الأربعاء 23 / جمادى الآخرة / 1446 - 25 / ديسمبر 2024
[5] من قول الله تعالى: {وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ} الآية37 إلى قوله تعالى: {وَالْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} الآية 45.
تاريخ النشر: ٠٥ / ربيع الأوّل / ١٤٢٧
التحميل: 3239
مرات الإستماع: 2353

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

قال المفسر -رحمه الله تعالى:

وذكر محمد بن إسحاق عن الزهري في قصة أبي جهل حين جاء يستمع قراءة النبي ﷺ من الليل هو وأبو سفيان صخر بن حرب والأخنس بن شريق ولا يشعر أحد منهم بالآخر فاستمعوها إلى الصباح، فلما هجم الصبح تفرقوا فجمعتهم الطريق، فقال كل منهم للآخر: ما جاء بك، فذكر له ما جاء به، ثم تعاهدوا ألا يعودوا لما يخافون من علم شباب قريش بهم؛ لئلا يفتتنوا بمجيئهم، فلما كانت الليلة الثانية، جاء كل منهم ظناً أن صاحبيه لا يجيئان، لما سبق من العهود فلما أصبحوا جمعتهم الطريق، فتلاوموا ثم تعاهدوا أن لا يعودوا، فلما كانت الليلة الثالثة جاءوا أيضاً فلما أصبحوا تعاهدوا ألا يعودوا لمثلها ثم تفرقوا.

فلما أصبح الأخنس بن شريق أخذ عصاه ثم خرج حتى أتى أبا سفيان بن حرب في بيته، فقال: أخبرني يا أبا حنظلة عن رأيك فيما سمعت من محمد؟ قال: يا أبا ثعلبة، والله لقد سمعت أشياء أعرفها وأعرف ما يراد بها، وسمعت أشياء ما عرفت معناها ولا ما يراد بها، قال الأخنس: وأنا والذي حلفت به، ثم خرج من عنده حتى أتى أبا جهل فدخل عليه بيته فقال: يا أبا الحكم، ما رأيك فيما سمعت من محمد؟ قال: ماذا سمعت؟ قال: تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف، أطعموا فأطعمنا وحملوا فحملنا وأعطوا فأعطينا حتى إذا تجاثينا على الركب وكنا كفرسي رهان قالوا: منا نبي يأتيه الوحي من السماء، فمتى ندرك هذه، والله لا نؤمن به أبداً ولا نصدقه، قال: فقام عنه الأخنس وتركه.

وقوله: وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ عَلَى مَا كُذِّبُواْ وَأُوذُواْ حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا [سورة الأنعام:34] هذه تسلية للنبي ﷺ وتعزية له فيمن كذبه من قومه، وأمْر له بالصبر كما صبر أولو العزم من الرسل، ووعد له بالنصر كما نصروا، وبالظفر حتى كانت لهم العاقبة بعدما نالهم من التكذيب من قومهم والأذى البليغ، ثم جاءهم النصر في الدنيا كما لهم النصر في الآخرة، ولهذا قال: وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ [سورة الأنعام:34] أي: التي كتبها بالنصر في الدنيا والآخرة لعباده المؤمنين، كما قال: وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ ۝ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ ۝ وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ [سورة الصافات:171-173] وقال تعالى: كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ [سورة المجادلة:21].

وقوله: وَلَقدْ جَاءكَ مِن نَّبَإِ الْمُرْسَلِينَ [سورة الأنعام:34] أي: من خبرهم، كيف نصروا وأُيِّدوا على من كذبهم من قومهم، فلك فيهم أسوة وبهم قدوة.

ثم قال تعالى: وَإِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ [سورة الأنعام:35] أي: إن كان شق عليك إعراضهم عنك فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَن تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاء [سورة الأنعام:35] قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس -ا: النفق: السرب فتذهب فيه، فتأتيهم بآية أو تجعل لك سلماً في السماء فتصعد فيه فتأتيهم بآية أفضل مما آتيتهم به، فا فعل. وكذا قال قتادة والسدي وغيرهما.

وقوله: وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ [سورة الأنعام:35] كقوله تعالى: وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا الآية [سورة يونس:99] قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس -ا- في قوله: وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى [سورة الأنعام:35] قال: إن رسول الله ﷺ كان يحرص أن يؤمن جميع الناس ويتابعوه على الهدى فأخبره الله أنه لا يؤمن إلا من قد سبق له من الله السعادة في الذكر الأول.

وقوله تعالى: إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ [سورة الأنعام:36] أي: إنما يستجيب لدعائك يا محمد من يسمع الكلام ويعيه ويفهمه، كقوله: لِيُنذِرَ مَن كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ [سورة يــس:70].

