الجمعة 27 / جمادى الأولى / 1446 - 29 / نوفمبر 2024
[4] من قوله تعالى: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِّنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ} الآية:29 إلى آخر السورة
تاريخ النشر: ١٦ / صفر / ١٤٣٥
التحميل: 5247
مرات الإستماع: 3180

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فيقول الله : وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ ۝ قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ ۝ يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ۝ وَمَنْ لا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [سورة الأحقاف:29- 32].

يقول: روى الإمام أحمد، عن الزبير: "وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ، قال: بنخلة، ورسول الله ﷺ يصلي العشاء الآخرة، كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا  [سورة الجن:19]، قال سفيان: ألْبَدَ بعضهم على بعض، كاللبد بعضه على بعض" تفرد به أحمد[1].

يقول: وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ لما بيَّن الله -تبارك وتعالى- أن في الإنس من آمن، ومنهم من كفر بيَّن أن الجن كذلك، هذا وجه من الارتباط بين الآيات وما قبلها، وبعضهم كابن جرير يذكر أن ذلك على سبيل التقريع لكفار قريش، لما كفروا، وأعرضوا، فقرعهم الله بذلك، فذكر لهم خبر الجن، وكيف كانت استجابتهم.

فقوله: وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ، صَرَفْنَا يعني: وجهنا، وبعثنا إليك، نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ النفر: دون العشرة، يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ.

قال: بنخلة.

الموضع المعروف قرب مكة، وهو: وادي نخلة.

قال: ورسول الله ﷺ يصلي العشاء.

يعني: النبي ﷺ كان في طريقه إلى عكاظ، إلى الطائف، فلما كان بوادي نخلة يصلي بأصحابه اجتمع الجن واستمعوا لقراءته، وذلك كما في السياق الآخر الذي أورده ابن كثير في الرواية التي عند الإمام أحمد وغيره، قال:

وروى الإمام أحمد، والإمام الشهير الحافظ أبو بكرالبيهقي في كتابه دلائل النبوة: عن ابن عباس-رضي الله عنهما- قال: ما قرأ رسول الله ﷺ على الجن، ولا رآهم، انطلق رسول الله ﷺ في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ، وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء، وأرسلت عليهم الشهب، فرجعت الشياطين إلى قومهم، فقالوا: ما لكم؟ فقالوا: حيل بيننا وبين خبر السماء، وأرسلت علينا الشهب، قالوا: ما حال بينكم وبين خبر السماء إلا شيء حدث، فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها، وانظروا ما هذا الذي حال بينكم وبين خبر السماء، فانطلقوا يضربون مشارق الأرض ومغاربها يبتغون ما هذا الذي حال بينهم وبين خبر السماء، فانصرف أولئك النفر الذين توجهوا نحو تهامة إلى رسول الله ﷺ، وهو بنخلة، عامدًا إلى سوق عكاظ، وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر.

لاحظ هناك قال: صلاة العشاء 

فلما سمعوا القرآن استمعوا له، فقالوا: هذا -والله- الذي حال بينكم وبين خبر السماء، فهنالك حين رجعوا إلى قومهم، قالوا: يا قومنا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا ۝ يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا [سورة الجن:1، 2]...".

يعني: انظر: هذا في سورة الجن، وعلى هذه الرواية يكون ذلك جميعًا في واقعة، يعني: أن ما في سورة الأحقاف وما في سورة الجن أن ذلك في واقعة واحدة، كما يقول الشيخ محمد الأمين الشنقيطي -رحمه الله: إن النبي ﷺ لم يعلم بهم، فالله صرفهم إليه؛ ليستمعوا القرآن: وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ، فلم يشعر بمجيئهم، ولا باستماعهم حتى أوحى الله إليه: قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ، فذاك إعلام له باستماعهم، فيكون ما في سورة الأحقاف وما في سورة الجن كل ذلك في واقعة واحدة، هذا على قول بعض أهل العلم، وهو الذي رجحه الشيخ محمد الأمين الشنقيطي -رحمه الله، وهو ظاهر رواية ابن عباس -رضي الله عنهما.

قال: "وأنزل الله على نبيه ﷺ: قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ، وإنما أوحي إليه قول الجن...".

يعني: هناك أخبره: وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ، وفي سورة الجن أوحى إليه بما حصل من استماعهم: قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا، يعني: أنه لم يسمعهم، ولم يكن ذلك في واقعتين.

قال: "رواه البخاري بنحوه، وأخرجه مسلم، ورواه الترمذي، والنسائي في التفسير"[2].

