هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا [البقرة:29-36].
خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ، دليل على إباحة الانتفاع بما في الأرض.
فهذه الآية كُثر استدلال الأصوليين بها على إباحة المنافع، وعلى القاعدة المعروفة: بأن الأصل في الأشياء الحل، في المطعومات، وفي المعاملات، ومعلوم أن هذه القاعدة يُستثنى منها، فالأصل في العبادات المنع، من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد[1]، واستثنى أيضًا بعض أهل العلم الذبائح، فقالوا: الأصل فيها المنع. وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ [الأنعام:121].
وكذلك استثنى بعضهم الفروج، قالوا: الأصل فيها المنع. هذه ثلاثة، لكن بالنسبة لغيرها من المنافع من: المطعوم والملبوس، وغير ذلك الأصل فيها الحل هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا، من أجل الانتفاع به بأي وجه كان مما أحل الله -تبارك وتعالى-.
الخلق: هنا حمله بعض أهل العلم على معنى التقدير، كما قال صاحب أضواء البيان[2]، فالخلق من معانيه التقدير، وإلا فالخلق معلوم أيضًا كما هو المشهور من معانيه أو الأشهر بمعنى الإيجاد، الاختراع.
والله -تبارك وتعالى- هو الخالق الذي أوجد الخلق من العدم، ولكن في مثل قوله -تبارك وتعالى-: هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ [الحشر:24]، ذكر معه البارئ، فالبارئ هو الذي أوجدهم على غير مثال سابق، والخالق: الموجد من العدم، وهو أحد معاني الخالق، والمصور الذي أعطى كل مخلوق صورته اللائقة به، وهذا أحد معاني الخلق، لما ذُكر هذه الأسماء الثلاثة ولئلا يكون ذلك من قبيل التكرار صار معنى الخالق في آية الحشر هذه يعني المقدر، والبارئ الموجد من العدم، والمصور الذي أعطى كل مخلوق هيئته وصورته التي تليق به، فهذه قرينة.
لكن هنا: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا، من حمله على معنى التقدير هنا فما وجه ذلك؟ وجهه -والله أعلم- بأنه قال بعده: ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ.
فالله -تبارك وتعالى- خلق الأرض في يومين، ثم خلق السماء بعدها بيومين، ثم دحى الأرض في يومين بعد خلق السموات، فيكون بهذا الاعتبار الدحو بعد خلق السماوات بمعنى أن قوله: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا، هذا يتعلق بالدحو الذي بعد خلق السماوات وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا [النازعات:31،30].
هذه المنافع التي للناس، إذن حينما خلق الأرض، هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا، فهذا قبل دحوها بعد ذلك استوى إلى السماء، فعليه فهم هؤلاء أن هذا الخلق بمعنى التقدير، قدر لكم؛ لأن الدحو حصل بعد ذلك، إخراج الماء والمرعى، خَلَقَ لَكُمْ، أي: قدر لكم مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا قبل أن يوجده؛ لأنه خلق الأرض أولًا ثم السماء ثم هذا الدحو، وهذا القول له وجه، وإن كان الظاهر المتبادر من الخلق أنه يشمل التقدير والإيجاد أيضًا من العدم، يعني: إخراج المقدر وإيجاده، فهذا المكتب قبل أن يصنعه الصانع قدره: أطواله، وارتفاعه، وهيئته ونحو ذلك، فلما صنعه فهذا الإيجاد والصنع هو الخلق، هناك تقدير وهذا إيجاد، ومنه قول الشاعر يمدح الخليفة:
وَلَأَنتَ تَفري ما خَلَقتَ وَبَعضُ | القَومِ يَخلُقُ ثُمَّ لا يَفري[3] |
ما خلقت: أي: قدرت، تقدر الأشياء ثم تنفذ، وغيرك قد يُقدر أشياء لكن لا يستطيع تحقيقها؛ لعجزه، لضعف إمكاناته، وإعطاء الصورة النهائية له هو داخل في الخلق كذلك.
الشاهد أن من فسره بالتقدير، قال: في الآية قرينة تدل على هذا المحمل.
استوى أي قصد لها، هذا المعنى قال به جماعة من السلف في هذا الموضع في آية البقرة، ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ، لكنه ليس محل اتفاق، فقد ذهب كثير من السلف فمن بعدهم إلى أن قصد هنا بمعنى علا وارتفع، وقد جاء في صحيح البخاري -رحمه الله- عن أبي العالية -رحمه الله- وهو من التابعين: بأن استوى إلى السماء، أي: ارتفع[4].
فسره بالارتفاع، وهذا مروي عن ابن عباس -ا- هذا القول اسْتَوَى بمعنى علا وارتفع، هو قول أكثر المفسرين من السلف[5]، واختار ابن جرير أن استوى هنا بمعنى علا وارتفع[6]، والقول الآخر: بأن استوى بمعنى قصد كما قال المؤلف.
هذا الذي اختاره ابن كثير[7]، هذا من المواضع التي خالف فيها ابن كثير ابن جرير، فابن جرير يقول: علا وارتفع. وابن كثير يقول: قصد.
ومن المعاصرين من فسره بقصده أيضًا الشيخ عبد الرحمن بن سعدي[8]، والشيخ محمد الصالح العثيمين[9] -رحم الله الجميع- وذكر هؤلاء تفصيلًا في معنى استوى، واختلاف المعنى بحسب التعدية من عدمها، فإذا لم يُعدى بالحرف الفعل استوى فيكون بمعنى الكمال والتمام، وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى [القصص:14]: يعني اكتمل، وإذا عُديت بـ (إلى) فتكون بمعنى قصد، وإذا عُديت بـ (على) تكون بمعنى ارتفع باتفاق السلف.
