وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ [البقرة:36-44].
اهْبِطُوا خطاب لآدم وزوجه وإبليس بدليل: بعضكم لبعض عدوّ.
يعني آدم مع زوجه من جهة، وإبليس من جهة أخرى، فالعداوة بين آدم وإبليس، وحواء تبع لآدم ، فالإهباط اهْبِطُوا تارة يُذكر بلفظ الجمع كما هنا فيكون آدم وحواء وإبليس، وتارة يُذكر بالإفراد: فَاهْبِطْ مِنْهَا [الأعراف:13]، فيكون المراد إبليس، وتارة يُذكر بالتثنية: اهْبِطَا مِنْهَا، بعضهم يقول: المراد آدم وحواء. والعداوة مع إبليس، أو اهْبِطَا مِنْهَا [طه:123]، يعني: آدم وإبليس، وحواء تبع لآدم، قوله تعالى: بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ، وقال الحافظ ابن القيم: أي بين آدم وإبليس وذريتهما، فالعداوة قائمة بين آدم وإبليس، وكذلك هو عدو للذرية[1].
يعني: من يقول بأن المستقر هو بطن الأرض بعد الموت يكون المتاع على ظهرها، لكن الذي يظهر -والله أعلم- مستقر لكم تستقرون فيها، تقوم مصالحكم ومعايشكم ويحصل لكم فيها المتاع إلى حين، هذه الآية: وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ يأخذ منها أهل العلم أن بني آدم لا يمكن أن يعيشوا على كوكب آخر غير الأرض، هكذا قضى الله -تبارك وتعالى-.
وَمَتاعٌ ما يتمتع به.
إِلى حِينٍ إلى الموت.
قوله: إِلى حِينٍ إلى الموت.
أي: إلى انقضاء الآجال، أو إلى قيام الساعة كما يقول ابن كثير -رحمه الله-[2]، فهذا يحتمل وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ إذا نظرت إلى الأفراد فهم يتمتعون إلى انقضاء آجالهم، وإذا نظرت إلى العموم فهذا يكون إلى قيام الساعة، وعلى كل حال يمكن أن يقال: بأنهم يستقرون على ظهرها أحياء متمتعين بما فيها إلى انقضاء آجالهم، ويستقرون أيضًا في بطنها مقبورين إلى قيام الساعة.
فتلقى، أي: أخذ وقَبِل يعني: عَمِل بما فيها، وبعضهم يقول: المقصود بـ تلقى يعني فهمه لها هو التلقي فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ، فيكون آدم هو الفاعل، تلقى الكلمات، وعلى قراءة ابن كثير (فتلقى آدمَ من ربه كلماتٌ) فتكون الكلمات فاعل، والمتلقي هو آدم هو المفعول به، وهذا مثال على ما ذكرته في مناسبة سابقة في مسألة الجمع بين القراءات، قلنا: إن ذلك لا إشكال فيه بثلاثة شروط: آكد هذه الشروط ألا تكون إحدى القراءتين مترتبة على الأخرى في المعنى أو الإعراب.
ولو قلنا: يصح الخلط بين القراءات والجمع بين القراءات فتقرأ هذا الموضع بقراءة والموضع الذي بعده بقراءة أخرى لا إشكال في هذا بشروط: منها ألا تكون إحدى القراءتين مترتبة على الأخرى في المعنى أو الإعراب مثل هذا الموضع، الآن لو قرأت الموضع الأول (فتلقى آدمَ) على قراءة ابن كثير، مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ على قراءة الجمهور لم يوجد فاعل، صار في كل موضع النصب فلا فاعل فأفسد المعنى، كذلك لو أنه قرأ في الموضع الأول فَتَلَقَّى آدَمُ على قراءة الجمهور بالرفع فهو فاعل، (من ربه كلماتٌ) على قراءة ابن كثير فيكون هنا لا يوجد مفعول به، فهذا يُفسد المعنى، فهذا لا يجوز قطعًا فَتَلَقَّى، أي أخذ وقبل.
هذه هي الكلمات وأحسن ما يفسر به القرآن؟ القرآن، ما هذه الكلمات؟ رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ[الأعراف:23].
اهْبِطُوا بالجمع يعني آدم وحواء وإبليس، وهذا الذي اختاره ابن جرير[4] والحافظ ابن القيم -رحمهما الله- قال: كرر ليناط به ما بعده، قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى، يقول: ويحتمل أن يكون أحد الهبوطين من السماء إلى الأرض، والآخر من الجنة. ابن القيم -رحمه الله- يقول: الإهباط الأول من الجنة، والثاني من السماء[5].
وابن جزي لم يحدد أحد الهبوطين، وابن القيم يقول: الأول من الجنة، والثاني من السماء، الأول: فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ، هذا من الجنة.
والثاني: قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فيكون هذا من السماء إلى الأرض، يعني لا تكرار، وعلى المعنى الأول الذي ذكره ابن جزي قال: كُرر ليناط به ما بعده.
