الثلاثاء 17 / جمادى الأولى / 1446 - 19 / نوفمبر 2024
(006-أ) من قوله تعالى "ورفعنا فوقكم الطور" الآية 62 إلى قوله "وما الله بغافل عما تعملون" الآية 73
تاريخ النشر: ٠١ / صفر / ١٤٣٧
التحميل: 1738
مرات الإستماع: 2807

وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ۝ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ ۝ وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ ۝ فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ ۝ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ ۝ قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ ۝  قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ ۝ قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ ۝ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ ۝ وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ ۝ فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ۝ ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ [البقرة:63-74].

وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ لما جاء موسى بالتوراة أبوا أن يقبلوها فرفع الجبل فوقهم وقيل لهم: إن لم تأخذوها وقع عليكم.

مضى الكلام على الطور في الغريب، وهو الجبل في قول أكثر السلف، كما قال الله -تبارك وتعالى-: وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ [الأعراف:171]، فهذا يفسره، وجاء عن بعض السلف: كابن عباس -ا- أنه الجبل الذي أنبت. الجبل الذي فيه شجر يقال له: الطور. وفسره ابن جرير بقوله تعالى: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ [البقرة:83]، أن هذا هو الميثاق الذي أخذه عليهم.

يعني: هنا يقول: لما جاء موسى بالتوراة أبوا أن يقبلوها فرفع الجبل فوقهم. وابن جرير يفسره بالآية الأخرى: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا [البقرة:83]، الآية.

بِقُوَّةٍ جدّ في العلم بالتوراة، أو العمل بها.

الآية: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ خذوا ما آتيناكم يعني قلنا: خذوا ما آتيناكم، فهذا الميثاق الذي أخذه عليهم، وقوله: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ [البقرة:83]، خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ، يعني: مما أخذنا عليكم بهذا الميثاق، بِقُوَّةٍ والقوة المقصود بها الجد في العمل بالكتاب المنزل، وذلك قوله -تبارك وتعالى-: يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ [مريم:12].

وكذلك في قوله: وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ [ص:45]، يعني: أصحاب القوة في العمل بطاعة الله ، والجهاد في سبيله.

اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ اصطادوا فيه الحوت وكان محرمًا عليهم.

كُونُوا قِرَدَةً عبارة عن مسخهم، وخاسئين صفة أو خبر ثان، ومعناه مبعدين كما يخسأ الكلب.

هذا مسخ حقيقي على ظاهره، وهذا الذي عليه عامة أهل العلم سلفًا وخلفًا، اللهم إلا ما روي عن مجاهد: أن المسخ كان معنويًا. وهذا غير صحيح ولا دليل عليه، وهو خلاف ظاهر القرآن، فهنا كُونُوا قِرَدَةً حقيقة، فهنا يقول: عبارة عن مسخهم. لكن قوله هنا: عبارة عن مسخهم. هل يقصد بأن ذلك لم يكن بلفظ كن فيكون، يعني بمعنى أن الله قضى بمسخه وحكم به دون أن يقول: كن. بأن الله ليس له كلام يتعلق بمشيئته وإرادته؟ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً، إن كان يقصد هذا المعنى، يعني الآن عندنا قضيتان:

القضية الأولى: المسخ هل هو حقيقي أو لا؟ عبارته أن المسخ لم يقيده بأنه مسخ معنوي، فلا إشكال في كلامه.

القضية الثانية: في صفة كلام الله : فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً فظاهره أن الله -تبارك وتعالى- تكلم بذلك، فالله إذا أراد شيئًا فإنه يقول له: كن فيكون، والقول في كلام العرب هو الذي جاء في الكتاب والسنة، وليس له معنى آخر، القول: مجموع اللفظ والمعنى.

يعني لا يكون المعنى قولًا، الشيء الذي في النفس، وإنما يكون باللفظ، وما يتضمنه من المعنى خلافًا للمتكلمين من الأشاعرة مثلًا، الذين يقولون: بأن القول والكلام بالنسبة لله هو النفسي. ويحتجون على هذا بمثل فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي[1]، وتقول: قال في نفسه.

قلتي في نفسي، زورت في نفسي حديثًا كما جاء عن عمر ، ولكن الواقع أن هذا ليس فيه دليل، فالقول والكلام والحديث ونحو ذلك كالإنسان، الإنسان لا يكون إلا مجموع الروح والجسد، فإذا فارقته الروح كان جثة، والروح وحدها لا يقال لها إنسان، فكذلك القول لا يكون مجردًا بلا معنى، لا يقال له قول، وكذلك الكلام، كما قال ابن مالك -رحمه الله-:

كلامنا لفظ مفيد كاستقم  

يعني مفيد فائدة يحسن السكوت عليها، فلابد من الإفادة، وهذا لا يكون إلا بتمام المعنى، كلامنا لفظ. ولا بد من اللفظ، فهذا في لغة العرب، ولا يُعرف غير هذا، ولكنه قد يقال: حدث نفسه بكذا. إذا قُيد الحديث بأنه في النفس، حدثت نفسي بكذا، حديث نفس، إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم تتكلم أو تعمل[2]، ففرق بين هذا وهذا، فالمقيد قد يُراد به حديث النفس، ولكنه عند الإطلاق لا يكون إلا بمجموع الأمرين: أن يكون اللفظ، والمعنى، فإذا كان هنا يقصد كُونُوا قِرَدَةً أن المقصود بذلك هو نفس المسخ من غير قول. فهذا تأويل، وإن لم يقصد هذا المعنى، وإنما يريد هنا بيان المراد بتحويلهم إلى قردة أن المقصود به المسخ، فهذا العبارة تحتمل، تحتاج إلى تتبع كلامه في مسألة كلام الله ، وعلى كل حال كان المؤلف -رحمه الله- يوافق المتكلمين في بعض عباراتهم، وأحيانًا يذكر كلام المتكلمين وكلام أهل السنة، ونحن ننبه -إن شاء الله- في كل موضع على ذلك.

