- الحلال والحرام، لا، وإنما مقتضى الآية وما تضمنته -حصول ذلك، فقد تنزل الآية قبلُ؛ فتكون إشارة إلى ما سيقع بعد ذلك، حيث أسلم عبد الله بن سلام، وشهد أن هذا القرآن هو المذكور في التوراة، وأن صفة النبي ﷺ عندهم ثابتة، ومعروفة، وأنها منطبقة عليه -عليه الصلاة والسلام، يمكن أن يقال هذا، وتبقى هذه الآية مكية، ويقال: كل آيات السورة مكية.

ولكن بالنظر إلى ما صح من أسباب النزول فإن ذلك يدل على أن هذه الآية نازلة بالمدينة، إلا أن يقال: إنها نزلت مرتين، مرة مع السورة بمكة، ومرة في قصة ابن سلام في المدينة، وهذا خلاف الأصل، يعني: هذا نلجأ إليه متى؟ إذا تعددت عندنا مرويات في أسباب النزول، ولكن هنا لا يوجد.

قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ يعني: أن في التوراة ما يوافق ما جاء به القرآن من الهدايات، على قول بعض أهل العلم، فهو موافق لما جاء في الكتب السابقة، وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فـ"على مثله": بعضهم يقول: يعني على مثل القرآن، وهو: التوراة، وهذا عليه الأكثر، وبعضهم كالجرجاني يقول: إن هذه اللفظة "على مثله" صلة، وإذا قالوا: صلة ماذا يقصدون؟

يقصدون أنها زائدة، يعني: إعرابًا، زائدة إعراباً، وهذا قاله بعضهم في قوله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [سورة الشورى:11]، فإن الله ليس له مثل حتى يُنفى عنه المثل، يعني: عن مثلِ مثلِه، فليس له مثل -تبارك وتعالى، يعني: وشهد شاهد من بني إسرائيل عليه، يعني: ذات القرآن، وليس على مثل القرآن، وهو: التوراة، وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ أي: أن القرآن من عند الله -تبارك وتعالى، وهذا الذي اختاره الواحدي، ولكن الأكثر على أن المراد بذلك التوراة.

فالشاهد هو عبد الله بن سلام، كما ذكر ذلك ابن كثير -رحمه الله- عن هؤلاء من السلف -رضي الله تعالى عنهم، وهذا القول هو الذي عليه عامة أهل العلم، وهو الذي اختاره ابن جرير -رحمه الله، ورجحه الشيخ محمد الأمين الشنقيطي، فالشنقيطي يقول: إن الآية مدنية، باعتبار سبب النزول، وقال به أيضًا غير من ذكرهم ابن كثير -رحمه الله- من السلف، قال به الحسن ومجاهد.

ابن جرير-رحمه الله- يقول: المراد به ابن سلام، وقوله: عَلَى مِثْلِهِ يعني: التوراة، فعلى مثل القرآن هو: التوراة، يقول: وذلك شهادته أن محمدًا ﷺ مكتوب في التوراة أنه نبي، كما هو مكتوب في القرآن، يعني: الشهادة له بأنه نبي موجودة في التوراة.

إذاً وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ هو: عبد الله بن سلام، عَلَى مِثْلِهِ أي: على مثل القرآن، وهو التوراة، أن النبي ﷺ مكتوب في التوراة أنه نبي، وذُكرت لهم صفته -عليه الصلاة والسلام، والعلماء ينقلون مثل هذه العبارات، والله تعالى يقول: الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ [سورة الأعراف:157]، فهذا بنص القرآن أن صفته ﷺ مثبتة في التوراة.

القول الآخر: أنه موسى ﷺ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ يعني: موسى -عليه الصلاة والسلام، عَلَى مِثْلِهِ يعني: على مثل القرآن، وهو: التوراة، أن التوراة من الله وحي، يعني: كيف تكذبون، وتنكرون هذا الوحي، وهذا القرآن، وتقولون: إن النبي ﷺ قد افتراه؟ وهذا الخطاب موجه للمشركين في مكة على قول الجمهور، والسياق كله في خطاب المشركين في هذه السورة قبله وبعده، بخلاف من قال: إن ذلك خوطب به اليهود، لكن لو قال قائل باعتبار أن الآية مدنية: إن ذلك من خطاب اليهود، فإن ذلك ليس بمستبعد، ولو قيل: إن ذلك يشمل كل المكذبين بالقرآن الذين يقولون: إن النبي ﷺ قد افتراه، فالخطاب متوجه إليهم، فهذا أيضًا يحتمل، والله تعالى أعلم.

قول مسروق: إنه موسى ﷺ يعني الشاهد، هنا نقل عن مسروق قال: واستكبرتم أنتم عن اتباعه، قال مسروق: فآمن هذا الشاهد بنبيه وكتابه، وكفرتم أنتم، هنا ما ذكر قوله الصريح: إنه موسى، لكن هذا معروف عن مسروق.

إذا قلنا: إن هذه السورة مكية، فموضع الإشكال الذي ذكرته عند أهل العلم هو: كون هذه السورة مكية وتتحدث عن أمر وقع في المدينة، وهو: شهادة عبد الله بن سلام قبل أن يسلم، وقبل أن يهاجر النبي ﷺ وقبل أن يقع ذلك، كيف تحدثت عن قضية لم تقع؟ فقالوا: موسى -عليه الصلاة والسلام- هو المراد بقوله تعالى: وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فهو موسى، عَلَى مِثْلِهِ يعني: التوراة، هذا لو لم توجد عندنا روايات في أسباب النزول، ولم توجد أقوال هؤلاء الصحابة لكان متجهًا هذا القول، لكن الذي يمنع من الالتفات إليه: أنه يخالف أقوال هؤلاء الصحابة ومنهم: عبد الله بن سلام، فقد صرح أن هذه الآية نازلة فيه.

يعني: بعض المرويات فيها أنها نزلت في عبد الله بن سلام، فهذا كما سبق في مناسبات شتى أنه غير صريح بأنه سبب النزول، يعني: أن هذا من قبيل التفسير، وأن هذا مما يدخل فيه، يدخل في المعنى، لكن ابن سلام يقول: هذه الآية نزلت فيّ، وكذلك أيضًا صح أنه هو سبب النزول، وذلك حينما جاء النبي ﷺ إلى اليهود في يوم عيد لهم، وخاطبهم، ودعاهم، وذكّرهم، وأنهم يعلمون أنه هو النبي الذي عرفوا صفته، وسألهم عن ذلك، وعن إقرارهم، فلم يجيبوه، فخرج النبي ﷺ راجعًا، فتبعه ابن سلام -رضي الله تعالى عنه، وأقر للنبي ﷺ بذلك، وأنه هو الذي يعرفون صفته في كتابهم[12].

