الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحابته الطيبين الطاهرين.
اللهم اغفر لنا ولوالدينا ولشيخنا والحاضرين، والمستمعين.
أما بعد:
فيقول الإمام ابن جزي الكلبي عند قوله تعالى:
قوله -تبارك وتعالى-: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ ذَكَرَ معنيين:
الأول: أنه بمعنى شُرع، والذي حمله على ذلك هو: أن ذلك ليس بلازم، بل يمكن العفو، أو قبول الدية، إلا على المعنى الآخر، وهو ما يتعلق بالانقياد للقصاص، بالنظر إلى الجاني، وكذلك ترك التجاوز بالنسبة لولي الدم.
وبعض أهل العلم، كالحافظ ابن كثير -رحمه الله-[1] يقول: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ أي: كتب عليكم العدل في القصاص.
وقال بنحو هذا أيضًا أبو جعفر بن جرير -رحمه الله-[2]، وأن (كُتب) عنده متصل بما بعده، من قوله: الْحُرُّ بِالْحُرِّ يعني يكون سياق الكلام متصلًا هكذا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى وهذا معنى قول ابن كثير: "كُتب عليكم العدل بالقصاص" فيكون المعنى على قول هؤلاء: أن الذي كُتب ليس هو القصاص بعينه، وإنما: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ... إلى آخر ما ذكر الله -تبارك وتعالى-.
ويقول ابن عطية: بأن الكَتْب مستعمل في الأمور المخلدات الدائمة كثيرًا[3]، وبعضهم يقول: إن (كُتب) في مثل هذا: إخبار عما كُتب في اللوح المحفوظ، وسبق به القضاء.
وذكر ابن عطية نحوًا مما ذكره ابن جزي، ثم قال: "فالآية مُعْلِمة أن القصاص هو الغاية عند التشاح"[4]، يعني إذا سُدت الطرق، وقالوا: لا نريد دية ولا عفو، فهنا الفرض اللازم، والحق الثابت هو القصاص، فعُبّر بـكُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ يعني حيث لا سبيل إلى عفو، أو قبول دية، فالفرض هو القصاص بهذا الاعتبار.
وأصل القصاص مضى في الغريب، أصله بمعنى المماثلة، ويأتي بمعنى الاتباع أيضًا؛ وذلك باعتبار أنه يتبع أثره، فيكون من قص الشيء، وقص الأثر، فيفعل به كما فعل، فقيل له قصاص بهذا الاعتبار.
وقال بعضهم: بأن أصله من (القص) وهو القطع؛ لأن في القصاص يجرحه مثل ما جرحه، أو يُقتل به، يعني القصاص في الأعضاء والأبعاض والجراح، وهذا يرجع إلى أصل المعنى الذي ذكرته سابقًا، وهو: أن ذلك يرجع إلى معنى المماثلة.
وذكر الحافظ ابن كثير أن هذه الآية: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى نزلت في قريظة، والنضير[5]، ومعلوم أن النضير من نسل هارون ويرون أنهم أشرف من قريظة، وكان بنو النضير في الجاهلية أولياء وحلفاء للخزرج، وقريظة حلفاء للأوس، وكانت الحرب دائرة بين الأوس والخزرج، كما هو معلوم عقودًا متتابعة، وهؤلاء يدخل معهم حلفاؤهم من هؤلاء اليهود، فيحصل قتال بين الطرفين، يشترك فيه اليهود من كل قبيل، فكانوا إذا قُتل قرظي من قِبَل أحد من بني النضير لا يُقتل به، باعتبار أنه أشرف.
وبعضهم يقول: نزلت في قوم كانوا إذا قتل عبد من غيرهم حُرًا منهم، لم يرضوا إلا بقتل حر من القوم الذين كان منهم الجاني، يعني لا يقتلون الجاني به، وإنما يقتلون حرًا مكانه.
وبعضهم يقول: إنها نزلت في فريقين وقع بينهم قتال، فأصلح النبي ﷺ بينهم، بأن جعل ديات النساء مقابل مثليها، وهكذا الأرقاء، وهكذا الرجال.
هذا الإجماع نقله جماعة: كابن عطية[6]، والقرطبي[7]، فأجمعوا على قتل الذكر بالأنثى.
وزاد قوم: أن يعطى أولياؤها حينئذٍ نصف الدية لأولياء الرجل المقتص منه، باعتبار أنها لا تكافؤه في الدية، يعني قصاص بالإضافة إلى نصف الدية، رجل قتل امرأة فيقتل بها، وأولياؤها يعطون أولياءه نصف الدية، وهذا خلاف قول الجمهور، لكنه روي عن بعض السلف، كعلي والحسن[8]، وهذا مشهور في كتب التفسير، يُنسب إليهما، لكنه قد لا يثبت، وكذلك ورد في كتب الفقه، وورد خلافه.
قوله: "خلافًا لمالك والشافعي وأبي حنيفة" ولم يذكر قول الإمام أحمد، على عادة كثير أهل تلك الناحية، فهم لا يعدون الإمام أحمد -رحمه الله- من الفقهاء، بل يقولون: هو محدث، وليس بفقيه، وهذا الكلام غير صحيح، وكان ابن جرير الطبري يقول هذا أيضًا، وهو مشرقي، ومعلوم ما حصل له بسبب هذا، حيث قام عليه الحنابلة، ورجموا بيته، وهموا بقتله، والله المستعان.
