السبت 28 / جمادى الأولى / 1446 - 30 / نوفمبر 2024
[3] من قوله تعالى: {وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَّكُمَا أَتَعِدَانِنِي} إلى قوله تعالى: {وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} الآية:28
تاريخ النشر: ٠٩ / صفر / ١٤٣٥
التحميل: 4687
مرات الإستماع: 3274

بسم الله الرحمن الرحيم

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ ۝ أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ ۝ وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ۝ وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ [سورة الأحقاف:17-20].

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد، وعلى آله وصحابته الطيبين الطاهرين، أما بعد:

فاللهم اغفر لنا، ولشيخنا، ولوالدينا، وللحاضرين، والمستمعين.

يقول الحافظ ابن كثير-رحمه الله: لما ذكر تعالى حال الداعين للوالديْن البارين بهما وما لهم عنده من الفوز والنجاة، عطف بحال الأشقياء العاقين للوالدين، فقال: وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا، وهذا عام في كل من قال هذا، ومن زعم أنها نزلت في عبد الرحمن بن أبي بكر فقوله ضعيف مردود؛ لأن عبد الرحمن بن أبي بكر أسلم بعد ذلك وحسن إسلامه، وكان من خيار أهل زمانه.

روى البخاري عن يوسف بن ماهك قال: كان مَرْوان على الحجاز، استعمله معاوية بن أبي سفيان -رضي الله عنهما، فخطب، فجعل يذكر يزيد بن معاوية لكي يبايع له بعد أبيه، فقال له عبد الرحمن بن أبي بكر –رضي الله عنهما- شيئًا، فقال: خذوه، فدخل بيت عائشة -رضي الله عنها، فلم يقدروا عليه، فقال مروان: إن هذا الذي أنزل الله فيه: وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي، فقالت عائشة -رضي الله عنها- من وراء الحجاب: "ما أنزل الله فينا شيئا من القرآن، إلا أن الله أنزل عُذرِي"[1].

طريق أخرى: روى النسائي عن محمد بن زياد قال: لما بايع معاوية لابنه، قال مروان: سُنَّة أبي بكر وعمر -رضي الله عنهما، فقال عبد الرحمن بن أبي بكر – رضي الله عنهما: سُنَّة هرقل وقيصر، فقال مروان: هذا الذي أنزل الله فيه: وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا الآية، فبلغ ذلك عائشة -رضي الله عنها- فقالت: كذب مروان، والله ما هو به، ولو شئت أن أسمي الذي أنزلت فيه لسميته، ولكن رسول الله ﷺ لعن أبا مروان ومروانُ في صلبه، فمروان فَضَضٌ من لعنة الله[2].

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فقوله -تبارك وتعالى: وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي الآية، وقول الحافظ ابن كثير -رحمه الله: لما ذكر تعالى حال الداعين للوالدين البارين بهما وما لهم عنده من الفوز والنجاة، عطف بحال الأشقياء... إلى آخره، هذا هو الذي يقال له: المناسبة، هنا ابن كثير لم يصرح أن هذه هي المناسبة، ولكن هذا معروف، وهو كثير في هذا التفسير، ويُعنَى به بعض المفسرين عناية خاصة، ومن أعظمهم عناية بهذا -كما هو معلوم- البقاعي في كتابه نظم الدرر، وهذا تفسير كبير يزيد على العشرين مجلدًا، عنايته الأولى في المناسبات، يعني: وجه الارتباط بين الآية والتي قبلها، وهو نوع من أنواع المناسبات.

وقوله -تبارك وتعالى- هنا: وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي، يقول ابن كثير: وهذا عام في كل من قال هذا، بأي اعتبار؟ باعتبار أنه لم يثبت أنها نزلت في معين -أي: أنها نزلت بسبب خاص، فليس لها سبب نزول، وحتى لو ثبت لها سبب نزول خاص فإن العبرة بعموم اللفظ والمعنى لا بخصوص السبب، ومن ثَمَّ فإن القول فيها باعتبار العموم من جهة أن الذي صيغة من صيغ العموم، فالعموم له صيغ لفظية كما هو معلوم، ويأتي أيضًا من جهة المعاني، ومن صيغه اللفظية: الأسماء الموصولة، مثل: الذي، ونحو ذلك، فهو بمعنى: الذين، ويدل على هذا أنه جاء بعده بصيغة الجمع؛ لأن الله قال بعده: أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ، فـالذين هنا مفسر لما قبله من قوله: الذي، وهذا كثير في القرآن.

أما ما ذكره مروان فقد ردته عائشة -رضي الله تعالى عنها، وهي أعلم بكتاب الله منه.

وقوله هنا: "طريق أخرى: روى النسائي عن محمد بن زياد قال: لما بايع معاوية  لابنه.." إلى آخره، هذه الرواية صححها الشيخ ناصر الدين الألباني -رحمه الله، وأعلّها الذهبي بالانقطاع.

وقول عائشة -رضي الله تعالى عنها- هنا: "فمروان فَضَضٌ من لعنة الله" يعني: قطعة من لعنة الله، باعتبار أن النبي ﷺ لعن أباه وهو في صلبه، يعني: قبل أن يولد مروان، فهذه أعلها الذهبي بالانقطاع، وعلى فرض صحتها فإن مثل هذا قد يقال فيه: إن لعن الوالد لا يلحق الولد ولو كان في صلبه، يعني: قبل أن يولد، فلعن الآباء لا يلحق الأبناء إذا لم يكونوا على سيرتهم وطريقتهم، قال تعالى: كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ [سورة المدثر:38].

وأصحاب النبي ﷺ كان آباؤهم من الكفار في أغلبهم، وإن وُجد بعض الصحابة من كان أبوه مؤمنًا، وجدّه مؤمنًا، لكن الغالب أن أكثرهم كفار، وبعض هؤلاء لعنهم النبي ﷺ يعني بعض الآباء، ومع ذلك فإن هؤلاء الأولاد كانوا من خيار الصحابة ، هذا بالإضافة إلى أن النبي ﷺ لعن بعض من ذُكر له عمله ممن ينتسب إلى الإسلام، وأخبر النبي ﷺ أو سأل ربه أن يجعل لعْن مَن لعنه -يعني من المسلمين- أن يجعله عليه صلاة ورحمة[3]، فإذا كان مَن توجه إليه اللعن بعينه يقول فيه النبي ﷺ هذا، فكيف بمن جاء اللعن في حق أبيه -لو صح؟!