وعدي بـ (على) في سبعة مواضع في كتاب الله:
الموضع الأول: في سورة الأعراف قال تعالى: إِن رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ [الأعراف:54].
الموضع الثاني: في سورة يونس قال تعالى: إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ [يونس:3].
الموضع الثالث: في سورة الرعد، قال تعالى: اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ [الرعد:2].
الموضع الرابع: في سورة طه قال تعالى: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5].
الموضع الخامس: في سورة الفرقان قال تعالى: الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ [الفرقان:59].
الموضع السادس: في سورة الم السجدة، قال تعالى: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ [الفرقان:59].
الموضع السابع: في سورة الحديد قال تعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ [الحديد:4].
هذا كما قال الله : لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ [الزخرف:13]، بمعنى العلو والارتفاع.
وهذا التفصيل في اختلاف معنى استوى بحسب التعدية ذكره الحافظ ابن القيم -رحمه الله-[10]، وقبله ذكره الحافظ الأصبهاني في كتابه (الحجة في بيان المحجة)[11]، وهو من الكتب المعروفة اعتقاد أهل السنة والجماعة، فهذا يحتمل، ولا يقال أن هذا التفسير فيه مخالفة، أو بدعة، ولكن (استوى) بمعنى علا وارتفع هذا لا شك فيه فيما يتصل باستوائه -تبارك وتعالى- على العرش، لكن الكلام هنا في معنى اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ، ولا يُفسر بحال من الأحوال ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ بمعنى قصد؛ لأنه إذا عُدى بـ (على) عند هؤلاء أيضًا فإن معناه علا وارتفع، وعليه فإن الاستواء إذا عُدى بـ (على) فهو بالاتفاق عند أهل السنة: بمعنى علا وارتفع، ويبقى الخلاف فيما إذا عُدي بـ (إلى).
الحافظ ابن القيم -رحمه الله- عبارته أدق، تجمع بين المعنيين في تفسير مثل هذا، استوى إلى كذا، قصد إليه علوًا وارتفاعًا، جمع بين معنى قصد والارتفاع، وهذا من أحسن ما يكون في التفسير.
باعتبار أن السماء هي سبع سموات ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ، فإذا قيل: بأنها جنس. فمعنى ذلك أنها تشمل جنس السماوات السبع ولهذا جاء التعبير بصيغة الجمع بعده فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ ولم يقل: فسواها.
يقول: (فسواك فعدّلك) هذه قراءة ابن كثير ونافع وأبي عمرو وابن عامر[12]، فَسَوَّاهُنَّ، أي: أتقن خلقهن، وقيل: جعلهن سواء.
الوجه الأول: ذكرته آنفًا من خلق السماء.
ثانيًا: يعني بعد الأرض، ثم الدحو.
ثالثًا: هذا هو المشهور. أو تكون (ثم) هي لمجرد ترتيب الخبر وليس ذلك باعتبار الوقوع والحصول في الخارج، مثل هذا يكون لترتيب الخبر، يعني أن الله -تبارك وتعالى- يُخبر عن خلقه السماء والأرض، فذكر خلق الأرض قال: ثُمَّ اسْتَوَى يعني (ثم) تكون لترتيب الخبر فقط، يخبر عن هذا وهذا وليس المقصود بذلك هو باعتبار الوقوع، فهذا جواب على كل حال يحتمل، فأنت تقول مثلًا: بأن النبي ﷺ غزا المشركين في غزوات، غزاهم في بدر ثم في فتح مكة ثم في أحد ثم في الخندق، هذا ليس باعتبار الوقوع، وإنما جاءت ثم هنا لترتيب هذه الأخبار أو الخبر أو الإخبار، كل ذلك، وليس المقصود به ما يكون بحسب الوقوع.
أبو عبيدة معمر بن المثنى يقول: فَعَل من المُلك وهو القوة، فالميم أصلية مَلَكَ من المُلك وهو القوة عند أبي عبيدة، وجمعه على وزن فعائلة عنده، وعليه فلا حذف في المفرد ملك، يعني الميم أصلية، لا أدري هل في النسخة الأخرى شيء آخر غير هذه العبارة.
قال أبو حيان في جمعه: وكأنهم توهموا أنه ملاك على وزن فعال، وقد جمعوا فعالًا على فعائل قليلًا، فعائلة[13].
وذهب ابن السراج إلى أن أصل المفرد ملأك والهمزة زائدة، نُقلت حركة الهمزة إلى اللام وحذفت الهمزة تخفيفًا وجاء هذا الجمع على أصل المفرد فهو فعائلة.
وذهب أبو عبيد إلى أن المفرد مشتق من ألك وأصله مألك قُلبت العين إلى موضع الفاء -العين يعني وسط الكلمة، والفاء أول الكلمة- والفاء إلى موضع العين فصار ملأك على وزن مَعْفَل ثم نُقلت حركة الهمزة إلى اللام وحُذفت الهمزة تحفيفًا فوزن مَلَك مَعَل، أما الجمع فقد جاء على الأصل حيث ردت الهمزة فوزنه مَعَافِلة[14].