الشاهد: أنه أسلم، في هذه الرواية التصريح بأن الآية نزلت فيه، فأنزل الله، فهذه الراوية ثابتة، إذًا هذه الآية نازلة في المدينة، فتكون مستثناة من السورة، والله تعالى أعلم.

وقوله تعالى: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ أي: قالوا عن المؤمنين بالقرآن: لو كان القرآن خيرًا ما سبقنا هؤلاء إليه، يعنون بلالاً، وعماراً، وصُهَيباً، وخباباً ، وأشباههم، وأقرانهم من المستضعفين، والعبيد، والإماء، وما ذاك إلا لأنهم عند أنفسهم يعتقدون أن لهم عند الله وجاهة، وله بهم عناية، وقد غلطوا في ذلك غلطًا فاحشًا، وأخطئوا خطأ بينًا، كما قال تعالى: وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا [سورة الأنعام:53] أي: يتعجبون كيف اهتدى هؤلاء دوننا؟! ولهذا قالوا: لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ.

وأما أهل السنة والجماعة فيقولون في كل فعل وقول لم يثبت عن الصحابة : هو بدعة؛ لأنه لو كان خيراً لسبقونا إليه؛ لأنهم لم يتركوا خصلة من خصال الخير إلا وقد بادروا إليها.

وقوله تعالى: وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ أي: بالقرآن فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ.

هناك في الكلام على قوله -تبارك وتعالى: وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ، قال ابن كثير -رحمه الله-عبارة ذكرها هناك قال: "الشاهد اسم جنس يعم عبد الله بن سلام وغيره، فإن هذه الآية مكية، نزلت قبل إسلام عبد الله بن سلام"، هذا القول ما أحسنه لو لم يرد في ذلك سبب النزول، فلا يقال هنا: إنه اسم جنس بهذا الاعتبار، يعني: ابن كثير -رحمه الله- حاول أن يجمع بين هذه الأقوال، ولكن الرواية في سبب النزول تأبى ذلك.

قوله -تبارك وتعالى: وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌابن كثير -رحمه الله- يقول: وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ يعني: بالقرآن، وبعضهم يقول: بمحمد ﷺ، وبعضهم يقول: بالإيمان، ابن جرير -رحمه الله- يقول: وإذ لم يبصروا بمحمد، وبما جاء به من الهدى، لاحظ دقة العبارة، يعني: جمع بين قول من قال: بمحمد ﷺ، وقول من قال: بالقرآن، وقول من قال: بالإيمان، هذه الأقوال الثلاثة عبر عنها بهذه العبارة الشاملة المنتظمة لهذه الأقوال جميعًا: وإذ لم يبصروا بمحمد، وبما جاء به من الهدى فيُرشَدوا به إلى الطريق المستقيم فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ، فقوله: وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ أي: بهذا الهدى، وبهذا النبي، وبهذا القرآن.

وقوله تعالى: وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ أي: بالقرآن فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ أي: كذب، قَدِيمٌ أي: مأثور عن الناس الأقدمين.

يعني قوله: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ ما سبقونا إلى ماذا؟ ما سبقونا إلى الإيمان، ما سبقونا إلى هذا الوحي، إلى هذا القرآن، إلى هذا النبي ﷺ، كل ذلك، ما سبقونا إلى الدخول في الإسلام، يعني: هم يرون أنهم أهل العقول الراجحة الذين يميزون بين الأشياء، ولو كان في ذلك خير لما سبقهم إليه هؤلاء الأعبُد، ومن يزدرونهم من الضعفاء، فجعلوا ذلك مقتضيًا ضعف عقولهم، يعني: أن الضعف المادي عندهم يقتضي ضعف العقول، فالمعايير عندهم أصلا فاسدة.

قَدِيمٌ أي: مأثور عن الناس الأقدمين، فينتقصون القرآن وأهله، وهذا هو الكبر الذي قال رسول الله ﷺ: بطَر الحق، وغَمْط الناس.

ثم قال تعالى: وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى وهو: التوراة، إِمَامًا وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ يعني: القرآن.

وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَىإِمَامًا وَرَحْمَةً النصب هنا على الحال: إِمَامًا وَرَحْمَةً، وبعضهم يقول: على القطع، وبعضهم يقول: بمقدر محذوف بتقدير: كتاب موسى جعلناه إمامًا ورحمة، والأصل عدم التقدير، يعني: حال كونه إمامًا ورحمة.

مُصَدِّقٌ أي: لما قبله من الكتب، لِسَانًا عَرَبِيًّا أي: فصيحاً بيناً واضحاً.

وهذا أيضًا منصوب على الحال: لِسَانًا عَرَبِيًّا.

لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ أي: مشتمل على النّذارة للكافرين، والبشارة للمؤمنين.

قوله: لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا يحتمل أنه يرجع إلى القرآن، لأن بعض العلماء يقولون: إن ذلك يرجع إلى الله -تبارك وتعالى، يعني: لينذر الله به، وهذا لا يخالف قول من قال: إنه القرآن؛ لأن القرآن كلام الله -تبارك وتعالى، وبعضهم يقول: إن ذلك يرجع إلى النبي ﷺ، يعني: لينذر من أوحينا إليه هذا القرآن الذين ظلموا، وهذا ظاهر وواضح على القراءة الأخرى قراءة ابن عامر والبَزِّي: لِتُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا بالتاء.

وقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا، تقدم تفسيرها في سورة: "حم السجدة".

فقوله: لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا، تذكرون في شرح كتاب "طريق الوصول إلى العلم المأمول" من الأشياء التي مرت بنا: أنه قد تُذكر علة لشيء ويكون هناك علل أخرى في مواضع، هذا نقلته عن الشيخ محمد الأمين الشنقيطي -رحمه الله- في بعض المناسبات، فالله -تبارك وتعالى- مثلما ذكرنا بالأمس- لما ذكر العلة من خلق السموات والأرض، من أجل ماذا؟ من أجل الابتلاء، ومن أجل أن تعرف وحدانيته -تبارك وتعالى، إلى غير ذلك من المعاني المتنوعة، فذكر في موضع إحدى هذه الحكم، وذكرت الحكم الأخرى في مواضع متفرقة.

فهنا: لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا يعني: هل أنزل القرآن لينذر الذين ظلموا وبشرى للمحسنين فقط، أو لمعانٍ آخر أيضًا غير النذارة والبشارة؟ كذلك أيضًا فيه: الأحكام، والهدايات، وشرائع الإسلام، وما إلى ذلك، لكن لكل مقام مقال، فالله لما ذكر النجوم مثلاً في موضع قال: لِتَهْتَدُوا بِهَا [سورة الأنعام:97]، وفي موضع آخر في سورة الصافات ذكر الزينة والحفظ: إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ ۝ وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ [سورة الصافات:6، 7]، فلم يذكر الاهتداء، وهكذا.

وقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا يعني: أنهم أذعنوا بالتوحيد، واستقاموا بالطاعة، واستقاموا بالعمل.

وقوله تعالى: فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ أي: فيما يستقبلون، وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ أي: على ما خلفوا، أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ أي: الأعمال سبب لنيل الرحمة لهم، وسُبُوغها عليهم، -والله أعلم.

قبل أن نجاوز هذا المقطع أقول: ما ذكرته عن الجرجاني في قوله تعالى: وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ، يعني: أن قوله: عَلَى مِثْلِهِ صلة، يعني: على ذاته، أي: شهد شاهد من بني إسرائيل على أن القرآن حق، وأن النبي ﷺ حق، رسول من عند الله، هذا أيضًا رجحه الشيخ محمد الأمين الشنقيطي -رحمه الله، يعني: هو لا يرى أن عَلَى مِثْلِهِ أي التوراة مثل القرآن، وذكر شواهد لهذا، يعني: في قوله تعالى مثلاً: فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ [سورة البقرة:137]، ما المقصود؟ يعني: بما آمنتم به، وقوله: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [سورة الشورى:11]، أي: ليس كهو، أو ليس كذاته شيء، على أحد الأقوال المعروفة في الآية، وقوله: كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا [سورة الأنعام:122]، يعني: كمن هو في الظلمات.

وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ۝ أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ [سورة الأحقاف:15-16].

لما ذكر تعالى في الآية الأولى: التوحيد له، وإخلاص العبادة والاستقامة إليه عطف بالوصية بالوالدين، كما هو مقرون في غير ما آية من القرآن، كقوله : وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا [سورة الإسراء:23]، وقوله : أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ [سورة لقمان:14]، إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة، وقال هاهنا: وَوَصَّيْنَا الإنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا أي: أمرناه بالإحسان إليهما، والحنو عليهما.

وروى أبو داود الطيالسي عن سعد قال: قالت أم سعد لسعد: أليس قد أمر الله بطاعة الوالدين؟ فلا آكل طعامًا، ولا أشرب شرابًا حتى تكفر بالله تعالى، فامتنعت من الطعام والشراب، حتى جعلوا يفتحون فاها بالعصا، ونزلت هذه الآية: وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا الآية، ورواه مسلم، وأهل السنن إلا ابن ماجه[13].

في قوله -تبارك وتعالى: وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا، الوصية بالوالدين بعدما ذكر الله حقه، كما في قوله تعالى: وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا [سورة الإسراء:23]، وقوله: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا [سورة النساء:36]، والآيات المحكمات في سورة الأنعام.

فأعظم الحقوق بعد حق الله -تبارك وتعالى- هو حق الوالدين، وإذا كانت هذه الآية قد نزلت في سعد بن أبي وقاص -رضي الله تعالى عنه- وأمه، وهي مشركة، وتدعوه إلى الكفر، ومع ذلك جاءت الوصية بالإحسان إلى الوالدين، فكيف إذا كان هؤلاء الأبوان يدعونه إلى الإيمان، وطاعة الله، وطاعة رسوله ﷺ؟! فإن الإحسان إليهما في هذه الحال يكون أعظم، وهذا يدل على أن الإحسان إلى الوالدين في كل الحالات لا يُستثنى منه شيء، ولهذا الفقهاء -رحمهم الله- تكلموا فيما لو كان الوالد أو الوالدة ملابسًا لمنكر، كيف يُغيَّر هذا المنكر؟ يعني: لو كان مثلاً يلبس لباسًا منكرًا، أو قد علق صليبًا، أو نحو ذلك، هل له أن ينزعه منه أو لا؟ باعتبار أنه لا يخلو من إساءة ونوع جرأة على هذا الوالد.

وقوله -تبارك وتعالى: وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا، فقوله: إِحْسَانًا: هذه قراءة عاصم وحمزة والكسائي، وأما قراءة الجمهور فهي حسنًا في هذا الموضع فقط، يعني: في بقية المواضع يقرءون: إِحْسَانًا، كقوله تعالى: وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا في سورة الإسراء، وفي سورة الأنعام، أما في هذا الموضع في سورة الأحقاف ففيه قراءتان: فالجمهور يقرءونه: حسنًا.

وعلى القراءتين: إِحْسَانًا وحسنًا النصب يكون على المصدرية، يعني: ووصينا الإنسان أن يحسن إلى والديه حسنًا وإحسانًا، وصيناه أن يحسن إلى والديه حسنًا وإحسانًا، فأطلق هذا الإحسان، فيشمل جميع صور الإحسان، من الإحسان بالقول، والإحسان بالفعل، والإحسان بالمال، والإحسان بالمعاشرة والمخالطة، بل الإحسان حتى في النظر إليهما، والإحسان حتى في المشاعر نحو الوالدين، وكل ما يمكن أن يتصور من الإحسان فهو داخل في هذه الآية، فأطلقه الله -تبارك وتعالى، فيحسن في المخاطبة، ويحسن في المخالطة، ويحسن بالمال.

بعض الناس قد يقول: هؤلاء من الوالدين غير محتاجين للمال، نقول: لكن إعطاء المال لهما أو لوالدته مثلاً إذا كان ليس لها مال، وإن لم تكن محتاجة، فهي مكفية قد كفاها زوجها مثلاً، فإن هذا التصرف من الولد يدل على أصالته، ويدل على كرم ضريبته، ويدل على سمو تربيته، فهذه الأم التي تعبت، وربت، وفي كل يوم هي معه صباح مساء تنظر إلى وجهه، وتهيئه لمدرسته، وشقيت معه طويلًا حتى تخرج وصار يعمل تنتظر العائدة من هذا الولد من حسن تعامله، وبره، وما إلى ذلك، فإذا كان هذا الولد يبادر من أول ما بدأ يعمل، ويكتسب، فيعطيها شيئًا، ولو لم تكن محتاجة، فإن هذا لا شك أنه يؤثر فيها غاية التأثير، ويغمرها بمشاعر لا يمكن وصفها تجاه هذا الولد: أن هذا الولد بار، وأصيل، وأنه ما نسيها قط، وأنه يدرك ما بذلت من إحسان، وتربية، وجهد، وأن ذلك لم يذهب، ولم يتلاشَ، وما ضاع، فهي ترجو عائدته أيضًا في الآخرة.