والنبي ﷺ لعن أقوامًا وهم في الكفر، ولعن قبائل بأكملها، ومع ذلك أسلم من أسلم منهم وحسن إسلامه، لكن الأصل أن المعرة والمذمة التي تتوجه إلى الآباء تلحق الأبناء إذا كانوا على طريقتهم، هذه هي القاعدة، ولهذا نجد في القرآن كثيرًا: وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً [سورة البقرة:55]، مع أن الذين قالوا هذا هم الأجداد. 

وهكذا في مواضع كثيرة من كتاب الله يخاطب الله بني إسرائيل بهذه الصيغ -صيغ المخاطبين، والذين عاصروا النبي ﷺ لم يقع منهم هذا الفعل، سواء كان ذلك في مقام الذم، أو كان في مقام الإفضال، والإنعام، والامتنان، كقوله تعالى: وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ [سورة البقرة:49]، وقوله: وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى [سورة البقرة:57]؛ لأن النعمة الواقعة على الآباء لاحقة للأبناء، هذا هو الأصل، والعكس: المذمة التي تلحق الآباء تلحق الأبناء إذا كانوا على طريقتهم.

وقوله: أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ أي: أبعث، وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي أي: قد مضى الناس فلم يرجع منهم مخبر، وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ أي: يسألان الله فيه أن يهديه، ويقولان لولدهما: وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ، قال الله تعالى: أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ أي: دخلوا في زمرة أشباههم وأضرابهم من الكافرين الخاسرين أنفسهم وأهليهم يوم القيامة.

هذا دليل على أن قول مروان غير صحيح؛ لأنه قال: أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ، وعبد الرحمن بن أبي بكر أسلم، فهذا يدل على أنه غير مراد، ولو حق عليه القول لما دخل في الإسلام، وذكرنا في تفسير سورة المسد أن ما ذكره الله فيها من قوله: سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ [سورة المسد:3]، أن هذا حكم عليه بأنه من أهل النار؛ ولهذا لم يسلم، وهذا من إعجاز القرآن، أخبر بأمر غيبي، وتحقق، فهنا لو كان عبد الرحمن بن أبي بكر هو المراد بهذه الآية لما دخل في الإسلام، ولا يقال مثل هذا في رجل من المسلمين فضلاً عن رجل من أصحاب النبي ﷺ، ولكن الناس قد يتحدثون في حال الغضب بما يكون خارجًا عن وجه الحق، والله المستعان.

وقوله: وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ هذا خرج مخرج الشفقة من الأبوين على الولد؛ فإن أعظم ما يشق عليهما هو: انحراف الولد عن الصراط المستقيم، فجيء بلفظ الاستغاثة هنا.

وقوله: مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ يعني: أحاديث الأولين وأباطيل الأولين التي سطروها في الكتب مما لا حقيقة له، والله المستعان.

وقوله: أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ يعني: وجب، أي: حقت كلمة العذاب والشقاء على هؤلاء أنهم أصحاب النار، وأنهم لا يؤمنون كما قال الله : وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [سورة السجدة:13]، وقال: لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ [سورة يس:7].

وقوله: أُولَئِكَ بعد قوله: وَالَّذِي قَالَ دليل على ما ذكرناه من أنه جنس يعم كل من كان كذلك، وقال الحسن وقتادة: هو الكافر الفاجر العاق لوالديه المكذب بالبعث.

وقوله -تبارك وتعالى: وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا أي: لكلٍّ عذابٌ بحسب عمله.

قوله: وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ يعني: مراتب عند الله يوم القيامة بأعمالهم، يعني: أهل الإيمان، والكفار، أصحاب الجنة، وأصحاب النار، هؤلاء لِكُلٍّ دَرَجَاتٌ، فهم بحسب أعمالهم يتفاوتون غاية التفاوت، أهل الإيمان يتفاوتون، وأهل الكفر يتفاوتون، فالجنة كما أنها درجات كذلك النار هي أيضًا دركات، ومثل هذا يدل على أن الدرجات تقال للدركات، فإن السفول في النار -أعاذنا الله وإياكم وإخواننا المسلمين منها- دركات، فعبر عنه هنا بالدرجات، فمراتب الانحطاط والانحدار والسفول يقال لها: درجات في الانحراف، درجات في الضلال، درجات في الشقاء والعذاب، فهم ليسوا على مرتبة واحدة، والله أخبر أن المنافقين في الدرك الأسفل من النار.

والتنوين في قوله: لِكُلٍّ تنوين عوض، أي: لكلٍّ من المؤمنين والكفار أو لكل من المذكورين درجات.

وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ أي: لا يظلمهم مثقال ذرة فما دونها، قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: درجات النار تذهب سفالا، ودرجات الجنة تذهب علوًّا.

وقوله : وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا أي: يقال لهم ذلك تقريعًا وتوبيخًا، وقد تورع أمير المؤمنين عمر بن الخطاب عن كثير من طيبات المآكل والمشارب، وتنزه عنها، ويقول: إني أخاف أن أكون كالذين قال الله لهم -وبّخهم وقرعهم: أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا، وقال أبو مجلز: ليفقدنّ أقوام حسنات كانت لهم في الدنيا فيقال لهم: أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا.

قوله -تبارك وتعالى: وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ، هنا الحافظ ابن كثير -رحمه الله- يقول: "يقال لهم: أذهبتم طيباتكم"، فلم يتكلم عن هذا المقطع.

وبعضهم يقول: أي: يقربون منها، فينظرون إليها، فيقال لهم عند ذلك، يعني: أن الذين كفروا هم الذين يعرضون على النار، ومعنى يعرضون: يقربون منها، فيرونها أمامهم، فيقال لهم عندها.

وبعضهم فسر وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ يعني: يعذبون، تقول: عرضت الذهب على النار يعني: أنك أحرقته فيها، أدخلته فيها، وهكذا في قولهم: عرضه على السيف.

وبعضهم يقول: الكلام فيه قلب، فقوله: وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ يعني: أن النار هي التي تعرض عليهم، والقلب أسلوب من أساليب العرب في كلامها ومخاطباتها، هذا أسلوب معروف يعرفه أهل البلاغة، وله شواهد يذكرونها من القرآن، ومن كلام العرب في شعرهم ونثرهم، وهذا القول مروي عن ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما، يقولون: مثل قول القائل: عرضتُ الناقة على الحوض، يقولون: الأصل عرضْتُ الحوض على الناقة، ويقولون هكذا أيضًا في قوله تعالى: وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا [سورة الكهف:100]، هذا مثل هذا الموضع، فبعضهم يقول: إن هذه الآية تكون مفسِّرة، فقوله: وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ لا تكون مقلوبةً إذا قيل: إن هذا الموضع الذي في سورة الأحقاف مقلوب، وهو قوله: وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ، ففي سورة الكهف قال: وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ فهي التي تعرض عليهم، فيكون ذلك من قبيل تفسير القرآن بالقرآن.