وقيل: إنه مشتق من لأك بمعنى أرسل فأصل المفرد ملأك ثم نقلت حركة الهمزة إلى اللام وحذفت الهمزة تحفيفًا وجاء الجمع على هذا الأصل برد الهمزة فوزنه مَفَاعِلة.
وقيل: مشتق من لاكه يلوكه بمعنى أداره فأصل مَلَك على هذا مَلْوَك فنقلت حركة الواو إلى اللام فصار مَلَوْك، تحرك حرف العلة في الأصل وانفتح ما قبله في اللفظ وقُلب ألفًا فصار ملاك ثم حذفت الألف تخفيفًا فوزنه مَفَل، وأصل الجمع على هذا ملاوكة على مفاعلة، وقعت الواو بعد الألف فقلبت همزة كما فُعل بمصائب مع أصالة الواو وهذا خارج عن القياس.
وقال النضر بن شميل: لا اشتقاق لهذا اللفظ عند العرب وهو ممن فات علمه. يعني لا يُعرف أصله من جهة الاشتقاق، والتاء في الملائكة لتأنيث الجمع أو للمبالغة. وعلى كل حال الملَك: كثير من أهل العلم يقولون هو من الألوكة وهي الرسالة، كما قال الشاعر:
أَلِكْني إليها، وخَيْرُ الرَّسُولِ | أَعْلَمُهم بِنُوَاحِي الخَبَرْ[15] |
ألكني إليها: بمعنى أرسلني إليها، والألوكة يعني الرسالة، فالملائكة باعتبار أنهم رسل الله، يحتمل أن يكون من هذا، والله أعلم، يعني أنه مشتق من أَلَكَ إذا أرجعناه إلى الفعل الماضي، وإذا أرجعناه إلى المصدر يمكن أن يقال: إنه من الألوكة بمعنى الرسالة. والله أعلم.
الخليفة يأتي بمعنى الخالف، يعني خالف أنه يخلُف غيره، ويأتي بمعنى المخلوف، كما يقول الحافظ ابن كثير: أي قومًا يخلف بعضهم بعضًا. إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً، يعني: قومًا يخلف بعضهم بعضًا، قرنًا بعد قرن، وجيلًا بعد جيل، كما قال: هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ [فاطر:39]، وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ [النمل:62]، يعني: يخلف بعضهم بعضًا، وأصله مجيء شيء بعد شيء يقوم مقامه، هذا أصله، الخلافة تقال للنيابة عن الغير، إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قيل: لأن الله استخلفه في الأرض يعني آدم .
وهل يقال: آدم خليفة الله والإنسان خليفة الله في الأرض؟.
الجواب: الصحيح أنه لا يقال ذلك وإن أطلقه بعضهم؛ لأن الله أجل وأعظم من أن يخلفه الإنسان، أن يكون خليفة عن الله، وإنما إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً، أي قومًا يخلف بعضهم بعضًا.
بعضهم يقول: بأن آدم قيل له خليفة باعتبار أن الجن سبقوا في الأرض فجاء آدم بعدهم فهو خليفة. بعد إفساد الجن، لكن هذا فيه بُعد، وآدم ليس بخليفة عن الجن، وإنما خليفة أن يخلف بعضهم بعضًا.
يعني: باعتبار لو أراد الذرية، لكن لا يلزم، يمكن أن يقال: بأن خليفة جنس يصدق على الواحد والكثير. هذا يحتمل أن يُراد به آدم ويُراد به الذرية أيضًا، فكل هؤلاء يمكن أن يقال له: خليفة. فآدم يخلفه من جاء بعده من ذريته، وكذلك الذرية يخلف بعضهم بعضًا، وكما عرفنا أن خليفة يأتي بمعنى خالف ويأتي بمعنى مخلوف.
يعني هذا الكلام يشتمل على أمرين:
القضية الأولى: التي ذكرها ابن جزي -رحمه الله- فيما يتعلق بهذا السؤال، بمعنى هل هذا سؤال اعتراض؟ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا حاشا الملائكة -عليهم السلام- فإنهم منقادون لله تمام الانقياد لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6]، لكنه كما قال: سؤال محض.
كما يعبر ابن كثير -رحمه الله- يقول: سؤال استعلام واستكشاف فقط[16]. يعني: يسألون عن الحكمة في ذلك أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا، ليس اعتراضًا على الله، والملائكة لا يعترضون على الله ، وإنما يسألون عن الحكمة في ذلك.
القضية الثانية: التي ذكرها وهي أنهم كيف عرفوا أنهم يفسدون في الأرض؟ والله أخبر أنه سيجعل في الأرض خليفة قبل خلق آدم، قال: فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ [الحجر:29]، أمرهم بالسجود قبل خلقه وأعلمهم بذلك، وكذلك أمرهم بالسجود بعد خلقه، وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا، فإذا جمعت الآيات في هذا فهذا محملها -والله تعالى أعلم- فمنها ما يدل على أنه أعلمهم قبل الخلق وأمرهم أنه إذا خلقه أن يسجدوا فَإِذَا سَوَّيْتُهُ، ثم لما خلقه أمرهم بالسجود، وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا.
وإنما علموا أن بني آدم يفسدون بإعلام الله إياهم بذلك: هذا قول قتادة -رحمه الله-، يعني هذا جواب الآن لهذا السؤال، كيف عرف الملائكة أن بني آدم سيحصل منهم سفك دماء وإفساد في الأرض؟ بعضهم يقول: الله أعلمهم بهذا، علموا بإعلام الله لهم.