قال ابن كثير: "وعن عبد الله بن مسعود قال: هبطوا على النبي ﷺ وهو يقرأ القرآن ببطن نخلة، فلما سمعوه قالوا: أنصتوا، قال: صه...".

يعني: اسم فعل بمعنى: اسكت.

قال: "وكانوا تسعة...".

ونحن عرفنا أن النفر ما دون العشرة.

قال: "أحدهم زوبعة...".

يعني: أن اسمه زوبعة.

قال: "فأنزل الله : وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ، إلى قوله: ضَلَالٍ مُبِينٍ[3].

فهذا مع الأول من رواية ابن عباس -رضي الله عنهما- يقتضي أن رسول الله ﷺ لم يشعر بحضورهم في هذه المرة، وإنما استمعوا قراءته، ثم رجعوا إلى قومهم، ثم بعد ذلك وفدوا إليه أرسالاً، قومًا بعد قوم، وفوجًا بعد فوج.

يعني: من أهل العلم من يرى أن الجن وفدوا على النبي ﷺ في غير ما مرة، فما وقع في سورة الأحقاف هذه إحدى المرات، وما وقع في سورة الجن في مرة أخرى، ولربما يفهم ذلك من بعض الروايات.

فالحاصل: أن أهل العلم منهم من يرى أن ذلك كان في واقعة واحدة، أي: لم يشعر بهم، وأنه أعلمه الله بذلك، كما في سورة الجن، وبعض أهل العلم يرى أن ذلك قد تكرر وتعدد، ولعله يأتي مزيد إيضاح لذلك -إن شاء الله.

قوله -تبارك وتعالى: وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ، حضروا ماذا؟ يحتمل أن يكون: حضروا القرآن، وهذا هو الأقرب؛ لأن الضمير يرجع إلى أقرب مذكور، قال تعالى: يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ أي: حضروا القرآن.

وبعضهم يقول: إن ذلك يرجع إلى النبي ﷺ فَلَمَّا حَضَرُوهُ أي: حضروا النبي ﷺ.

على كل حال: الأمر مقارب، يعني: لا إشكال فيه -إن شاء الله، فمثل هذا لا يحتاج إلى ترجيح؛ لأن النبي ﷺ كان يقرأ القرآن، ولهذا فإن ابن جرير -رحمه الله- عبر عن هذا المعنى بقوله: فلما حضروا القرآن ورسولُ الله ﷺ يتلوه، فحضروه: حضروا النبي ﷺ وهو يتلو، أو حضروا القرآن، لكن القرآن كيف يستمعونه؟ إنما ذلك بحضورهم إلى النبي ﷺ، وسماع ما يقرأ.

فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا وعرفنا أن الإنصات هو: الاستماع وزيادة، بمعنى: أنه يستمع ولا يشتغل بشيء آخر.

فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ، فَلَمَّا قُضِيَ يعني: فرغ من تلاوته، وقد قرأ جماعة من السلف: فَلَمَّا قَضَى لكنها قراءة غير متواترة، وعلى هذه القراءة: من الذي قَضَى؟ هو النبي ﷺ، فعلى هذه القراءة يكون قوله: فَلَمَّا حَضَرُوهُ يعني: النبي ﷺ، قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قَضَى، يعني: قراءته، وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ، فهذا ظاهر على هذه القراءة، لكنها غير متواترة، وعلى قراءة: قُضِيَ باعتبار أن الضمير يرجع إلى أقرب مذكور، أي: قُضي القرآن، أي: قُضيت قراءته التي كان يتلوها ﷺ، وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ.

وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ، يؤخذ من هذه الآيات: أن الجن مكلفون كالإنس، وإن كانوا يختلفون في بعض التفاصيل؛ لاختلاف طبائعهم وخلقهم، لكن في أصل التكليف هم كالإنس، وهم مخاطبون بهذه الشريعة، مأمورون باتباعها، وطاعة الله، وطاعة رسوله ﷺ.

وقوله تعالى: وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ أي: رجعوا إلى قومهم فأنذروهم ما سمعوه من رسول الله ﷺ، كقوله -جل وعلا: لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ [سورة التوبة:122]، وقد استدل بهذه الآية على أنه في الجن نذر، وليس فيهم رسل، ولا شك أن الجن لم يبعث الله منهم رسولا؛ لقوله تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى [سورة يوسف:109]، وقال : وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ [سورة الفرقان:20]، وقال عن إبراهيم الخليل -عليه الصلاة والسلام: وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ [سورة العنكبوت:27]، فكل نبي بعثه الله -تعالى- بعد إبراهيم فمن ذريته وسلالته.