فالحاصل أن هذه الآية: الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى قد يُفهم من ظاهرها أن ذلك على ما ذُكر في اللفظ الْحُرُّ بِالْحُرِّ فلا يُقتل العبد إذا جنى على الحر، أو المرأة إذا جنت على الرجل، أو الرجل جنى على المرأة، ولكن هذا ليس بمراد؛ لأن هذا جاء في سياق بيان ولزوم العدل في القصاص، على خلاف ما كان عليه أهل الجاهلية، هي سيقت في هذا السياق.
وابن جرير -رحمه الله- يقول: إن قتلى القصاص للحر من العبد، وللأنثى من الذكر، مأخوذٌ من قوله تعالى: وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا [الإسراء:33][9]، يعني أن هذه الآية تفسر الآية الأخرى، فقوله: وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا بصرف النظر عن القاتل، فأبهمه، ببناء الفعل للمجهول فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا سواء قتله امرأة، أو المرأة قُتلت بجناية رجل، أو أن الذي جنى عليه مملوك، يقول: وكذلك أيضًا بالنقل المستفيض عن رسو الله ﷺ حيث اقتص للمرأة من الرجل، وقال -عليه الصلاة والسلام- أيضًا: المسلمون تتكافأ دماؤهم[10].
والحافظ ابن كثير يرى: بأن جزء من هذه الآية منسوخة، وهو فرض القصاص، في قوله: الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى نسخها وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ [المائدة:45][11]... إلى آخر ما ذكر الله، وهذا مروي عن ابن عباس -ا-[12]، مع أنه جاء عنه أنها محكمة، وليس فيها نسخ، وأن فيها إجمالًا، فسرته آية المائدة، وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وهذا بعيد؛ لأن النسخ أولًا لا يثبت بالاحتمال، ثم إن هذه الآية: وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ هي في سياق الخبر عن بني إسرائيل، وإن كانت سورة المائدة متأخرة في النزول، والله تعالى أعلم.
أي خلافًا للجمهور، وهذا القول الذي نسبه إلى أبي حنيفة، وهو قتل الحر بالعبد، لم ينفرد به، فقد وافقه على ذلك النخعي، وقتادة، وسعيد بن المسيب، والشعبي، والثوري، وكذلك محمد بن الحسن، وأبو يوسف من أصحاب أبي حنيفة، وداود الظاهري، وهو مروي عن علي وابن مسعود -ا-[13].
يعني يرى أنها منسوخة.
يقول مالك: "أحسن ما سمعت في هذه الآية: أنه يراد بها الجنس، الذكر والأنثى فيه سواء، وأعيد ذكر الأنثى تأكيدًا، وتهممًا بإذهاب أمر الجاهلية"[14]، فأخذ مالك بظاهرها في الحرية، لا في الذكورية أي الحر بالحر، والعبد بالعبد، أما الأنثى بالأنثى فعنده أن الأنثى تُقتل بالذكر، والذكر بالأنثى، لكنه ذكر هذه الصور لإذهاب أمر الجاهلية، والرواية عن الإمام مالك مختلفة في هذا، فبعضهم فهم من كلامه العموم في الحرية والذكورية، إلا أنه نُسخ ما يتعلق بالذكورية، وإلا فالحر بالحر، والعبد بالعبد، فمالك لا يرى أنه يُقتل الحر بالعبد، وهذا قول الجمهور.
التجريد عرفنا المراد به عنده، وأنه يطلق بإطلاقات، لكن المقصود هنا هو: ذكر بعض أفراد العام بعده، فهذا من باب التجريد، يعني للتأكيد عليه، أو لبيان أهميته، أو نحو ذلك، فهذا هو التجريد، باعتبار أنه بعد العموم قال: وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى قال: تجريدًا للتأكيد؛ لأن بعض العرب كانوا إذا قتلت منهم أنثى قتلوا بها ذكرا تكبرًا وعدوانًا.
ويبقى الإشكال في قتل الحر بالعبد، فيقول: "قول مالك هنا سيرد عليه هذا الإشكال" باعتبار العموم في قوله: الْحُرُّ بِالْحُرِّ فهذا يشمل الصور الأربعة، فيرد عليه الإشكال، فيقول: "باعتبار نسخ جميع الآية، ثم يكون عدم قتل الحر بالعبد من السنة، وهو الحديث: لا يُقتل حر بعبد[16]، وهذا الحديث لا يخلو من ضعف، ومن أهل العلم من يقولون: بأن السنة لا تنسخ القرآن، كما يقول الشافعي، ومضى الكلام على هذا، وعبر بقوله: "ألا ومعه قرآن عاضد"[17]، ومن يجوزون يقولون: لا إشكال، لكن لا أعلم مثالًا يسلم من معارضة قوية في نسخ سنة لقرآن، من الناحية العملية الواقعية، كتطبيق، والله أعلم.