فَجَعَلْناها الضمير للفعلة وهي المسخ. نَكالًا، أي: عقوبة لما تقدم من ذنوبهم وما تأخر، وقيل: عبرة لمن تقدم ومن تأخر.

النكال مضى في الغريب وهو بمعنى الرجس والعقاب، وأصل ذلك يرجع إلى معنى القيد في أصله، فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا يقول: عقوبة لما تقد من ذنوبهم وما تأخر، وقيل: عبرة لمن تقدم ومن تأخر. لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا بعضهم يقول: لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا من القرى، بلاد يعتبرون بها، الذين كانوا في زمانهم. نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا يعني نكالًا لمن حولهم من القرى في ذلك الزمان، وموعظة للذين من بعدهم، كما جاء عن ابن عباس، وهو اختيار الحافظ ابن كثير -رحمه الله-: أن النكال لما بين يديها وما خلفها يعني من القرى المعاصرة لها، والموعظة لمن جاء بعدهم ممن بلغه خبرهم.

واختار أبو جعفر بن جرير -رحمه الله-: أن المراد أنه جعل العقوبة لما بين يديها من ذنوبهم السالفة، ولما خلفها من أمثال ذنوبهم إذا عُمِل بها فيمسخ، نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا جرائرهم التي مضت فاستوجبوا بها هذه العقوبة، وَمَا خَلْفَهَا لمن يعمل -يعني- عملهم، وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ [هود:83] فيصيبه ذلك.

ابن جزي يقول: أي عقوبة لما تقدم من ذنوبهم وما تأخر. وقيل: عبرة لمن تقدم ومن تأخر. كلام ابن جرير يوافق الشق الأول من القول الأول: أي عقوبة لما تقدم من ذنوبهم، وما تأخر؟ ليس من ذنوبهم هم؛ لأنهم مُسخوا وإنما لمن يعمل عملهم، فإطلاق القول هنا: وما تأخر. لا يتضح به المراد، لكن عبارة ابن جرير أوضح، وما تأخر: يعني مما يُعمل من بعدهم.

أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قصتها أن رجلًا من بني إسرائيل قتل قريبه ليرثه، وادّعى على قوم أنهم قتلوه، فأمرهم الله أن يذبحوا بقرة، ويُضرب القتيل ببعضها، ففعلوا فقام وأخبر بمن قتله، ثم عاد ميتًا.

هذه خلاصة ما جاء في هذه القصة، إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً، وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا تدافعتم فيها.

أَتَتَّخِذُنا هُزُوًا جفاء وقلة أدب، وتكذيب.

يعني: كيف يردون على نبيهم بمثل هذا الرد! يقول لهم: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ يخبرهم عن الله أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً ويكون الجواب: أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا، فهل يقع مثل هذا من نبي  كريم والاستهزاء بالناس! لا يقع من العاقل فضلًا عن الأنبياء -عليهم السلام- ولهذا انظروا إلى الجواب قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ فدل على أن الذي يستهزأ بالناس ويسخر منهم أنه من الجاهلين، وأن هذا ليس من أوصاف العقلاء، العاقل لا يستهزأ بالناس، فعنده من ذنوبه وأعماله ما يشغله عن الاستهزاء، ولكنه إذا رأى مبتلى حمد الله.

وفي النسخة الخطية: أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا جفاء وقلة أدب أو تكذيب. أو تكذيب يكون أحسن باعتبار -وهذا سنحتاج إليه فيما بعد- أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا يعني يحتمل أنهم قالوا ذلك على سبيل التكذيب، ولهذا سيأتي الكلام في قوله -تبارك وتعالى-: قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ إن كان هذا تكذيب فيكون ذلك تصديق منهم، وإن كان هذا من باب الجفاء والرعونات من غير تكذيب فيكون قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ أن الآن جئت بالوصف الكاشف المبين لهذه البقرة الذي يميزها عن غيرها، عبارات المفسرين هل هذا تصديق الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ أو لا؟ بناء على هذا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا هل هو تكذيب؟ كفر منهم يعني؟ بعض السلف يقول: كفروا، كان ذلك ردة منهم.

فارِضٌ مسنة.

الفارض هي المسنة، وقد مضى الكلام في الغريب على هذا، ويقال في اللغة للواسع فارض، كأنها سُميت بذلك؛ لأنها فرضت سنها يعني كأنها قطعت سنها وبلغت آخرها، ويقال للشيء القديم أيضًا: فارض. يقال: الفارض التي ولدت بطونًا كثيرة فيتسع جوفها. لفظة تدل على سعة، سعة في العمر، أو سعة في الجوف لكثرة الولادة، وبينها تلازم أن التي ولدت كثيرًا قد تقادم عليه العمر والزمان، وأصل الفرض كما مضى في الكلام في الغريب أنه التأثير في الشيء بقطع أو غيره.