قوله: وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا يعني: يقال لهم ذلك، واختصر؛ لأن العرب تختصر من الكلام ثقة منها بفهم السامع، وهذا له أمثلة كثيرة.

أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ أي: يقال لهم: أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا، يقال لهم ذلك تقريعًا وتوبيخًا، وقرأ هذا الحرف ابن كثير -رحمه الله- بهمزتين مخففتين: أَأَذْهَبْتُمْ، ويكون على سبيل الاستفهام، والعرب -كما يقول بعض أصحاب معاني القرآن كالفراء والزجاج- توبخ بالاستفهام، وبغيره، فقوله: أَأَذْهَبْتُمْ تكون الهمزة الأولى همزة الاستفهام، أي: يوبخهم، وعلى القراءة الثانية: أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا بهمزة واحدة، فلا يكون ذلك من قبيل الاستفهام، وعلى كلا القراءتين يكون ذلك توبيخًا لهم.

قوله: أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا يوبخون بهذا.

ابن كثير-رحمه الله- نقل عمن قال من السلف: ليفقدنّ أقوام حسنات كانت لهم في الدنيا فيقال لهم: أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا، وقبله يقول: وقد تورع أمير المؤمنين عمر  عن كثير من طيبات المآكل والمشارب، يقول: إني أخاف أن أكون كالذين قال الله لهم: أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ.

هذه مسألة معروفة: هل الاستمتاع بالطيبات في الدنيا والتوسع في الملذات يكون على حساب النعيم الأخروي أو لا؟

هذه الآية في الكفار، فالكفار جاءت الآيات الكثيرة بأنهم يتمتعون، وأن الله يمتعهم قليلاً، ثم بعد ذلك يضطرهم إلى عذاب النار، لكن بالنسبة لأهل الإيمان: هل ما يتعاطونه من اللذات والطيبات يكون نقصًا في نعيم الآخرة؟ عمر -رضي الله تعالى عنه- كان يتحرز من التوسع في المباحات واللذات احتجاجًا بهذه الآية، والصحابة -رضي الله تعالى عنهم- نُقل عن بعضهم: أنه كان يتخوف أن تكون قد عجلت له حسناته في الدنيا، لما صاروا إلى حال من السعة، والغنى، بعدما قضى أصحابهم من الأولين ، كمصعب بن عمير، وحمزة، وأمثال هؤلاء ، ممن ماتوا في أول الهجرة، أو ماتوا قبل الهجرة وكانوا في حال من الشدة، ولم يروا تلك الفتوح وما أفاض الله على المسلمين من جراء ذلك، فكان بعض الصحابة يبكي، جاء هذا عن بعضهم كصهيب الرومي ، وغيره.

وهذا القول وإن قال به بعض السلف إلا أن الجمهور على خلافه -الجمهور من الصحابة فمن بعدهم، والنبي ﷺ يقول: حُبب إليّ من دنياكم: النساء والطيب[4]، وكان ﷺ يحب الحلو البارد[5]، فكان النبي ﷺ يأكل ما تيسر، والله يقول: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ [سورة الأعراف:32]، فهم كما يشاركهم فيها غيرهم من الكفار في الدنيا إلا أنها تكون خالصة لهم يوم القيامة.

فهذا الذي عليه الجمهور أن ذلك لا يكون نقصًا في نعيمهم في الآخرة، وفي حديث أنس عند مسلم: إن الله لا يظلم مؤمنًا حسنة يعطى بها في الدنيا، ويجزى بها في الآخرة، وأما الكافر فيطعم بحسناته ما عمل بها لله في الدنيا، حتى إذا أفضى إلى الآخرة لم تكن له حسنة يجزى بها، وفي لفظ: إن الكافر إذا عمل حسنة أطعم بها طعمة في الدنيا، وأما المؤمن فإن الله يدخر له حسناته في الآخرة، ويعقبه رزقًا في الدنيا على طاعته[6].

فهذا يدل على هذا المعنى: أن ذلك لا يكون نقصًا لنعيمهم في الآخرة، والشاطبي -رحمه الله- تكلم على هذا المعنى في الموافقات، وتكلم عليه أيضًا غيره، لكن ابن القيم -رحمه الله- له كلام من وجه آخر فيمن تعاطى اللذات المحرمة، هل يحرم في الجنة من هذا النوع من اللذات؟ الحديث دل على أن من شرب الخمر في الدنيا ثم مات ولم يتب فإنه لا يشرب من خمر الآخرة[7]، هذا في الخمر خاصة، لكن هل يقال ذلك في غير الخمر؟ يعني: مثلاً الذي يلبس الحرير من غير عذر في الدنيا، ما حكمه؟ الذي جاء فيه النص لا إشكال في ذلك، لكن ما لم يرد فيه نص كالذي يزني، ويموت وما تاب، هل يقال: إنه لا يكون له من جنس هذا النعيم، أعني: الوقاع في الجنة، فلا يتمتع بالحور العين، ونحو ذلك؟ ظاهر كلام ابن القيم -رحمه الله: أنه يحرم من النعيم الذي يكون من هذا القبيل، وهذا يحتاج إلى دليل، وهذه الأمور لا يجري فيها القياس.

وقوله : فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ، فجوزوا من جنس عملهم، فكما متعوا أنفسهم، واستكبروا عن اتباع الحق، وتعاطوا الفسق والمعاصي جازاهم الله -تبارك وتعالى- بعذاب الهون، وهو: الإهانة، والخزي، والآلام الموجعة، والحسرات المتتابعة، والمنازل في الدركات المفظعة، أجارنا الله من ذلك كله.

قوله هنا: فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ يعني: الهوان، بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ الباء هذه سببية، يعني: بسبب استكباركم، فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ، هل يوجد أحد يستكبر في الأرض بحق؟

الجواب: لا يوجد استكبار في الأرض بحق، فهذا كقوله -تبارك وتعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ [سورة آل عمران:21]، هل هناك أحد يقتل الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- بحق؟ لا يوجد.