يعني: في كل موضع، فهنا يقول في الموضع الأول: وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ العداوة والاستقرار في الأرض والتمتع فيها إلى حين، الموضع الثاني: قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ كُرر ليناط به ما بعده، يعني ليُذكر الكلام الذي بعده في كل موضع، والأصل عدم التكرار، والتأسيس مقدم على التوكيد، فعلى قول ابن القيم والاحتمال الذي ذكره ابن جزي: أن الإهباط الأول غير الثاني، مع إن ظاهر الآيات -والله أعلم- أنه من الجنة اهْبِطَا مِنْهَا [طه:123]، وليس للسماء ذكر، لاحظ الموضع الثاني ليس في السياق ما يدل على السماء، والله أعلم.
وفي نسخة خطية: وأن يكون هذا الثاني لذرية آدم لقوله: فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ والأول لآدم وزوجه وإبليس.
سرنديب موضع معروف من أرض الهند مما يلي الصين، ونزلت حواء بجدة، وإبليس بالأَبُلة، الأَبُلة قريبة من البصرة، قديمة أقدم من البصرة بطبيعة الحال؛ لأن البصرة والكوفة كانت في زمن عمر ، لكن هذا الكلام لا دليل عليه وهو مأخوذ من الإسرائيليات، ولا حاجة لإيراده وذكره في التفسير، وعلى كل حال تحديد هذه الأماكن وأين نزل آدم وأين نزلت حواء وإبليس لا يترتب عليه فائدة أصلًا، ولو قرأتم في كتب البلدان، قرأتم عن سرنديب هذه تجدون من الأساطير والخرافات ويذكرون موضع قدم آدم، وأن أحد القدمين كانت على جبل؛ وأنه لازال الأثر فيه، والقدم الأخرى في البحر، وأكاذيب كثيرة وينسجون إلى هذه الناحية وهذا الجبل أساطير وأشياء لا صحة لها.
وفي نسخة خطية كُتب الله ورسالاته، على كل حال كتاب الله هذا مفرد مضاف يفيد العموم، لكن الثانية أوضح في بعض النسخ كُتب الله ورسالاته، وفي نسخه: ورسالته، وهذا أيضًا رسالته يمكن أن تكون بمعنى أيضًا العموم.
فَمَنْ تَبِعَ شرط، وهو جواب الشرط الأول، وقيل: (فلا خوف) جواب الشرطين.
فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى هذا الشرط الأول، الشرط الثاني: فَمَنْ تَبِعَ شرط، وهو جواب الشرط الأول، وقيل: فَلَا خَوْفٌ جواب الشرطين، فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ.
يا بَنِي إِسْرائِيلَ لما قدم دعوة الناس عموما وذكر مبدأهم: دعا بني إسرائيل خصوصًا وهم اليهود، وجرى الكلام معهم من هنا إلى حزب (سيقول السفهاء) فتارة دعاهم بالملاطفة، وذكر الإنعام عليهم وعلى آبائهم، وتارة بالتخويف، وتارة بإقامة الحجة وتوبيخهم على سوء أعمالهم، وذكر العقوبات التي عاقبهم بها.
فذكر من النعم عليهم عشرة أشياء، وهي: وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ [البقرة:49]، وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ [البقرة:50]، وبَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ [البقرة:56]، وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ [البقرة:57]، وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى [البقرة:57]، ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ [البقرة:52]، فَتابَ عَلَيْكُمْ [البقرة:54]، نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ [البقرة:58]، وَإِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَالْفُرْقانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [البقرة:53]، فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْنًا [البقرة:60].
وذكر من سوء أفعالهم عشرة أشياء: قولهم: سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا [البقرة:93]، و اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ [البقرة:51]، وقولهم: أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً [النساء:153]، و فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا [البقرة:59]، و لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ [البقرة:61]، و يُحَرِّفُونَهُ [البقرة:75]، و تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ [البقرة:64]، و قَسَتْ قُلُوبُكُمْ [البقرة:74]، و وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ [النساء:155].
وذكر من عقوبتهم عشرة أشياء: وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ [البقرة:61]، و يُعْطُوا الْجِزْيَةَ [التوبة:29]، فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ [البقرة:54]، و كُونُوا قِرَدَةً [البقرة:65]، و فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ [الأعراف:162]، فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ [البقرة:55]، وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً [المائدة:13]، وحَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ [النساء:160]، وهذا كله جرى لآبائهم المتقدمين، وخوطب به المعاصرون لمحمد ﷺ لأنهم متبعون لهم راضون بأحوالهم، وقد وبخ المعاندين لمحمد ﷺ.
وفي نسخة: وقد وُبِّخ المعاصرون لمحمد ﷺ.
