الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحابه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين، أما بعد:
فاللهم اغفر لنا ولوالدينا ولشيخنا والحاضرين والمستمعين، أما بعد:
فيقول الإمام ابن جزي الكلبي -رحمه الله- عند قوله:
الْحَجُّ أَشْهُرٌ [البقرة:197] التقدير: أشهر الحج أشهر، أو الحج في أشهر وهي: شوال، وذو القعدة، وذو الحجة.
وقيل: العشر الأول منه.
وينبني على ذلك: من أخر طواف الإفاضة إلى آخر ذي الحجة فعليه دم على القول بالعشر الأول، ولا دم عليه على القول بجميع الشهر، واختلف فيمن أحرم بالحج قبل هذه الأشهر، فأجازه مالك[1] على كراهة. ولم يجزه الشافعي[2] وداود[3] لتعيين هذه الأشهر لذلك فكأنها كوقت الصلاة.
قوله: "الْحَجُّ أَشْهُرٌ التقدير: أشهر الحج أشهر، أو الحج في أشهر" يعني هذا باعتبار أن الحج هو العبادة المعروفة: قصد البيت الحرام لأداء النسك المعروف في وقت مخصوص، فهذا هو الحج، فحينما قال: الحج أشهر. الحج ليس بزمان وإنما هو عبادة من أقوال وأفعال مخصوصة لقاصد البيت الحرام، فاحتاج هذا إلى التقدير: الْحَجُّ أَشْهُرٌ. يعني أشهر الحج أشهر، أو الحج في أشهر.
قال: "وهي: شوال، وذو القعدة، وذو الحجة" ويمكن أن يكون التقدير: وقت الحج أشهر معلومات، فالآية تتحدث عن زمن ووقت الحج، الزمن الذي يكون فيه هذا النسك، وهذا القول بأن أشهر الحج هي: شوال، وذو القعدة، وذو الحجة. يعني: ثلاثة أشهر مروي عن جماعة السلف: كابن مسعود[4]، وابن عمر[5]، وعطاء[6]، والربيع بن أنس[7]، ومجاهد[8]، والزهري[9]، وهو الذي ذهب إليه الإمام مالك -رحمه الله-: أنها ثلاثة أشهر[10]، وعلى هذا الاعتبار فلا إشكال في التعبير بصيغة الجمع الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فلا إشكال هي ثلاثة أشهر، وأقل الجمع لدى عامة أهل العلم من الفقهاء وأهل اللغة ثلاثة، فكانت بهذا الاعتبار وهذا يترتب عليه أحكام.
قوله: "وقيل: العشر الأول منه": يعني: العشر الأول من ذي الحجة، فيكون أشهر الحج: شهرين وعشرة أيام، وهذا مروي عن عمر، وعلي، وابن الزبير، وابن عباس، وعطاء، وطاووس، ومجاهد، وإبراهيم النخعي، والحسن البصري، والضحاك، والسدي، وابن سيرين، والزهري، وقتادة، والربيع، ومقاتل، واختاره أبو جعفر ابن جرير، وهو مذهب أبي حنيفة، والشافعي، وأحمد[11]، وهو رواية عن ابن عمر[12]، فهذا قول الجمهور: أنه في شهرين وعشرة أيام، هذا قول عامة السلف وجمهور الفقهاء، وعلى هذا يكون التعبير هنا بالأشهر لا يخلو من إشكال باعتبار أنه عبر بالجمع عن شهرين وعشرة أيام، يعني أقل من ثلاثة، فبعض أهل العلم ممن يذهب إلى أن أقل الجمع ثلاثة قالوا: هذا باعتبار جبر الكسر. الشهر الثالث عشرة أيام فبجبر الكسر يكون عومل على أنه شهر فجاءت صيغة الجمع.
وبعض أهل العلم يقولون: إن أقل الجمع اثنان، ومن ثم فلا إشكال عندهم في هذا، بل يحتجون بمثل هذا على قولهم، كما يحتجون بمواضع أخرى: كقوله تبارك وتعالى: فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ [النساء:11] فهي تُحجب من الثلث إلى السدس بأخوين فأكثر، فعبر بإخوة صيغة الجمع، وهذا يصدق على اثنين بالاتفاق، وهذا مضى الكلام عليه، وقال صاحب المراقي:
أقل معنى الجمع في المشتهر | الاثنان في رأي الإمام الحميري[13] |
الإمام الحميري أي الإمام مالك -رحمه الله-.