وكقوله -تبارك وتعالى: وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ [سورة المؤمنون:117]، فهل هناك أحد يدعو مع الله إلهًا آخر له فيه برهان؟ لا، فمقتضى مفهوم المخالفة -وهو حجة عند الجمهور كما هو معلوم- أن من دعا غير الله ببرهان فلا حرج عليه، من قتل الأنبياء بحق فلا حرج عليه، أليس كذلك؟ هذا مقتضى مفهوم المخالفة؛ إلا أن مفهوم المخالفة لا يحتج به في نحو سبعة أو ثمانية مواضع.

من هذه المواضع: أن تكون الآية نزلت على وفاق الواقع، يعني: لا يوجد أحد يقتل نبيًّا بحق، لا يوجد أحد يدعو مع الله إلهًا آخر ببرهان، فلا تكون هذه الصفة مقيدة، فلا مفهوم لها، وإنما هي صفة كاشفة، تكشف عن حقيقة الأمر؛ لأنه لا يكون إلا كذلك أصلاً، كقوله تعالى: يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ [سورة البقرة:79] هل هناك أحد يكتب بغير يده؟

وقوله: يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ [سورة آل عمران:167]، وقوله: وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ [سورة الأنعام:38]، الطائر يطير بماذا؟ يطير بجناحيه، فهي صفة كاشفة، ومن ثَمَّ المخالفة لا مفهوم لها، فهنا حينما يقال لهؤلاء: بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ لا مفهوم للمخالفة؛ لأنه لا يوجد أحد يستكبر في الأرض بحق؛ لأن الاستكبار لا يصلح للمخلوق.

وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ۝ قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ۝ قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ ۝ فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ ۝ تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ [سورة الأحقاف:21-25].

يقول تعالى مسلياً لنبيه ﷺ في تكذيب من كذب من قومه: وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ، وهو هود -عليه الصلاة والسلام، بعثه الله إلى عاد الأولى، وكانوا يسكنون الأحقاف، جمع حِقْف وهو: الجبل من الرمل، قاله ابن زيد، وقال عكرمة: الأحقاف: الجبل والغار، وقال قتادة: ذُكر لنا أن عادًا كانوا حيًّا باليمن أهل رمل مشرفين على البحر بأرض يقال لها: الشِّحْر.

قوله -تبارك وتعالى: وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ، ابن كثير -رحمه الله- يقول: يقول تعالى مسليًا لنبيه ﷺ في تكذيب... على هذا المعنى الذي مشى عليه ابن كثير -رحمه الله- يكون المعنى: وَاذْكُرْ يعني: في نفسك، الله يذكّره بهذا؛ ليصبره؛ ليسليه؛ ليخفف عنه، فيذكر له من قصص الأنبياء ما يكون به سلوة، أي سار على هذا الطريق وسلكه سالكون قبلك من الأئمة الكبار في الهدى ممن يقتدى بهم، ولقوا من أقوامهم ما لقوا من التكذيب والأذى، فلست بواحد في سلوكه، ومن ثَمَّ فيكون ذلك بمعنى: وَاذْكُرْ أي: في نفسك.

ولكن يحتمل أيضًا أن يكون المراد: وَاذْكُرْ أي: لقومك؛ ليتعظوا ويعتبروا وينزجروا بما وقع لغيرهم، فالعاقل من وُعظ بغيره، والشقي من وعظ بنفسه، فهذه السورة مكية والنبي ﷺ لقي منهم من التكذيب ما لقي، وهم يعرفون خبر هؤلاء، وذلك في جزيرة العرب، فيذكرهم بذلك ويخوفهم؛ ليتعظوا، وهذا الذي اختاره ابن جرير -رحمه الله.

والآية تحتمل هذا وهذا، ويمكن أن يكون ذلك مرادًا بحيث إن الله يسليه بذلك ويذكره، وكذلك أيضًا يذكّر هؤلاء، فقد أخبر الله عن قصص هؤلاء المكذبين وغير المكذبين: لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ [سورة يوسف:111]، يعتبر بها أهل الإيمان من أولي الأبصار والبصائر، وكذلك أيضًا يكون في ذلك من تثبيت فؤاد النبي ﷺ: وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ [سورة هود:120]، فإذا نزل عليه الوحي، وذكر له من أحوال هؤلاء الكبار حصلت له سلوة، إذا كان الإنسان يقول لغيره: ما وقع لك قد وقع لفلان، ووقع لفلان، ووقع لفلان ممن يقتدى بهم ويتأسى بهم فإن مثل هذا لا شك أنه يخفف عنه، فكيف إذا كان الله -تبارك وتعالى- هو الذي يقول له هذا، وينزل عليه به جبريل ﷺ، ونزول الملك بحد ذاته فيه من التثبيت ما لا يخفى.

وقوله -تبارك وتعالى: وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ هنا لم يسمه، ولكنه جاء في مواضع أخرى من كتاب الله -تبارك وتعالى- مصرحًا به، كقوله تعالى: وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا [سورة الأعراف:65]، والأخوّة هنا المراد بها: الأخوة في النسب؛ لأنه كان من نفس القبيلة، والأخوة كما سبق في بعض المناسبات تارة تقال للأخوة في النسب، كما في هذا الموضع.

وتارة تقال للأخوة في الإيمان: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [سورة الحجرات:10]، وهذا هو الأكمل في إطلاقاتها، وتقال أيضًا للمتشاكلين في أمر من الأمور، المتشابهين فيها: إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ [سورة الإسراء:27].

وقد تقال أيضًا لمن اشتركوا في أمر، كسكنى بلد، أو نحو ذلك، وهو أحد الأقوال في قوله -تبارك وتعالى- في سورة الأحزاب: وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا [سورة الأحزاب:18]، بعضهم يقول: إنهم من نفس القبيلة، وبعضهم يقول: وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ يعني: من المنافقين، فهذه أخوة في الاعتقاد، وبعضهم يقول: باعتبار أنهم في بلد واحد، فصاروا بهذا إخوة، فيصح إطلاق ذلك عليهم.

وقوله: الأحقاف جمع حِقْف وهو: الجبل من الرمل، قاله ابن زيد، وقال عكرمة: الأحقاف: الجبل والغار، وقال قتادة: ذُكر لنا أن عادًا كانوا حيًّا باليمن أهل رمل مشرفين على البحر بأرض يقال لها: الشِّحْر.