وقوله: وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ [سورة الأنعام:36] يعني بذلك الكفار؛ لأنهم موتى القلوب فشبههم الله بأموات الأجساد، فقال: وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ [سورة الأنعام:36] وهذا من باب التهكم بهم والازدراء عليهم.

وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّ اللّهَ قَادِرٌ عَلَى أَن يُنَزِّلٍ آيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ۝ وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ ۝ وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَن يَشَإِ اللّهُ يُضْلِلْهُ وَمَن يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ [سورة الأنعام:37-39].

يقول تعالى مخبراً عن المشركين أنهم كانوا يقولون: لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ أي: خارق على مقتضى ما كانوا يريدون ومما يتعنتون كقولهم: لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنبُوعًا الآيات [سورة الإسراء:90].

قُلْ إِنَّ اللّهَ قَادِرٌ عَلَى أَن يُنَزِّلٍ آيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ [سورة الأنعام:37] أي: هو تعالى قادر على ذلك، ولكن حكمته تعالى تقتضي تأخير ذلك؛ لأنه لو أنزل وفق ما طلبوا ثم لم يؤمنوا لعاجلهم بالعقوبة كما فعل بالأمم السالفة، كما قال تعالى: وَمَا مَنَعَنَا أَن نُّرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُواْ بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلاَّ تَخْوِيفًا [سورة الإسراء:59] وقال تعالى: إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِم مِّن السَّمَاء آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ [سورة الشعراء:4].

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فقوله -تبارك وتعالى- عن قولهم: وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ [سورة الأنعام:37] أي: أنهم اقترحوا أن ينزل عليه آية تلجئهم إلى الإيمان إلجاءً كما فعل الله لبني إسرائيل حينما رفع فوقهم الجبل فصار فوقهم كأنه ظله، وأمرهم بأن يأخذوا ما أنزل إليهم بقوة، وهكذا ما وقع من الآيات العظام التي تلجئ من رآها إلى الإيمان إن كان كتب الله له الإيمان في سابق علمه، وأما إذا حصل منه التكذيب بعد ذلك فإنها تأتي العقوبات المستأصلة كما وقع للأمم السابقة كقوم صالح حينما اقترحوا آية فأخرج الله لهم الناقة مبصرة، كما قال تعالى: وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً [سورة الإسراء:59] أي: إنها آية مبصرة -وليس المعنى إنها ناقة مبصرة- فظلموا بها فأهلكهم الله -تبارك وتعالى- وهكذا كان حال سائر الأمم.

قوله تعالى: قُلْ إِنَّ اللّهَ قَادِرٌ عَلَى أَن يُنَزِّلٍ آيَةً [سورة الأنعام:37] أي كما اقترحوا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ [سورة الأنعام:37] أي: ولكن أكثرهم لا يعلمون أنه قادر، أو ولكن أكثرهم لا يعلمون ما عليهم من التبعة والبلاء إذا نزلت الآيات ولم يؤمنوا بها، وهذا المعنى الأخير هو الذي اختاره كبير المفسرين ابن جرير -رحمه الله- فالله قادر على تنزيل الآيات، ولكن هؤلاء المقترحين لا يعلمون تبعة هذا الأمر حيث إذا أنزل عليهم آية كما اقترحوا ولم يؤمنوا بها نزل بهم العذاب المستأصل.

ومن حكمة الله أيضاً أنه يرسل الرسل ويري الناس من آيات ودلائل صدقهم ما تقوم عليهم به الحجة، وأما الآيات الملجئة فإنها إن ظهرت للناس فإن حكمة الابتلاء قد تكون منتفية، فالله -تبارك وتعالى- لم يقدّر ذلك في بعث نبيه محمد ﷺ وله في ذلك حكمة بالغة فهو لم يقدر إهلاك هذه الأمة بالعذاب المستأصل كما كان الحال مع الأمم السابقة، ولذلك كانت هذه الأمة باقية، ورسالتها هي الرسالة الخالدة إلى قيام الساعة، والله تعالى أعلم.

وقوله: وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم [سورة الأنعام:38] قال مجاهد: أي أصناف مصنفة تعرف بأسمائها، وقال قتادة: الطير أمة.