فأما قوله -تبارك وتعالى- في الأنعام: يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ [سورة الأنعام:130] فالمراد هنا: مجموع الجنسين، فيصدق على أحدهما، وهو الإنس، كقوله: يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ [سورة الرحمن:22] أي: أحدهما.

هذه الآيات التي أوردها الحافظ ابن كثير -رحمه الله- هي حاصل ما يذكره أهل العلم في هذه المسألة، يعني: هل الجن منهم رسل أو ليس منهم رسل؟ الجمهور أو عامة أهل العلم يقولون: منهم نذر، والمسألة ليس فيها دليل صريح، لكن يؤخذ من ظواهر هذه الأدلة.

منها: قوله -تبارك وتعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى [سورة يوسف:109]، نحن عرفنا أن الرجال يقال للجن، ويقال للإنس، كما قال تعالى: وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ [سورة الجن:6]، فالجن يقال لهم: رجال، ولكن هنا قال: مِنْ أَهْلِ الْقُرَى، فدل على أنهم من الإنس، هذه الآية يؤخذ منها أمران:

الأول: أن الرسل -عليهم الصلاة والسلام- كانوا من الإنس، ولم يكونوا من الجن.

الأمر الثاني: أنهم كانوا من أهل القرى، يعني: الحواضر، ولم يكن أحد منهم من البادية.

ومنها: قوله: وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ، الجن يأكلون الطعام، لكن قوله: وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ هذا يدل على أنهم من الإنس، هذا وجه الاستدلال بهذه الآيات.

وكذلك في قوله: وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ يعني: إبراهيم ﷺ، ولا شك أن ذريته جميعًا من الإنس، لكن قد يقال: هل كان فيمن قبل إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- ممن ليس من ذريته رسولٌ من الجن؟

على كل حال هذا حاصل ما يذكر من الأدلة، وأما ما قد يستدل به على أنه أُرسل منهم رسل فآية الأنعام، وأجاب عنها بهذا الجواب: أنه من مجموع الجنسين، لكن ما ذكره من قوله تعالى: يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ [سورة الرحمن:22] يعني: من أحدهما، أن ذلك يخرج من الملح، يعني: البحر المعروف، وليس من الأنهار، هكذا يقول كثير من المفسرين، مع أن الأقرب -والله أعلم- أن ذلك يخرج منهما، ولهذا قال الله : وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا [سورة فاطر:12] فهذا صريح وواضح في أن ذلك يستخرج منهما.

هذا الذي ذكره ابن كثير -رحمه الله- نظيرًا لهذه الآية بناء على أحد القولين فيها، يَخْرُجُ مِنْهُمَا يعني: من أحدهما، لكن يوجد أدلة أخرى غير هذا، وفي كلام العرب أيضًا وقد مضى عند الكلام على سورة الجمعة قوله -تبارك وتعالى: وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا [سورة الجمعة:11] أي: انفضوا إلى التجارة، فهنا أعاد الضمير إلى أحدهما، فهذا عكس ما هنا، بناء على المعنى الذي ذكره ابن كثير، فالعرب تارة تعيد الضمير مثنى بعد ذكر شيئين، وتارة تعيده مفردًا، وتارة تذكر التثنية والمقصود واحد، إلى غير ذلك من وجوه الاستعمال عند العرب.

ثم إنه تعالى فسر إنذار الجن لقومهم فقال مخبراً عنهم: قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى، ولم يذكروا عيسى؛ لأن عيسى أنزل عليه الإنجيل فيه مواعظ، وترقيقات، وقليل من التحليل والتحريم، وهو في الحقيقة كالمتمم لشريعة التوراة، فالعمدة هي التوراة، فلهذا قالوا: أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى، وهكذا قال ورقة بن نوفل حين أخبره النبي ﷺ بقصة نزول جبريل -عليه الصلاة والسلام- أول مرة فقال: بَخ بَخ، هذا الناموس الذي كان يأتي موسى، يا ليتني أكون فيه جَذََعًا[4].