الأحقاف: الذي عليه الجمهور أنها التي بأرض اليمن، والمقصود بها: الكثبان من الرمل، مثل الجبال من الرمل، وحال الربع الخالي معروف، فهي أمثال الجبال، ولهذا يقول الخليل: إن الأحقاف هي جمع حقف، وهو: الرمل العظيم المستطيل المعوج، وهذه معروفة، فهي أمثال الجبال، والطريق الذي يكون بينها يكون أشبه ما يكون بالطرق التي تكون بين الجبال تمامًا، وهي تلزم أماكنها عادة، يعني: هذه المنعطفات التي فيها ونحو ذلك باقية ثابتة، فلو جاء أحد وغير فيها ونحو ذلك عادت ورجعت، وهذا يدل على أنها لم تتغير من زمن هود ﷺ.

يقول كثير من المؤرخين: إن عادًا من العرب البائدة، فهم كانوا في القدم، ومع ذلك هذه التضاريس كما هي، مع أن أسرع شيء في التحول والانتقال ببادي الرأي هو الرمال، هذه التي يسمونها الرمال المتحركة، فإذا كانت في هذا الموضع من ذلك الحين فهذا يدل على عدم التغير، والمدة التي كانت بين هود ﷺ وبين نوح ليست ببعيدة نسبيًّا إذا ما قرن هذا بالنبي ﷺ، يعني: هو أقرب إلى زمان نوح منه إلى عصر النبي ﷺ، فإذا كانت التضاريس لم تتحول ولم تتغير فهذا يدل على أن ما يذكره أهل الجيولوجيا وعلوم الأرض وما إلى ذلك أن هذا الكلام فيه نظر من أنها تحولت وتغيرت وإلى آخره، الله أعلم كيف يكون ذلك، ومتى يكون، لكن ليس هذا بهذه السهولة، إذا كانت كثبان الرمل باقية من ذلك الحين إلى اليوم، يعني: لم يندفن مثلاً اليمن أو حضرموت بهذه الكثبان، وزحفت عليه إلى البحر، هي باقية من ذلك الحين، وهذا موضعها، فلم تنتقل مع أنه ليس فيها نبت يذكر، وما يحجزها من التحول.

ابن زيد روايته الأخرى التي هي أكثر وضوحًا يقول: هي رمال مبسوطة مستطيلة، كهيئة الجبال، ولم تبلغ أن تكون جبالاً، وبنحو هذا قال ابن جرير، وعن عطاء: رمال بلاد الشِّحْر، والشحر معروفة إلى اليوم بحضرموت، لكن ما يذكر من أن قبر هود ﷺ موجود هناك، ويعظم، ويعبد من دون الله هذا لا يثبت، كما قال شيخ الإسلام -رحمه الله: لا يثبت شيء من قبور الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- مطلقًا، لا في الشام، ولا في غيرها، إلا قبر النبي ﷺ، ولهذا يوجد مكان في بلاد الشام يقال أيضًا: إنه قبر لهود ﷺ، وهود ﷺ لم يذهب إلى الشام، مع أنه وجد من المفسرين والمؤرخين من قال: إن الأحقاف ثمّة في بلاد الشام، ومقاتل يقول: هي في اليمن، في حضرموت، وهذا كله يرجع إلى معنى واحد.

وفي كلام العرب أسماء يطلقونها على مثل هذه الكثبان الرملية، لكل منها اسم بحسبه، الطويل الممتد له اسم، المستعلي الذي كأنه قمة جبل له اسم، الذي فيه انبساط له اسم، المطمئن في الأرض له اسم، فهذا يدل على سعة لغة العرب.

قوله: إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ أي: وقد مضت الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- والرسل مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ.

قال ابن ماجه: باب إذا دعا فليبدأ بنفسه، ثم روى عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله ﷺ: يرحمنا الله وأخا عاد[8].

وقوله تعالى: وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يعني: وقد أرسل الله تعالى إلى مْن حوْل بلادهم من القرى مرسلين ومنذرين، كقوله : فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا [سورة البقرة:66]، وكقوله -جل وعلا: فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ ۝ إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ [سورة فصلت:13، 14].

قوله -تبارك وتعالى: وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يحتمل معنيين:

الأول: ما ذكره الحافظ ابن كثير -رحمه الله- مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يعني: من النواحي، فأرسل الله لهؤلاء الأقوام المجاورين رسلاً يدعونهم إلى الله، وإلى توحيده.

والمعنى الثاني: وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يعني: قبله وبعده، فهو واحد في سلسلة من هؤلاء الأنبياء الكرام، والرسل العظام -عليهم الصلاة والسلام، وهذا الذي مشى عليه الفراء -رحمه الله، ويدل عليه قراءة ابن مسعود ، وهي قراءة غير متواترة: {من بين يديه ومن بعده}، وقلنا: إن القراءة الأحادية تفسر القراءة المتواترة، فقوله: مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يعني: من بين يديه ومن بعده، يعني: في الزمن، وهذا الذي اختاره كبير المفسرين ابن جرير -رحمه الله، وإذا كانت الآية تحتمل المعنيين، ولم يوجد ما يمنع من حملها عليهما فإنها تُحمل، فلو قال قائل: إن ذلك جميعًا حاصل فالله أرسل لهم الرسل من حولهم، وكذلك سبقه رسل، وجاء بعده رسل، فهذا كله صحيح، والله تعالى أعلم.

إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ أي: قال لهم هود ذلك، فأجابه قومه قائلين: أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا أي: لتصدنا عن آلهتنا.

يعني: لتصدنا، لتصرفنا، لتُزِيلنا، لتمنعنا مثلاً، كل هذه العبارات ترجع إلى شيء واحد، هكذا عبارات السلف -رضي الله تعالى عنهم- في قوله تعالى: لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا.

فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ، استعجلوا عذاب الله وعقوبته استبعادًا منهم وقوعه، كقوله -جلت عظمته: يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا [سورة الشورى:18].

قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ أي: الله أعلم بكم، إن كنتم مستحقين لتعجيل العذاب فسيفعل ذلك بكم، وأما أنا فمن شأني أني أبلغكم ما أرسلت به.

كذلك أيضًا في قوله: إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ يعني: متى يأتيكم العذاب، هل يعجل لكم في الدنيا، أو يؤخر، ومتى وقته، كل ذلك عند الله -تبارك وتعالى.

وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ أي: لا تعقلون، ولا تفهمون.