يمكن أن نربط بين هذه الآية وبين ما قبلها بما ذكر بعض أهل العلم كابن جرير -رحمه الله- وهو أن الله يقول لهؤلاء المقترحين لنزول الآيات المكذبين للرسول ﷺ: لا تظنوا أن الله -تبارك وتعالى- غافل عن أعمالكم وعن مجازاتكم، إذ كيف يكون ذلك ويقع والله -تبارك وتعالى- لم يغفِل أمر هذه المخلوقات على كثرتها وصنوفها ومعايشها وما أشبه ذلك؟! فهو قد أحصاها عدداً وهو الذي خلقها وقدر أقواتها وأرزاقها وآجالها، وكتب كل ما يتعلق بها في تقلبها وأحوالها وأطوراها المختلفة وجميع ما يصدر منها من الحركات والسكنات، وكيف يغفل عن أعمالكم وأنتم محل التكليف وقد خلقكم لعبادته!.

وقال قتادة: الطير أمة والإنس أمة والجن أمة، وقال السدي: إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم [سورة الأنعام:38] أي: خلقٌ أمثالكم.

الأمة -كما هو معروف في الوجوه والنظائر- تأتي لمعانٍ متعددة، فتأتي بمعنى الجماعة من الناس كما قال الله عن موسى ﷺ حينما ورد ماء مدين: وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ النَّاسِ يَسْقُونَ [سورة القصص:23] ويقال للمدة الزمنية أيضاً، كما قال تعالى: وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ [سورة يوسف:45] وهذا لا تعلق له بهذه الآية.

ويقال ذلك أيضاً للطائفة المجتمعة على دين، كقوله عن هذه الأمة: وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً [سورة المؤمنون:52] فهذه الأمة هي طائفة مجتمعة على دين.

ويقال: فلان أمَّة، للرجل الذي جمع أوصاف الكمال التي تفرقت في غيره، كقوله تعالى: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً [سورة النحل:120].

والحاصل أن المراد بقوله تعالى: وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم [سورة الأنعام:38] يعني جماعاتٍ وأصنافاً خلقها الله .

والمثلية هنا اختلف أهل العلم فيها، فمنهم من قال: إن المراد بالمثلية أي: أن في هذه المخلوقات شبهاً ببني آدم من جهة أن من الناس من فيه دناءة الخنزير، ومن فيه عقوق الضب، ومن فيه خفة أحلام الطير، ومن فيه غدر الذئب، وحيلة الثعلب، وما أشبه ذلك من الأوصاف الموجودة في هذه المخلوقات سواء كانت حسنة أو سيئة، وهذا وإن قال به بعض السلف إلا أنه قول بعيد في تفسير الآية.

وبعضهم يقول: إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم [سورة الأنعام:38] أي: يذكرون الله مثلكم، وبعضهم يقول: إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم [سورة الأنعام:38] أي: أنهم يحشرون كما تحشرون في الآخرة.

وبعضهم يقول: وجه المثلية هو أن الله خلقها وقدر لها أرزاقاً وآجالاً ويبعثها يوم القيامة كما يبعث البشر -كما في قوله في آخر هذه السورة: ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ [سورة الأنعام:38] وكما دل عليه الحديث الآخر -الذي سيأتي- وما أشبه ذلك مما قضاه الله وقدره في شأن هذه المخلوقات، وهذا هو أرجح هذه الأقوال.

ويدخل في المثلية كل ما يوجد من المشابهة بين الناس وبين هذه المخلوقات، فالله يرزقهم كما يرزقكم، وداخلون تحت علمه وقدرته، والله تعالى أعلم.

وقوله: وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ [سورة الأنعام:38] مضى فيما سبق تفسير الدابة أنها كل ما يدب على الأرض، وقد تطلق في عرف الاستعمال على نوع خاص مما يدب على الأرض كذوات الأربع مثلاً، وهذا من تخصيص العرف، وقد يكون العرف أخص من هذا كإطلاق الدابة على الحمار، أو إطلاق الدابة على الحية، والخلاصة أن كل ما دب على الأرض فهو دابة.

ثم عطف عليها الطير فقال: وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ [سورة الأنعام:38] فدل على أن المراد بالدابة هنا ليس المعنى العرفي كذوات الأربع مثلاً وإنما المقصود كل ما يدب على الأرض، ويقابله ما يطير في السماء.

في قوله: وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ [سورة الأنعام:38] معلوم أن الطائر إنما يطير بجناحيه، وقد سبق الكلام على مثل هذا المعنى، وذلك أن من أهل العلم من يقول: إن ذكر الجناحين مع أنه معلوم أن الطائر لا يطير إلا بجناحيه إنما جرى على طريقة العرب لتأكيد الكلام، فالعرب تقول: قال بفمه -أو بفيه- وكتب بيده، ومشى إليه برجله، ونظر يعينه، وما أشبه هذا.