هذا المعنى الذي ذكره من العموم في قوله: الْحُرُّ بِالْحُرِّ داخلٌ في منطوق الآية الْحُرُّ بِالْحُرِّ فيشمل الصور الأربع بمنطوقه، وقوله: وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى منطوقه: أن الأنثى يُقتص لها من الأنثى، ومفهومه أنه لا يُقتص لها من الذكر، باعتبار عدم المكافأة، فأيهما يُقدم حال التعارض؟ وأيهما أقوى المنطوق أو المفهوم؟ المنطوق مقدم على المفهوم، وهو أقوى منه، فيقدم منطوق الْحُرُّ بِالْحُرِّ على مفهوم وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فمفهومه المسكوت عنه أن الرجل إذا جنى على امرأة أنه لا يُقتص منه، هذا مفهوم لم يكن منطوقًا في الآية، فليس في الآية ذكر صريح بهذا، فنقدم المنطوق، إضافة إلى دلالة السنة على أن الأنثى يُقتص لها من الذكر إذا جنى عليها، هذا دلت عليه السنة، وذكرنا من قبل: اليهودي الذي قتل جارية، ورضخ رأسها بين حجرين، فاقتص لها النبي ﷺ منه[18]، والله أعلم.
"فَمَنْ عُفِيَ لَهُ... الآية، فيها تأويلان:
أحدهما: أن المعنى من قتل فعفي عنه، فعليه أداء الدية بإحسان، وعلى أولياء المقتول اتباعه بها بمعروف، فعلى هذا: (مَنْ) كناية عن القاتل، وأخوه هو المقتول، أو وليه، و(عفي) من العفو عن القصاص، وأصله أن يتعدى بـ(عن)، وإنما تعدى هنا باللام؛ لأنه كقولك: تجاوزت لفلان عن ذنبه".
يعني أن ذلك من باب التضمين، أن الفعل (عفي) مضمن معنى التجاوز، فالتجاوز يُعدى بـ(عن)، يقال: عفوت، وعفي له من أخيه شيء، فالفعل يتعدى إلى الجاني، وإلى الذنب بـ(عن) يعني تقول: عفوت عن فلان، وعن ذنبه، إذا قصدت كل واحد منهما على حده: عفوت عن فلان، وعفوت عن ذنبه.
أما إذا تعدى إلى الجاني والجناية (الذنب) معًا، فيقال: عفوت لفلان عما جنى، فيُعدى باللام، إذا قصد به مجموع الأمرين: عن الجاني، وعن جنايته، فكأنه قيل -والله أعلم-: فمن عفي له عن جنايته، فاستُغني عن ذكر الجناية، فإذا عدي بـ(عن) فهو عن الجاني أو الجناية، فهنا قال: فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ يعني عفي له عن جنايته، وذِكْر الشيء نكرة في سياق الإثبات هذا بمعنى مطلق، أنه لو حصل عفو من قبل أحد من أولياء الدم، فإن القصاص يسقط.
فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ يكون له معنيان:
المعنى الأول: من قُتل فعُفي عنه، فعليه أداء الدية بإحسان، يعني من غير تأخير ومطل، أو نقص في الدية، ونحو ذلك، عليه أن يؤدي هذه الدية، وعلى أولياء المقتول الاتباع بالمعروف، يعني من غير أن يشقوا عليه، أو يُؤذى، أو نحو هذا، وعلى هذا (مَن) كناية عن القاتل فَمَنْ يعني من القتلة عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فعليه أن يقدم الدية من غير مطل، أو نقص، أو نحو ذلك مِنْ أَخِيهِ يعني من ولي الدم، فهذا أمره بحسن الأداء، وذاك بحسن الاتباع، هذا مروي عن ابن عباس أيضًا -ا-[19]، وجماعة كذلك.
والمعنى الثاني: من أعطيته كذا الدية، فعليه اتباع بمعروف، وعلى القاتل أداء بإحسان، فعلى هذا (مَن) كناية عن أولياء المقتول فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ باعتبار أن كلمة (عفا) بمعنى تيسر، خُذِ الْعَفْوَ يعني ما سهُل من أخلاق الناس، وما بذلوه عن طيب نفس، من غير كراهة، ودون أن تشق عليهم بذلك.
ولا يكون هنا بمعنى العفو -يعني المسامحة- وترك القصاص.
والمعنى: فمَن مِن أولياء المقتول سمح، أو تيسر له شيء من الدية، (من أخيه) من القاتل، أو من عاقلته باعتبار أن القتل الخطأ إنما يتحمله العاقلة، وليس في مال الجاني، لكن الكلام هنا في القتل العمد، وليس في الخطأ، وعلى الراجح أن القتل العمد يكون في مال الجاني، وليس على العاقلة، وإنما القتل الخطأ هو الذي يكون على العاقلة، فهذه الآية في العمد، لكن هنا يقول: "أو عاقلته" وعفي بمعنى تيسر أو يُسر أو نحو ذلك، كقوله: خُذِ الْعَفْوَ أي ما تيسر، ولا إشكال في تعدي (عفي) باللام على هذا المعنى، وهذا مروي عن مالك -رحمه الله-[20].
لكن المعنى الأول هو الأرجح.
وذكر ابن عطية فيه قولين آخرين غير ما ذُكر هنا[21]، الثالث: أن ذلك في المذكورين بسبب النزول، إذا حصلت بينهم المقاصة في الديات، فمن بقي له شيء، أو زاد من الطائفتين على الأخرى في هذه الديات، فيكون (عفى) بمعنى زاد، كما في قوله: وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ [البقرة:219] فُسر بالزيادة عن قدر الحاجة، والقول الرابع الذي ذكره: أن ذلك فيما يفضل من دية المرأة، أو دية الرجل، على القول السابق الذي بيّنا أنه ضعيف.
هذا ظاهر كلام ابن عباس : إن التخفيف هنا في شرع الدية[22].