قوله: يا بَنِي إِسْرائِيلَ لما قدم دعوة الناس عموما وذكر مبدأهم ..... إلى قوله: وقولهم: (يد الله مغلولة): هذا التفصيل هو من الأشياء المفيدة في هذا الكتاب، فهو في هذا السياق الطويل يذكر مثل هذه الأنواع في الإنعام، والتوبيخ، والقوارع التي نزلت بهم، وما ذكره هنا من أن ذلك جرى لآبائهم، وأنه خوطب به المعاصرون للنبي ﷺ؛ لأنهم متبعون لهم راضون بأحوالهم، وهذا بناء على أنه بالنسبة للنعم، النعم الواقعة للآباء واصلة للذرية، فصح الامتنان عليهم بها وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ [البقرة:49]، والذين في زمن النبي ﷺ يحصل لهم هذا، وإنما حصل لآبائهم، وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى [البقرة:57]، وهذا حصل لآبائهم، فالنعمة الحاصلة للآباء واصلة للذرية فصح الامتنان على المخاطبين في زمن النبي ﷺ من اليهود، وأما في التوبيخ وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا [البقرة:72]، وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً [البقرة:55]، الذين قالوا هم أجداد هؤلاء، فيقال بأن المذمة التي تلحق الآباء تلحق الذرية إذا كانوا على طريقتهم بهذا الاعتبار، وهم على طريقتهم فصحّ مخاطبتهم بهذا، ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ [البقرة:51] مع أن الذين عبدوا العجل هم الآباء، فهذا توجيه الخطاب في القرآن لهم فيما يتصل بالامتنان بالنعم، أو التوبيخ على القبائح التي حصلت من أجدادهم، وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ [البقرة:65].
هذا مضى مرارًا، المفرد المضاف يكون بمعنى الجمع، نعمتي أي نعمي.
بهَا جِيَفُ الحَسْرَى فأمَّا عِظامُها | فبيضٌ وأمّا جلدُها فَصَلِيبُ[6] |
يعني أما جلودها، فجلد مفرد أضافه إلى المعرفة الذي هو الضمير جلدها، أي جلودها، فصليب يعني صليبة يابسة.
يعني: أن يكون التحديد الذي قاله بعض المفسرين من قبيل التفسير بالمثال؛ من أجل الإيضاح وليس للحصر، يقول مثلًا: المن والسلوى اذكروا نعمتي.
فالمن والسلوى من جملة النعم، وإلا فنعمه عليهم كثيرة من إنجائهم من آل فرعون، وتظليل الغمام، وكما قال الله : وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ [المائدة:20].
يعني: من الإيمان به وبرسله ومنهم محمد ﷺ، وإقامة شرعه، وبيان الحق الذي عرفوه، بِعَهْدِي ولاحظ هنا عهد مفرد مضاف إلى معرفة إلى الضمير الياء، بِعَهْدِي، أي: بعهودي، ويدخل فيه سائر العهود، وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ [البقرة:63]، وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ [البقرة:84].
وعلى كل حال هو يدخل في ذلك أُوفِ بِعَهْدِكُمْ.
وتكفير السيئات، الله يقول: وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ [المائدة:12].
وكذلك أيضًا: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ [آل عمران:187]، فهذا كله من مواثيقه وعهوده.
وفي قوله في الأعراف: عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ [الأعراف:156] الآية، الآن قال فيها: الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ [الأعراف:157]، فدخل فيه الإيمان بالنبي ﷺ، فهذا كله داخل فيه، والله أعلم.
لأنه قد أخذ معموله فارهبوني، يعني المفعول؛ لأنه قد أخذ معموله، وكذلك فَاتَّقُونِ يعني اتقوني، فالياء هنا هو معموله، فيكون هنا قوله: وَإِيَّايَ مفعول بفعل مضمر مؤخر لانفصال الضمير وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ يعني: فارهبوني، فيقول: لا يصح أن يكون هو فارهبون، لكن فارهبون يفسر هذا المعمول لانفصال الضمير الذي هو الياء، لما كانت الياء لا تأتي مفردة دخلت معها بهذا التركيب وَإِيَّايَ وهذا يفيد الحصر، تقديم المعمول على عامله يفيد الحصر، أصله فارهبوني، قال: وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ، لإفادة الحصر، يعني مثل: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5]، أي: لا ترهبوا غيري.
وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ القرينة هنا، لو قال: آمنوا بما أنزلت. فقط يشمل الكتب المنزلة، لكن قوله: مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ، هذا قرينة تدل على أن المراد القرآن.
هذا مفيد في مثل هذه المواضع مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ، ما المراد به؟ فهذا يشمل هذه المعاني الثلاثة التي ذكرها، وكلها صحيح، وداخلة تحت معنى الآية، والله أعلم.
مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ، يعني: هو يصدق ما معكم أن هذه الكتب وهؤلاء الأنبياء الكرام -عليهم السلام- أخبروا بصفته فجاء مطابقًا للوصف الذي قالوه فذلك تصديق لهم، هذا وجه.
مصدق، يعني: هو بلسان المقال، مصدقهم يقول هم أنبياء يشهد لهم بالصدق، فهذا غير الأول، الأول أنهم أَخبروا، فجاء كما أَخبروا، فكان ذلك المجيء تصديقًا، لكن هنا مصدق بالقول، يقول: يشهد لهم بأنهم أنبياء.