ومنهم من يقول: لما كانت العرب تعبر عن السرعة بمثل هذا فتقول: اقض حاجتي على وجه الطيران، أو طِر بحاجتي، أو طِر بهذا الخبر، أو فلان طار بهذا، بمعنى أسرع فيه، وكما قال الشاعر:

قومٌ إذا الشّر أبدى ناجذيه لهم طاروا إليه زرافاتٍ ووحدَانا

 فحتى لا يتوهم أن المراد بذكر الطائر الإسراع قال: وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ [سورة الأنعام:38] والله أعلم.

وقوله: مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ [سورة الأنعام:38] أي: الجميع علمهم عند الله ولا ينسى واحداً من جميعها من رزقه وتدبيره سواء كان برياً أو بحرياً.

الذي عليه عامة أهل العلم سلفاً وخلفاً أن المراد بالكتاب هنا هو اللوح المحفوظ، وهذا هو الذي يدل عليه السياق في هذه الآية، حيث ذكر الكائنات بقوله: وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم [سورة الأنعام:38] أي: خلقها وقدر أقواتها وآجالها وأعمالها وما أشبه ذلك ثم يحشرها يوم القيامة، فالسياق كله يدل على أن المراد بالكتاب اللوح المحفوظ الذي كتبت فيه هذه الأشياء وأحصيت وجمعت.

والقول الآخر هو أن الكتاب في الآية يراد به القرآن، وبناء على هذا المعنى يكون المراد بقوله: مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ [سورة الأنعام:38] أي مما تحتاجون إليه في هدايتكم ونجاتكم.

وبهذا يظهر أنه حتى على هذا التفسير قالوا -أي المحققون من أهل العلم: إن المراد ما يتعلق به النجاة والخلاص والهداية ولم يقولوا: إن المقصود اشتمال القرآن على جميع العلوم كما قال بعض المتكلفين: إن القرآن تبيان لكل شيء باعتبار أنه يحتوي على جميع العلوم، فهؤلاء قد تكلفوا غاية التكلف، كالرجل الذي اسمه كوك لما قال لآخر: تقول إن القرآن فيه كل شيء فأين اسمي في القرآن؟ قال: وَتَرَكُوكَ قَائِمًا [سورة الجمعة:11] فانظر كيف لم تعيه الحيلة أن يستخرج اسمه من القرآن!

وسئل بعضهم عن الطب في القرآن فقال: جُمِع في آية واحدة هي قوله تعالى: وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ [سورة الأعراف:31] فهذه اشتملت على الطب بكامله من الغذاء الصحيح والحمية، فالطب يقوم على هذا، وهذا الكلام له وجه، لكن الكلام أو النظر إلى القرآن بأنه يحتوي جميع العلوم، فهذا كلام غير صحيح.

ومن كلام المتكلفين قولهم: ما من علم إلا ويدل عليه القرآن ولو بالإشارة أو بالإجمال، ومن ذلك علوم الفلك والفلسفة والطب والصيدلة وعلم الأثر والخط بالرمل، بل قالوا: إنه ذكر أو أشار إلى كل العلوم، وهذا الكلام فيه نظر؛ فالقرآن لم ينزل لهذا الأمر وهو ليس موسوعة في الجغرافيا أو في الحساب أو في العلوم أو غير ذلك، وإنما هو كتاب هداية فينبغي أن ينظر إليه بهذا الاعتبار. 

وبهذا نعرف خطأ من أسرف في تحميل القرآن ما لا يحتمل من النظريات التي يصل إليها العلم الحديث والاكتشافات والمخترعات وما أشبه ذلك في العلوم المختلفة، فالقرآن ما أنزل لهذا فلا داعي أن نشتط بهذا الطريق الخطر ونحمل القرآن ما لا يحتمل، ولكن ما لاح وجهه وظهر فلا إشكال إن كان ذلك ثابتاً ويُفهم من ظاهر القرآن، وأما ما لا يثبت أو لا يدل عليه ظاهر القرآن فإنه لا يجوز بحال من الأحوال أن يحمل القرآن عليه؛ لأن هذا التصرف في النظر البعيد والعاقبة خطير ومردوده كبير على القرآن حيث سينسب إليه الخطأ بعد ذلك حينما يُكتشف أن هذه النظريات غير صحيحة أو إذا جاء ما يبطلها.

على كل حال من فسر الكتاب في قوله تعالى: مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ [سورة الأنعام:38] بأن المراد به القرآن قال: يعني ما من شيء يُحتاج إليه في هدايات الخلق إلا قد ذكرناه فيه إما تفصيلاً وإما إجمالاً، كقوله تعالى: وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ [سورة النحل:89][1].

كقوله: وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [سورة هود:6] أي: مفصح بأسمائها وأعدادها ومظانِّها وحاصر لحركاتها وسكناتها، وقال تعالى: وَكَأَيِّن مِن دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [سورة العنكبوت:60].