ويقول قتادة -رحمه الله-: كان عند أهل التوراة إنما هو القصاص، وعفو ليس بينهم أرش[23]، يعني لا يوجد دية، يعني عفو مجانًا من غير دية، وكان أهل الإنجيل إنما هو عفو أُمروا به فقط، من غير قصاص، ولا دية، وجعل الله لهذه الأمة القصاص والعفو والأرش، الذي هو الدية، جاء هذا عن جماعة من السلف: كسعيد بن جبير، والربيع بن أنس، ومقاتل بن حيان[24]، فيكون التخفيف في قوله: ذَلِكَ تَخْفِيفٌ بشرع الدية، فلم يُحتّم القصاص، أو العفو.
وهذا الاعتداء فَمَنِ اعْتَدَى إن قَبِل الدية، ثم اعتدى، فجنى عليه، ونحو ذلك، فيكون متوعدًا، وهذا المعنى قال به كثير من السلف: كابن عباس، ومجاهد، وعطاء، وعكرمة، والحسن، وقتادة، والربيع، والسدي، ومقاتل بن حيان[25]، قالوا: إن هذا هو المراد بالاعتداء في قوله: فَمَنِ اعْتَدَى أي بعد قبول الدية، فيرجع الوعيد لأولياء الدم، وبعضهم قال: إن هذا في الجاني القاتل، يعني لو كرر الجناية لكن المشهور هو الأول.
والآية تحتمل الأمرين، والقصاص هو عذاب في الدنيا، وهو أليم بلا شك.
يقول مالك: يُخير فيه الولي، وقال قتادة، وعكرمة، والسدي: القتل فقط[26]، يعني عند مالك أن العذاب الأليم هنا التخيير، يكون للولي، ومن السلف من قال: العذاب الأليم هو القتل.
وتكلمنا في الأعمال القلبية، في التوبة، بكلام طويل مفصل، فيما يتعلق بالقاتل إذا تاب، واقتُص منه، ماذا يكون حاله في الآخرة إذا تاب فيما بينه وبين الله في حق الله، واقتُص منه، فذكرنا هناك كلامًا لأهل العلم باعتبار أن المجني عليه لم يستوف، فهو لا ينتفع بقتل الجاني بعد أن أُزهقت نفسه، فهنا كيف يكون حاله في الآخرة؟ ولذلك فإن من أهل العلم، كشيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- يقول: مثل هذا يحتاج إلى الإكثار جدًا من الحسنات[27]؛ لأنه قد يُسلط المجني عليه على حسناته.
وبعض أهل العلم يقول: بأن الله -تبارك وتعالى- يرضي المجني عليه في الآخرة إذا تاب وصحت توبته، واقتُص منه، ويكون هذا هو الأثر المترتب في الدنيا على الجناية، والله أعلم.
وهذا إنما ذكرته من أجل تفسير العذاب الأليم ما هو؟، هل هو القصاص أو العذاب الأخروي؟ فمن تاب واقتُص منه، هل عليه عذاب أليم في الآخرة؟، والله يقول: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ [النساء:93] فهذا اللعن طرد من رحمة الله، فضلًا عن الغضب، وما ذُكر من الخلود في النار.
يقول: إن قوله: وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ بمعنى قولهم: "القتل أنفى للقتل" وهذا من أمثال العرب، وهو أيضًا يروى من بعض الكتب المتقدمة، لكن فرق كبير بين هذه الآية: وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ وقولهم: القتل أنفى للقتل، فالله -تبارك وتعالى- ذكر هنا القصاص، والقصاص كما سبق يقتضي المماثلة، فلا يكون فيه تعدي، وهذا كأنه يتبع الجناية فيفعل به كما فعل، فهذا بمعنى العدل، وقال في النتيجة المترتبة عليه وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ فنكرها هنا والتنكير يدل على حياة كاملة، أما قول العرب: "القتل" عبروا بالقتل، والقتل قد لا يكون بالعدل، كما كانوا عليه في الجاهلية، فهو قد لا يكون قصاصًا بالمعنى المذكور للقصاص، وكذلك أيضًا حينما ينتفي القتل، لا يعني وجود الحياة الكاملة واللائقة، وإنما قد يكون أنفى للقتل، لكن مع حياة بائسة، قد يكون الموت أمنية لهؤلاء المترقبين للموت في كل لحظة.
وكذلك: فالقصاص أقل قتلًا؛ لأنه قتل واحد بواحد، بخلاف أهل الجاهلية، والواقع أن كل هذه المعاني داخلة في قوله: وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ فيرتدع الجناة، وكل من تسول له نفسه الجناية على الآخرين، إذا تذكر أنه سيوضع أمام هذا الجزاء، وهو: أن يُقتص منه، فيتوقف، فتسلم حياة الناس، فيكون لهم بذلك حياة، فتسلم نفوسهم.
وقد كانوا في الجاهلية تقوم حرب يُقتل فيها فئام من الناس، بسبب جناية على واحد، فالقصاص جاء بقتل القاتل؛ وبذلك تسلم تلك النفوس الكثيرة التي كانت تزهق في الجاهلية، بسبب مقتل رجل، فتبقى حياة أولئك مهددة، يُقتل منهم الواحد بعد الآخر، ولربما لا يستطيعون أن يجاوزوا ناحيتهم خوفًا من الثأر، فتبقى حياتهم مضطربة لعقود، كل فئة تتربص بالأخرى.
يقول أبو العالية: جعل الله القصاص حياة، فكم من رجل يريد أن يقتل فتمنعه مخافة أن يُقتل[28]، وهذا مما يدخل في الآية.