بِكْرٌ صغيرة.

وأصل أول الشيء وبدؤه، ولهذا سميت التي لم تُفتض بالبكر ولو كانت كبيرة، لم تفتض؛ لأنه أول الشيء وبدؤه.

عَوانٌ، متوسطة.

بَيْنَ ذلِكَ أي بين ما ذكر، ولذلك قال ذلك مع الإشارة إلى شيئين.

لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ، هذا الموضع وأمثاله ونظائره في القرآن؛ لأن هذا أول موضع في القرآن من نوع يسميه البيانيون بالأمثال الكامنة، ومعنى الأمثال الكامنة عندهم: أن يكون الكلام يكمن فيه معنى مثل مشهور متداول، الأمثال هذه السائرة عند الناس من قولهم مثلًا: من عز بز، ومن غلب استلب. كلمة قيلت في مناسبة ثم صارت تقال في نظائرها، هذا لا يوجد في القرآن؛ لأن الله لا يتمثل بقول أحد من الناس، فالأمثال في القرآن ليست من هذا في شيء، لكنه يوجد نوع من الأمثال اسمه الأمثال الكامنة، يعني مثلًا هنا لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ هنا يتضمن معنى مثل مشهور وهو خير الأمور الوسط، فهذا ونحوه كقوله -تبارك وتعالى- في نظائر هذا: وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ [الإسراء:29]، فهذا بنفس المعنى خير الأمور الوسط، هذا يسمونه بالأمثال الكامنة، يكمن فيه معنى مثل مشهور متداول، وهذا غير الأمثال السائرة في القرآن، وبعضهم يخلط بين هذا وهذا، الأمثال السائرة في القرآن هي عبارة عن جملة في القرآن صارت مسير المثل، فصار الناس يتمثلون بها، مثل: وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ [فاطر:43]، صارت تُستعمل استعمال المثل، فتقال في المناسبات التي لها تعلق بهذا المعنى، والله أعلم.

في النسخة الخطية: مع أن الإشارة إلى شيئين. يعني لاحظ هنا لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ ذكر أمرين: عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ الإشارة جاءت مفردة، ما قال: عوان بين هذين. فهنا يعني بين ما ذُكر.

صَفْراءُ من الصفرة المعروفة، وقيل سوداء: وهو بعيد.

نعم بعيد؛ لأن الذين قالوا: سوداء. صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا، أخطأوا من جهة أنهم حملوا ذلك على ما جاء في بعض كلام العرب من ذكر الصفرة يريدون بها السواد كقول الشاعر يصف إبلًا:

تِلْكَ خيلي مِنْهُ وَتلك ركابي هنّ صفرٌ أَوْلَادهَا كالزّبيب

يعني سود، أو تضرب إلى السواد، هن صفر، الصُفر يعني سود، هذا مقصوده بالصفر، أولادها كالزبيب أي بين بين، تضرب إلى السواد.

وفي قوله: كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ [المرسلات:33]، يعني: كأنه جمالة سود، إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ ۝ كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ [المرسلات:32-33]، يعني: كأنه جمالة سود، وقد جاء في الحديث الذي حسنه بعض أهل العلم في النار: أوقد عليها ألف عام حتى احمرت، وألف عام حتى ابيضت، وألف عام حتى اسودت، فهي سوداء مظلمة[3].

 فإذا ذُكرت الصُفرة في ألوان الإبل فالمقصود بها السواد، وهذا في ألوان الإبل خاصة، قد ذكر هذا المعنى أبو جعفر ابن جرير -رحمه الله-[4]، وذكره بعض أصحاب المعاني، وأما إذا ذُكرت الصفرة في غير ألوان الإبل فإن ذلك بمعنى الصُفرة المعروفة، ولهذا قال: من الصفرة المعروفة. يعني ليست بمعنى السواد، بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ لا يقال أنها سوداء فيكون ذلك من قبيل الخطأ في التفسير.

والظاهر صفراء كلها. وقيل: القرن والظلف فقط، وهو بعيد:

والظاهر صفراء كلها. هذا هو الظاهر، قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ، خلافًا لمن قال: صفراء القرن والظلف فقط. هذا خلاف الظاهر من وصفها بالصفرة. 

فاقِعٌ شديد الصفرة.

لاحظ وهذا يُبين أن المقصود الصُفرة المعروفة وليست السواد، وكذلك أنها صفراء يعني كلها، وليست صفراء القرن، وما يدل على هذا أن المقصود الصفرة المعروفة أنه قال: فاقِعٌ، والسواد ما يوصف بالفقوع، وإنما يقال: أسود حالك وحانك، وأسود غربيب. ونحو ذلك من العبارات، فكل لون يؤكد بما هو معروف عند العرب، يقال مثلًا: أحمر قاني، وأخصر ناضر، وأبيض ناصع البياض، وكل هذا يدل على شدة الوصف وخلوصه، فالسواد لا يوصف بالفقوع، لا يقال: أسود فاقع. وإنما أسود حالك، وحانك وغربيب ونحو ذلك من العبارات المعروفة وهي كثيرة عند العرب يؤكدون بها الألوان، لا سيما السواد، فمؤكداته كثير، لكن لا يقال: فاقع. فلما قال: فاقِعٌ. دل على أنها الصفرة المعروفة، والله أعلم.