يعني أن الله أحصى هذه المخلوقات من الحيوانات البرية والبحرية وما يعيش تحت الأرض وما يعيش فوق الأرض ودبر أقواتها وأعمالها وأماكن عيشها وما يصلح لمثلها وأين تموت، والأطوار التي تمر بها، كل ذلك قدره الله وأحصاه.

وهذه الآية لو أن الناس عقلوها وتدبروا معناها فإنهم سيكونون في غاية التوكل على الله في الرزق وفي كل أمر من أمورهم، فهذه المخلوقات على كثرة أنواعها -منها ما يرى بالعين ومنها ما لا يرى بالعين- أحصى الله كل حركاتها وسكناتها وما يتصل بها من أعمال وأرزاق وآجال، فنحن خلْق من خلقه قدر الله لنا مثل هذه الأمور ولن يسبق الإنسان رزقه ولا أجله مهما عمل ومهما كان حذراً متوقياًَ بل إذا جاء أجله سقط على أم رأسه.

وهكذا الأرزاق مهما كان حذقه وذكاؤه ومهارته وجلده وكده ليلاً ونهاراً لا يمكن أن يحصِّل أكثر مما كتب له، ولن يفوته من رزقه شيء ولن يأكل رزقه أحد غيره إطلاقاً، ولهذا ينبغي ألا يحزن على ما فات وألا تذهب نفسه حسرات، وذلك أن ما خرج من يده فإن الله لم يقدره ولم يكتبه له وإنما هو مكتوب لغيره، فالله قد يرزق غيره بسببه وعن طريقه، فالتأسف على الدنيا وذهاب النفس حسرات عليها لا معنى له إطلاقاً، فالله قد أحصى كل شيء ولا يخرج من هذا الإحصاء شيء؛ لأن علمه –تبارك وتعالى- قد أحاط بكل شيء، فمن تأمل في هذا الأمر كان ذلك نافعاً له في باب المراقبة لله تعالى، وهذه الآية تحتاج إلى وقوف وتأمل طويل؛ فلو حصل ذلك لانتفع العبد بها غاية الانتفاع.

وقوله: ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ [سورة الأنعام:38] روى ابن أبي حاتم عن ابن عباس -ا- في قوله: ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ [سورة الأنعام:38] قال: حشْرها الموت، وقيل: إن حشرها هو يوم بعثها يوم القيامة؛ لقوله: وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ [سورة التكوير:5].

وروى عبد الرزاق عن أبي هريرة في قوله: إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ [سورة الأنعام:38] قال: يحشر الخلق كلهم يوم القيامة، البهائم والدواب والطير وكل شيء، فيبلغوا من عدل الله يومئذ أن يأخذ للجمَّاء من القرناء ثم يقول: كوني تراباً، فلذلك يقول الكافر: يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا [سورة النبأ:40][2] وقد روي هذا مرفوعاً في حديث الصور.

ويدل على هذا أيضاً الحديث الذي أخرجه الإمام مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال: لتؤدن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء[3] يعني التي نطحتها في الدنيا.

فالله يحشر هذه الدواب جميعاً ويقتص لبعضها من بعض ثم يقال لها: كوني تراباً فتكون تراباً، فعندئذ إذا رآها الكافر قال: ويَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا [سورة النبأ:40].

وقوله: ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ [سورة الأنعام:38] الذي عليه عامة أهل العلم سلفاً وخلفاًَ أن الحشر المراد هنا هو حشر الآخرة، والقول الآخر أن الحشر هو الموت، وابن جرير -رحمه الله- يرى أن هذين المعنيين لم يوجد دليل على ترجيح أحدهما على الآخر، فيقول: الآية تحتمل المعنيين، وهذه هي طريقته –رحمه الله- عندما لا يوجد دليل للترجيح بين الأقوال.

وعلى كل حال فالحشر معناه الجمع وحمله على الجمع في الآخرة، هو الأقرب وهو الظاهر المتبادر والله أعلم، ثم إن الإخبار بأنهم يحشرون بالموت ليس فيه فائدة جديدة؛ لأن هذا شيء مشاهد ومعلوم، ثم إن وجه كونهم يجتمعون في الموت فيه إشكال، لكن كونهم يجتمعون في الحشر والنشر في الآخرة هو المقصود، والله تعالى أعلم.