وبعضهم يقول: بأنهم قاسوا بني آدم على الجن، فإن الجن وجدوا قبل بني آدم وحصل من الإفساد، وأن الملائكة قتلتهم. لكن هذه مبناه على الإسرائيليات، لا دليل عليه، وبعضهم يقولون: قالوا ذلك لما عرفوا طبيعة آدم وأنه خُلق من الطين وأنه أجوف -يعني له جوف- معنى ذلك أن له غرائز وشهوات فيحصل منه الإفساد.
لكن، وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً، هذا قبل أن يخلقه، فقالوا هذا، يعني قبل أن يشاهدوا آدم في طينته، فيكون هذا علمه عند الله ، يمكن أن يكون ذلك بإعلام الله لهم، ولهذا قالوا: سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا، أن الله أعلمهم بهذا أو ألهمهم، والله أعلم.
ولا يقال هنا: بأن إعلام الله لهم إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً أنه من قبيل الاستشارة. هذا ذكره بعضهم ولا يحسن، وإنما قصدوا بذلك قالوا: التعليم. أن يعلم الله خلقه هذا الأمر الذي هو الاستشارة، وإلا فهم يعلمون -أعني هذا القائل- بأن الاستشارة إنما تكون ممن لا يعلم العواقب ولا يحيط بالأمور فيجتمع إلى رأيه رأي غيره- هم يدركون هذا- ولكن قالوا: أراد الله أن يُعلم بني آدم، هذه الصفة وهذه الخلة وهذا المعنى لحاجتهم إليه. ولكن هذا باطل غير صحيح ولا يفسر بهذا ولا يقال، ولو كان لهذا المعنى، وإنما ذكرت هذا تنبيهًا عليه؛ لأنه وجد في بعض الكتب، فلا يقال: هذا من باب الاستشارة. فهذا لا يليق نسبته إلى الله -تبارك وتعالى- فالله أجل وأعظم وإنما ذكر لهم ذلك لحكمة يعلمها؛ ليختبرهم، ليكون مثل هذا الذي وقع من الجواب ثم بعد ذلك ما تبين لهم من فضل آدم .
يقول: فقتلتهم الملائكة فقاس الملائكة على بني آدم. ربما يكون أيضًا فهموه باعتبار أن الخليفة يعني معانيه أن يفصل بين الناس ما يقع بينهم من المظالم، إذن سيقع مظالم لما قال لهم: إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً، إذن هناك فصل وحكم وخصومات ومشكلات ومظالم، والله أعلم.
التسبيح معروف أنه هو التنزيه والتبعيد من السوء على وجه التعظيم، بِحَمْدِكَ، أي: حامدين لك، متلبسين بحمدك، وفي حديث أبي ذر عن النبي ﷺ في أحب الكلام إلى الله قال: ما اصطفى الله لملائكته أو لعباده: سبحان الله وبحمده[17]، هذا في صحيح مسلم، فلاحظ هنا وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ، سبحان ربي وبحمده.
أي: ونحن نسبح بحمدك حال كوننا حامدين لك.
أي: تكون اللام هذه صلة يعني زائدة إعرابًا، يعني: وَنُقَدِّسُ لَكَ، يعني: نقدسك، الكاف تكون في محل نصب مفعول به، واللام زائدة، طبعًا من ناحية المعنى هي لتقوية الكلام، يعني: ليست من قبيل الحشو من جهة المعنى، لكن يقصدون إعرابًا، ونقدسك، ونقدس لك، فيكون أقوى في المعنى. وضربت لَزيدًا.
يعني: نقدس لك أو نعظمك فتكون اللام في لك للتعليل.
هذا باعتبار أن المفعول محذوف، يعني الكاف إذا قيل إن اللام هذه زائدة تكون الكاف مفعول به، وَنُقَدِّسُ لَكَ نقدسك، فيكون المفعول بهذا الاعتبار مذكورًا، لكن الكلام هنا فيه تداخل، لاحظ من أوله يقول: نقدس لك يحتمل أن تكون الكاف مفعولًا، ودخلت عليها اللام كقولك: ضربت لَزيدًا.
أو أن يكون المفعول محذوفًا أي نقدسك. أي نقدسك هذا يرجع إلى كون اللام زائدة والمفعول هو الكاف، نقدسك على معنى ننزهك ونعظمك، وتكون اللام في لك للتعليل أي لأجلك، أو يكون التقدير نقدس أنفسنا. هذا باعتبار أن المفعول محذوف: نقدس أنفسنا لك، أي نطهرها لك، لكن هذا بعيد، والمقصود هو التقديس لله التقديس المشهور أنه يُفسر بمعنى التطهير، ولذلك في معنى القدوس بعضهم يفسره بالطاهر من كل عيب ونقص، والذي يظهر -والله أعلم- أن تقديس وأن أصل هذه المادة تدل على التطهير وزيادة، يعني: تطهير مع تعظيم، المكان المقدس، الأرض المقدسة يعني المطهرة وأيضًا مع تعظيم، الشيء المقدس هو شيء مطهر ومعظم، فيجمع بين هذا وهذا، والله أعلم.
ما لا تَعْلَمُونَ، أي: ما يكون في بني آدم من الأنبياء والأولياء وغير ذلك من المصالح والحكمة.
الْأَسْماءَ كُلَّها، أي: أسماء بني آدم، وأسماء أجناس الأشياء كتسمية القمر والشجر، وغير ذلك.