وقوله: "وينبني على ذلك أن من أخر طواف الإفاضة" -يعني: على القول بأنه في شهرين وعشرة أيام- "إلى آخر ذي الحجة فعليه دم على القول بالعشر الأول، ولا دم عليه على القول بجميع الشهر".
وقوله: "واختلف فيمن أحرم بالحج قبل هذه الأشهر" يعني: باعتبار أن الله حدد ذلك في وقت معين، فهو كميقات الصلاة، فلو أنه صلى قبل الوقت فإن صلاته لا تصح بالاتفاق، فالحج هل يصح أن يكون قبل أشهره أن يحرم به؟ لو أحرم في رمضان على أنه متمتع، اعتمر في رمضان وجلس ثم أحرم بالحج في اليوم الثامن، أو أنه أحرم بالحج في رمضان مفردًا أو قارنًا هل يصح هذا؟ العمرة في رمضان لو بقي في مكة بنية التمتع واعتمر، فهل يكون متمتعًا أو لا؟
يقول: "فأجازه مالك على كراهة" مع أنه روي عن الإمام مالك -رحمه الله- وأبي حنيفة القول بالجواز في سائر العام، وهذا مروي عن إسحاق بن راهويه، وإبراهيم النخعي، وسفيان الثوري، الليث بن سعد[14]، قياسًا على العمرة، قالوا: كما يصح الإحرام بالعمرة في سائر شهور العام فكذلك الحج.
والقول بالجواز مع الكراهة كما أنه مروي عن مالك، كذلك عن أبي حنيفة، وأحمد[15].
يقول: "ولم يجزه الشافعي وداود" يعني: ابن علي الظاهري، وكذلك ممن منع الأوزاعي، وعطاء، وطاووس، ومجاهد[16]، وظاهر هذا -يعني: التحديد بكون الحج في أشهر معلومات- يدل على أنه لا يصح إيقاعه في غيرها، والله أعلم، فوقته لم يطلق كما هو الشأن في العمرة، فمما تفترق به العمرة عن الحج أن العمرة تكون في سائر الأوقات، وأما الحج فله وقت مخصوص، فلو أحرم في رمضان واعتمر فإنه لا يكون متمتعًا على هذا الاعتبار، والله أعلم.
يقول: "لتعيين هذه الأشهر لذلك، فكأنها كوقت الصلاة" وهذا أيضًا مروي عن جماعة من الصحابة : كابن عباس، وجابر[17]، وجاء عن ابن عباس -ا- أنه قال: "لا يحرم بالحج إلا في أشهر الحج، فإن من سنة الحج أن يحرم بالحج في أشهر الحج"[18]. أخذًا من ظاهر الآية.
والصحابي حينما يقول: من السنة. فإن ذلك يكون له حكم الرفع للنبي ﷺ ابن عباس يقول: "فإن من سنة الحج أن يحرم بالحج في أشهر الحج". فعلى قول الأكثر يكون لهذا حكم الرفع إلى النبي ﷺ.
قوله: "فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ أي: ألزم بالحج نفسه، وفي بعض النسخ ألزم الحج نفسه": فرض بمعنى أحرم فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ أي: أحرم بالحج، وهذا نقل عليه ابن جرير -رحمه الله- الاتفاق[19]، يعني: على هذا المعنى، فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ يعني: أحرم بالحج، والذي أحرم بالحج يكون قد ألزم نفسه به حينما دخل في النسك فيكون الخروج منه بما ذُكر سابقًا من التحلل حال الإحصار بالذبح والحلق أو التقصير.
يقول: "الرفث الجماع" قرأه ابن كثير وأبو عمرو والبصريان فلا رفثٌ ولا فسوقٌ بالرفع على أن (لا) ناهية، نهي عن الرفث، في قراءة الباقين بالفتح على أن (لا) نافية، وحتى على قراءة الفتح أو النصب باعتبار ما سبق أنها نافية يكون النفي مضمنًا معنى النهي، هو نهي عن الرفث، مثل هذه الصيغة حينما ترد بطريق الخبر فإن ذلك يكون أثبت وأوكد، كأنه أمر قد تم وفرغ منه فما عليكم إلا أن تمتثلوا، يعني: أخبر عنه إخبارًا فهو شيء متعين ثبت، والله أعلم.