تَسُرُّ النَّاظِرِينَ لحسن لونها، وقيل لسمنها ومنظرها كله.

لاحظ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ قيل: لسمنها ومنظرها كله، أو لحسن لونها. هذا يحتمل لكن لو كانت صفراء فاقع لونها لكنها في غاية الهزال والضعف لا تسر الناظرين، فإن ذلك يمكون بمجموع هذه الأوصاف، والله أعلم، تَسُرُّ النَّاظِرِينَ لكمال خلقتها وحسن لونها.

لا ذَلُولٌ غير مذللة للعمل.

نحن لا نخرج عن المعاني التي يذكرها ولا نتحدث عن قضايا أخرى جانبية؛ لأن المقصود هو فهم هذا الكتاب، شرح هذا الكتاب، وإلا لو أراد الإنسان أن يتحدث هنا معاني كثيرة من الهدايات، حتى القضايا والجوانب الأخرى المكملة، يعني مثلًا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ، في قضية الأشياء التي يسمونها المفرحات بالمناظر والمشاهدات ونحو ذلك مما يدخل السرور على النفس، فإن ذلك يكون بالمطعوم والمأكول والمشروب والمشموم وكذلك أيضًا المسموع، والمنظور المشاهد، وأعظم ذلك غذاء الأرواح.

تُثِيرُ الْأَرْضَ، أي: تحرثها وهو داخل تحت النفي على الأصح.

ما معنى هذا الكلام؟ لاحظ العبارة يقول في صفة هذه البقرة، يعني هم في البداية سألوا عن سنها؟ فقال: لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ: لا كبيرة ولا صغيرة، ثم سألوا عن اللون؟ قال: صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا، ثم سألوا هل هي عاملة مروضة مذللة أو غير مروضة ولا مذللة؟ هذا السؤال الثالث؟ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ، فإذا وقفت هنا عند قوله: لَا ذَلُولٌ فيكون النفي قد تسلط على هذا الوصف خاصة، يعني ليست مذللة، ثم يبدأ الكلام تُثِيرُ الْأَرْضَ يعني بالحرث وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ يعني هي تُستعمل للحراثة ولا تستعمل للسقي، السقي تعرفون البقر يُربط به الدلاء في البئر فيذهب ويجيء، يستخرج الدلاء، الكبار من البئر، ويُسقى به الزرع، فإذا وقفت عند قوله: لَا ذَلُولٌ فيكون نفى عنها هذا الوصف: أنها مذللة، غير مروضة يعني، قال: إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ ثم يبدأ الكلام مستأنفًا: تُثِيرُ الْأَرْضَ أثبت لها هذا الوصف، وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ إذن هذه صفة صعبة، هي ليست مذللة لكنها تحرث ولا تسقي، يُحتاج أن يبحثون عن أوصاف دقيقة مثل هذه، لكن هذا وإن قال به بعض أهل العلم إلا أن الأقرب الوصل وأن النفي يتسلط على هذين الوصفين: قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ يعني تثير الأرض هذا تفسير لذلول، ليست مذللة؛ لأنها لو كانت تثير الحرث لكانت مذللة بالعمل، فإذن الوصل هو الأرجح، قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ، فنفى عنها كونها مذللة تثير الأرض وكونها أيضًا تسقي الحرث، بمعنى أنها غير مروضة، غير مذللة للعمل، وتعرفون الدواب أنها تروض من الإبل والبقر وغيرها، وأحيانًا تكون غير مروضة، ولاحظوا هنا قضية الوقف، الناس الذين يبتكرون مواضع للوقف، ولربما للإغراب، لاحظوا كيف تتغير المعاني لو أنه وقف عند قوله: قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ تغير المعنى تمامًا، ولذلك مثل هذا يُلتزم فيه بالعلامات الموجودة على المصحف إلا من كان عالمًا، يعني يميز فترجح له قول في معنى الآية، وهكذا الإعراب، فمثل هذا قد يقول: إن الوقف هنا وليس هناك. أما أن يكون هذا لكل أحد بما يلوح له فهذا غير صحيح.

وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ لا يسقى عليها.

مُسَلَّمَةٌ من العمل أو من العيوب.

مسلمة من العمل هذا ضعيف، وإنما ظاهره مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ: يعني من العيوب، وهذا الذي قال به كثير من السلف: كقتادة، والربيع بن أنس، وأبي العالية.

لا شِيَةَ لا لمعة غير الصفرة، وهو من وشى ففاؤه واو محذوفة كعدة.

لا شية مضى الكلام عليها في الغريب، الشية من الوشي، تقول: وشيت الشيء. يعني إذا جعلت فيه أثرًا يخالف معظم لونه، ثور موشى القوائم يعني فيها سواد، ثوب موشى يعني فيه من غير لونه، يقول: لا لمعة فيها غير الصفرة. وهذا يدل على أن المقصود الصفرة الكاملة، وليست صفراء القرن والظفر.

الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ العامل في الضرب جئت بالحق.