ونجد في كتب إعجاز القرآن أنهم يمثلون بهذا الموضع من كتاب الله تعالى على إعجاز القرآن، وبلاغته، التي فاقت كلام العرب في نثرها، ومنظومها، وأمثالها، فحينما يقارنون بين هذه الجملة وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ وبين "القتل أنفى للقتل" يذكرون فروقات كثيرة تدل على براعة هذه الأساليب والبلاغة القرآنية، وتفوقها على كل كلام.
الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ موضع الإشكال هنا أن الوصية جُعلت للوالدين والأقربين، فالوالدان من جملة الورثة، والأقارب منهم الوارث، ومنهم غير الوارث، والآية جاءت هنا على سبيل العموم لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ ولم يقل: غير الوارثين.
ومعلوم أن الوالدين من جملة الورثة، فلا يوصى لهم؛ لقول النبي ﷺ: إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه، فلا وصية لوارث[30]؛ ولهذا فإن من أهل العلم من خرج من هذا الإشكال بالقول بالنسخ، فقالوا: هذه الآية منسوخة، كان ذلك في أول الأمر، قبل شرع المواريث يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ [النساء:11]... إلى آخر ما ذكر الله -تبارك وتعالى-.
واختلف هؤلاء في الناسخ ما هو؟ فمن أجاز نسخ السنة للقرآن قالوا: الذي نسخ هو قول النبي ﷺ: إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه، فلا وصية لوارث[31]، فالآية منسوخة.
ومنهم منع من ذلك: باعتبار أن السنة شارحة للقرآن، ولا تكون رافعة، قالوا: والنسخ رفع، والسنة تبينه فكيف ترفع؟! وهؤلاء كما قال الإمام الشافعي -رحمه الله- في كتابه الرسالة ما حاصله: بأنه لا يكون سنة ناسخة إلا ومعها قرآن عاضد[32]، فهي لا تستقل عنده بالنسخ، وهذا قال به جماعة من أهل العلم، ولا مانع من نسخ السنة للقرآن، لكن يبقى في الأمثلة على هذا النوع إيرادات وإشكالات قوية، وهذا من أوضح الأمثلة، التي يذكرها القائلون بأن السنة تنسخ القرآن، ومع ذلك يرد عليه واردات منها: أن الآية أصلًا لم تُنسخ، فهذا اعتراض على أصل دعوى النسخ، ثم إذا قيل بالنسخ فمن أهل العلم يقول: إن الذي نسخها هي آيات المواريث، وليس الحديث، أو يكون الحديث مع الآيات.
والذين قالوا: بأن الآية ليست منسوخة، حملوا قوله: الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ على من لم يكن وارثًا يُوصى له، ومتى يكون الأب غير وارث؟ في اختلاف الدين، فلا يرث فيوصى له، أو كان جانيًا على الولد بالقتل فقبل أن تخرج نفسه علم أنه ميت، وأن الجاني عليه هو الأب، وأنه لن يرث، فأوصى له مثلًا، وبالنسبة للأقربين ممن قام به مانع من موانع الإرث كهذا، أو لكونه غير وارث أصلًا لوجود من هو أقرب إلى الميت، فيحجبه عن الميراث، فيُوصَى لهؤلاء.
والقصد أن القول بأن هذه الآية منسوخة ليس محل اتفاق، ولكنه قول جماهير أهل العلم من السلف فمن بعدهم، حيث يقولون: إن هذه الآية منسوخة، وهذا مروي عن جماعة من الصحابة: كعمر، وأبي موسى الأشعري، وجماعة من التابعين: كابن المسيب، وهو رواية عن الحسن، وبه قال مجاهد، وعطاء، وسعيد بن جبير، وابن سيرين، وزيد بن أسلم، والربيع بن أنس، وقتادة، والسدي، ومقاتل بن حيان، وإبراهيم النخعي، والضحاك، والزهري[33].
وهذا الذي رجحه من المفسرين: الحافظ ابن كثير[34]، وقبله الواحدي[35]، وبعده وقبله خلق: كأبي عبيد القاسم بن سلام[36]، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية[37]، وقال به ممن كتبوا وألفوا في النسخ منهم: مكي بن أبي طالب في كتابه (الإيضاح في ناسخ القرآن ومنسوخه)[38]، ومن المعاصرين: الطاهر بن عاشور[39]، والشيخ محمد الأمين الشنقيطي[40]، كل هؤلاء قالوا: بأنها منسوخة.
وابن جرير لا يرى أنها منسوخة[41]، وممن لم ير هذا من المعاصرين الشيخ عبد الرحمن بن سعدي -رحمه الله- يقول: إن هذه الآية محكمة[42].
وهذا أيضًا مروي عن جماعة من السلف، وهو رواية عن الحسن، وبه قال طاوس، ويروى عن قتادة، والعلاء بن زيد، ومسلم بن يسار[43]، وممن ألفوا في الناسخ والمنسوخ: النحاس[44]، فهو لا يرى أنها منسوخة، هؤلاء يوجهونه بما ذُكر، بأن الأصل: أن النسخ لا يثبت بالاحتمال، فإذا لم يدل عليه دليل، وأمكن أن توجه الآية توجيهًا صحيحًا فإنه لا يُصار إلى النسخ لمجرد وجود تعارض، أو إشكال.