موسى -عليه الصلاة والسلام- هو كبير أنبياء بني إسرائيل، فبنو إسرائيل كان فيهم أنبياء كثر، ومنهم عيسى ﷺ، فكبير الأنبياء في بني إسرائيل هو موسى -عليه الصلاة والسلام، وعيسى ﷺ كان متممًا لشريعته، داعيًا إليها، ولهذا سبق في بعض المناسبات أن النصارى متعبدون بالتوراة، ولكن لشدة العداوة بينهم وبين اليهود تركوا العمل بالتوراة، فبقوا بلا قانون ولا شريعة، فاخترعوا كتابًا وقانونًا وضعيًا سموه: الأمانة العظمى، أو الكبرى، ومضى كلام ابن كثير على هذا، وأنه الخيانة الكبرى، فالشاهد أنه يُذكر موسى ﷺ عادة بهذا الاعتبار، وبعض أهل العلم فهم من هذا أن موسى ﷺ كان مرسلاً إلى الجن دون عيسى -عليه الصلاة والسلام، ولكن هذا ليس بلازم، لكن الكتاب الأصل هو: التوراة.

مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ أي: من الكتب المنزلة على الأنبياء قبله، وقولهم: يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أي: في الاعتقاد والإخبار، وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ في الأعمال، فإن القرآن مشتمل على شيئين: خبر وطلب، فخبره صدق، وطلبه عدل، كما قال تعالى: وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا [سورة الأنعام:115].

هذا التفصيل لا بأس به، ولو قيل: إن قوله -تبارك وتعالى: يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ مطلقًا، فكل ما فيه فهو حق، في الأمور العلمية، والأمور العملية، فهو: يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ من الدين الصحيح، والاعتقاد الصحيح، والعمل الصحيح، والشريعة القويمة، وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ يعني: في السلوك إلى الله -تبارك وتعالى، وذلك كما في قوله: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [سورة الفاتحة:6]، فالصراط هو: الطريق.

وقال : هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ [سورة التوبة:33] فالهدى هو: العلم النافع، ودين الحق هو: العمل الصالح، وهكذا قالت الجن: يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ في الاعتقادات، وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ أي: في العمليات.

يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ فيه دلالة على أنه تعالى أرسل محمداً ﷺ إلى الثقلين: الجن والإنس؛ ولهذا قال: أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ.

قوله -تبارك وتعالى: أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ، دَاعِيَ اللَّهِ يعني: محمدًا ﷺ، هذا ظاهر الآية، وبعضهم يقول: هو القرآن، وبين القولين ملازمة؛ لأن القرآن هو كذلك أيضًا يدعو إلى توحيد الله، وعبادته، والإيمان به، ولكن الظاهر من السياق أن المراد: النبي -ﷺ.

وقوله تعالى: يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ قيل: إن مِنْ هاهنا زائدة، وفيه نظر؛ لأن زيادتها في الإثبات قليل، وقيل: إنها على بابها للتبعيض.

يعني: الذين قالوا: إنها زائدة يقصدون زائدة إعرابًا، كما سبق في مناسبات كثيرة، والزيادة عندهم لمعنى؛ لأنه لا يوجد زيادة بلا معنى في القرآن، ليس فيه حشو، وهذا المعنى هو: التوكيد، لكن ما الذي حملهم على القول بأن مِنْ زائدة في قوله: يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ؟ يقولون: باعتبار أن الإيمان يجبّ ما قبله، فكيف تكون تبعيضية؟ فإذا آمن الإنسان غفرت له ذنوبه، كما قال النبي ﷺ لعمرو بن العاص لمَّا أراد أن يبايع: أمَا علمتَ أن الإسلام يجب ما قبله؟[5].

وبعض أهل العلم لا يقولون بالزيادة، ولا يقولون: إنها للتبعيض، يقولون: ابتدائية: يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ فهي هنا ابتدائية، مع أنه لا يخلو من بعد، والله أعلم.

وبعضهم يقول: إن مِنْ تبعيضية، والمقصود: ما عدا حقوق العباد، حقوق الخلق، فالإيمان يجبّ ما قبله، والتوبة تجبّ ما قبلها، والهجرة تجبّ ما قبلها، لكن تبقى حقوق العباد، المظالم التي تكون بين العباد، هكذا قال بعض أهل العلم.

وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ أي: ويقيكم من عذابه الأليم.