هؤلاء الأنبياء كما قال النبي ﷺ: الأنبياء إخوة من علات، وأمهاتهم شتى، ودينهم واحد[7]، فأصول الدين في العقائد والأحكام، الأصول الكبار، أصول الشريعة، وأصول الأخلاق واحدة، ولكن التفاصيل تختلف، فحينما تتفق هذه الأصول فهذا تصديق، يشهد بعضهم لبعض أن هذا شرعه الله -تبارك وتعالى- وأنه حق، فالله إله واحد لا شريك، وهو متصف بصفات الكمال بذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله، واحد في إلهيته وربوبيته وأسمائه وصفاته، هذا في كل الكتب، وعلى لسان جميع الرسل ، وكلهم يقول: اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ [الأعراف:65، 73]، [هود: 50، 84]، [المؤمنون: 23، 32]، يصدق بعضهم بعضًا في ذلك، وكذلك تجد مثل إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة ونحو ذلك من الأصول العظام، يتفقون عليها، وإن اختلف ذلك في الصفة والتفصيل.
وفي نسخة خطية: فهو مصدق لهم لاتفاقه في الإيمان بذلك. لكن لاتفاقهم أوضح، وعلى كل حال هذا الذي يقول: في جميع النسخ الخطية. غاية ما هناك أنه رجع إلى أربع نسخ خطية، والكتاب له نسخ كثيرة جدًا، فإذا قيل: في جميع النسخ. معناها النسخ الأربع فقط التي رجع إليها من قابل الكتاب على تلك النسخ، وليس جميع النسخ الموجودة، فهذه العبارة: لاتفاقه في الإيمان بذلك. ليست واضحة، لكن لاتفاقهم في الإيمان بذلك، هذه أوضح.
الضمير يقول: عائد على القرآن. وهذا قال به ابن جريج[8]، ولكن هذا ليس محل اتفاق، وقد قال بعض السلف: كأبي العالية: بأن ذلك يرجع إلى النبي ﷺ، وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ، أي: النبي ﷺ، وهذا قال به أيضًا جماعة: كالحسن، والسدي والربيع بن أنس[9].
وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ، بما أنزلت: يعني القرآن، هذا هو المتبادر، وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ فالضمير يرجع إليه، هذا هو ظاهر السياق، ولكن هنا ملازمة بين القرآن ومن أُنزل عليه، فمن كفر بالقرآن فقد كفر بالنبي ﷺ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ.
يقول: وهذا نهي عن المسابقة إلى الكفر به، ولا يقتضي إباحة الكفر به في ثاني حال؛ لأن هذا مفهوم معطل. يعني إن مفهوم المخالفة وهو ما يُفهم من جهة السكوت، المسكوت عنه، فالمنطوق هو الذي يُفهم من جهة النطق، والمفهوم من جهة السكوت، فهنا مفهوم المخالفة، المخالفة في الأصل حجة، فهل يقال هنا: وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ أن النهي هنا جاء مقيدًا بالأولية: أول كافر، فيصح أن يكونوا كفارًا لكن بعد الناس، المهم أنه لا يكون أول كافر، هذا غير صحيح، ومفهوم المخالفة نُهي عن أن يكون أول كافر به، فإذا قال: أنا لا أريد أن أكون كذلك، لكن في غمار الناس، وآخر من يكفر -نسأل الله العافية- فهذا لا يجوز وليس هو المراد، ولكن مفهوم المخالفة حجة إلا في مواضح لا يكون فيها حجة التي ذكرها صاحب المراقي بقوله:
كذا دليل للخطاب انضافا | ودعْ إذا الساكت عنه خافا |
أو جهل الحكم أو النطق انجلبْ | للسؤل أو جرى على الذي غلب |
أو امتنان أو وفاق الواقع | والجهلِ والتأكيد عند السامع |
وهذا لا يرد على الشارع عمومًا لكنه يتكلم عن المفهوم في العموم حتى في كلام الناس، أو جهل النطق يعني جهل المنطوق، أو الحكم انجلب للسؤل: يعني أجاب على قدر السؤال، أو جرى على الذي غلب: يعني على الغالب، أو امتنان: يعني في سياق الامتنان لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا [النحل:14] لا يدل على أن القديد حرام، المجفف من السمك، أو وفاق الواقع: لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ [آل عمران:28]، لو قال: أوالي الكافرين مع المؤمنين. قال: لا، هذه جاءت هكذا وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا [النور:33]، وإن لم ترد التحصن؟ كذلك لا يجوز، لكن هذا جاء في سياق معين، أن عبد الله بن أُبيّ كان يكره جاريتين على الزنا عنده ليكتسب من ورائهما فنزلت الآية، وإلا لا يجوز تمكينها من ذلك مطلقًا ولو كانت تطلبه، أو وفاق الواقع فجاءت الآية موافقة لواقع معين ... إلخ ما ذكر، فالشاهد نحو سبعة مواضع لا يُعتبر فيها مفهوم المخالفة، والجهل والتأكيد عند السامع: هذا مجموع ما ذكره.
فهنا وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ فهذا لا يُعتبر، ويمكن أن يكون هذا داخلًا في قوله: والتأكيد عند السامع. فهو نهي لهم عن الكفر مطلقًا، لكن كون هؤلاء يكونون أول من يكفر به وهم أعلم الناس بصدقه هذا في غاية القُبح.
وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا، هو ما يؤخذونه من الرُشا فيبدلون الحق ويحرفون الكلم عن مواضعه، وفي شأن النبي ﷺ وفي غيره، وما يستعيضون به من الدنيا عن قول الحق وبيانه والعمل به واتباعه.
وهل هذه الآية: وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا تدخل في تعليم القرآن بالأجرة؟.
الجواب: فهموا هذا من عموم اللفظ، وإن كانت هذه الآية في بني إسرائيل، والكلام في أخذ الأجرة على تعليم القرآن فيها خلاف معروف بين أهل العلم، ولكن حتى الحنفية انتهى أمرهم إلى الترخيص بأخذ الأجرة على تعليم القرآن؛ لما رأوا من أثر القول بالمنع من تعطيل التعليم والتعلم لكتاب الله ، يعني رأوا أن هذا يؤدي إلى الترك فقالوا: يُرخص. هكذا انتهى القول بذلك عند متأخريهم.
لبس الحق بالباطل يدخل فيه ما كان في صفة النبي ﷺ من التبديل والتغيير، يعني يجدونه عندهم مثلًا ربعة من الرجال يعني متوسط بين الطول والقصر، ليس بالطويل البائن الطول ولا بالقصير البين القصر، فيقولون: هو طويل. يجدونه مثلًا أبيض مشرب بحمرة، فيقولون: آدم. يعني فيه سُمرة، أسمر، وهكذا يبدلون في صفاته ﷺ، وكذلك يدخل فيه أيضًا لبس الحق بالباطل بما يحرفون من كتبهم ويبدلون، تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا [الأنعام:91]، فهذا من لبس الحق بالباطل، فكل تحريف يقع عندهم وتبديل فهو داخل في هذا.
يعني وأن تكتموا، ولا تلبسوا الحق بالباطل وأن تكتموا الحق يعني في الوقت الذي تكتموا فيه الحق، والواقع أن كل من لبس الحق بالباطل فلا بد أن يكون قد كتم الحق، فبينهما ملازمة، لكنه يريد أن يقول هنا بأن كون الواو هنا عاطفة وأنه معطوف على ما قبله وَلَا تَلْبِسُوا وتكتموا يعني ولا تكتموا، يقول: وتكتموا معطوف على النهي أو منصوب بإضمار (أن) في جواب النهي بمعنى الجمع والأول أرجح؛ لأن العطف يقتضي النهي عن كل واحد من الفعلين بخلاف النصب... إلخ.
كما في قوله تعالى: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [آل عمران:71].
لاحظ هذه الآية: وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ، هذا هو الأمر لهم بالدخول في الإسلام وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا إلى أن قال: وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ، فالأمر لهم بالدخول في الإسلام هو في قوله: وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ، أما هذا فهو أمر بالصلاة والزكاة.
وَارْكَعُوا خصص الركوع بعد ذكر الصلاة؛ لأن صلاة اليهود بلا ركوع فكأنه أمر بصلاة المسلمين التي فيها الركوع، وقيل: اركعوا للخضوع والانقياد.
مَعَ الرَّاكِعِينَ مع المسلمين فيقتضي ذلك الأمر بالدخول في دينهم، وقيل: الأمر بالصلاة مع الجماعة.
هذا يذكره كثير من أهل العلم كما في قوله: وَارْكَعُوا لكن مثل هذا ليس بالضرورة أنه يدل على وجوب صلاة الجماعة، يعني صلاة الجماعة تؤخذ من أدلة أخرى، هم النبي ﷺ أن يحرق على من يتخلفون عنها بيوتهم، ونحو ذلك، ولكن قوله: وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ لا يدل على لزوم الجماعة من حيث هو، ويدل على ذلك أن الله قال لمريم -عليها السلام-: وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ [آل عمران:43]، فهل هذا أمر لها بصلاة الجماعة؟ الجواب: لا، والمرأة ليست بمطالبة بهذا أصلًا، وإنما المقصود الدخول في جملتهم، فيكون في جملة المصلين، ولكن العلماء -رحمهم الله- يريدون من الأدلة ما يكون صريحًا، ويريدون أيضًا أدلة تكون محتملة يعني دونه في القوة.
أَتَأْمُرُونَ، تقريع وتوبيخ لليهود.
بِالْبِرِّ عام في كل أنواعه فوبخهم على أمر الناس وتركهم له، وقيل: كان الأحبار يأمرون من نصحوه في السر باتباع محمد ﷺ، ولا يتبعونه، وقال ابن عباس: بل كانوا يأمرون باتباع التوراة، ويخالفون في جحدهم منها صفة محمد ﷺ[10].
على كل حال هذا كله داخل فيه، ويدخل فيه سائر ما يكون من الأمر بالبر مع مخالفة الآمر في ذلك في خاصة نفسه، يعني لا يمتثل، سواء كان ذلك في أمرهم بالإيمان بمحمد ﷺ أم بأمرهم بأي نوع من أنواع البر مع غير التلبس به من قِبَل الآمر.