وقوله: وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ [سورة الأنعام:39] أي: مثَلهم في جهلهم وقلَّة علمهم وعدم فهمهم كمثل أصمٍّ -وهو الذي لا يسمع- أبكم -وهو الذي لا يتكلم- وهو مع هذا في ظلمات لا يبصر فكيف يهتدي مثل هذا إلى الطريق، أو يخرج مما هو فيه، كقوله: مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضَاءتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ ۝ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ [سورة البقرة:17-18] وكما قال تعالى: أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ [سورة النــور:40] ولهذا قال: مَن يَشَإِ اللّهُ يُضْلِلْهُ وَمَن يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ [سورة الأنعام:39] أي: هو المتصرف في خلقه بما يشاء.

قُلْ أَرَأَيْتُكُم إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللّهِ تَدْعُونَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ۝ بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاء وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ ۝ وَلَقَدْ أَرْسَلنَآ إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ ۝ فَلَوْلا إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ وَلَكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ۝ فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ ۝ فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَالْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [سورة الأنعام:40-45].

يخبر تعالى أنه الفعَّال لما يريد المتصرف في خلقه بما يشاء وأنه لا معقب لحكمه ولا يقدر أحد على صرف حكمه عن خلقه، بل هو وحده لا شريك له الذي إذا سئل يجيب لمن يشاء، ولهذا قال: قُلْ أَرَأَيْتُكُم إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ [سورة الأنعام:40] أي: أتاكم هذا أو هذا أَغَيْرَ اللّهِ تَدْعُونَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ [سورة الأنعام:40].

قوله: قُلْ أَرَأَيْتُكُم [سورة الأنعام:40] الكاف والميم عند البصريين من النحاة يراد بها الخطاب ولا محل لها من الإعراب.

وقيل: إن الكاف والميم في محل نصب على المفعولية، يعني كأنه يقول: أرأيتم أنفسكم، فالكاف للخطاب كما في قوله تعالى: قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ [سورة الإسراء:62] فقالوا: الكاف مفعول به مثل: أرأيت زيداً كأنه يقول: أرأيت نفسك، والاستفهام في قوله: أَرَأَيْتُكُم إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللّهِ تَدْعُونَ [سورة الأنعام:40] للتقريع.

أَغَيْرَ اللّهِ تَدْعُونَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ [سورة الأنعام:40] أي: لا تدعون غيره لعلمكم أنه لا يقدر أحد على رفع ذلك سواه، ولهذا قال: إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ [سورة الأنعام:40] أي: في اتخاذكم آلهة معه.

بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاء وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ [سورة الأنعام:41] أي: في وقت الضرورة لا تدعون أحداً سواه وتذهب عنكم أصنامكم وأندادكم، كقوله: وَإِذَا مَسَّكُمُ الْضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ الآية [سورة الإسراء:67] وقوله: وَلَقَدْ أَرْسَلنَآ إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاء [سورة الأنعام:42] يعني الفقر والضيق في العيش.

يقول تعالى: وَلَقَدْ أَرْسَلنَآ إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ [سورة الأنعام:42] يعني فكذبوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء [سورة الأنعام:42] على ما ذكره ابن جرير -رحمه الله- يكون فيه مقدر محذوف معلوم من السياق، أي أن البأساء والضراء وقعت لهم بعد التكذيب كما قال تعالى عن آل فرعون: وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَونَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِّن الثَّمَرَاتِ [سورة الأعراف:130].

إذن: هذه الأمور وقعت لهم بعد تكذيبهم وإلا لو آمنوا لأغدق الله عليهم الأرزاق كما قال الله : وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ [سورة الأعراف:96]، هذا المعنى تحتمله الآية، والله تعالى أعلم.

ولو قال قائل: قوله: إن ذلك واقع حتى مع الإيمان فإن هذا قد يدل عليه قوله تعالى: أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّه [سورة البقرة:214] فهي سنته في الابتلاء.

لكن قوله: فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ [سورة الأنعام:42] يمكن أن يفهم منه أنهم لما كذبوا أخذهم بالبأساء والضراء من أجل أن يتضرعوا، وإن كان هذا أيضاً ليس بلازم؛ لأن الله يحب من عباده التضرع إليه سواء كانوا من أهل الإيمان أو كانوا من الكافرين، ولكن قوله بعده: فَلَوْلا إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ وَلَكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ [سورة الأنعام:43] يدل على ما ذكره ابن جرير -رحمه الله- أي أن هؤلاء كذبوا وما تضرعوا حينما أخذهم بالبأساء والضراء، ولذلك يقال: ليس المخبر عنهم هنا أهل الإيمان الذين يبتليهم الله تعالى وإنما هو على الأمم المعذبة المهلكة، والله أعلم.

فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاء يعني الفقر والضيق في العيش وَالضَّرَّاء وهي الأمراض والأسقام والآلام.