الأم تحتاج أن تتصدق، وتحتاج أن تُفرح الصغار، وما أشبه ذلك، ولا تحتاج في مثل هذه القضايا أنها تنتظر وتقول: أعطوني أنا محتاجة كذا، أنا أريد كذا، أريد أن أقدم هدية لفلانة، أو نحو هذا، فيكون ذلك بيدها، والأم عادة تبادر لأمور قد لا تخطر لهذا الولد على بال، إذا حصل نقص، أو نحو هذا فإنها تبادر وهي مسرورة فرِحة بتسديد هذه الحاجات، بخلاف غيرها ممن لربما لا يقع في يدها شيء إلا أتلفته، الأم تحنو وتحفظ للولد هذا المال، وإذا رأت فرصة انتهزتها في شأن من شئون بيتها، وبيت ولدها، فمثل هذا ينبغي أن نتذكره، فكثير من الناس لا ينتبهون لهذا، ويقول: هي غير محتاجة، فهذا من الإحسان الذي نغفل عنه، وله أثر بالغ، ولربما تبقى صامتة وساكتة، ولكن ذلك يقع في نفسها: أن هذا الولد لم يتذكر بذلها، وإحسانها، لكنه حينما يترجم عنه بمثل هذا سيكون له غاية التأثير.

من البر المنسي للأسف الشديد وهو شاق على نفوس الأبوين مما لا يعرفه كثير من الذين ظاهرهم الاستقامة والصلاح: أنه يعرف من حال أبيه أو من حال أمه أنهما يكرهان كذا، يكرهان صحبته لفلان، يكرهان ذهابه إلى المكان الفلاني، يكرهان هذا الفعل منه، يكرهان هذه المزاولات والاشتغال بكذا من الأمور التي ليست من العمل الصالح، لكنها أمور قد تكون مباحة، قد يريد أن يخرج إلى المكان الفلاني، وهم يكرهون ذلك، فإذا عرف منهم هذا فلا داعي لأن يكرره عليهم، أو أن يطالبهم بالسماح له بزعم أنه بار لا يخرج إلا بإذنهما، فيُضجر أبويه في المطالبة بهذا الشيء الذي يعلم أنهما يكرهانه، فلربما وافقا على ذلك على مضض، يريدان الخلاص من هذا الإلحاح.

فإذا عرف الإنسان أنهما يكرهان طرح الأمر الفلاني، ذكر القضية الفلانية، المطالبة بالشيء الفلاني؛ لمصلحته، أو لمصلحة غيره، أو نحو ذلك، يكف عنه، فهو يعرف من خلال هذه العشرة الطويلة الممتدة ما الذي يدخل السرور عليهما، وما الذي يحصل به الانزعاج لهما، فيترك هذه الأمور التي يكرهانها، ولا يحبان سماعها، للأسف هذا منسي لدى الأكثر، وإن زعم وظن أنه بار باعتبار أنه لا يفعل إلا بإذنهما، لكن هذا الإذن لا يأتي إلا بعد السآمة، والضجر، والملل، والضيق، تضيق به الدنيا بما رحبت من كثرة هذا الإلحاح والطرق على هذا الموضوع حتى يوافق هذا الأب كارهًا ومرغمًا من أجل الخلاص من هذا الإزعاج، وعند نفس هذا الولد أنه بار، وهذا من العقوق الذي لا يدركه كثير من الأبناء، والله المستعان.

حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا أي: قاست بسببه في حال حمله مشقة وتعبًا، من وحَام وغثيان وثقل وكرب، إلى غير ذلك مما تنال الحوامل من التعب والمشقة، وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا أي: بمشقة أيضا من الطلق وشدته.

حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا، قوله: كُرْهًا: هذه قراءة الجمهور، بالضم ثم السكون، وعلى قراءة أبي عمرو وأهل الحجاز بفتحهما، يعني في الموضعين، حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا، بالضم، وبالفتح، وهما لغتان، والمعنى واحد عند أكثر أهل العلم، الجمهور يقولون: المعنى واحد وهما لغتان، وإن فرق بعضهم بينهما.

ما المعنى: حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا؟ يعني: ذات كره، ومشقة، كما يقول ابن جرير -رحمه الله، واختار هذا أيضًا الشيخ محمد الأمين الشنقيطي، وهذا كله بمعنى متقارب.

حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا أي: حملته على مشقة ومعاناة، وذلك أن الحمل إذا ثقل فإن ذلك يؤثر فيها غاية التأثير، كما هو معلوم في أمور كثيرة، وفي الوضع فيه من الآلام والمشقة، وذكر هذا بالنسبة للأم خاصة، يعني: الحمل والوضع، هذا كله مما تختص به الأم، والأب لا يشعر بشيء من ذلك، هذا إشارة إلى تأكد حق الأم، ولهذا جعل لها النبي ﷺ حينما سئل: أي الناس أحق بحسن صحابتي؟ قال: أمك ثلاثًا[14]، فهذا في الصحبة والمعاشرة، يعني: البر الذي يكون للأم على ثلاثة أضعاف ما يكون للأب، يعني: من التلطف والحنو واللباقة، فإذا كان الإنسان مأمورًا بالبر مع الأبوين، وأنه أطلق الإحسان -كما سبق، فماذا عسى لو أنه ضاعفه ثلاث مرات؟ سيكون في غاية التلطف والتذلل مع أمه، يعني: إذا كان بارًّا بأبيه غاية البر لا يمكن أن يمشي أمامه ولا يدخل قبله، ولا يرفع صوته، ولا ينظر إليه شَزْرًا، كل هذا وغير هذا مع الأب، فلو ضاعفنا ذلك ثلاث مرات: كيف ستكون الحال مع الأم؟ حتى ندرك مدى التقصير الذي مُنينا به -والله المستعان.

وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا، وقد استدل علي ، بهذه الآية مع التي في لقمان: وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ [سورة لقمان:14]، وقوله -تبارك وتعالى: وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ [سورة البقرة:233]: على أن أقل مدة الحمل ستة أشهر، وهو استنباط قوي صحيح.

هذا الاستنباط ماذا يسمى عند الأصوليين؟ هذا النوع من الاستنباط تحت أي نوع يدخل؟ يدخل تحت دلالة الإشارة، ليس التفسير الإشاري عند الصوفية، لا، دلالة الإشارة هي: أحد أنواع المنطوق غير الصريح، يعني: الكلام: إما منطوق، وإما مفهوم، والمنطوق: إما دلالة مطابقة، أو تضمن، أو التزام، أو إيماء وتنبيه، أو إشارة، فهذا الإشارة، والإشارة على نوعين: تارة يكون ذلك من دليل واحد، كما ذكرنا في الكلام على آيات الصيام: ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ [سورة البقرة:187]، فإذا أبيح لهم الأكل والشرب والجماع إلى آخر لحظة من الليل فهذا ما دلت عليه الآية بالمعنى المطابق، لكن بدلالة الإشارة -وهي من المنطوق: أنه لو أصبح جنبًا لصح صومه، من أين أخذناه؟

أنه إذا صح له أن يجامع إلى آخر لحظة من الليل فالغسل متى يكون؟ يكون بعد طلوع الفجر، أخذناه من دلالة الإشارة، والمقصود بها: إشارة اللفظ إلى معنًى ما سيق اللفظ من أجل تقريره، يعني: الآية: ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ [سورة البقرة:187] ما سيقت من أجل بيان صحة صوم من أصبح جنبًا من غير احتلام، هل الآية سيقت من أجل هذا؟

الجواب: لا، فهذا من دليل واحد، وأحيانًا تكون دلالة الإشارة من مجموع دليلين مثل هذا، فإذا كان قوله: وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا مع الآية الأخرى: وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ [سورة لقمان:14] يعني: أربعة وعشرين شهرًا، فيبقى من الثلاثين للحمل إذا أخرجنا مدة الرضاع، يبقى ستة أشهر للحمل، إذًا يمكن أن يولد الولد مكتملاً ويعيش لستة أشهر من الحمل، أقل مدة الحمل، وأما أكثر مدة الحمل فهذه في الغالب تسعة أشهر، وقد يزيد، في تراجم بعض أهل العلم تجدون أن بعضهم كان حمله في سنتين، بل ذكر لبعضهم أن أمه حملت به خمس سنين.