لاحظ هنا فُسر النسيان بالترك.
وهذا كما هو معلوم أن ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لغير الممتثل يعني كون الإنسان لا يفعل المعروف ويأمر الناس به، أو ينهى عن المنكر وهو متلبس به هذا قبيح، وهو الذي عابه الله على هؤلاء اليهود، ولكن ذلك لا يعني بحال من الأحوال أن من كان مقصرًا فترك المعروف أنه لا يأمر به، أو أن من فعل المنكر أنه لا ينهى عنه، بل هما واجبان، الامتثال في خاصة نفسه: بفعل المعروف، وترك المنكر، والواجب الآخر: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فصارت المراتب متفاوتة:
فأعلى المراتب: أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر مع الامتثال.
المرتبة الثانية: أن يفعل المعروف ويترك المنكر لكنه لا يأمر ولا ينهى. فهذا كما في أصحاب السبت الذين انقسموا إلى ثلاث طوائف: طائفة تفعل المنكر، وطائفة تنهى عنه، وطائفة تقول: لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا [الأعراف:164]، يعني: سكتوا، فهذه المرتبة الثانية، يعني: يتمثل في نفسه لكنه لا يأمر ولا ينهى، فهذا مقصر ومتوعد لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ [المائدة:78-79]، لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ [المائدة:63].
المرتبة الثالثة: أن يفعل المنكر أو يترك المعروف ولكنه يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر. فهذا مثل حال بني إسرائيل هؤلاء أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ [البقرة:44].
المرتبة الرابعة: ألا يفعل المعروف ولا يأمر به، ويفعل المنكر ولا ينهى عنه.
المرتبة الخامسة: ألا يفعل المعروف ويفعل المنكر، وينهى عن المعروف ويأمر بالمنكر. وهي أسوأ هذه المراتب، كحال المنافقين الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ [التوبة:67]، فهؤلاء أقبح المراتب، ولهذا كانوا في الدرك الأسفل من النار، ولذلك تجدهم دائمًا يعادون الحق والفضيلة والآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر هم أشد أعداء المنافقين، يبغضونهم بغضًا شديدًا ويلمزونهم بالأوصاف القبيحة، فهؤلاء لا يكتفون بفعل المنكر بل يؤمرون به، ولا يكتفون بترك المعروف بل ينهون عنه، فهم قد حملوا على عواتقهم الصد عن سبيل الله ، وتثبيط الناس عن فعل الخير، وأمر الناس وإغواء الناس، وإغراء الناس بالشر والمنكر والفساد وتزيين ذلك في نفوسهم هذه حال المنافقين -نسأل الله العافية-، فلا تستغرب إذا رأيت هؤلاء في حال من العداوة الشديدة لأهل الحسبة ولأهل الفضيلة ولأهل المعروف ويلمزونهم بأقبح الأوصاف، فكما قال الله : الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ [النور:26]، كما يقول ابن جرير: الخبيثون من الناس للخبيثات من الأقوال.
فهي تصدر عنهم، وهم أهلها ومظنتها وهم معدنها، والشيء من معدنه وأصله لا يُستغرب، فهؤلاء يُستغرب منهم لو أمروا بمعروف وتكلموا في فضيلة، فهذا الذي يُستغرب، أما أن يأمروا بالمنكر وأن ينهوا عن المعروف فهذا هو المتوقع منهم.
أسئلة:
س: كيف يكون هناك نسيان في الجنة وقد اكتمل نعيمها؟.
جـ: عرفت معنى النسيان، هنا بمعنى الترك.
س: يقول: قول الحسن في البرهان، القرآن ذكر: لا يعلمه إلا الذكور من الرجال؟.
جـ: هي ليست هكذا القرآن ذكر، يقول: علم القرآن ذكر. لا يعلمه إلا الذكور من الرجال علم القرآن، هذا الذي أذكر في العبارة التي نقلها صاحب البرهان، وراجع إن شاء الله، علم القرآن ذكر.
س: ذكر المحقق في مقدمة الكتاب إحراق كتب الغزالي فهل كان السبب في ذلك هو ديني محض؟.
جـ: على كل حال كتب الغزالي فيها معروف من الانحرافات والضلالات الشيء الكثير سواء كان ذلك في العقائد الكلامية بل والفلسفة، وكذلك التصوف، ولا تخلو من فوائد ولذلك كتاب الإحياء هُذب واختصر ففيه جوانب مفيدة ونافعة، وحمل بعض أهل العلم هذا الإحراق على أسباب أخرى، ولكن على كل حال الكتب فيها من الانحرافات ما هو ظاهر.
س: كيف نحكم على مفسر ما بأنه استفاد من مفسر آخر غير النقل الصريح؟.