قال ابن جرير -رحمه الله-: بأنه علمه الأسماء كلها: أسماء الملائكة وذرية آدم[18].
وقال ابن كثير: بأن الصحيح أنه علمه أسماء الأشياء كلها ذواتها وصفاتها، وأفعالها[19].
ونسب شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- القول بأنها أسماء كل الأشياء إلى الجمهور[20]، علمه أسماء كل شيء، وهذا المشهور عن ابن عباس -ا- يعني حتى علمه المصغر، قصى والقُصيعة، وبهذا قال كثير من السلف: كمجاهد، وسعيد بن جبير، وقتادة[21]، علمه أسماء كل شيء، وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا فهذا ظاهره العموم، ولا دليل على تخصيصه بأسماء الذرية وأسماء الملائكة وإنما يُحمل على عمومه.
فلاحظ هنا يقول: الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا، أي: أسماء بني آدم، أو أسماء أجناس الأشياء. ولا ندري هل ابن جزي -رحمه الله- يريد الجمع بين الأمرين، يعني يقول: بأن الأسماء هنا أسماء بني آدم وأسماء أجناس الأشياء، أو أنه ذكر الآخر من باب الاحتمال. يحتمل أسماء أجناس الأشياء: كتسمية القمر والشجر، إلخ، يعني أن هذا يقال له شجر، وهذا يقال له بحر، وهذا يقال له جبل، دون تسمية الجبل المعين، والشجرة المعينة، ونحو ذلك هذا معنى أجناس الأشياء.
يعني أنه أبرزها لهم في الخارج، أبرزها لهم فقال: فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ.
أَنْبِئُونِي، أمر على وجه التعجيز.
إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ، أي: في قولكم: إن الخليفة يفسد في الأرض ويسفك الدماء، وقيل: إن كنتم صادقين في جواب السؤال والمعرفة بالأسماء.
الحافظ ابن كثير يقول: إن كنتم صادقين في قيلكم إني إن جعلت خليفة في الأرض من غيركم عصاني وذريته، وأفسدوا وسفكوا الدماء، وإن جعلتكم فيها أطعتموني واتبعتم أمري، فإذا كنتم لا تعلمون أسماء هؤلاء الذين عرضت عليهم وأنتم تشاهدونه فأنتم بما هو غير موجود من الأمور الكائنة التي لم توجد أحرى أن تكونوا غير عالمين[22].
أنتم لا تعرفون أسماء هؤلاء فكيف بما وراء ذلك من الحكم والغايات الحميدة، فهذا المخلوق هذا آدم يأتي من ذريته الأنبياء والرسل الكرام -عليهم السلام- ويحصل على أيديهم أنواع التعبد والتقرب إلى الله ، والجهاد في سبيله، بذل النفوس والمهج وما إلى ذلك، فهذا كله مما يدخل في حكمة خلق هذا الخليفة في الأرض.
لا عِلْمَ لَنا، اعتراف.
أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ، أي: أنبئ الملائكة بأسماء ذريتك أو بأسماء أجناس الأشياء.
باعتبار التفسير السابق، لاحظ هنا: أو بأسماء. جاءت (أو) هنا فالذي يظهر من الأولى كذلك، أو أجناس يعني أن هذا احتمال عنده في المعنى، لكن إذا قلنا: بأن أنبئهم بأسمائهم يعني أسماء كل شيء، هذه المخلوقات التي عرضت على الملائكة.
اسْجُدُوا لِآدَمَ، السجود على وجه التحية، وقيل: عبادة لله، وآدم كالقبلة.
قوله: اسْجُدُوا لِآدَمَ السجود على وجه التحية.
على كل حال هذا لا حاجة إليه لكن هذا سجود تحية بأمر الله ويوسف لما دخل عليه أبواه وإخوته خروا له سجدًا، وكان ذلك جائزًا في شريعتهم ثم بعد ذلك حُرم في هذه الشريعة، والنبي ﷺ يقول: لو كنت آمرا أحدا أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها[23].
وفي رواية: لما قدم معاذ من الشام سجد للنبي ﷺ قال: ما هذا يا معاذ؟ قال: أتيت الشام فوافقتهم يسجدون لأساقفتهم وبطارقتهم، فوددت في نفسي أن نفعل ذلك بك، فقال رسول الله ﷺ: فلا تفعلوا، فإني لو كنت آمرا أحدا أن يسجد لغير الله، لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها ...[24]، هو سجد لما رأى هؤلاء النصارى يسجدون لمعظميهم ومقدميهم، فرأى أن النبي ﷺ أولى بهذا، فنهاه النبي ﷺ عن ذلك، فهذا كان سجود تحية، وليس سجود عبادة قطعًا.
على كل حال هذا لا دليل عليه، جازاه الله بولاية اللوح المحفوظ يعني كأنه كافأه على ذلك، لكن هذا لا دليل عليه.
نحن عرفنا في مناسبات سابقة أن الاستثناء المتصل ما كان فيه المستثنى من جنس المستثنى منه، تقول: جاء القوم إلا زيدًا. والاستثناء المنقطع أن يكون المستثنى من غير جنس المستثنى منه، فتقول: جاء القوم إلا كتابًا.