وفي النسخة الخطية العامل في الظرف، لاحظ هذا لا بد أن يُعدل؛ لأن العبارة هنا ليست صحيحة قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ العامل ليس في الضرب، ليس فيه ضرب هنا، وليس المقصود اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا، لا علاقة له بهذا الموضع، وإنما العامل في الظرف، ما هو الظرف؟ الآن، والآن يقال لما كان بين ما مضى وما سيأتي، يعني اللحظة التي تعيشها، هذه هي الآن، بينما مضى وما يأتي، هذا ظرف، قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ، ما هو العامل في الظرف؟ جِئْتَ بِالْحَقِّ، يعني: جئت بالحق الآن.

وقيل: العامل فيه مضمر تقديره الآن نذبحها، والأول أظهر.

يعني: الآن نذبحها، يعني على الأول يكون العامل هو المذكور بعده الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ جئت بالحق الآن، وعلى الثاني: مقدر محذوف الآن نذبحها. يعني نذبحها الآن، والأول أظهر، بأي اعتبار؟ باعتبار الأصل عدم التقدير، فيجوز جِئْتَ بِالْحَقِّ أيضًا وجهان:

الأول: أن تكون جِئْتَ بِالْحَقِّ باء التعدية كالهمزة. كأنه قيل: أجأت الحق. أي ذكرته.

الثاني: أن يكون في محل نصب على الحال من فاعل جئت. أي جئت متلبسًا بالحق أو معك الحق.

فإن كان قولهم: أتتخذنا هزوا: تكذيبًا فهذا تصديق وإن كان غير ذلك، فالمعنى بالحق المبين.

وفي نسخة بالحق البين فلا إشكال، لكن الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ، هذا الذي أشرت إليه قبل قليل أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا إن كانوا قالوا ذلك تكذيبًا له، يعني كفروا بذلك فهذا تصديق، يقصد الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ يعني: بعدما كذبوه صدقوا بعد ذلك، وإن كان ذلك على سبيل التعنت فقط وسوء الأدب معه فيقصدون، فيقول: وإن كان غير ذلك -يعني بالتعنت- فالمعنى بالحق البين. الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ، يعني: على الأول أنه تكذيب أنه ما جاء بالحق، أنه لم يأت بالحق، فهذا تكذيب، فقالوا: الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ، وإذا كانوا يعتقدون أنه ما جاء بالحق من قبل فهم قد كفروا.

هنا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ عبارة ابن عطية، والمؤلف يرجع إلى ابن عطية كثيرًا، ابن عطية يقول: معناه عند من جعلهم عصاة بينت لنا غاية البيان الذي طلبناه، لا إنه كان يجيء قبل ذلك بغير حق. يعني ما يقصدونه ولكن بينت لنا غاية البيان الآن،  ومعناه عند ابن زيد الذي حمل محاورتهم على الكفر: الآن صدقت. يعني قبل ما جاء بالحق، فالآن صدقت على قول ابن زيد. فالآن وضحت عبارة ابن جزي إذن، لكن على هذا التحريف الذي كان موجودًا لا يُفهم المراد.

وَما كادُوا لعصيانهم وكثرة سؤالهم، أو لغلاء البقرة، فقد جاء بأنها كانت ليتيم وأنهم اشتروها بوزنها ذهبًا[5]، أو لقلة وجود تلك الصفة، فقد روي أنهم لو ذبحوا أدنى بقرة أجزأت عنهم، ولكنهم شدّدوا فشدّد عليهم[6].

لاحظ وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ لعصيانهم وكثرة سؤالهم، أو لغلاء البقرة. وبعضهم يقول: خشية انكشاف القاتل. وعلى كل حال لتعنتهم الذي أدى إلى كثرة القيود والأوصاف لهذه البقرة، فتطاول ذلك عليهم من جهة كثرة السؤال الذي أدى إلى ضيق في هذا الموصوف؛ لأن الأوصاف تقيد فيضيق هذا الموصوف حتى يكاد يتشخص ويتحدد بفرض معين، بقرة، لا فارض ولا بكر، بقرة صفراء، لا ذلول تثير الأرض ... إلخ، فهذا كله يقيدها، وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ؛ لتعنتهم وما ضيقوا على أنفسهم والبحث عن البقرة حتى وجدوها. يقول: فقد روي أنهم لو ذبحوا أدنى بقرة. هذا جاء في حديث مرفوع، حديث أبي هريرة : لولا أن بني إسرائيل قالوا: وإنا إن شاء الله لمهتدون. ما أعطوا أبدًا، ولو أنهم اعترضوا بقرة من البقر فذبحوها أجزأت عنهم ولكنهم شددوا فشدد الله عليهم[7]، هذا الحديث رفعه للنبي ﷺ لا يصح، قال الحافظ ابن حجر: فيه عباد بن منصور ضعيف[8]، وجاء أيضًا مرسلًا، لكنه جاء موقوفًا عن ابن عباس -ا- وأيضًا جاء من كلام بعض السلف، شددوا فشدد الله عليهم.

وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا، هو أول قصة البقرة.