جـ: هذا بالدراسة التي يسمونها بالدراسة النقدية، الدراسة النقدية: أن تنظر في الكتب وتقارن لا سيما ذات المنهج الواحد، مثلًا حينما تأتي لهذا التفسير وتقارن بتفسير ابن عطية، وتقارن بتفسير الزمخشري، وتقارن بتفسير الرازي، ونحو ذلك، يتبين لك مثلًا هناك أشياء مطابقة أو شبه مطابقة لبعض ما في هذه الكتب من غير عزو، فتعرف أنه استفاد من هذا الكتاب، فهذا ما يتبين بمجرد القراءة هكذا، فهنا قراءة يمكن أن نخرج منها بتوصيف لمنهج المؤلف في قراءة المقدمة والمرور على الكتاب نقول: يذكر الآية ويذكر فيها القولين والثلاثة ويرجح، يجعل القول الأول هو الراجح مثلًا، يشير إلى الأقوال الأخرى بقيل، يذكر القراءات المتواترة، لا يذكر الشاذة، يذكر من الإعراب ما يتوقف عليه المعنى، هذه تسمى قراءة توصيفية، تقرأ كتاب وتوصف، لكن القراءة الثانية النقدية حينما تأتي وتنظر ماذا قال في المقدمة ثم بعد ذلك تتتبع هل طبق هذا؟، كونه يقول: لا آتي بالإسرائيليات، وجردته من الإسرائيليات. هل ذكر إسرائيليات؟، حينما يقول: أنا لا أذكر فيه إلا ما صح من الأحاديث. هل ذكر أحاديث ضعيفة؟، حينما يقول مثلًا: لا أذكر الأقوال الشاذة. هل فعلًا هو لا يذكر الأقوال الشاذة؟، كذلك أيضًا المادة المذكورة في الكتاب هذه، هل حينما ينقل عن العلماء هل يعزو أو لا يعزو؟، هل إذا عزا ينقل ذلك نصًا أو يتصرف في الكلام من غير إشارة إلى أنه بتصرف؟، وما إلى ذلك، هذا لا يُعرف إلا بالمقارنة، فتعرف من خلالها مصادر الكتاب، مصادر المؤلف وتعرف من خلالها الدقة في هذا الكتاب، وهل المادة التي فيه فعلًا هي تأليف أو أنها موجودة في الكتاب الفلاني والكتاب الفلاني، يعني أحيانًا بعض الكتب لما تقارن، مثلًا ابن عادل الحنبلي حينما تقرأ في الكتاب قراءة توصيفية قد يروقك أشياء في الكتاب من الفوائد واللطائف ... إلخ، لكن لما تقارن بمثل تفسير الرازي تجد هذه اللطائف والفوائد ونحو ذلك هي مأخوذة من الرازي، حينما تقارن (فتح البيان) لصديق حسن خان مع كتاب (فتح القدير) للشوكاني تجد أن الكتاب هو الكتاب، لكنه أخذ الآثار وفرقها في مواضعها، وزاد بعض الزيادات القليلة من كتب المتأخرين من غير إشارة إلى أن هذا كلام الشوكاني، فهذا يُعرف بالمقارنة، حينما تتتبع مثلًا كلام ابن جرير تجد أن بعض الكلام في الإعراب أو قضايا المعاني اللغوية ونحو ذلك، تجد أنه يأخذها من فلان وفلان، تارة يذكره وتارة لا يذكره، فهذا كله يعرف بالتتبع والمقارنة.
س: لماذا يجري العرب اسم الفاعل مجرى اسم المفعول مَاءٍ دَافِقٍ [الطارق:6]، لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ [هود:43]؟.
جـ: هكذا لغتهم، فالسياق هو الذي يُبين عن المعنى المراد، فمن كلامهم أنهم يفسرون اسم الفاعل في بعض المواضع بمعنى المفعول بدلالة السياق، فهذا صحيح من جهة اللغة، والله أعلم.
س: هل وقوع الصغائر في الأنبياء يقتضي نفي العصمة؟
جـ: العصمة في التبليغ وليست العصمة من المعصية.
س: هل نفي العصمة عنهم فيما يبلغون عن ربهم ووقوعهم في غيرها من المعاصي ...؟.
جـ: هو يقع منه المعصية لكن لا يصرون عليها، ولا تقع منهم صغائر الخسة كما سبق، وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى [طه:121].
س: ما صحة رواية أو ذكر الحية في قصة خروج آدم ؟.
جـ: هذا لا أساس له، لا يوجد له دليل صحيح، أنه وسوس له عن طريق الحية، وأن الحية أيضًا نزلت معه، فهذا أيضًا لا دليل عليه، هذه من الأخبار الإسرائيلية.
س: متى يجوز حكاية الإسرائيليات؟.
جـ: العلماء حينما أوردوها في كتب التفسير بناء على قول النبي ﷺ: (وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج)، ومعلوم أن الأخبار الإسرائيلية ثلاثة أنواع:
الأول: ما يخالف ما عندنا. فهذا لا يصح ذكره إلا لبيان التحريف عندهم.
الثاني: ما يوافق ما عندنا. يعني جاء عندنا ما يدل على صحته، فهذا لا إشكال مع أن ما عندنا يغني عنه.