يقول: "وقيل معناها: الوصية بتوريث الوالدين والأقربين على حسب الفرائض، فلا تعارض بينها وبين المواريث، ولا نسخ، والأول أشهر" الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ يعني بماذا؟ يعني الوصية بتوريثهم، ومثل هذا بعيد، لكن مثل هؤلاء حينما يذكرون هذا، يقول بعضهم: بأنهم كانوا في الجاهلية يعنون بتوريث الأولاد، فأكد عليهم حق الوالدين، وأن لا يضيعوا ميراث الوالدين والأقربين، باعتبار أن العناية متوجهة إلى الأولاد، والله أعلم.
وكتاب (الناسخ والمنسوخ) للنحاس، كتاب عظيم، لما ذكر هذه الآية قال: فيها خمسة أقوال:
فمن قال: إن القرآن يجوز أن ينسخ بالسنة، قال: نسخها: لا وصية لوارث[45].
ومن الفقهاء من قال: لا يجوز أن ينسخ القرآن إلا قرآن، قال: نسختها الفرائض[46]، يعني آية المواريث.
وروى عن ابن عباس -ا-: كان أولاد الرجل يرثونه، وللوالدين والأقربين الوصية، فنسختها: لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ [النساء:7] وقال مجاهد: نسختها: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ [النساء:11].
والقول الثالث للحسن: أنه نسخت الوصية للوالدين، وثبتت للأقربين، الذين لا يرثون، وهكذا جاء عن ابن عباس عن طريق ابن أبي طلحة.
يعني نُسخت الوصية للوالدين نسخًا جزئيًا، وبقيت بالنسبة للأقربين الذين لا يرثون، وبالنسبة للأقربين الذين يرثون فإما أنها لا تتناول هؤلاء أصلًا، أو باعتبار أن ذلك أيضًا مما نُسخ، لكن ظاهره العموم؛ لأنه قال: وَالْأَقْرَبِينَ ولم يخص غير الوارثين.
يقول: "وقال الشعبي والنخعي: الوصية للوالدين والأقربين على الندب لا على الحتم.
القول الخامس: إن الوصية للوالدين والأقربين واجبة بنص القرآن إذا كانوا لا يرثون[47].
وهذا التوجيه الذي يعتمد عليه من يقول: إن الآية غير منسوخة، قال أبو جعفر: وهذا قول الضحاك، وطاوس، قال طاوس: من أوصى لأجنبيين وله أقرباء انتزعت الوصية، فردت إلى الأقرباء، وقال الضحاك: من مات وله شيء ولم يوص لأقربائه، فقد مات عن معصية لله [48].
وهذا باعتبار أن (كُتب) يعني فرض، فقالوا: إن ذلك من قبيل الواجب، فيجب أن يوصي للوالدين والأقربين.
والذين يقولون: إنها غير منسوخة، يقولون: هذا للندب، لكن التعبير بلفظة (كُتِبَ) الأصل أنها من الألفاظ التي يُعبر بها عن الوجوب، كما هو معلوم.
والحافظ ابن القيم -رحمه الله- ذكر في كتابه (بدائع الفوائد) ألفاظًا كثيرة مما يدل على الوجوب، ومنها: لفظة (كُتب)[49].
هنا تعليق:
يقول: "قال الحسن: إذا أوصى رجل لقوم غرباء بثلثه، وله أقرباء أعطي الغرباء ثلث الثلث، ورد الباقي على الأقرباء"[50].
وجمهور العلماء على أن الوصية غير واجبة، بل إنه حُكي عليه الإجماع، وإنما هي مستحبة إلا إذا كان على المرء حقوق للآخرين، يجب عليه بيانها: كالديون، ونحوها.
قال ابن عبد البر: "وقد أجمع العلماء على أن الوصية غير واجبة على أحد إلا أن يكون عليه دين أو تكون عنده وديعة أو أمانة -يعني لئلا يضيع حق الناس- فيوصي بذلك وفي إجماعهم على هذا بيان لمعنى الكتاب والسنة في الوصية وقد شذت طائفة فأوجبت الوصية"[51].
وهؤلاء يقصدون بالإجماع قول عامة أهل العلم.
وقال القرطبي: "وأكثر العلماء على أن الوصية غير واجبة على من ليس قبله شيء من ذلك"[52]. يعني ودائع، أو حقوق.
ويقول ابن كثير: "الأقارب الذين لا ميراث لهم يُستحب له أن يوصي لهم من الثلث، استئناسًا بآية الوصية، وشمولها؛ ولما ثبت في الصحيحين عن ابن عمر -ا-"[53].
لكن قول الحسن وطاوس الذي سبق، مخالف لقول السواد الأعظم من أهل العلم.
ويقول أبو عبيد القاسم بن سلام: وعلى هذا القول اجتمعت العلماء من أهل الحجاز وتهامة والعراق والشام ومصر وغيرهم منهم مالك، وسفيان الثوري، والأوزاعي، والليث، وجميع أهل الآثار والرأي، وهو القول المعمول به عندنا: أن الوصية جائزة للناس كلهم، ما خلا الورثة خاصة[54].
وقال القرطبي: "وقال مالك والشافعي وأبو حنيفة وأصحابهم والأوزاعي وأحمد بن حنبل: من أوصى لغير قرابته، وترك قرابته محتاجين، فبئسما صنع! وفعله مع ذلك جائز ماضٍ، لكل من أوصى له من غني وفقير، قريب وبعيد، مسلم وكافر"[55].