هنا ذكر الجزاء على الإيمان في حق الجن، قال: يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ، وهذا كله من باب التخلية: غفران الذنوب، والإجارة من العذاب، لكن هل يحصل لهم نعيم؟ هل يحصل لهم ثواب؟ هل يدخلون الجنة؟ هنا ذكر الوقاية من العذاب -الإجارة من النار، ففهم منه بعض أهل العلم أن هذا هو الغاية بالنسبة للجن: أن من آمن منهم سلم ونجا من العذاب، لكن ليس لهم ثواب، فلا يدخلون الجنة، يفنيهم الله بعد الحساب، فمن كان كافرًا عُذِّب ودخل النار، ومن كان مؤمنًا فإن غاية ما هنالك أنه ينجو من العذاب، استدلوا بهذا، قالوا: ما ذكر ثوابهم

لكن ممكن أن يجاب عن هذا بماذا؟ بقولنا: ذكْرُ الإجارة من العذاب هنا وغفران الذنوب لا يعني أن هذا هو الجزاء وحده، فإن الله قال: وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ [سورة الرحمن:46]، وسورة الرحمن هي خطاب للثقلين قال: وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ ۝ فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ [سورة الرحمن:46، 47]، فدل على أنهم يدخلون الجنة، وهذا هو الذي عليه الجماهير من أهل العلم سلفًا وخلفًا، وهذا مقتضى عدل الله -تبارك وتعالى: أنهم يحصل لهم العقاب، وكذلك يحصل للمحسن منهم والمؤمن الثواب، هذا قول الجمهور، أنهم يدخلون الجنة، ويكفي في هذا ما ذكرت من قوله تعالى: وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ [سورة الرحمن:46]، والعلماء بسطوا هذه المسألة، وتكلموا فيها، وذكروا الأقوال، راجع على سبيل المثال أضواء البيان، وهي مبسوطة أيضًا في عدد من كتب التفسير، وفي بعض كتب الاعتقاد.

ثم قال مخبراً عنهم: وَمَنْ لَا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ أي: بل قدرة الله شاملة له، ومحيطة به، وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ أي: لا يجيرهم منه أحد، أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ وهذا مقام تهديد وترهيب، فَدَعَوا قومهم بالترغيب والترهيب؛ ولهذا نجع في كثير منهم وجاءوا إلى رسول الله ﷺ وفودًا وفودًا، ولله الحمد والمنة، والله أعلم.

انتهى الآن الكلام على خبر الجن، ومجيئهم إلى النبي ﷺ، وكان عندي في هذه المسألة كتابة في حدود سنة 1412هـ، وكنت أريد أن آتي بخلاصتها وحاصلها، ولكني نسيت أن أراجعها، أو أن آتي بها، لعله يكون -إن شاء الله- في مجلس آخر، أقصد حاصل الكلام في مسألة الوفد الذين استمعوا قراءة النبي ﷺ، هل كان مرة واحدة أو كان أكثر؟

يعني: هل سورة الجن في واقعة، وسورة الأحقاف في واقعة أخرى كما قد يفهم من حديث ابن مسعود الحديث الآخر لما فقدوا النبي ﷺ وهم بمكة، هذا كله قبل الهجرة، فبحثوا عن النبي ﷺ وقالوا: اغتيل، استطير يعني: خطفته الجن، ثم أقبل ﷺ من ناحية حراء، فذكر لهم أن وفد الجن أتوا إليه ﷺ، وذهب بهم، وأراهم مواضع نيرانهم، يعني: المكان الذي كانوا اجتمعوا فيه مع النبي ﷺ[6]

وجاء أيضًا في حديث آخر: أن النبي ﷺ عرف ذلك أخبرته شجرة، يعني: أشعرته بهم، وأخبرته عنهم، وهذا في الصحيح[7]، وهذا لا يستغرب فالجذع حن[8]، والنبي ﷺ قال: إني لأعرف حجرًا كان يسلم عليّ بمكة قبل أن أبعث[9]، وكانوا يسمعون تسبيح الطعام[10]، وكذلك أيضًا في حديث جابر في صحيح مسلم: لما أراد النبي ﷺ أن يقضي الحاجة في سفر، فلم يجد شيئًا يستتر به، فأخذ بطرفي شجرتين وقال: انقادا، فأتت كل شجرة، واقتربت، ومشت؛ حتى كوّن ذلك ساترًا، يقول جابر : فانطلقت، خشي أن يراه؛ لأنه تبع النبي ﷺ ولم يشعر به، ومعه الماء، فلما قضى حاجته ﷺ أمرهما بأن تذهبا، فذهبت كل شجرة إلى مكانها[11].

قال تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ۝ وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ ۝ فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ [سورة الأحقاف:33-35].

يقول تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا أي: هؤلاء المنكرون للبعث يوم القيامة، المستبعدون لقيام الأجساد يوم المعاد: أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ، أي: ولم يكْرثه خلقهن، بل قال لها: كوني، فكانت بلا ممانعة ولا مخالفة، بل طائعة مجيبة خائفة وجلة، أفليس ذلك: بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى؟ كما قال في الآية الأخرى: لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ [سورة غافر:57]؛ ولهذا قال تعالى: بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.