الثالث: متوقف فيه. يعني لم يوجد عندنا ما يدل على البطلان، ولا ما يشهد بصحته، فهذا جاءت فيه الرخصة، (حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج)، لكن لا يصدق ولا يُكذب، فالمفسرون حينما أوردوا هذا؛ لأن النبي ﷺ رخص فيه، لكن لو تُرك لكان أولى، وهم حينما يذكرونه في التفسير لا يقصدون به الاعتماد، وإنما يذكرونه من باب الاستئناس.
س10: ما قولك فيمن ينكر تصور الجن على هيئة إنسان وكيف نرد هذا؟.
جـ: الجن يتصورون بصورة الإنسان وغير الإنسان، ويدل على هذا حديث أبي هريرة في تمر الصدقة، فجاءه يحثو وشكا له الفقر وأنه ذو عيال ... إلخ، فصدقه أبو هريرة إلى أن أخبره النبي ﷺ أنه شيطان بعد ثلاث، فهذا دل على تشكله وتصوره، وكذلك جاء أيضًا في الشياطين الذين يحدثون الناس، الرجل يلقى الرجل ويقول بأنه سمع من رجل يعرف صورته وهيئته لكنه يعرف وجهه ولا يعرف اسمه، فهذا من الشياطين يظهرون بصورة الإنس، ويحدثون الناس ويضللونهم، الشياطين عندهم قدرة على التمثل والتشكل بصورة الإنس وغير صورة الإنس، يعني النبي ﷺ قال: (الكلب الأسود شيطان)، ولما ذكر النبي ﷺ أيضًا قومًا من الجن الذين استوطنوا المدينة، الرجل الذي قتل الحية بالرمح ثم تلبط وسقط ومات، فلا يُدرى أيهما مات أولًا، ذكر النبي ﷺ بعده لأصحابه إنذار هذه إذا وجدوا شيئًا منها ثلاثًا؛ لأنها تتشكل بصور هذه الحيوانات، وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: أن هؤلاء الجن يظهرون في صور من الكلاب والقطط وغير ذلك.
س: هل بقي إبليس في الجنة بعدما عصى الله حتى وسوس لآدم؟.
جـ: بعض العلماء يقولون: بأنه وسوس عن طريق الحية. وهذا لا دليل عليه، يعني هو كان خارج الجنة فوسوس عن طريق الحية، وبعضهم يقول: بأنه وسوس، الوسوسة تكون من الخارج، فممكن أن تكون الوسوسة من خارج الجنة، فتصل هذه الخواطر والوساوس إلى آدم ، ولا يلزم أن يكون إبليس في الجنة حينما وسوس لآدم.
س: هل تصح تلاوة القرآن بخلط القراءات؟.
جـ: ذكر الجواب عن هذا أثناء الكلام.
س: ما رأيكم في كتاب (المصباح المنير في تهذيب ابن كثير) وهل..؟.
جـ: تكلمنا، وشرحت الكتاب كاملًا، يمكن يبدأ بالتفسير الميسر، أو المختصر في التفسير، المختصر الآن ظهرت طبعة قبل أيام جديدة مصححة ومراجعة، جيد أن تُقتنى، الطبعة الأخيرة، فيُبدأ به أو بالتفسير الميسر، ثم لو قرأ بعد ذلك مثل تفسير السعدي، ثم يقرأ مثل (المصباح المنير) أو (عمدة التفسير) اختصار الشيخ أحمد شاكر.
س: ما رأيكم في تفسير (المحرر الوجيز)؟.
جـ: هو على اسمه كتاب ابن عطية، لكن لا يُبدأ به، وأيضًا لا يقرأ فيه إلا من يُميز في الاعتقاد؛ لأن العقيدة التي بُني عليها هي عقيدة المتكلمين، عقيدة الأشاعرة.
س: أرجو ذكر مراتب الناس وأحوالهم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟.
جـ: ذكرت هذا، خمس مراتب.
س: هل هداية الرشاد سبب في هداية التوفيق؟.
جـ: قصده الإرشاد يمكن، هداية الإرشاد دلالة إلى الحق والتعريف به، وأما التوفيق فهو من الله، فهما هدايتان يحتاج العبد إليهما، أن يعرف الحق وأن يُلهم العمل والاتباع والامتثال للحق، فلا بد له من الهدايتين، فالرسل -عليهم السلام- هداية الإرشاد، والله هو الذي يهدي هداية التوفيق، فقد تحصل هداية الإرشاد ولا تحصل هداية التوفيق، فالرسل -عليهم السلام- دعوا أقوامهم وكثير ممن سمع هذه الدعوة وعرف الحق لم يستجب، فحصلت لهم هداية الإرشاد ولم تحصل لهم هداية التوفيق.
- مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة (1/16)
- تفسير ابن كثير (1/236).
- تفسير القرطبي (1/326).
- تفسير الطبري (1/535).
- مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة (1/15)
- قاله علقمة بن عبدة بن النعمان. انظر: المفضليات (ص: 394).
- أخرجه مسلم، كتاب الفضائل، باب فضائل عيسى ، رقم: (2365).
- تفسير الطبري (1/563).
- تفسير ابن كثير (1/243).
- تفسير الطبري (1/7).