وقوله هنا: "بأن الرفث هو الجماع" بعضهم يقول: غشيان النساء. وهذا بنفس معنى الجماع، يعني خصوه بهذا، وهو مروي عن جماعة بهذا المعنى، وذلك منقول عن: سعيد بن جبير، وعكرمة، ومجاهد، وإبراهيم النخعي، وأبي العالية، وعطاء الخرساني، وعطاء بن يسار، والربيع بن أنس، والزهري، والسدي، والإمام مالك، ومقاتل، -إذا قلت-: مقاتل دائمًا أقصد به ابن حيان. الإمام المعروف، وليس مقاتل بن سليمان، وكذلك أيضًا الحسن، وقتادة، والضحاك[20]، كل هؤلاء يفسروه بالجماع، بعضهم يقول: مع مقدماته: كالقبلة، والمباشرة، ونحو ذلك، وهذا مروي عن ابن عمر، وابن عباس وعطاء، وعمرو بن دينار[21]، وابن جرير[22] -رحمه الله- حمله على العموم: أنه ليس الجماع فقط وإنما يشمل ذلك ما يريده الرجل من المرأة سواء كان ذلك من الفعال أو من الأقوال، يتكلم معها بشيء من هذا، لكن نقل الإجماع على جواز التحدث من غير حضرة النساء، يعني لو تحدث مع الرجال بشيء مما يكون من أرب الرجل ونحو ذلك من المرأة فهذا لا يكون داخلًا في النهي، وروي عن ابن عباس -ا- أنه ذكر البيت المشهور فلما سئل عن هذا أخبر بأن النهي إنما هو ما كان بحضرة النساء[23].
يقول: "وقيل: الفحش من الكلام، والفسوق هي المعاصي" هذا يشبه الاتفاق، فأصل الفسق هو الخروج عن الطاعة، يعني الجماع في حال الإحرام معصية والمباشرة معصية، والقبلة معصية، والتحدث مع النساء بهذا الشأن معصية، فهو داخل في جملة الفسوق، ولكن هنا ذكره بعده فيشمل جميع المعاصي، فهذا المروي عن ابن عباس، وعطاء، ومجاهد، وطاووس، وعكرمة، وسعيد بن جبير، ومحمد بن كعب القرظي، والحسن، وقتادة، وإبراهيم النخعي، والزهري، ومكحول الدمشقي، والربيع بن أنس، وعطاء بن يسار، وعطاء الخرساني، ومقاتل بن حيان[24]، وهو اختيار ابن كثير[25]، لكن ابن جرير -رحمه الله- يخصصه بنوع من المعاصي وهي: محظورات الإحرام[26]: كالصيد، والطيب، والحلق، وهذا باعتبار أنه في خصوص الحج والنسك، الكلام في هذه القضية، فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وهو يتحدث عن الحج فهو فسوق خاص لا خروج عما حده الله -تبارك وتعالى- في هذا النسك، لكن ظاهر الآية العموم وَلَا فُسُوقَ ولهذا جاء عن ابن عمر -ا-: بأنه اتيان معاصي الله في الحرم[27].
وبعضهم عبر بالسباب، والواقع أنه من قبيل التفسير بالمثال، فسباب المسلم فسوق، لكن معلوم أن ذلك لا يختص بالسباب، فالفسوق يكون بالقول وكذلك بالفعل، النظر إلى الحرام والتحدث الذي يكون فيه ما يسخط الله -تبارك وتعالى- وجاء عن عبد الرحمن بن زيد: بأنه الذبح للأصنام[28]. يعني: ذكر أمرًا يتعلق بالعبادة وما كانوا يتقربون إليه في نسكهم وحجهم، لكن كأنه احتج بقوله تعالى: أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ [الأنعام:145] لكن هذا لا يختص به فيكون من قبيل التفسير بالمثال، وجاء عن الضحاك أنه التنابز بالألقاب[29]، وهذا أيضًا يشبه أن يكون من قبيل التفسير بالمثال، هذا الفسوق، والجدال قال: "المراء مطلقًا" يعني: في أي أمر من الأمور يعني لا يختص بالحج، وَلَا جِدَالَ نهي عن المجادلة والمقصود المجادلة التي لا توصل إلى الحق ولا يراد منها إقراره.
يقول: "وقيل: المجادلة في مواقيت الحج" يعني باعتبار أن الله أقرها وكان أهل الجاهلية ينسؤون الأشهر كما هو معلوم كما قال الله -تبارك وتعالى-: إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ [التوبة:37]، فهذه الأشهر لا جدال فيها، والنبي ﷺ قال: إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض[30]، فهذا الجدال يشمل الجدال بالباطل بأنواعه، وكذلك أيضًا الجدال في زمن الحج، وهذا كله داخل فيه، وقد فُسر بالمخاصمة، وبه قال ابن عباس -ا- وأبو العالية، وعطاء، ومجاهد، وعكرمة، وجابر بن زيد، وعطاء الخرساني، ومكحول، وعمرو بن دينار، والربيع، وقتادة، والزهري، ومقاتل، والسدي، والحسن، وطاووس، وإبراهيم النخعي، ومحمد بن كعب القرظي، وسعيد بن جبير، والضحاك[31]، لكن ابن جرير -رحمه الله- خصه بنوع من الجدال وهو الجدال في الحج ووقته[32]، كما سبق.