قوله -تبارك وتعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى، الرؤية هنا هي: رؤية قلبية، بمعنى: العلم، أولم يعلم هؤلاء الكفار، وهذا أحد الأدلة التي تتكرر في القرآن، أحد أنواع الأدلة الدالة على قدرة الله على البعث، أن خلق السموات والأرض أعظم وأكبر من خلق الناس، فهذا دليل على قدرته -تبارك وتعالى- على إعادة الأجساد، هذا واحد من الأدلة الكثيرة على قدرة الله على البعث، وقد مضى أشياء من هذا، كالاستدلال بالنشأة الأولى على الإعادة، وهذا كثير في القرآن، وكذلك أيضًا ما يذكره الله -تبارك وتعالى- كما في سورة البقرة في خمسة مواضع من إحياء أموات، وكذلك أيضًا أنواع الأدلة الأخرى المعروفة في القرآن.

وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ يعني: لم يعجزه ذلك؛ لقدرته الباهرة.

ثم قال مهدداً ومتوعداً لمن كفر به: وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ أي: يقال لهم: أما هذا حق؟ أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لَا تُبْصِرُونَ؟ [سورة الطور:15]، قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا أي: لا يسعهم إلا الاعتراف، قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ.

قوله -تبارك وتعالى: وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ، هذه المسألة سبقت في الدرس الماضي، وذكرنا قوله تعالى: وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ [سورة الكهف:100]، وهي: هل النار تعرض على هؤلاء أو هم الذين يعرضون عليها؟ فهنا هذه الآية مصرحة بأنهم يعرضون على النار، بمعنى: يعذبون فيها، أو أن النار تقرب إليهم فيرونها ويشاهدونها عيانًا، أو غير ذلك كما سبق.

أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ هنا الكلام فيه اختصار، يعني: يقال لهم: أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ، والإشارة هنا هَذَا إلى أي شيء ترجع؟ ترجع إلى العذاب، أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ يعني: هذا العذاب وهذه النار التي كنتم بها تكذبون، فما أخبرت به الرسل -عليهم الصلاة والسلام- الآن أصبح عين اليقين إذا كان المقصود أنهم يشاهدونها، وإذا دخلوا فيها فإن ذلك يصير بمنزلة حق اليقين، وعرفنا أن اليقين على ثلاث مراتب: علم اليقين إذا علمت شيئًا فتيقنته، مثال ذلك: علمنا بوجود الآخرة والجنة والنار، فهذا علم اليقين بالنسبة إلينا، فإذا رأينا ذلك فهذا عين اليقين، فإذا دخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار فذلك حق اليقين، فالمقصود أنه يقال لهم: أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ أي: هذا الذي ترونه، أو هذا الذي تقاسونه أليس بالحق؟

ثم قال -تبارك وتعالى- آمرا رسوله ﷺ بالصبر على تكذيب من كذبه من قومه: فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ أي: على تكذيب قومهم لهم، وأولو العزم هم: نوح وإبراهيم وموسى وعيسى وخاتم الأنبياء كلهم محمد ﷺ، قد نص الله تعالى على أسمائهم من بين الأنبياء في آيتين من سورتي الأحزاب والشورى.

قوله: فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ، أولو العزم يعني: أصحاب العزائم العظيمة، والثبات العظيم على الحق، وعلى دعوة قومهم، والصبر العظيم على الأذى الذي لقوه في سبيل ذلك، فالله -تبارك وتعالى- هنا لم يحدد هؤلاء الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام، ولهذا اختلف أهل العلم فيهم اختلافًا كثيرًا.

وقد مضى الكلام على ذلك في الكلام على سورة الشورى، والكلام على سورة الأحزاب، وهنا يشير إلى هذا الحافظ ابن كثير -رحمه الله- يقول: "وقد نص الله تعالى على أسمائهم من بين الأنبياء في آيتين من سورتي الأحزاب والشورى".

فآية الأحزاب قال: وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا [سورة الأحزاب:7]. 

وآية الشورى قال: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ [سورة الشورى:13].

فهاتان الآيتان يذكر كثير من أهل العلم أنهما مفسرتان لهذه الآية من سورة الأحقاف، في كل من هاتين الآيتين لم يذكر ذلك على أنه من قبيل ما ذكر هنا في سورة الأحقاف، أي: ما ذُكروا على أن هؤلاء هم أولو العزم، يعني هناك في آية الأحزاب في أخذ الميثاق: وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ [سورة الأحزاب:7] إلى آخره، فذكر جميع الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- فقال: مِنَ النَّبِيِّينَ، ثم خص هؤلاء، ففُهِم منه أن هؤلاء لهم مزية.