قال: "وهي الأمراض والأسقام والآلام" وقيل غير ذلك لكنها أقوال بعيدة، ومنها أن المقصود بالبأساء تسليط السلطان عليهم، لكن الظاهر الذي عليه عامة أهل العلم أن البأساء هو الضر المتعلق بالأموال من الفقر وضيق العيش، والضراء ما يتعلق بالأجسام من المرض والألم وما أشبه ذلك، هذا هو التفسير المشهور، والله أعلم.

لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ [سورة الأنعام:42] أي: يدعون الله ويتضرعون إليه ويخشعون.

قوله: لَعَلَّهُمْ أي: من أجل أن، وقد سبق في "لعل" أنها تأتي للترجي وأن الله لا يقع منه ذلك، فهنا تفسر بأنها تعليلية وقد سبق أن قلنا: إنها في جميع المواضع -في القرآن- تفيد التعليل إلا في موضع واحد وهو قوله: وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ [سورة الشعراء:129] فإن معناها كأنكم تخلدون.

والتضرع هو الانكسار والتذلل لله -جل وعلا، والله من حكمته في ابتلاء الخلق بالمكاره أنه يحب من عباده أن ينكسروا وأن يذلوا بين يديه وأن يدعوه فيكشف عنهم ذلك إن شاء.

ومن التذلل والتضرع إلى الله تعالى صلاة الاستسقاء التي يفعلها الناس إذا حصل لهم القحط وأجدبوا ولم ينزل المطر، ولذلك على كثرة التقصير حتى في هذه الصلاة وفي الحضور لها وفي صفتها وفي التضرع في الدعاء إلا أن مع ذلك كله يلاحظ أنه لا يكاد الناس يستسقون حتى ينزل المطر بفضل الله ورحمته بخلقه، بل عرف عن بعض أهل العلم قديماً وحديثاً أنه إذا استسقى لم ينزل من المنبر حتى ينزل المطر من شدة تضرعه وإلحاحه على الله بالدعاء.

فالله –تبارك وتعالى- يحب من عباده التذلل والتضرع مع كثرة ما يقع منهم من التقصير والظلم والمعصية إلا أنه يلطف بهم ويرحمهم، ولو عاملهم بأعمالهم وذنوبهم لما أنزل قطرة واحدة من السماء؛ فهم يُمعنون في الفساد والشر وهو يلطف بهم ويرحمهم، وفي الحديث: ولولا البهائم لم يمطروا[4].

قال الله تعالى: فَلَوْلا إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ [سورة الأنعام:43] أي: فهلا إذا ابتليناهم بذلك تضرعوا إلينا وتمسكنوا لدينا، وَلَكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ [سورة الأنعام:43] أي: ما رقَّت ولا خشعت وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ [سورة الأنعام:43] أي: من الشرك والمعاندة والمعاصي.

قوله: فَلَوْلا إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ [سورة الأنعام:43] يؤيد ما سبق عن ابن جرير في قوله: لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ [سورة الأنعام:42] أي: لعلهم يتضرعون فلم يتضرعوا؛ لأن قوله: فَلَوْلا إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ وَلَكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ [سورة الأنعام:43] معناه أن التضرع منهم لم يقع.

قوله: فَلَوْلا سبق أن "لولا" إذا كانت في أمر فائت لا يمكن استدراكه فهي للتبكيت كما في هذه الآية: فَلَوْلا إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا [سورة الأنعام:43] أي: هلا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا، فهذا لا يمكن استدراكه؛ لأنهم قد أهلكوا وانتهوا، وأما إذا كانت "لولا" في أمر يمكن استدراكه فإنها تكون للتحضيض والتحريض.

فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ [سورة الأنعام:44] أي: أعرضوا عنه وتناسوه وجعلوه وراء ظهورهم.

النسيان هنا يفسر بالترك كما في قوله تعالى: نَسُواْ اللّهَ فَنَسِيَهُمْ [سورة التوبة:67] وكما في قوله: فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ [سورة الحشر:19]، وهذا هو المشهور عند أهل العلم في هذا الموضع خلافاً لمن قال: إنه الذهول؛ لأن الله لا يؤاخذ بالنسيان الذي هو زوال المعلوم من الذهن، والله أعلم.

فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ [سورة الأنعام:44] أي: فتحنا عليهم أبواب الرزق من كل ما يختارون.