لاحظ يعني الآن لماذا قال: اضربوه ببعضها؟ لأنهم قتلوا نفسًا، وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا تدافعتم فيها، فأخره، يعني يقول: إن هذا هو منشأ الأمر بأمرهم بضربه بالبقرة. فهذا أول، هذا في البداية، فلماذا أخره؟ وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا هي نفس التي تدارؤوها، تدافعوا قتلها، كل طائفة تضيفه إلى الأخرى، فلماذا أخره؟

فمرتبته التقديم قبل (إن الله يأمركم).

فمرتبته التقديم قبل إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً، يعني: وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ، فقيل لهم: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً، هذا المراد.

قال الزمخشري: إنما أخر لتعدّد توبيخهم لقصتين وهما: ترك المسارعة إلى الأمر، وقتل النفس ولو قدّم لكان قصة واحدة بتوبيخ واحد[9].

يعني: لو كان السياق هكذا منذ البداية: وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ، فقال لهم موسى : إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً، صارت قصة واحدة، لكن يقول: لما أُخر صار ذلك يتضمن فائدة زائدة مع أنه يتعلق بنفس القصة. الفائدة الزائدة هذه هي أنه فيه مزيد من التوبيخ، فالأول يتحدث عن تعنتهم، وحينما تقرأ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً فهنا حديث عن عنت بني إسرائيل وتكلفهم، ولما قال: وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا فهنا جناية أخرى صارت، كأنها جناية أخرى مع أن القصة هي نفس هذا في أولها، لكن لما فصل وجعله في الأخير فصار هذا من جملة ما يوبخهم به قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا، فهذا من مفاسدهم ومعايبهم، فهذا مقام ذم، يحسن فيه تكثير المعايب، وهذا المعنى الذي ذكره الزمخشري، ذكره الشيخ عبد الرحمن بن سعدي -رحمه الله-.

فَادَّارَأْتُمْ، أي: اختلفتم وهو من المدارأة أي المدافعة.

ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ، من أمر القتيل ومن قتله

اضْرِبُوهُ القتيل أو قبره.

فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ، الأصل أنه يُضرب القتيل، أو قبره: يُضرب القبر باعتبار أنه دفن واشتغلوا من الذي قتله؟ فيضرب قبره، لكن هذا خلاف الظاهر، اضْرِبُوهُ هذا يدل على أن المقصود ضرب القتيل نفسه.

بِبَعْضِها مطلق، وقيل: الفخذ وقيل: اللسان، وقيل: الذنب.

مطلق يعني لم يحدد بجزء معين منها، فنطلق ما أطلقه الله -تبارك وتعالى-، اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا لم يحدد هنا، فدل على أنهم لم يقيدوا بجزء معين.

كَذلِكَ إشارة إلى حياة القتيل، واستدلال بها على الإحياء للبعث، وقبله محذوف ولا بدّ منه تقديره: ففعلوا ذلك فقام القتيل.

 فقام القتيل وأخبرهم عن قاتله، والعرب تطوي من الكلام -كما يقول ابن جرير- ما تثق معه بفهم المخاطب، وهذا كثير.

فائدة: استدل المالكية بهذه القصة على قبول قول المقتول: فلان قتلني[10]، وهو ضعيف؛ لأن هذا المقتول قام بعد موته ومعاينة الآخرة، وقصته معجزة للنبي -صلى الله عليه وآله وسلم-، فلا يتأتى أن يكذب المقتول، بخلاف غيره، واستدلوا أيضًا بها على أن: القاتل لا يرث، ولا دليل فيها على ذلك.

لاحظ الآن المؤلف -رحمه الله- مالكي، يقول: استدل المالكية بهذه القصة ... ثم قال: هذا ضعيف. يعني يضعف مذهبهم، وهذا يدل على أنه -رحمه الله- لم يكن ممن يتعصب للمذهب، قوله: على قبول قول المقتول: فلان قتلني. هذا ما يسمى عند الفقهاء؟، قتيل وجد في ناحية، في حي بين قوم فالتهمة متوجهة إليهم؟ هذا التي يسمونها اللوث، فهذا عند المالكية من جملته، لو أنه يتشحط بدمه قبل أن تفارق الروح الجسد، قال: فلان قتلني. يقولون: يُصدق. لماذا يُصدق؟ قالوا: لأنه في حال مفارقة الدنيا، فليس له بالكذب حاجة. يعني في هذه اللحظات يفارق الدنيا ما عاد له في الكذب من حاجة، فلا يقول إلا حقًا في هذه اللحظات التي نفسه تخرج فيها. أما الاستدلال بهذه الآية ابن جزي يقول: ضعيف. لماذا ضعيف؟ لأن هذا مات وعاين الآخرة، وذاك ما عاين الآخرة، لا زال في الدنيا، بينما هذا مات فعاين الآخرة، يعني انتقل إلى عالم البرزخ ثم رجع إلى الدنيا، ففرق بينه وبين هذا الذي يتشحط في دمه ولم تفارق روحه جسده، فيقول: لا يُقاس عليه. وهذا قياس مع الفارق، وأن الفارق هذا مؤثر، إنسان عاين الآخرة، وإنسان ما عاين الآخرة.