فقوله: مِنَ النَّبِيِّينَ أي: من كل الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام، فلما ذكر هؤلاء الخمسة -خامسهم النبي ﷺ فُهِم أن هؤلاء لهم مزية على بقية الأنبياء، لكن السياق في أخذ الميثاق، وكذلك في آية الشورى فيما شرَّعه الله من الدين: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا إلى آخره، فهذا في هذا السياق، وإلا فما الفرق بين هذا وبين قوله -تبارك وتعالى- في مقام الإيحاء: إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا [سورة النساء:163]، ففي هذا السياق في مقام الإيحاء ذكر فيه هؤلاء، فلماذا لا تفسر آية الأحقاف بهذا مثلاً؟ وهؤلاء الأنبياء المذكورون هنا غير الأنبياء المذكورين في الآيتين من سورة الأحزاب والشورى؛ ولهذا فإن أهل العلم اختلفوا في هذا كثيرًا.

وقد مضى الكلام على هذا، يعني: بعض أهل العلم يقولون: كل الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- هم من أولي العزم، لكن هذا يرِد عليه إشكال؛ لأن الله قال لنبيه ﷺ: وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ [سورة القلم:48]، وهو يونس ﷺ، فهذا يُشكل على ما ذُكِر: أن جميع الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- من أولي العزم، وبعض أهل العلم يذكر أيضًا آدم ﷺ لقوله: وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا [سورة طه:115]، لكن قد يُرَدّ على هذا بأن آدم ﷺ لم يكن من الرسل، وإنما كان نبيًّا، فأول الرسل -عليهم الصلاة والسلام- هو نوح ﷺ.

على كل حال القول بأن أولي العزم هم هؤلاء الخمسة هو قول مشهور يذكره كثير من أهل العلم، وممن قال به من السلف مجاهد -رحمه الله، أنهم هؤلاء الخمسة، ويستدلون على هذا بالآيتين السابقتين.

وبعضهم كأبي العالية يقول: هم ثلاثة: نوح وإبراهيم وهود، وبعضهم كالسدي يقول: إنهم ستة إبراهيم وموسى وداود وسليمان وعيسى ومحمد ﷺ.

وبعضهم يقول: هم ستة فيذكر نوحًا وهودًا وصالحًا وشعيبًا ولوطًا وموسى -عليهم الصلاة والسلام، وابن جريج يقول: منهم إسماعيل ويعقوب وأيوب، وليس منهم يونس، الشعبي والكلبي يقولان: هم الذين أُمروا بالقتال، فأظهروا المكاشفة، وجاهدوا الكفرة، يعني: ذكرا لهم صفة ولم يعينا أسماءهم، قالا: الذين أُمروا بالقتال هم أولو العزم.

وبعضهم يقول: هم نجباء الرسل المذكورون في سورة الأنعام، وهم ثمانية عشر: وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ [سورة الأنعام:84] فذكر ثمانية عشر رسولاً: إبراهيم وإسحاق ويعقوب ونوح وداود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس وإسماعيل واليسع ويونس ولوط، هذا قال به بعض أهل العلم كالحسين بن الفضل، واحتج بقوله تعالى بعد ذكرهم في سورة الأنعام: أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ [سورة الأنعام:90]، قالوا: فالنبي ﷺ مأمور بالاقتداء بهم: فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ.

وبعضهم يقول: اثنا عشر أرسلوا إلى بني إسرائيل، وهذا بعيد، والحسن البصري يقول: هم أربعة: إبراهيم وموسى وداود وعيسى.

وهذه الأقوال جميعًا -والله أعلم- كما ترون تدل على أن هذه المسألة ليست محل اتفاق، وإن كان المشهور الذي ربما لم نسمع أو لم يسمع الكثيرون غيره أنهم خمسة، لكن هذا لا دليل عليه، فالله أمر نبيه ﷺبأن يصبر كما صبر أولو العزم من الرسل، أصحاب العزائم العظيمة، والثبات العظيم على الحق، والتحمل لأعباء الدعوة، فكل الرسل -عليهم الصلاة والسلام- الذين يصدق عليهم هذا الوصف داخلون فيه من غير تحديد، ولا شك أن هؤلاء الخمسة -عليهم الصلاة والسلام- من أولي العزم من الرسل، وهم من أفضل الرسل -عليهم صلوات الله وسلامه.