قال الله تعالى: فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ أي: لما رأوا العذاب مستقبلهم اعتقدوا أنه عارض ممطر، ففرحوا واستبشروا به، وقد كانوا مُمْحلين محتاجين إلى المطر.

قوله: فَلَمَّا رَأَوْهُ، الضمير هنا يرجع إلى ماذا؟

بعضهم يقول: يعود إلى مَا في قوله: فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا، وهو العذاب، فَلَمَّا رَأَوْهُ يعني: العذاب الذي وعدهم به، فيكون الضمير عائدًا على مذكور قبله، يرجع إلى مَا.

وبعضهم يقول كالزجاج والمبرد: إنه يعود إلى غير مذكور يفهم من السياق، ويدل عليه قوله: عَارِضًا، في قوله: فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ وهو: السحاب.

فعلى الأول: أنه العذاب، وعلى الثاني: فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا، هم ماذا رأوا؟ هم رأوا السحاب الذي في ضمنه العذاب، أو الذي حقيقته العذاب، يعني: هم كانوا يظنون أن الذي يرونه من قبيل السحاب، والواقع أنه عذاب، والسحاب يقال له: عارض؛ لأنه يعرض في الأفق، وبعض أهل العلم كابن جرير يقول: إن السحاب في العشيّ يكون في السماء أو في الأفق، ثم بعد ذلك من الغد يزحف بعضه إلى بعض، فيجتمع، فيقال له: عارض، فظنوا أن هذا سحاب يمطرون به، على كل حال: السحاب يقال له هذا؛ لأنه يعترض في الأفق.

قال الله تعالى: بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ أي: هو العذاب الذي قلتم: فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ.

قوله: بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ، من الذي قال هذا؟ هل هو الله -تبارك وتعالى، أو أنه هود ﷺ؟ هذا يحتمل، يعني: لما قالوا: هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا أجابهم فقال: بل هذا هو العذاب الذي استعجلتم به، وهذا الذي اختاره ابن جرير -رحمه الله.

تُدَمِّرُ أي: تخرب، كُلَّ شَيْءٍ من بلادهم مما من شأنه الخراب.

يعني: هذا كما سبق في عدد من المناسبات "كل" أقوى صيغة من صيغ العموم، "كل" و"جميع"، فقوله: تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا، قال مع ذلك: فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ، فمساكنهم ما تدمرت، والأصوليون يقولون: هكذا الجبال والسموات والأرض ما دمرت، فهذا الذي يسميه الشاطبي -رحمه الله: العموم الاستعمالي، وقد سبق الكلام على هذا، والمراد: أن العرب قد تعبر بالعموم، ويَفهم مَن خاطبته أن المراد في كل موضع بحسب ما يصلح له، وذكرنا لكم أمثلة في قوله -تبارك وتعالى- عن ملكة سبأ: وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ [سورة النمل:23]، وقلنا: ما أوتيت ملك سليمان مثلاً، وإنما أوتيت من كل شيء مما يصلح لملكها ويقيمه، وكذلك في قوله عن مكة الحرم: يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ [سورة القصص:57]، وتوجد ثمرات في الدنيا لا تجبى إليه، وهذا معروف، وما اعترض أحد من هؤلاء العرب الأقحاح على ذلك.

ومن ثَمَّ فإن الأصوليين قالوا: إن العقل يخصص، والحس يخصص، قالوا هنا: السموات والأرض والجبال ما دمرت، خصصه الحس؛ لأننا نشاهدها، يقال: هذا فيه نظر؛ لأن الأصوليين يطلقون أمثال هذا ويقصدون به توهين النصوص، باعتبار أن الذي لم يرد فيه مخصص لفظي من العمومات خصصته مخصصات أخرى، والعموم عندهم إذا دخله التخصيص أضعفه، ومن ثَمَّ يقولون: فإن هذه النصوص من الوحي الكتاب والسنة ما ثبت منها بالآحاد فهو ظني، وما ثبت منها بالتواتر فهو قطعي الثبوت ظني الدلالة، باعتبارات معينة، منها: أن أكثرها عمومات، ويقولون: إن العام الباقي على عمومه نادر، وهذا كلام كله غير صحيح، ولهذا زهدوا في النصوص والوحي، وصاروا يشتغلون بالمقاييس العقلية، ومقاييسهم العقلية هذه في الواقع لا تفيد علمًا ولا يقينًا، بل أورثتهم الحيرة والشك، وكثر بينهم التفرق والاختلاف، فلو كانت تفيد اليقين لما اختلفوا فيها هذا الاختلاف، ولأورثتهم اليقين.

بِأَمْرِ رَبِّهَا أي: بإذن الله لها في ذلك، كقوله : مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ  [سورة الذاريات:42] أي: كالشيء البالي؛ ولهذا قال : فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ أي: قد بادوا كلهم عن آخرهم، ولم تبق لهم باقية، كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ أي: هذا حكمنا فيمن كذب رسلنا، وخالف أمرنا.

يعني: بعدما ذكر خبر هؤلاء جاء بالحكم العام؛ ليدخل فيه كل من كان بهذه الصفة، فذلك لا يختص بهم، فالله -تبارك وتعالى- يذكر ذلك عظة وعبرة للمكذبين، والله المستعان.

انظر إلى هؤلاء العتاة الذين أعطاهم الله قوة، وتمكينًا، وبسطة في الأجسام، كما قال الله: وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً [سورة الأعراف:69]، أهلكوا بالريح التي هي هذا الهواء اللطيف حينما يشدد فيدمر كل شيء، وقوم نوح ﷺ أهلكوا بالماء الذي هو ألطف الأشياء، وهكذا فرعون، وهكذا الإهلاك بالصيحة، يعني: بهذه الأمور: الماء، والهواء، والصوت الشديد المزعج المرتفع المهلك، صوت ويموت الخلق، بهذا الماء يغرقون، أو بهذا الهواء، فما أضعف الخلق وأهونهم على الله -تبارك وتعالى- إذا عصوا أمره!.