ومن دلالة الإشارة مما يؤخذ من دليلين: وجوب إعفاء اللحية من القرآن، من آيتين في قوله: لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي [سورة طه:94]، قول هارون ﷺ، فدل على أن له لحية، وأن هذه اللحية لم تكن مجرد خط أو عوارض، كما يقال، وإنما لحية كثة يمكن أن يؤخذ بها، مع آية الأنعام لما ذكر الله الأنبياء فقال: وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ [سورة الأنعام:84]، فقال: وَمُوسَى وَهَارُونَ، فهارون من الأنبياء الذين أُمر النبي ﷺ أن يقتدي بهم، كما قال بعدما ذكر هؤلاء الأنبياء الكرام -عليهم الصلاة والسلام: أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ [سورة الأنعام:90]، فالنبي ﷺ مأمور بالاقتداء بهؤلاء، وهارون -عليه الصلاة والسلام- كانت له لحية كثة.

روى محمد بن إسحاق بن يسار، عن بَعْجَةَ بن عبد الله الجهني قال: "تزوج رجل منا امرأة من جُهَيْنة، فولدت له لتمام ستة أشهر، فانطلق زوجها إلى عثمان فذكر ذلك له، فبعث إليها، فلما قامت لتلبس ثيابها بكت أختها، فقالت: وما يبكيك؟! فوالله ما التبس بي أحد من خلق الله تعالى غيره قط، فيقضي الله في ما شاء، فلما أتي بها عثمان أمر برجمها، فبلغ ذلك عليًّا ، فأتاه، فقال له: ما تصنع؟ قال: ولدت تمامًا لستة أشهر، وهل يكون ذلك؟ فقال له علي : أما تقرأ القرآن؟ قال: بلى، قال: أما سمعت الله يقول: وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا، وقال: يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ، فلم نجده بقي إلا ستة أشهر، قال: فقال عثمان : والله ما فطنت لهذا، عليّ بالمرأة فوجدوها قد فُرِغَ منها، قال: فقال بَعْجَةُ: فوالله ما الغراب بالغراب، ولا البيضة بالبيضة بأشبه منه بأبيه، فلما رآه أبوه قال: ابني والله لا أشك فيه، قال: وابتلاه الله تعالى بهذه القرحة بوجهه، الآكلة، فما زالت تأكله حتى مات"، رواه ابن أبي حاتم[15].

هذا لو صح، فأنتم تعرفون حال محمد بن إسحاق، لكن حتى مثل هذا، يعني: كون الرجل ولدت له لستة أشهر، ويفهم أن المرأة لا يمكن أن تلد لستة أشهر ولدًا تامًّا، وهكذا فهم عثمان لأول وهلة، ومن حضره من الصحابة، حتى أورد عليه عليٌّ -رضي الله تعالى عنه- ما قد سمعتم، فهل الرجل يكون ملومًا بسبب هذا؟ الرجل غير ملوم، يعني: هذا منتهاه، هذا مبلغه من العلم، وعثمان وافقه في أول الأمر، هذا لو صحت الرواية، فكونه عوقب بعد ذلك بظهور هذه القرحة بوجهه حتى مات، هذا فيه إشكال، يعني: هو لم يقصد الإساءة والظلم والعدوان.

وقال ابن أبي حاتم: حدثنا فَرْوَة بن أبي المَغْرَاء، حدثنا علي بن مِسْهَر، عن داود بن أبي هند، عن عِكْرِمة، عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: إذا وضعت المرأة لتسعة أشهر كفاه من الرضاع أحد وعشرون شهرًا، وإذا وضعته لسبعة أشهر كفاه من الرضاع ثلاثة وعشرون شهرًا، وإذا وضعته لستة أشهر فحولين كاملين؛ لأن الله تعالى يقول: وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا.

يعني: مثل هذا نظر فيه إلى ظاهر اللفظ: وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا، وهذا الاستنباط له وجه ظاهر، فينقص من مدة الرضاع بقدر ما كان له من الحمل، لكن إذا نظرت إلى الآية الأخرى مجردة وهي قوله: وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ [سورة البقرة:233]، فهذا عام أيًّا كان له من الحمل، مع أن الغالب أن الحمل يكون لتسعة أشهر، هذا هو الأصل، وما كان أقل فهو خارج عن هذا الأصل، فإذا كان الله -تبارك وتعالى- يقول هذا القول العام مع مراعاة أن الغالب تسعة أشهر لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ؛ فيدل ذلك على أن إتمام الرضاعة بصرف النظر عن مدة الحمل تكون لعامين.

حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ أي: قوي وشب وارتجل، وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً أي: تناهى عقله، وكمل فهمه وحلمه.

بلوغ الأشد: حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ، مضى الكلام عليه عند قوله: وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ [سورة الأنعام:152]، فما هو بلوغ الأشد؟ لاحظ هناك في اليتيم: حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ، ما هو بلوغ الأشد بالنسبة لليتيم؟ بعضهم يقول: البلوغ، وبعضهم يقول غير ذلك، لكن مع قوله: وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ [سورة النساء:6]، بعضهم قيده بمرحلة عمرية، يعني: بعضهم يقول: إذا بلغ ثمانية عشر عامًا، وبعضهم يقول: إذا بلغ إحدى وعشرين سنة، لكن الأقرب أن ذلك لا يقيد بعمر معين، فبالنسبة لليتامى يُمتحنون، فلابدّ من أمرين، لابدّ من وصفين:

الأول: هو البلوغ.