وقال أبو جعفر النحاس: فتنازع العلماء معنى هذه الآية، وهي متلوة -يعني لم ينسخ لفظها،-فالواجب أن لا يقال: إنها منسوخة؛ لأن حكمها ليس بنافٍ حكم ما فرضه الله من الفرائض، فوجب أن يكون كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ [البقرة:180] الآية، كقوله: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ [البقرة:183][56].
والمقصود: أن أكثر أهل العلم يقولون: إنها منسوخة.
والمانعون يقولون: النسخ لا يثبت بالاحتمال، ويمكن أن توجه باعتبار أن الوصية تكون لغير الوارثين، وهو من قام به مانع من موانع الإرث.
وهذا من أوضح الأمثلة التي يحتج بها من قال: إن السنة تنسخ القرآن، وإن كنا نقول: إن هذا لا يوجد ما يمنع منه، لكن بالنسبة للوقوع لا نعلم مثالًا سالمًا من معارضة قوية بالنسبة للحصول والوقوع، والله أعلم.
التيسير والتسهيل في هذه الآية، من أوجه كثيرة، كما ذكر في قوله: كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ يعني يقول: لستم أول من فرض عليه، يخفف عنهم، ويهون عليهم هذه العبادة الشاقة، كأن يقول: لستم أول من تفرض عليه، فقد فرضت على من قبلكم، فأنتم على الطريق، فإذا ذُكر للإنسان أن هذا الأمر الذي يشق عليه قد وقع لمن قبله، فإن ذلك يخف عليه، كذلك أيضًا يحمله ذلك على الإقبال والمنافسة.
وكذلك في قوله: لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ إخبار بأن هذا شرع لمصلحة عظيمة، وهي تحصيل التقوى لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ يعني من أجل تتحقق التقوى لكم، فخفف عليهم بهذا، فليس المقصود المشقة، وإنما أن يتحقق لكم التقوى، وكذلك في قوله: أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ قللها لهم، وخففها عليهم، وجعله أيضًا على التأخير، وجعل لأهل الأعذار الرخص فقال: فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ وجعل ذلك على التخيير كما سيأتي على القول الراجح، فكان فرضه بهذا الاعتبار في البداية يخير القادر بين الصوم والإطعام، ثم قال: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ.
فكل هذا من وجوه التخفيف في هذه الآية، خفف ذلك عليهم وهونه ويسره.
وهذه الآية أيضًا تكلم العلماء فيها من جهة النسخ، هل وقع فيها نسخ أو لا؟، باعتبار المعنى المراد بالتشبيه في قوله: كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ فهل هو تشبيه في أصل الفرض، فلا نسخ، ولا إشكال، يعني فرض عليكم، كما فرض على الذين من قبلكم، في أصل الفرض، لا في المدة (العدد)، ولا في الصفة (صفة الصوم) فبهذا الاعتبار لا نسخ، يعني إذا كان التشبيه في أصل الفرضية، لا في قدر الصوم، ولا في صفته، وكيفيته، ووقته، وهذا الذي اختاره الحافظ ابن القيم، ومن المفسرين المعاصرين الطاهر بن عاشور[57]، حيث قالوا: إن التشبيه في أصل الفرضية.
وبعض أهل العلم يقولون: كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ يعني أنه كتب عليهم أن يصوموا رمضان، وهذا اختيار ابن جرير -رحمه الله- حيث قال: كُتب عليهم رمضان[58]، وعلى هذا القول، أنه رمضان لا نسخ في الآية، وقد قال به قبل ابن جرير من التابعين: الشعبي -رحمه الله-[59].
وبعضهم يقول: إن التشبيه في قوله: كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ في صفة الصوم، كُتبت على هذه الأمة كصفة الصوم على من قبلها، وهذا مروي عن جماعة كثيرة من السلف، من الصحابة فمن بعدهم: كابن عمر، وابن عباس ومن التابعين هو مروي عن أبي العالية، وابن أبي ليلى، ومجاهد، وسعيد بن جبير، ومقاتل بن حيان، والربيع بن أنس، وعطاء الخرساني، والسدي[60].
وهو الذي اختاره ابن كثير -رحمه الله-[61]، ومن المعاصرين الشيخ محمد الأمين الشنقيطي[62]، فكل هؤلاء قالوا: إن التشبيه في صفة الصوم، ثم نُسخ ذلك، كما سيأتي.
وبعضهم يقول: كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ أي في الوقت، ولكن ليس رمضان، وقد سبق أن ابن جرير يقول: في الوقت وهو رمضان، وعليه فلا نسخ.
وبعض أهل العلم يقول: في الوقت، ولكن المراد: ثلاثة أيام من كل شهر، ويوم عاشوراء، كما كان ذلك على اليهود، وهذا مروي عن ابن عباس -ا- والضحاك، وقتادة، وعطاء[63].
وعلى هذا يكون النسخ واقعًا فيكون الذي فُرض علينا في البداية يوم عاشوراء وثلاثة أيام من الشهر، مع أنه لا يثبت أن صيام ثلاثة أيام من الشهر، كان واجبًا على هذه الأمة، نعم عاشوراء كانت قريش تصومه في الجاهلية بمكة، ولما هاجر النبي ﷺ أمر بصيامه، كما هو معلوم، وكان ذلك واجبًا، ثم نُسخ بفرض رمضان.