قوله: "أي: فتحنا عليهم أبواب الرزق من كل ما يختارون" هذا المعنى تحتمله الآية، وليس لغبي أن يقول: توجد أشياء ما أعطاهم الله إياها مثل الهداية؛ لأن قوله: فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ [سورة الأنعام:44] يقصد به أبواب كل شيء مما يدل عليه المقام والسياق من إدرار الأرزاق عليهم وصحة الأبدان وما أشبه ذلك مما يحصل به الاستدراج، وإلا فإن هناك أشياء في الدنيا من ألوان النعيم لم يعطوا إياها، لكن أراد ما يحصل لمثلهم كما قال تعالى: تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا [سورة الأحقاف:25] فإن معناها تدمر كل شيء مما جاءت لتدميره، فلا يقول أحد: إنها لم تدمر السماوات والأرض ولا الجبال.

ويقال ذلك أيضاً في قوله تعالى: أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ [سورة القصص:57] فلا يقول عاقلٌ: هناك ثمرات رأيتها في المشرق والمغرب لم أرها في مكة؛ لأن المقصود بالآية ما يحصل جبايته لمثلها، وهكذا يقال في قوله تعالى عن ملكة سبأ: وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ [سورة النمل:23] لا يقال: إنها لم تؤتَ لحية سليمان أو ملك سليمان مثلاً؛ لأن هذا ليس مراداً في الآية، وهذا يسميه الشاطبي -رحمه الله- "العموم الاستعمالي" يعني أن اللفظ يكون عاماً في كل مقام بحسب استعماله مما يصلح له.

وقوله: أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ [سورة الأنعام:44] أي: مما أغلق عليهم كما يقول ابن جرير –رحمه الله- والمعنى أن الله قلّبهم في الأحوال المختلفة، فتارة يأخذهم بالبأساء والضراء –أي الشدة- وتارة بالتوسعة عليهم، ثم إن الأبواب التي سدها عليهم وأدت إلى حصول البأساء والضراء فتحت عليهم فصحت أجسامهم ونمت أموالهم وحصل لهم ما يحتاجون إليه من نزول المطر وذهاب القحط وما أشبه ذلك.

وهذا استدراج منه تعالى وإملاء لهم عياذاً بالله من مَكْره، ولهذا قال: حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ [سورة الأنعام:44] أي: من الأموال والأولاد والأرزاق أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً [سورة الأنعام:44] أي: على غفلة فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ [سورة الأنعام:44] أي: آيسون من كل خير.

قال الوالبي عن ابن عباس -ا: المبلس الآيس، وقال الحسن البصري: من وسع الله عليه فلم يرَ أنه يمكر به فلا رأي له، ومن قتّر عليه فلم يرَ أنه ينظر له فلا رأي له، ثم قرأ: فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ [سورة الأنعام:44] قال: مكر بالقوم ورب الكعبة، أعطوا حاجتهم ثم أخذوا. [رواه ابن أبي حاتم].

المبلس هو الذي قد يئس وانقطع أي سكن وهمد ولم يتحرك ليبحث عن المخرج والحيلة من شدة يأسه، ولهذا قال بعضهم: إن اسم إبليس مأخوذ من الإبلاس.

وقوله: أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ [سورة الأنعام:44] أي: أخذناهم بغتة فإذا هم ساكنون لا حراك لهم؛ لأنه قد أهلكم.

قوله تعالى: فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَالْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [سورة الأنعام:45] أي: قطع آخرهم؛ لأن الدابر هو الآخر، والمعنى أنهم استؤصلوا استئصالاً فلم يبق منهم أحد.

ويقال: إن التدبير مأخوذ من هذا باعتبار أنه إحكام عواقب الأمور، بمعنى أنه يرتب ويدبر أوائلها لتصح له عواقبها، فيقال: فلان حسن التدبير لأمر المعيشة، وفلان سيئ التدبير.

والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم، والحمد لله رب العالمين.

 
  1. من أهل العلم من ذكر حجج هؤلاء وحجج هؤلاء كالحافظ ابن القيم -رحمه الله- فمن شاء فليراجع كلامه في كتاب إعلام الموقعين.
  2. أخرجه الحاكم (3231) (ج 2 / ص 345) وقال الألباني: هذا إسناد صحيح ورجاله ثقات رجال مسلم غير ابن ثور وهو محمد الصنعاني وهو وإن كان موقوفاً فإنه شاهد قوي للمرفوع؛ لأنه لا يقال من قبل الرأي، انظر السلسلة الصحيحة (ج 4 / ص 465).
  3. أخرجه مسلم في كتاب البر والصلة والآداب - باب تحريم الظلم (2582) (ج 4 / ص 1997).
  4. أخرجه ابن ماجه في كتاب الفتن - باب العقوبات (4019) (ج 2 / ص 1332) والحاكم (8623) (ج 4 / ص 582) وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (7978).

مواد ذات صلة