يعني لكن كتابًا لم يأت، فعلى القول بأن الاستثناء هنا إِلَّا إِبْلِيسَ متصل فيكون إبليس من جنس الملائكة وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ، أنه كان مَلَكًا، والملائكة أخبر الله أنهم، لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ [التحريم:6]، والأصل في الاستثناء الاتصال وليس الانقطاع، هذه القاعدة، فهؤلاء لما نظروا إلى هذا قالوا: إنه كان من الملائكة فعصى الله. الملائكة لا يعصون الله، وهذا الإشكال الذي يرد على هذا القول.
وزعم بعضهم بأن اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ، قالوا: بأن قوله في سورة الكهف إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ [الكهف:50] أن الجن قبيل من الملائكة.
يعني: أرادوا حمل آية الكهف على مثل ما جاء في آية البقرة، قالوا: الجن قبيل من الملائكة، يقال لهم الجن. وليس المقصود الجن المعروفين أحد الثقلين، وإنما قبيل من الملائكة. وهذا تكلف ولا دليل عليه، والأقرب أن الاستثناء هنا منقطع فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لكن إبليس لم يسجد، وأنه من الجن بدليل إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ [الكهف:50]، فآية الكهف واضحة وصريحة في هذا، آية البقرة هذه تحتمل، والقرآن يُفسر بالقرآن، فهذه الآية تفسرها آية الكهف فترفع الاحتمال، والملائكة لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6]، فلا يقال: إن إبليس كان من الملائكة.
ويدل على هذا أيضًا أنه قال: خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ [الأعراف:12]، [ص:76]، هذا وجه الاعتراض عنده، أن عنصر النار أفضل من عنصر الطين، العلماء قالوا: هذا أول قياس فاسد الذي قاسه هو إبليس.
ورد عليه كثير من العلماء من وجوه متعددة، ردوا على إبليس هذا القياس وأنه ليس بصحيح أن عنصر النار أفضل من عنصر الطين، بل إن الطين أفضل من النار، وذكروا وجوهًا في الرد، لكن على كل حال قوله: خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ يدل على أنه كان من الجن؛ لأن النبي ﷺ أخبر خلقت الملائكة من نور، وخلق الجان من مارج من نار، وخلق آدم مما وصف لكم[26]، يعني: من الطين، فهذا واضح في أصل خلقه وكذلك في آية الكهف: كَانَ مِنَ الْجِنِّ [الكهف:50]، فالاستثناء عليه يكون هنا منقطعًا.
اسْتَكْبَرَ؛ لقوله: أنا خير منه.
استكبر اعترض على أمر الله ورأى أن هذا الأمر في غير محله، فهو معترض على ربه -تبارك وتعالى- لم يستجز السجود لآدم ورأى أنه أفضل من آدم، ومن ثم فإن السجود لآدم في غير موضعه.
قوله: "وذلك بناء على أن المعصية كفر": ليس مقصوده بذلك أن المعصية كفر يعني مخرج من الملة هكذا بإطلاق، فإن أهل السنة لا يقولون بهذا، ولا يقول به المؤلف، وإنما المعصية هي متفرعة من شجرة الكفر، كما أن الطاعة متفرعة من شجرة التوحيد، الإيمان بضع وسبعون - أو بضع وستون - شعبة، فأفضلها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان[27].
فكل الطاعات متفرعة من كلمة التوحيد، وهي من شُعب الإيمان -أعني الطاعات-، فقول: (لا إله): هذا نفي لما يُعبد من دون الله ويدخل فيه كل ما خالف أمره وخرج عن طاعته، وليس المقصود بذلك أن يكون بالضرورة كل ذلك من قبيل الكفر المخرج من الملة، لكن هو متفرع من شجرة الكفر، و(إلا الله): هذا الإثبات فيدخل فيه أنه المعبود وحده وكذلك محاب الرب -تبارك وتعالى- والطاعات كلها داخلة فيه، كما يدخل في الأول: (لا إله): نبذ ما يعبد من دونه ونبذ المعبودات والعابدين والعبادات، والثاني: (إلا الله): يدخل في جانب الإثبات هذا، إثبات الوحدانية له، وكذلك محاب الرب -تبارك وتعالى- وكذلك موالاة أهل الإيمان، فالولاء والبراء من (لا إله إلا الله).
زوج هذا الذي جاء في القرآن والسنة، وهي اللغة الفصيحة المشهورة (زوج)، اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ، ولكن زوجة هي لغة فصيحة لكنها قليلة، والأول أشهر وأفصح، القول بأن المرأة زوج، فتقول: هذه زوجي. أفصح من زوجتي، لكن جاء في كلام العرب استعمال الزوجة كما في قول الفرزدق:
وإن الذي يسعى ليفسد زوجتي | كساع إلى أسد الشرى يستبيلها |
والفرزدق في زمن الاحتجاج بالشعر، فشعره فصيح، يحتج به وهو في زمن التابعين، يعني آخر من يُحتج به من الشعراء إبراهيم بن هَرِمة، وليس هذا محل اتفاق، لكن على كل حال لا شك أن الفرزدق كان في زمن الاحتجاج، هو في عداد التابعين، أدرك بعض الصحابة.
هذا القول لا دليل عليه أنها غير الجنة المعروفة، جنة أخرى، فهذا غير صحيح، قد نسب شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- هذا القول -أعني بأنها هي جنة الخلد الجنة المعروفة- إلى سلف الأمة، وأهل السنة والجماعة، كذلك عزاه الحافظ ابن كثير إلى الأكثرين من أهل العلم، فلا حاجة للتكلف والقول بأنها جنة أخرى خلقها الله -تبارك وتعالى- ليسكن آدم فيها؛ لأن الجنة إذا أطلقت معرفة و (أل) للعهد كانت الجنة المعهودة؛ وهي في السماء وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ [الذاريات:22]، ولذلك جاء التعبير بلفظ الهبوط اهْبِطُوا مِنْهَا والهبوط لا يكون إلا من أعلى إلى أسفل.