يقول: وقصته معجزة لنبي فلا يتأتى أن يكذب المقتول. يعني النبي يقول لهم: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً، يعني: سيخبركم من هو القاتل، فهذه معجزة لا يمكن أن يقوم ويخبرهم بغير القاتل. قال: واستدلوا أيضًا بها على أن القاتل لا يرث ولا دليل فيها على ذلك. بأي اعتبار استدلوا بهذا على القاتل؟ هو باعتبار أن الذين قتله قريب له، يريد أن يرثه، لا وارث له سوى هذا القريب، هذا إنسان ليس له أولاد، ليس له أصول ولا فروع، فأحد هؤلاء القرابات هو الوارث فقتله؛ ليرث، لكن الآية ليس فيها ما يدل على شيء من هذا: أنه حُرم الميراث. طبعًا هو لا يقصد أن القاتل يرث، هذا لا يقصد هذا، لكن يقصد الاستدلال بهذه الآية، هل هي دليل أو لا؟.

قَسَتْ قُلُوبُكُمْ: خطابًا لبني إسرائيل.

مِنْ بَعْدِ ذلِكَ، أي: بعد إحياء القتيل وما جرى في القصة من العجائب، وذلك بيان لقبح قسوة قلوبهم بعد ما رأوا تلك الآيات.

هذه أحد المواضع الخمسة في سورة البقرة التي تدل على قدرة إحياء الله الموتى، فيها إحياء للموتى، وقد ذكرنا هذه المواضع، فهذا منها: قتيل بني إسرائيل، فشأن القلوب في مثل هذا المقام يرون ميتًا يحييه الله من جديد أن تلين القلوب وتخضع وتخشع لله -تبارك وتعالى- ومع ذلك هؤلاء قست قلوبهم بعد هذه الواقعة، وكأن شيئًا لم يكن، يعني الناس لما يرون مثل هذا: إنسان قُتل ومات ثم بعد ذلك يحييه الله من جديد، سيقفون ويجدون ما لا مدفع له في نفوسهم ويقولون: لا إله إلا الله. فيبقى هذا لا يفارق ناظرهم، لكن هؤلاء عادوا من جديد إلى حالهم الأولى.

أَوْ أَشَدُّ عطف على موضع الكاف أو خبر ابتداء، أي: هي أشدّ، وأو هنا إما للإبهام أو للتخيير: كأن من علم حالها مخيّر بين أن يشبهها بالحجارة، أو بما هو أشدّ قسوة كالحديد، أو التفصيل أي: فيهم كالحجارة وفيهم أشد، وإنما قال: (أشد قسوة) ولم يقل أقسى مع أن فعل القسوة ينبني منه أفعل، لكون أشدّ أدلّ على فرط القسوة.

هنا قوله: أَوْ أَشَدُّ يقول: عطف على موضع الكاف. ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ كـ الحجارة أو أشد عطف على موضع الكاف، إذا كانت بمعنى الواو، (أو) هذه يكون التقدير: فهي كالحجارة وأشد قسوة.

 كقوله: وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا [الإنسان:24]، يعني: وكفورًا، وإذا كانت بمعنى بل كما يقوله الواحدي وابن عاشور، فهي كالحجارة بل -يعني للإضراب- أشد قسوة من الحجارة. فهذا كقوله: إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً [النساء:77]، يعني: بل أشد خشية، وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ [الصافات:147]، يعني: على القول بأنه بمعنى بل، بل يزيدون، فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى [النجم:9]، بل أدنى، وبعضهم يقول: أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً أي باعتبار نظركم.

يعني هذا يكون من الخطاب الذي خرج مراعًا فيه حال المخاطب، وهذا أنواع كما ذكرنا في مناسبة سابقة، روعي حال المخاطب يعني أنه في نظركم، إذا نظر الناظر منكم يقول: كالحجارة أو أشد.

مثل إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ [الصافات:147]، إذا نظر إليهم الناظر يقول: مائة ألف أو يزيدون. فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى [طه:44]، يعني: هذا بحسب نظركما، يعني هذا بحسب تقديرات البشر، وإلا فالله -تبارك وتعالى- لا يخفى عليه خافية، يعني: منشأ هذا كله فهي كالحجارة أو أشد خشية هل هذا بمعنى الشك والتردد أنها كالحجارة أو أشد؟ الله لا يرد عليه هذا، فبعضهم يقول: هي بمعنى بل، بل أشد قسوة. أو أن ذلك باعتبار نظر المخاطب، يعني المخاطب البشر ينظر إليها باعتبار أنها كذا أو كذا، أو يقال: هذا بمعنى الواو كالحجارة وأشد قسوة من الحجارة، وظاهر اختيار ابن جرير -رحمه الله- أن ذلك باعتبار نظر المخاطب، يعني هي عندكم كالحجارة أو أشد قسوة[11]، وبعضهم يقول: هي لا تخرج عن أحد هذين الوصفين. أن هذا هو المراد، أن المعنى أنها لا تخرج عن أحد هذين الوصفين: إما كالحجارة أو أشد قسوة، وابن جرير وجه هذا القول الأخير يعني باعتبار أن بعضها كالحجارة قسوة، وبعضها أشد من الحجارة، يعني هذا الذي ذكره ابن جزي الذي عدلنا قبل قليل: أو التفصيل أي فيهم كالحجارة وفيهم أشد. هذا للتفصيل أنهم يتفاوتون في القسوة، فبعضهم بلغ من القسوة قلبه صار كالحجر، وبعضهم أشد من الحجر.