فالمقصود: أنه على القول بأن التشبيه في الوقت باعتبار أنه ثلاثة أيام مع يوم عاشوراء، على هذا القول ترد دعوى النسخ، حيث كُتب عليهم صيام ثلاثة أيام ويوم عاشوراء، فيكون ذلك قد نُسخ، لا يجب إلا رمضان.
وكذلك على القول بأن التشبيه إنما هو في صفة الصوم التي كانت واجبة على هؤلاء الذين من قبلنا أن يلزموها، فتكون على هذا الآية منسوخة بقوله تعالى: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ كما سيأتي، وبقوله: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ فأباح لهم الأكل والشرب ليلة الصيام، بكل جزء منها، سواء تخلل ذلك نوم، أو لم يقع فيه النوم، فعلى هذا تكون الآية منسوخة.
وهذا الذي ذهب إليه أبو عبيد القاسم بن سلام[64]، ومن المفسرين الحافظ ابن كثير[65]، والشيخ محمد الأمين الشنقيطي[66]، فهذا الموضع ليس محل اتفاق أنها منسوخة، ولكن بناء على معنى التشبيه، إن قلنا: بأصل الفرضية فلا نسخ، أو في الوقت إن كان رمضان على قول ابن جرير فلا نسخ أيضًا، يبقى احتمال النسخ إن كان في الصفة، أو في الوقت باعتبار أنه ثلاثة أيام مع يوم عاشوراء.
- تفسير ابن كثير ت سلامة (1/489).
- تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (3/364).
- تفسير ابن عطية = المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (1/244).
- تفسير ابن عطية = المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (1/244).
- تفسير ابن كثير ت سلامة (1/489).
- تفسير ابن عطية = المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (1/245).
- تفسير القرطبي (2/248).
- تفسير ابن عطية = المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (1/245).
- تفسير الطبري = جامع البيان ط هجر (3/94).
- أخرجه أبو داود في كتاب الجهاد، باب في السرية ترد على أهل العسكر برقم: (2751) وقال الألباني: "حسن صحيح".
- تفسير ابن كثير ت سلامة (1/489).
- تفسير ابن كثير ت سلامة (1/489).
- تفسير ابن كثير ت سلامة (1/490).
- تفسير ابن عطية = المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (1/245).
- أخرجه أبو داود في كتاب الديات، باب من قتل عبده أو مثل به أيقاد منه برقم: (4517) من قول الحسن، وليس مرفوعًا، وقال الألباني: "صحيح مقطوع".
- سبق تخريجه.
- الرسالة للشافعي (1/108).
- أخرجه البخاري في كتاب الطلاق، باب الإشارة في الطلاق والأمور برقم: (5295) ومسلم في كتاب القسامة والمحاربين والقصاص والديات، باب ثبوت القصاص في القتل بالحجر وغيره من المحددات، والمثقلات، وقتل الرجل بالمرأة برقم: (1672).
- تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (3/370).
- تفسير ابن عطية = المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (1/246).
- تفسير ابن عطية = المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (1/246).
- تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (3/373).
- تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (3/374).
- تفسير ابن كثير ت سلامة (1/491).
- تفسير ابن أبي حاتم (1/297).
- تفسير ابن كثير ت سلامة (1/491).
- الفتاوى الكبرى لابن تيمية (1/112).
- تفسير ابن كثير ت سلامة (1/492).
- أخرجه ابن ماجه في كتاب الوصايا، باب لا وصية لوارث برقم: (2714) وصححه الألباني.
- سبق تخريجه.
- سبق تخريجه.
- الرسالة للشافعي (1/112).
- تفسير ابن أبي حاتم (1/299) وتفسير ابن كثير ت سلامة (1/493).
- تفسير ابن كثير ت سلامة (1/493).
- الوجيز للواحدي (ص:148).
- الناسخ والمنسوخ للقاسم بن سلام (ص:231).
- منهاج السنة النبوية (4/203).
- الإيضاح لمكي بن أبي طالب (ص:144).
- التحرير والتنوير (1/660).
- أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (2/452).
- تفسير الطبري = جامع البيان ط هجر (6/439).
- تفسير السعدي = تيسير الكريم الرحمن (ص:85).
- تفسير ابن كثير ت سلامة (1/493).
- الناسخ والمنسوخ للنحاس (ص:90).
- سبق تخريجه.
- الناسخ والمنسوخ للنحاس (ص:88).
- الناسخ والمنسوخ للنحاس (ص:89).
- الناسخ والمنسوخ للنحاس (ص:90).
- بدائع الفوائد (1307).
- الناسخ والمنسوخ للنحاس (ص:90).
- التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد (14/292).
- تفسير القرطبي (2/259).
- تفسير ابن كثير ت سلامة (1/494).
- الناسخ والمنسوخ للقاسم بن سلام (1/234).
- تفسير القرطبي (2/264).
- الناسخ والمنسوخ للنحاس (ص:90).
- التحرير والتنوير (2/156).
- تفسير الطبري = جامع البيان ط هجر (3/156).
- تفسير الطبري = جامع البيان ط هجر (3/153).
- تفسير القرطبي (2/275) وتفسير ابن كثير ت سلامة (1/497).
- تفسير ابن كثير ت سلامة (1/497).
- أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (3/410).
- تفسير ابن كثير ت سلامة (1/497).
- الناسخ والمنسوخ للقاسم بن سلام (1/38).
- تفسير ابن كثير ت سلامة (1/497).
- أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (3/410).