ومِنَ هنا في قوله: فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ على القول بأنهم بعض الرسل: تبعيضية، وعلى القول بأنهم جميع الرسل تكون "مِن" بيانية.

وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ أي: لا تستعجل لهم حلول العقوبة بهم، كقوله -تبارك وتعالى: وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا [سورة المزمل:11]، وكقوله تعالى: فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا [سورة الطارق:17].

كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، كقوله -جل وعلا: كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا [سورة النازعات:46]، وكقوله : وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ [سورة يونس:45] الآية.

يعني: مدة البقاء في الدنيا حينما يكون هؤلاء في القيامة تكون بهذه المثابة، كأنهم ما بقوا في الدنيا إلا ساعة واحدة؛ وذلك لسرعة تقضِّي هذه الحياة، وكما سبق في عدد من المناسبات: أن هذا الأمر يجده الإنسان فيما مضى من أيامه، والحياة التي مضت كأنها أحلام أو كأنها ساعة.

وقوله -جل وعلا: بَلَاغٌ أي: إن هذا القرآن بلاغ.

يعني: كما قال الله هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ [سورة إبراهيم:52]، وقوله: إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ [سورة الأنبياء:106]، وهكذا، فيكون: بَلَاغٌ خبرًا، يعني: هذا بلاغ، أي: خبر لمبتدأ محذوف، والمبتدأ: "هذا"، أو يقدر نحو هذا.

والبلاغ هنا بمعنى: التبليغ، أو هذا الذي وعظتم به بلاغ، وبعضهم يقول: إن ذلك يرجع إلى الساعة التي في قوله: لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلَاغٌ أي: هذه الساعة بلاغ، أو ذلك اللبث بلاغ، أي: بلاغ لهم في الدنيا إلى أجلهم، لكن الأول أقرب وهو: أن هذا القرآن بلاغ، كما دل عليه ما ذكرت مما يفسره من كتاب الله -تبارك وتعالى.

وقوله تعالى: فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ أي: لا يهلك على الله إلا هالك، وهذا من عدله أنه لا يعذب إلا من يستحق العذاب، والله أعلم.

آخر تفسير سورة الأحقاف، ولله الحمد والمنة، وبه التوفيق والعصمة.

  1. أخرجه أحمد، رقم: (1435)، وقال محققو المسند: "حسن لغيره".
  2. أخرجه أحمد، رقم: (2271)، والبخاري، كتاب الأذان، باب الجهر بقراءة صلاة الفجر، رقم: (773)، ومسلم، كتاب الصلاة، باب الجهر بالقراءة في الصبح والقراءة على الجن، رقم: (449)، والترمذي، أبواب تفسير القرآن عن رسول الله ﷺ، باب ومن سورة الجن، رقم: (3323)، وقال: هذا حديث حسن صحيح، والنسائي في الكبرى، كتاب التفسير، سورة الجن، رقم: (11560)، والبيهقي في دلائل النبوة، جماع أبواب المبعث، باب ذكر إسلام الجن، وما ظهر في ذلك من آيات المصطفى -صلى الله عليه وآله وسلم.
  3. أخرجه الحاكم، كتاب التفسير، تفسير سورة الأحقاف، رقم: (3701)، وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي.
  4. أخرجه البخاري، كتاب بدء الوحي، باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله ﷺ، رقم: (3)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب بدء الوحي إلى رسول الله ﷺ، رقم: (160).
  5. أخرجه مسلم، كتاب الإيمان، باب كون الإسلام يهدم ما قبله وكذا الهجرة والحج، رقم: (121).
  6. أخرجه مسلم، كتاب الصلاة، باب الجهر بالقراءة في الصبح والقراءة على الجن، رقم: (450).
  7. أخرجه البخاري، كتاب مناقب الأنصار، باب ذكر الجن، رقم: (3859)، ومسلم، كتاب الصلاة، باب الجهر بالقراءة في الصبح والقراءة على الجن، رقم: (450).
  8. أخرجه البخاري، كتاب المناقب، باب علامات النبوة في الإسلام، رقم: (3583).
  9. أخرجه مسلم، كتاب الفضائل، باب فضل نسب النبي ﷺ، وتسليم الحجر عليه قبل النبوة، رقم: (2277).
  10. أخرجه البخاري، كتاب المناقب، باب علامات النبوة في الإسلام، رقم: (3579).
  11. أخرجه مسلم، كتاب الزهد والرقائق، باب حديث جابر الطويل وقصة أبي اليسر، رقم: (3012).

مواد ذات صلة