يعني أن النهي عن القرب أبلغ من النهي عن المواقعة، فتقول: لا تقرب كذا. فهو نهي عنه، وعن الأسباب التي توصل إليه، فهذه الأسباب هي الذرائع المفضية إلى فعل المحظور وَلَا تَقْرَبَا، وما قال: ولا تأكلا من هذه الشجرة. وإنما قال: وَلَا تَقْرَبَا، فهذا أبلغ من النهي عن الأكل فإنه لو قال: لا تأكلا.
هذا نهي عن الأكل خاصة، لكن وَلَا تَقْرَبَا نهي عن الأكل وعن كل ما يوصل ويفضي إليه، وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا [الإسراء:32]، وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ [الأنعام:151]، لا تقربوا الزنا أيضًا لا تقربوا الأسباب الموصلة إليه من النظر والاختلاط والخضوع بالقول والتبرج، وإظهار الزينة وما إلى ذلك، إطلاق البصر، فهذا أصل في سد الذرائع.
واستدل ابن القيم -رحمه الله- في كتابه (إعلام الموقعين) على هذه القاعدة بما يقرب من مائة وجه من الأدلة على إثبات هذه القاعدة: سد الذرائع[28].
ويقول صاحب المراقي:
سد الذرائع إلى المحرم | حتم كفتحها إلى المنحتم |
سد الذرائع إلى المحرم حتم. يعني لازم، لا بد منه، يعني عندنا سد الذرائع إلى المحرم واجب، كفتحها إلى المنحتم يعني فتح الذرائع إلى المشروع والواجب واجب.
صحيح ولا حاجة لذكر مثل هذه الأقوال، لا دليل عليها ومبناها على الإسرائيليات، ولكن كان في ذلك فائدة لذكرها الله .
عطف على تقربا وَلَا تَقْرَبَا ... فَتَكُونَا أو نصب بإضمار أن: فأن تكون، بعد الفاء في جواب النهي.
فأزلهما متعد من زلل القدم يعني إن الهمزة للتعدية أزلهما، زل، وأزل، زل هو، زلت قدمه، أزله عن الحق والصواب، فهذه للتعدية، يعني: أزل غيره، أزله فزل، فهذا معنى متعد من زلل القدم، وأزالهما بالألف من الزوال، (فأزالهما) هذه قراءة حمزة[29]، وقراءة الجمهور فَأَزَلَّهُمَا هكذا مشددة، أزلهما يمكن أن يقال بمعنى صرفهما عن طاعة الله فأوقعهما في الزلة، قاعدة: أن القراءتين بمنزلة الآيتين، يعني إذا كان لكل قراءة معنى فكل قراءة بمنزلة آية، فهنا فَأَزَلَّهُمَا، بالتعدية صرفهما عن طاعة الله فأوقعهما في الزلة فكان ذلك سببًا للزوال، (فأزالهما) هذه دلت على معنى وهذه دلت على معنى، ونكون بهذا قد جمعنا بين القراءتين بهذا التفسير، وجوّز الحافظ ابن كثير عود الضمير هنا عَنْهَا إلى الجنة، فعلى قراءة حمزة (فأزالهما) يعني فنحاهما يعني أزالهما عن الجنة، نحاهما عن الجنة، ويمكن أن تحمل أيضًا على قراءة الجمهور من زل عن المكان إذا تنحى عنه، فَأَزَلَّهُمَا ... عَنْهَا فتكون من الزوال أيضًا، كما جوّز ابن كثير أن يعود الضمير إلى أقرب المذكورين وهو الشجرة فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا يعني عن الشجرة، فتكون عن بمعنى الباء يعني بسببها، يعني بسبب الشجرة، لكن المتبادر أن ذلك يرجع إلى الجنة، لاحظ: وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا بناء على أن الضمير يرجع إلى أقرب مذكور فأقرب مذكور هو الشجرة، فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا، أي: عن الشجرة، فتكون عن بمعنى الباء، وحروف الجر تتناوب، بسبب الشجرة، ولكن المتبادر أن ذلك يرجع إلى الجنة بما يفهم من السياق، والله أعلم.
يعني: عن بمعنى الباء، هذا كونها سببية.
يعني: هنا القول بأن ذلك وقع على سبيل النسيان أخذًا من قول: فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا [طه:115]، النسيان يأتي بمعنى الترك، فترك طاعة الله يقال له نسيان، والله يقول: وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ [الحشر:19]، فهنا بمعنى الترك، ويأتي النسيان بمعنى الذهول عن المعلوم، كما قال صاحب المراقي:
ذهاب ما عُلم قل نسيان | والعلم في السهو له اكتنان |
والفرق بين النسيان والسهو: أن النسيان الذهول عن المعلوم، ذهاب المعلوم، يعني علمت مسألة، حفظت مسألة، نسيتها، حفظت آية نسيتها، والسهو يكون العلم موجودًا ولكن يسهو الإنسان عن الشيء، هذا الفرق بين السهو والنسيان.