والثاني: حسن التصرف في المال، لقوله: فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا؛ لأن هذا هو المطلوب، وهذا قد لا يصير صفة للولد إذا بلغ الثامنة عشرة، أو العشرين، أو الخامسة والعشرين، فقد يكون سفيهًا مضيعًا، فلا يعطى المال، وذكرنا الأقوال في بلوغ الأشد ما المراد به لاسيما في مثل هذه الآية: حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ، فبلوغ الأشد كم يكون؟

بعضهم يقول: البلوغ، وبعضهم يقول: إذا بلغ الثامنة عشرة، وبعضهم يقول: الخامسة والعشرين، فالشعبي وابن زيد يقولان: إذا بلغ الحلم فهذا بلوغ الأشد، والحسن يقول: إذا بلغ أربعين سنة، يعني: كأنه فهم أن هذا العطف يوضح ما قبله، أي: قوله: وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً هذا تفسير لبلوغ الأشد، وبعضهم يقول: إذا بلغ الثالثة والثلاثين.

ولما ذكر الله خبر يوسف ﷺ وقصته وأنه صار عند امرأة العزيز قال: وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا [سورة يوسف:22]، متى بلغ أشده هنا وهو في بيت العزيز؟ معنى ذلك: أنه لم يبلغ الأربعين بعد وقد بلغ أشده، فدل هذا على أن بلوغ الأشد لا يحد بسن معين، -والله تعالى أعلم، ولهذا قال ابن جرير: هو تناهي قوته، واستواؤه، هذا بلوغ الأشد.

التناهي عندنا: تناهي قوة البدن، وتناهي قوة العقل، فالأطباء يقولون: إن نمو العظام مثلاً عند البنت إذا بلغت سبع عشرة سنة توقف النمو، يعني: ما يرجى أنها تطول أكثر، أو أن عظامها تحصل لها قوة زائدة، أو نحو ذلك، كذلك لو كان عندها عيوب معينة قد تنمو مع الوقت، أو نحو ذلك في العظام ينتظرون، فإذا بلغت السابعة عشرة معناها: أنه لا ينتظر بعد ذلك مضاعفات جديدة، أو نحو هذا، أما الأبناء أو الذكور فيكون إلى الحادية والعشرين ثم يتوقف نمو العظام عند الذكور، هذا بالنسبة لنمو العظام، لكن قوة البدن لا تزال تنمو، فيكتمل ذلك إلى الأربعين.

أما بالنسبة للنمو العقلي فإن الإنسان إذا وصل إلى سن الواحد والعشرين مثلاً فإنه يكون قد بلغ مبلغ الرجال لا في أحكام الشرع، فأحكام الشرع إذا بلغ، يعني: وصل سن البلوغ أي: الاحتلام، وإذا لم يظهر عليه شيء من علامات البلوغ المعروفة فإنه يحكم ببلوغه إذا أتم الخامسة عشرة، باعتبار أن النبي ﷺ رد ابن عمر ثم قَبِله، يعني: رده في بدر، ثم قبله في أحد، كان عمره أربعة عشر عامًا.

فعمر بن عبد العزيز قال: يصلح أن يكون هذا حدًّا، يعني: فاصلاً بين الرجل والغلام، فإذا كمّل الخمسة عشر حتى لو ما بلغ؛ لأن بعض الأبناء أو بعض الشباب قد لا يبلغ حتى يدخل الجامعة، متى يدخل الجامعة؟ بعد الثامنة عشرة، قد حدثني بعض الناس أنه دخل الجامعة، وسجل في الجامعة، وهو لم يبلغ بعد، ولم يظهر عليه أي شيء من علامات البلوغ، فهذا يحصل وإن كان قليلاً.

فمنتهى القوة البدنية واكتمال القوة البدنية إلى الأربعين، ومنتهى القوة العقلية إلى الأربعين، فيبقى في حال من التماسك لربما إلى الخمسين، ثم بعد ذلك يبدأ بالضعف والتلاشي، ويبدأ بالشيخوخة والضعف، وتبدأ الخلايا لا تتجدد في الجلد وفي غيره، فيبدأ الذبول، والنظر يضعف، والسمع، وما إلى ذلك، ولذلك يقولون: الذي لم يحصل له رشد بعد أن بلغ الأربعين لا يرجى له رشد بعد ذلك، يعني: وصل الأربعين وهو سفيه، ما ينتظر من هذا الإنسان أن يكون راشدًا عاقلاً -والله المستعان، فهذا اكتمال العقل.

هذه الآية تضمنت معنى كبيرًا ينساه الكثيرون إذا بلغوا هذا السن، يقول الله تعالى: وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ، هو جاوز مرحلة الطيش، ومراحل الغفلة، فينبغي أن يكون راشدًا بحق، ويدعو بمثل هذا الدعاء، وأن يزداد بره بأبويه، وأن يترك ما كان فيه من الجهالات، والحماقات، والسفه، وما إلى ذلك، فتكون أقواله وأفعاله واقعة على وجه الصواب، والحكمة، ومقتضى العقل، والرشد، وتصرفاته موزونة، فلا يصلح لشيء من السفه، ومخالطة السفهاء.

ويقال: إنه لا يتغير غالبًا عما يكون عليه ابن الأربعين.

ابن جريرفيما يتعلق بالرشد اختار أنه إذا بلغ الثالثة والثلاثين، بأي اعتبار؟ أولاً: هذا أحد الأقوال عند أهل العلم من أهل اللغة وغيرهم، أنه إذا بلغ الثالثة والثلاثين، مع أنه لا دليل عليه، فهذا كله من الرشد، وابن جرير يقر بهذا: أن القضية لا تتقيد بسن معين، لكن يقصد في هذه الآية هنا فقط، حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً [سورة الأحقاف:15].

وباعتبار أن الأربعين ليست بتفسير لبلوغ الأشد، كما سبق عن الحسن أنه قال: إذا بلغ الأربعين، فيكون من باب التفسير له: حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً، ابن جرير يرى أن هذا مغاير لما قبله، فبلوغ الأشد يحصل قبل الأربعين، ولكن منتهى ذلك والاكتمال يكون في الأربعين.

لماذا قال: ثلاثة وثلاثين، ما قال: ثمانية عشر، أو قال: إذا بلغ الاحتلام؟ ابن جرير بنى ذلك على قاعدة وأصل عند العرب في كلامها ومخاطباتها، وهي باعتبار: أنها إذا عطفت وقتين مثلاً، أو مثل هذا عطفت وقتًا على صفة، هذه الصفة تحمل وقتًا، أو فسرت بأوقات، أو نحو ذلك، العرب تجعل الثاني قريبًا من الأول، يقول: فالثلاثة والثلاثون قريبة من الأربعين، يعني: العرب ليس من مخاطبتها، وليس من طريقتها أن تقول مثلاً: عدد القوم واحد واحتمال أنهم ألف، يعني: مثل هذا لا يقبل في الكلام، واحد واحتمال ألف المباينة بينهما كبيرة، لكن لو قلت: إنهم عشرة واحتمال اثنا عشر مقبول، لكن واحد واحتمال ألف يقال: هذا ليس من كلام العقلاء.