الآن نرجع إلى عبارة ابن جزي أَوْ أَشَدُّ عطف على موضع الكاف. كالحجارة أو أشد، أو خبر ابتداء أي هي أشد، و (أو) هنا إما للإبهام يعني أبهم لم يقيدها بأحد هذين الوصفين، فهي مترددة بينهما، أو للتخيير كأن من علم حالها مخير بين أن يشبهها بالحجارة أو بما هو أشد كالحديد. مع أن بعض أهل العلم كالشيخ عبد الرحمن بن سعدي مثلًا يقول: لماذا لم يشبهها بالحديد، فهي كالحديد؟ قال: باعتبار أن الحديد إذا ادخل النار ذاب، والحجارة لا تذوب في النار، فشببها بالحجارة ولم يشبهها بالحديد.

مع أنه فيما يبدو أن الحديد أقسى من الحجارة، لكن هنا على هذا التقدير فهي كالحجارة أو أشد يعني الحديد، لكن ليس بالضرورة، ولذلك أقول لكم: بأن هذه اللفتات والمُلح أنها ليست متيقنة، فهذا الكلام جميل، أنه لم يشبهها بالحديد؛ لأنه يذوب في النار والحجارة لا تذوب، أن هذا ليس بمؤكد، ليس بمقطوع به. يقول: مع أن فعل القسوة ينبني منه أفعل يعني أقسى فهنا قال: أَشَدُّ قَسْوَةً لكون أشد أدل على فرط القسوة. هنا قضية أخرى يعني لماذا لم يبن من لفظ القسوة أفعل تفضيل، يقول: فهي أقسى من الحجارة.

لماذا لم يقل: أقسى من الحجارة. وقال: أشد قسوة؟ يعني من الألفاظ ما لا يُبنى منه أفعل التفضيل، فيؤتى بلفظ آخر، لكن هذا القسى يُبنى منه أفعل التفضيل يقال: هذا أقسى من هذا. أقسى من الحجر، فقال: أَشَدُّ بنى أفعل التفضيل من غيره، من غير مادة اللفظ؟ يقول: هذا مبالغة في بيان شدة القسوة.

وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ الآية تفضيل الحجارة على قلوبهم.

وفي نسخة: تفضيل للحجارة على قلوبهم. فهذا لا بأس به.

يَهْبِطُ، أي يتردّى من علو إلى أسفل، والخشية عبارة عن انقيادها، وقيل: حقيقة. وأن كل حجر يهبط فمن خشية الله.

يعني إنما يهبط من خشية الله وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ، فيكون ذلك على ظاهره، الخشية يقول: عبارة عن انقيادها. هذا تأويل للخشية أنها ليست لها خشية حقيقية، الحجر ليس له خشية، وإنما المقصود أن كل ما في الكون منقاد لله -تبارك وتعالى-، لكن هذا خلاف الظاهر، وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ فدل على أن الحجارة تخشى الله، ويدل على هذا أمور:

  • منها: أن الله قال: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ [الإسراء:44]، وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ فإن هنا نافية يعني ما من شيء، وهذه أقوى صيغة من صيغ الحصر، إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ، وشيء هنا نكرة في سياق النفي سُبقت بمن فهي نص في العموم، فيدخل فيه الجمادات والحيوانات والنباتات وأيضًا الجن والإنس من أهل الإيمان.
  • ومنها: ما جاء في صحيح مسلم عن جابر بن سمرة قال: قال النبي ﷺ: إني لأعرف حجرا بمكة كان يسلم علي قبل أن أبعث إني لأعرفه الآن[12].
  • ومنها: حديث حنين الجذع[13]، فهذه الجمادات يجعل الله لها من الإدراكات ما تعرف به ربها وتخشاه، فلا حاجة لتفسيرها بمعنى الانقياد.
  1. أخرجه البخاري، كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى: {ويحذركم الله نفسه} [آل عمران:28]، رقم: (7405)، ومسلم، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب الحث على ذكر الله تعالى، رقم: (2675).
  2. أخرجه البخاري، كتاب الطلاق، باب الطلاق في الإغلاق والكره، والسكران والمجنون وأمرهما، والغلط والنسيان في الطلاق والشرك وغيره، رقم: (5269)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب تجاوز الله عن حديث النفس والخواطر بالقلب، إذا لم تستقر، رقم: (127).
  3. أخرجه الترمذي، أبواب صفة جهنم عن رسول الله ﷺ، رقم: (2591)، والطبراني في المعجم الأوسط (3/89)، رقم: (2583).
  4. انظر: تفسير الطبري (24/139).
  5. تفسير الطبري (2/221).
  6. تفسير ابن كثير (1/294).
  7. أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره (11/47)، والسيوطي في الدر المنثور في التفسير بالمأثور (1/189).
  8. موافقة الخبر الخبر في تخريج أحاديث المختصر (2/170).
  9. انظر: تفسير الزمخشري (1/154).
  10. المقدمات الممهدات (3/307)، المعونة على مذهب عالم المدينة (ص: 1347).
  11. تفسير الطبري (2/235).
  12. أخرجه مسلم، كتاب الفضائل، باب فضل نسب النبي ﷺ، وتسليم الحجر عليه قبل النبوة، رقم: (2277).
  13. أخرجه البخاري، كتاب المناقب، باب علامات النبوة في الإسلام، رقم: (3583).

مواد ذات صلة