فالقول هنا بأن آدم فعل ذلك نسيانًا بمعنى الذهول عن المعلوم وذهابه من الذهن هذا بعيد، وكأن هؤلاء الذي حملهم على هذا هو أنهم ربما يميلون إلى القول بأن الأنبياء لا تقع منهم المعصية أصلًا، وآدم نبي، فقالوا هنا بمعنى النسيان، لكن لو كان يعني الذهول عن المعلوم فنسي، فإن الإنسان لا يؤاخذ بالنسيان، رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا [البقرة:286]، قال الله: (قد فعلت)[30].
لكن هؤلاء قد يقولون: إن هذا رُفع عن هذه الأمة فقط. يعني النسيان، وعلى كل حال الله يقول: وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى [طه:121]، وهذا واضح ونص صريح بأن ذلك من قبيل المعصية، وآدم قال: رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا [الأعراف:23]، فعبر عن هذا الفعل بأنه ظلم للنفس، وظلم النفس يكون بالمعصية، أما القول بأنه سَكِر فهذا غير صحيح؛ لأن خمر الجنة لا يُسكر.
ولا حاجة لذكر هذا في التفسير أصلًا، إذا كان من الأقوال الباطلة لا حاجة لإيراده.
وقيل: أكل عمدًا وهي معصية صغرى، وهذا عند من أجاز على الأنبياء الصغائر، وقيل: تأوّل آدم أن النهي: كان عن شجرة معينة فأكل من غيرها من جنسها، وقيل: لما حلف له إبليس صدقه؛ لأنه ظن أنه لا يحلف أحد بالله كاذبًا.
قوله: وقيل: أكل عمدًا وهي معصية صغرى، وهذا عند من أجاز على الأنبياء الصغائر.
على كل حال الأنبياء تقع منهم الصغائر؛ ولكنهم لا يصرون عليها من جهة، ومن جهة أخرى لا تقع منهم ما يسمى بصغائر الخسة، يقولون: الصغائر التي تُسقط المروءة. كتطفيف حبات في كيل ونحو ذلك، هذه من الصغائر لكنها تدل على قلة المروءة وذهاب المروءة ونحو هذا، فمثل هذا لا يقع من الأنبياء -عليهم السلام-؛ لأنهم أكمل الناس مروءة، فيتوبون، ولهذا قال الله : فَتَابَ عَلَيْهِ، فهذه التوبة تكون من المعصية غالبًا، المعتزلة الذين يقولون: الأنبياء لا تقع منهم المعصية.
يفسرون قوله، بل يحرفون قوله: وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى [طه:121]، جعلوا ذلك مفسرًا بغير مادة الفعل، قالوا: من غوى الفصيل غوي إذا بشم. يعني أنه رضع وأكثر حتى انتفخ بطنه، قالوا: فآدم غوى بمعنى أنه أكثر من الأكل من الشجرة.
وفرق بين غوى يغوى غواية، وبين غوي، فرق بين أصل المادة في الفعلين، فهؤلاء يريدون أن يحرفوا هذه بحيث أنهم يقولون: إن الأنبياء -عليهم السلام- لا تقع منهم المعصية فقالوا هو من غوي الفصيل. رضع حتى انتفخ بطنه، فآدم أكل من الشجرة حتى أكثر منها. فهذا بعيد وتحريف للكلم عن مواضعه.
- أخرجه البخاري، كتاب الصلح، باب إذا اصطلحوا على صلح جور فالصلح مردود، رقم: (2697)، ومسلم، كتاب الأقضية، باب نقض الأحكام الباطلة، ورد محدثات الأمور، رقم: (1718).
- أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (1/19).
- البيت لزهير يمدح رجلا، يقول: أنت إذا قدرت أمرا قطعته وأمضيته وغيرك يقدر ما لا يقطعه لأنه ليس بماضي العزم، وأنت مضاء على ما عزمت عليه لسان العرب (10/87).
- صحيح البخاري (9/124).
- تفسير البغوي (1/78).
- تفسير الطبري (1/430).
- تفسير ابن كثير (1/213).
- تفسير السعدي (ص:745).
- مجموع فتاوى ورسائل العثيمين (3/312).
- مختصر الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة (ص:372).
- انظر: الحجة في بيان المحجة (2/274).
- تفسير البغوي (8/356).
- البحر المحيط في التفسير (1/222).
- القاموس المحيط (3 /398).
- تفسير القرطبي (17/10).
- تفسير ابن كثير (1/216).
- أخرجه مسلم، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب فضل سبحان الله وبحمده، رقم: (2731).
- تفسير الطبري (1/485).
- تفسير ابن كثير (1/223).
- الاستقامة (1/199).
- تفسير ابن كثير (1/223).
- تفسير ابن كثير (1/225).
- أخرجه الترمذي، باب ما جاء في حق الزوج على المرأة، رقم: (1159)، وابن ماجه، كتاب النكاح، باب حق الزوج على المرأة، رقم: (1852).
- أخرجه ابن ماجه، كتاب النكاح، باب حق الزوج على المرأة، رقم: (1853).
- البداية والنهاية (1/49)، ولم أقف له على إسناد.
- أخرجه مسلم، كتاب الزهد والرقائق، باب في أحاديث متفرقة، رقم: (2996).
- أخرجه مسلم، كتاب الإيمان، باب شعب الإيمان، رقم: (35).
- إعلام الموقعين عن رب العالمين (1/57)، وما بعدها.
- تفسير ابن كثير (1/236).
- أخرجه مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان قوله تعالى: {وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه} [البقرة:284]، رقم: (126).