فيقول: العطف هنا إذا قلنا: بلوغ الحلم، وهو إذا بلغ ثلاثة عشر، أو أربعة عشر، يحتلم الولد، أو يصير بالغًا، أو إلى الخامسة عشرة يحكم ببلوغه، فهذا القول مع الأربعين تكون المدة بينهما بعيدة، فجعله في أقرب هذه الأعمار المذكورة، هذا وجه كلام ابن جرير، وأنه لا يبلغ منتهى الأشد حينما يكون محتلمًا، واختار ثلاثة وثلاثين؛ لأنه أحد الأقوال في بلوغ الأشد، وأنه قول صحيح، ولكنه يقر بأن ذلك مما يصدق عليه بلوغ الأشد، ولكن لماذا اختار هذا؟ لأن أقصى ما ذكر في الأعمار دون الأربعين هو ثلاثة وثلاثون، لأن بعضهم قال: خمسة وعشرين، وبعضهم قال: ثمانية عشر، وبعضهم قال: البلوغ، وبعضهم قال: الخمسين، أخذوه من قول عليٍّ ، يروى عنه قول:

  أخو خمسين مُجتمِعٌ أشُدِّي  

فقالوا: بلوغ الخمسين، والواقع أن الخمسين من بلوغ الأشد، فابن جرير نظر إلى قوله:وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً، فأخذ الأقرب في العدد، وقال: من عادة العرب أنها لا تجعل مباينة بين العددين، فإذا بلغ الحلم وبلغ أربعين سنة قفزة بعيدة، هذا وجه كلام ابن جرير في قوله: حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً، لكن يمكن أن يقال: حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ أي: بلغ منتهى القوة، وأكمل الأربعين، فهذا تمام سن الرشد، وابن جرير لم يختر هذا القول من أجل أنه أعمار أهل الجنة، كما يظن البعض، وإنما باعتبار أنه أحد الأقوال في بلوغ الأشد، فهو نظر إلى الأقوال، وأعداد السنوات المذكورة، فأخذ القريب من الأربعين باعتبار هذه القاعدة أو الأصل عند العرب في مخاطباتهم، ووجوه كلامهم، راعى هذا فقط، ولم يذكر غيره.

قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أي: ألهمني أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ أي: في المستقبل، وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي أي: نسلي وعقبي، إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وهذا فيه إرشاد لمن بلغ الأربعين أن يجدد التوبة والإنابة إلى الله ، ويعزم عليها.

قال الله : أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ أي: هؤلاء المتصفون بما ذكرنا، التائبون إلى الله تعالى، المنيبون إليه، المستدركون ما فات بالتوبة والاستغفار هم الذين نتقبل عنهم أحسن ما عملوا، ونتجاوز عن سيئاتهم، فنغفر لهم الكثير من الزلل، ونتقبل منهم اليسير من العمل، فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ أي: هم في جملة أصحاب الجنة، وهذا حكمهم عند الله، كما وعد الله من تاب إليه وأناب؛ ولهذا قال تعالى: وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ.

فيما يتصل بكلام ابن جرير الآنف، يعني: تصور لو أردنا أن ننظر إلى السياق: حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ أي: ثلاثًا وثلاثين سنة، وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي، لكن لو بقينا على أصل كلام ابن جرير: أن الأشد هو تناهي القوة والاستواء، هذا أولى من تحديد ذلك بسن معين، يعني: حتى إذا اكتملت قواه البدنية والعقلية، وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ، هذا هو الأقرب -والله أعلم.

ولاشك أن الناس يتفاوتون في النمو الجسمي، وفي النمو العقلي، وفي الكمال في هذه الأمور، وأحيانًا تجد الشاب عمره ثماني عشرة سنة بل أقل، وإذا جلست معه كأنك جالس مع ابن أربعين، هذا شيء مشاهد، وهذا فضل الله يؤتيه من يشاء، لكن هذا قليل، والغالب الطيش، والخفة، وقصور النظر في الأشياء.

ولاشك أيضًا في الوقت نفسه أن السن له أثر، وهنا ينبغي أن يفرق بين العلم والعقل، يعني: العلم ليس هو العقل، قد يكون الإنسان من أوعية العلم، ولكن لا عقل له، وقد يكون جاوز السبعين والثمانين وعقله في خفة، كما يقال: أحلام الطير، يطيش، ويلقي الكلام على عواهنه، ولا يزن الكلمة، أو العبارة، أو الفتوى، وردود الأفعال عنده سريعة، يلقي كلمات قوية شنيعة في أمور لا تستحق؛ لمجرد ردود أفعال سريعة، بناء على شيء سمعه، أو قرأه، أو نحو ذلك، فهذا غير صحيح. 

وهو موجود، ومثل هذا لا يصح أن يفتي، ولا يصح أن يُرجع إليه في النوازل، والقضايا، والمصائب، والمشكلات، والبلايا التي تقع في الأمة؛ لأنه يسرع مباشرة بردود الأفعال العنيفة التي لم توزن، ومع أنه من أوعية العلم، يعني: عنده علم كثير، فالعلم وحده لا يكفي، والسن له أثر في الفتيا، وفي النظر في الأمور، وما إلى ذلك، فكون الناس يرجعون إلى من جرب الأمور، وخبرها، واستقر عقله ومداركه، هو الأفضل، وقد يكون غيره أكثر حفظًا منه، ولكن هذا السن يؤثر، وقد رُئى هذا في الناس، فقد يوجد في بعض منهم في مقتبل العمر من الحافظة والجمع للعلم أكثر بكثير ممن جاوزوا الستين وما إلى ذلك، لكن إذا سمعت كلام هؤلاء، وتقريرات هؤلاء ترى الفرق، فهذه الخبرة مع العلم، والممارسة الطويلة للفتيا، وما إلى ذلك؛ تجد عنده من الاستقرار، وحسن النظر ما لا يوجد عند غيره؛ ولذلك ينبغي مراعاة مثل هذه الأمور، وأن الإنسان في نفسه لا يستعجل، ثم يقرر أن هذه الأشياء لا محيد عنها وإلى آخره في قضايا قابلة للأخذ والرد، فقد يغير رأيه كما هو معلوم، فالسن يؤثر.

العقل نوعان:

عقل غريزي فطري، فهذا يهبه الله ، ويتفاضل الناس فيه.

وعقل بالتجارب، العقل المكتسب، والله المستعان.

في قوله -تبارك وتعالى: قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ، "أوزعني" قال: أي: ألهمني، ابن جرير يقول: أغْرِني بشكر نعمتك، والإلهام في ألهمني أن أشكر يعني: ادفعني لذلك، أغرني به، ألهمني إياه، الأكثرون يفسرونه بالإلهام، حتى بعض من ذكر معاني قريبة مثل: الإغراء بالشيء، أو نحو ذلك، أو الدفع بهذا الاتجاه يذكرون الإلهام أيضًا: ألهمني ذلك.

أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ، يقولون: أصله من وزعتُ الرجل على كذا يعني: دفعته عليه، الحافظ ابن القيم -رحمه الله- ذكر أنه يرجع إلى معنى: ألهمني ذلك، واجعلني مُغرًى به، وكُفَّني عما سواه، فجمع بين المعنيين: أغرني وألهمني، بمعنى: وفقني لهذا، وألهمني إياه، واحملني عليه، فالإنسان يحتاج إلى أن يوفق للشيء، وأن يعان على فعله، ولذلك يقول: أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ، ما الذي أنعمه الله على والديه؟ ما هي نعمته عليه وعلى والديه؟ هي: نعمته بالخلق، وبالإيجاد، وبالنعم، ربّاهم، وغذاهم بنعمه الظاهرة والباطنة، وأرسل إليهم الرسل، وأنزل الكتب، وهداهم للإيمان، واختارهم من بين الناس ليكونوا من أهل الإيمان، وأنعم عليهم بالمال، وأنعم عليهم بنعم كثيرة ظاهرة وباطنة، فهذا كله داخل تحت قوله: نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ، ولا يقيد هذا بأن نعمته على والديه: أن الله أغراهما بالعطف والحنو عليه مثلاً، لا، بل كل النعم داخلة في ذلك.

قال: أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ، مضى الكلام على أَحْسَنَ، طيب وما حكم بقية الأعمال؟ هنا أَحْسَنَ أفعل تفضيل، طيب وما حكم الحسن؟

بعض أهل العلم قال في قوله تعالى: أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا: المقصود بأفعل التفضيل هنا: مطلق الاتصاف، يعني: الحسن من أعمالهم، وهذا يأتي في اللغة، كما مضى في بعض المناسبات، وبعضهم يقول: إن "أحسن" هنا مقصودة، يعني: أفعل التفضيل باعتبار أن الأعمال التي يعملها الناس منها: ما هو المباح، ومنها: ما هو الطاعة والقربة، فالقربات والطاعات هي الأحسن.

وأما ما يتعلق بالجزاء الوارد في مواضع أخرى من كون الله يجزي هؤلاء المؤمنين بأحسن ما كانوا يعملون فذاك ذكرنا فيه أوجهًا أخرى، يعني: بعض أهل العلم يقول: إنه يُرَفِّعُ لهم الأعمال، فأعمالهم بين حسن وأحسن، فيجازيهم على الحسن بالأحسن، هكذا قال بعض أهل العلم، وقيل غير ذلك، وقد سبق في مواضع من هذا التفسير، وكذلك في مثل قوله -تبارك وتعالى: الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ [سورة الزمر:18]، هناك أجوبة أخرى، ما هو أحسن ذلك؟ فقد ذكرنا هناك أن بعض أهل العلم يقولون: إن الذي يستمعونه: يستمعون كلامًا مباحًا، ويستمعون كلامًا خيِّرًا صالحًا -فهو من قبيل المحبوب لله ، ويستمعون كلامًا سيئًا، فهؤلاء يتبعون أحسنه، وقيل غير ذلك.

وهنا بعضهم يقول: الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا يعني: ما يتصل به الثواب، يعني: غير المباحات والأمور التي لا يتعلق بها ثواب.

فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ، أي: هم في جملة أصحاب الجنة، هذا حكمهم عند الله.

وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ، وَعْدَ الصِّدْقِ هذا مصدر مؤكد لمضمون الجملة قبله، وَعْدَ الصِّدْقِ يعني: هذا الذي وعدناهم هو وعد الصدق، أو أنه مصدر لفعل محذوف، أي: وعدهم الله وعد الصدق، والله أعلم.

  1. أخرجه الطبري في تفسيره: (22/ 99).
  2. أخرجه أحمد في المسند: (12374)، والطبري في تفسيره: (22/ 200)، والسيوطي في الدر المنثور في التفسير بالمأثور (7/ 436).
  3. أخرجه البخاري، كتاب المغازي، باب غزوة الحديبية، رقم: (4172).
  4. المصدر السابق.
  5. أخرجه أحمد، رقم: (27457)، والبخاري، كتاب التعبير، باب العين الجارية في المنام، رقم: (7018).
  6. أخرجه البخاري، كتاب الجنائز، باب الدخول على الميت بعد الموت إذا أدرج في أكفانه، رقم: (1241)، وأحمد في المسند، رقم: (27457).
  7. أخرجه البخاري، كتاب أصحاب النبي ﷺ، باب مناقب عمر بن الخطاب أبي حفص القرشي العدوي ، رقم: (3679)، ومسلم، كتاب فضائل الصحابة -رضي الله تعالى عنهم، باب من فضائل أم سليم أم أنس بن مالك، وبلال -رضي الله عنهما، رقم: (2456)، واللفظ له.
  8. أخرجه مسلم، كتاب فضائل الصحابة -رضي الله تعالى عنهم، باب من فضائل بلال ، برقم: (2458).
  9. أخرجه الترمذي، أبواب تفسير القرآن عن رسول الله ﷺ، باب ومن سورة آل عمران، رقم: (3010)، وقال: هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه، وابن ماجه، أبواب الجهاد، باب فضل الشهادة في سبيل الله، رقم: (2800)، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير وزيادته، رقم: (7905).
  10. أخرجه البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب فضل قول الله تعالى: وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ۝ فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ۝ يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ [سورة آل عمران: 169- 171]، رقم: (2814)، ومسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب استحباب القنوت في جميع الصلاة إذا نزلت بالمسلمين نازلة، برقم: (677).
  11. أخرجه البخاري، كتاب مناقب الأنصار، باب مناقب عبد الله بن سلام ، رقم: (3812)، وأخرجه مسلم، كتاب فضائل الصحابة -رضي الله تعالى عنهم، باب من فضائل عبد الله بن سلام ، رقم: (2483).
  12. أخرجه أحمد، رقم: (23984)، وقال محققو المسند: إسناده صحيح على شرط مسلم.
  13. أخرجه مسلم، كتاب فضائل الصحابة -رضي الله تعالى عنهم، باب في فضل سعد بن أبي وقاص ، رقم: (1748)، والترمذي، أبواب تفسير القرآن عن رسول الله ﷺ، باب: ومن سورة العنكبوت، رقم: (3189)، وأخرجه أبو داود الطيالسي، أحاديث سعد بن أبي وقاص ، رقم: (205)، ولم أجده في سنن أبي داود، ولا سنن النسائي.
  14. أخرجه البخاري، كتاب الأدب، باب من أحق الناس بحسن الصحبة، رقم: (5971)، ومسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب بر الوالدين وأنهما أحق به، رقم: (2548).
  15. أخرجه ابن أبي حاتم، في تفسيره (10/ 3293)، رقم: (18566).

مواد ذات صلة