وروى الإمام أحمد: عن عائشة -رضي الله عنها- أنها قالت: ما رأيت رسول الله ﷺ مستجمعًا ضاحكًا حتى أرى منه لهواته، إنما كان يبتسم، وقَالَتْ: وَكَانَ رسول الله ﷺ إِذَا رَأَى غَيْمًا -أَوْ رِيحًا- عُرِفَ ذَلِكَ فِي وَجْهِهِ، قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إن النَّاس إِذَا رَأَوُا الْغَيْمَ فَرِحُوا رَجَاءَ أَنْ يَكُونَ فِيهِ الْمَطَرُ، وَأَرَاكَ إِذَا رَأَيْتَهُ عَرَفْتُ فِي وَجْهِكَ الْكَرَاهِيَةَ؟ فَقَالَ رسول الله ﷺ: يَا عَائِشَةُ، مَا يُؤَمِّنُنِي أَنْ يَكُونَ فِيهِ عَذَابٌ، قَدْ عُذِّبَ قَوْمٌ بِالرِّيحِ، وَقَدْ رَأَى قَوْمٌ الْعَذَابَ وَقَالُوا: هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا، وَأَخْرَجَاهُ[9].

روى الإمام أَحْمَدُ: عَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها- قالت: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ كَانَ إِذَا رَأَى نَاشِئًا فِي أُفُقٍ مِنْ آفَاقِ السَّمَاءِ تَرَكَ عَمَلَهُ وَإِنْ كَانَ فِي صَلَاتِهِ، ثُمَّ يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا فِيهِ، فَإِنْ كَشَفَهُ اللَّهُ حَمِدَ اللَّهَ -تعالى، وَإِنْ أَمْطَرَ قَالَ: اللَّهُمَّ صَيِّبًا نَافِعًا [10].

وقَالَ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ: عَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها- قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إِذَا عَصَفَتِ الرِّيحُ قَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ خَيْرَهَا، وَخَيْرَ مَا فِيهَا، وَخَيْرَ مَا أُرْسِلَتْ بِهِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّهَا، وَشَرِّ مَا فِيهَا، وَشَرِّ مَا أُرْسِلَتْ بِهِ، قَالَتْ: وَإِذَا تَخَيَّلت السَّمَاءُ تَغَيَّرَ لَوْنُهُ، وَخَرَجَ وَدَخَلَ، وَأَقْبَلَ وَأَدْبَرَ، فَإِذَا أَمَطَرَتْ سُرِّيَ عَنْهُ، فَعَرَفَتْ ذَلِكَ عَائِشَةُ -رضي الله عنها، فَسَأَلَتْهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: لَعَلَّهُ يَا عَائِشَةُ كَمَا قَالَ قَوْمُ عَادٍ: فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا[11].

وَقَدْ ذَكَرْنَا قِصَّةَ هَلَاكِ قوم عَادٍ فِي سُورَتَيِ "الْأَعْرَافِ" و"هُودٍ" بما أغنى عن إعادته هنا، ولله تعالى الحمد والمنة.

يعني: إذا كان النبي ﷺ يحصل له مثل هذا الخوف -وهو أتقى الأمة لله- إذا رأى السحاب فكيف إذا حصل كسوف، أو خسوف، أو حصلت ريح عاتية، أو نحو ذلك من الأمور التي توجب الخوف؟ يعني: السحاب إذا رآه الناس فرحوا، لكن كيف تكون الحال إذا رأى أمرًا مما يخاف منه الناس؟ بهذا يعرف الإنسان قدر الغفلة التي مُني بها.

وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ۝ وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ۝ فَلَوْلَا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ [سورة الأحقاف:26-28].

يَقُولُ تَعَالَى: وَلَقَدْ مَكَّنَّا الْأُمَمَ السَّالِفَةَ فِي الدُّنْيَا مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ، وَأَعْطَيْنَاهُمْ مِنْهَا مَا لَمْ نُعْطِكُمْ مِثْلَهُ، وَلَا قَرِيبًا مِنْهُ.

هذا التفسير الذي ذكره الحافظ ابن كثير -رحمه الله- باعتبار أن: إِنْ نافية، ومَا موصولة في قوله -تبارك وتعالى: وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ يعني: مكناهم فيما لم نمكن لكم فيه، مكناهم في الذي ما مكناكم فيه من المال، وطول الأعمار، وقوة الأبدان، إلى غير ذلك من أسباب القوة والتمكين، وهذا الذي عليه عامة المفسرين، واختاره ابن جرير -رحمه الله، وقال به من أصحاب المعاني المبرد، ومن المعاصرين أيضًا الشيخ محمد الأمين الشنقيطي -رحمه الله، فقد رجح هذا القول.

وبعضهم كابن قتيبة يقول: إن إِنْ زائدة، وهذا صحيح في لغة العرب، ولكن الأول أرجح، والأصل عدم الزيادة، وسيتغير المعنى تمامًا إذا قلت: إن إنْ هذه صلة للتوكيد، فيكون المعنى: ولقد مكناهم فيما مكناكم فيه، يعني: مكناهم في هذا التمكين الذي مكناكم، أي: تمكينًا كالذي مكناكم فيه، فأهلكناهم، يعني: ابتليناهم بهذا التمكين، فكفروا، فأهلكهم الله ، ولكن نصوص القرآن الكثيرة تدل على أن الأولين كانوا أشد قوة وآثارًا في الأرض، فهي تدل على المعنى الأول، ولا تدل على هذا المعنى، وإن كان ذلك مما يصح وجهه من جهة العربية، أي القول بأنها زائدة، لكن المعنى في الآية الراجح أنه الأول.

وبعضهم يقول: إن إِنْ هذه شرطية، وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ أين الجواب إذا كانت شرطية؟ يقولون: مقدر محذوف، يعني: فيما إن مكناكم فيه طغيتم وكفرتم وتجبرتم، وهذا أضعف هذه الأقوال الثلاثة، والله أعلم.

وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصَارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ أَيْ: وَأَحَاطَ بِهِمُ الْعَذَابُ، وَالنَّكَالُ الَّذِي كَانُوا يُكَذِّبُونَ بِهِ، وَيَسْتَبْعِدُونَ وُقُوعَهُ، أَيْ: فَاحْذَرُوا أَيُّهَا الْمُخَاطَبُونَ أَنْ تَكُونُوا مِثْلَهُمْ، فَيُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَهُمْ مِنَ الْعَذَابِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.

وَقَوْلُهُ: وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى يَعْنِي: أَهْلَ مَكَّةَ، وقَدْ أَهْلَكَ اللَّهُ الْأُمَمَ الْمُكَذِّبَةَ بِالرُّسُلِ مِمَّا حَوْلَهَا كَعَادٍ وَكَانُوا بِالْأَحْقَافِ بِحَضْرَمَوْتَ عِنْدَ الْيَمَنِ، وَثَمُودَ وَكَانَتْ مَنَازِلُهُمْ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الشَّامِ، وَكَذَلِكَ سَبَأٌ وَهُمْ أَهْلُ الْيَمَنِ، وَمَدْيَنُ وَكَانَتْ فِي طَرِيقِهِمْ وَمَمَرِّهِمْ إِلَى غَزَّةَ، وَكَذَلِكَ بُحَيْرَةُ قَوْمِ لُوطٍ كَانُوا يَمُرُّونَ بِهَا أَيْضًا.

وَقَوْلُهُ: وَصَرَّفْنَا الآيَاتِ أَيْ: بَيَّنَّاهَا وَوَضَّحْنَاهَا، لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ۝ فَلَوْلا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَة أَيْ: فَهَلَّا نَصَرُوهُمْ عِنْدَ احْتِيَاجِهِمْ إِلَيْهِمْ.

قوله: فَلَوْلا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَة الفعل: "اتخذ" يطلب مفعولين، أين المفعول الأول؟ وأين المفعول الثاني؟ هل المفعول الأول "قربانًا"، والثاني "آلهة"؟ هذا قال به بعض المفسرين كابن عطية، وأبي حيان، مع أن أبا حيان -كما هو معلوم- قد انتفع انتفاعًا كبيرًا بتفسير ابن عطية إلا أنه كثير المخالفة والمناقشة له، لكنه هنا وافقه في هذا الموضع.

وبعضهم يقول: إن المفعول الأول لـ"اتخذوا" هو: ضمير راجع إلى الموصول، يقول: الاسم الموصول في قوله: فَلَوْلا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا فالضمير يرجع إلى الذين، فيكون هذا هو المفعول الأول، والمفعول الثاني "آلهة"، و"قربانًا" حال، أي: اتخذوها قربانًا، متقربين بها إلى الله، والقربان: كل ما يتقرب به من نسيكة وغير ذلك، فهؤلاء عبدوا هذه المعبودات طلبًا للزلفى والتقرب إلى الله -تبارك وتعالى، لتشفع لهم.

بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ أَيْ: بَلْ ذَهَبُوا عَنْهُمْ أَحْوَجَ مَا كَانُوا إِلَيْهِمْ، وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ أَيْ: كَذِبُهُمْ، وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ أَيْ: وَافْتِرَاؤُهُمْ فِي اتِّخَاذِهِمْ إِيَّاهُمْ آلِهَةً، وَقَدْ خَابُوا وَخَسِرُوا في عبادتهم لها، واعتمادهم عليها.

قوله: ضَلُّوا عَنْهُمْ أي: ذهبوا عنهم، غابوا عن نصرهم، لم ينفعوهم، لم يشفعوا لهم، وهذا الذي دل عليه القرآن في مواضع كثيرة، بل هذه الآلهة تتبرأ منهم.

وبعضهم يقول: إن الضمير في قوله: بَلْ ضَلُّوا راجع إلى الكفار، يعني: أنهم في ذلك اليوم يتنصلون ويتبرءون من الأصنام، ولا يلتفتون إليها؛ لأنهم قد عرفوا بطلان ما ادعوا فيها من الإلهية، والله يذكر هذا في القرآن، ويذكر أيضًا تبرؤ الأتباع من المتبوعين، والأول هو الذي اختاره ابن جرير، وهو المتبادر: بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ يعني: ضلت هذه المعبودات عن عابديها، ذهبت، وتلاشت، واضمحلت، فلم تنفعهم بنافعة.

قوله: وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ أي: كذبهم، يعني: بزعمهم أنها آلهة، وأنها تقربهم إلى الله، فلم يحصل شيء من ذلك.

قوله: وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ أي: وافتراؤهم في اتخاذهم إياها آلهة، فقد خابوا وخسروا في عبادتهم لها، واعتمادهم عليها.

  1. أخرجه البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ [سورة الأحقاف:17]، رقم: (4827).
  2. أخرجه النسائي في الكبرى، كتاب التفسير، سورة الأحقاف، قوله: وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا، رقم: (11427)، قال الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة وشيء من فقهها وفوائدها (7/ 722): إسناده صحيح.
  3. أخرجه مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب من لعنه النبي ﷺ، أو سبه، أو دعا عليه وليس هو أهلا لذلك كان له زكاة وأجرًا ورحمة، رقم: (2601)، ولفظه: عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: اللهم إنما أنا بشر، فأيما رجل من المسلمين سببته، أو لعنته، أو جلدته فاجعلها له زكاة ورحمة.
  4. أخرجه أحمد، رقم: (12293)، والنسائي، كتاب عشرة النساء، باب حب النساء، رقم: (3939)، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير وزياداته، رقم: (3124).
  5. أخرجه أحمد، رقم: (24100)، والترمذي، أبواب الأشربة عن رسول الله ﷺ، باب ما جاء أيّ الشراب كان أحب إلى رسول الله ﷺ؟ رقم: (1895)، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير وزياداته، رقم: (4627).
  6. ([6])
  7. أخرجه البخاري، كتاب الأشربة، باب قول الله تعالى: إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون [سورة المائدة: 90]، رقم: (5575)، ومسلم، كتاب الأشربة، باب بيان أن كل مسكر خمر وأن كل خمر حرام، رقم: (2003).
  8. أخرجه ابن ماجه، أبواب الدعاء، باب: إذا دعا أحدكم فليبدأ بنفسه، رقم: (3852)، وضعفه الألباني في سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة وأثرها السيئ في الأمة (10/ 377)، رقم: (4829).
  9. أخرجه أحمد، رقم: (24369)، والبخاري، كتاب تفسير القرآن، باب قوله: فلما رأوه عارضا مستقبل أوديتهم قالوا هذا عارض ممطرنا بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم [سورة الأحقاف: 24]، رقم: (4829)، ومسلم، كتاب صلاة الاستسقاء، باب التعوذ عند رؤية الريح والغيم، والفرح بالمطر، رقم: (899).
  10. أخرجه أحمد، رقم: (25570)، وأبو داود، أبواب النوم، باب ما يقول إذا هاجت الريحُ، رقم: (5099)، وقال محققو المسند: "إسناده صحيح، رجاله ثقات رجال الصحيح"، وصححه الألباني في صحيح أبي داود.
  11. أخرجه مسلم، كتاب صلاة الاستسقاء، باب التعوذ عند رؤية الريح والغيم، والفرح بالمطر، رقم: (899).

مواد ذات صلة