يقول: "وقيل: النسيء الذي كانت العرب تفعله" هذا يرجع مواقيت الحج كما ذكرت، وعلى كل حال إذا كان مواقف الحج فما كان بينهم من اختلاف في ذلك حيث كانت تقف قريش في الحرم لا تخرج منه، والناس يقفون في عرفة ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ، هذا يحتمل وإلا فالذي يذكر عادة هو مواقيت الحج، الجدال في مواقيت الحج، والله أعلم.
تزودوا في حجكم، وقد جاء في الصحيح عن ابن عباس -ا-: كان أهل اليمن يحجون ولا يتزودون، ويقولون: نحن المتوكلون، فإذا قدموا مكة سألوا الناس فأنزل الله : وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى. فهذه الرواية في سبب النزول صحيح ثابت وهو نص صريح في هذا أن المقصود بالتزود وَتَزَوَّدُوا يعني: بالأزواد التي تحتاجون إليها من الطعام والشراب ونحو ذلك، وسبب النزول كما هو معلوم قطعي الدخول في المعنى، ولا يصح إخراجه بالاجتهاد، وهذا مثال على الإخراج بالاجتهاد أن المقصود هنا قول التزود للآخرة قال: وهو الأرجح لما بعده. يعني: فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى يُشعر بأن التزود المطلوب هو التقوى، لكن هذا اجتهاد، وسبب النزول صريح في أن المقصود الأزواد المعروفة، فلا يصح إخراج ذلك بالاجتهاد، وذكر ابن جرير -رحمه الله- في المعنى: أنه لا برٌّ لله -تبارك وتعالى- التقرب إليه بالعمل الصالح في ترككم التزود لأنفسكم مع مسألة الناس، ولكن البر في تقوى ربكم باجتناب ما نهاكم عنه في سفركم لحجكم. لاحظ الآن أنه ذكر قضيتين: وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى أن التقرب إلى الله -تبارك وتعالى- على وجه التوكل بترك حمل الأزواد أن هذا لا تضرر فيه ولا طاعة، فهو ليس بمطلوب من قِبَل الشارع، ولكن البر في تقوى ربكم باجتناب ما نهاكم عنه في سفركم لحجكم وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى أن تستصحبوا التقوى معكم، وخصه بسفر الحج باعتبار أن السياق فيه وإلا فظاهر الآية الإطلاق فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى فهذا في الحج وفي غير الحج، ولكن في الحج آكد؛ لأن الآية جاءت بهذا السياق، والله تعالى أعلم.
إذن لا يقال: بأن التزود هنا المقصود به التزود للآخرة بالتقوى. ولكن على طريقة القرآن أنه يربط بين هذا وهذا، وَتَزَوَّدُوا لما أمرهم بالتزود الأزواد المعروفة ذكّر بالزاد الآخر في سفرهم الأعظم وهو التقوى، تقوى الله -تبارك وتعالى- كما أيضًا في قوله في آيات الحج كما سبق: فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ [البقرة:203] فذكّرهم بمحشرهم بعد تفرقهم حيث لا يجمعهم جامع إلا الله -تبارك وتعالى- بالحشر وكذلك بالحج، يذكر بالحشر من اجتماع الناس وكثرتهم وما إلى ذلك، والله أعلم.
قوله: "فضلًا من ربكم في مواسم الحج: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ" جاء عن ابن عباس -ا- أنه قال: "كانت عكاظ ومجنة -يعني الأسواق التي كانت للعرب وذو المجاز أسواقًا في الجاهلية- فلما كان الإسلام تأثموا من التجارة فأنزل الله: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ"[33].
فهذا هو سبب النزول أنهم تحرجوا، ظنوا أن هذا الاشتغال خلاف مقصود العبادة والنسك والحج، فأنزل الله هذه الآية، إذن هي في التجارة في الحج، وهذه القراءة قراءة ابن عباس: (فضلًا من ربكم في مواسم الحج) يعني بالتجارة، وقد نفى ابن جرير -رحمه الله- الخلاف في هذا المعنى أن المقصود التجارة أو ربح التجارة[34].
والتشريك في النية لا إشكال فيه: أن يقصد العبادة ويكون مع ذلك له مقصود على سبيل التبع يجوز ويباح قصده، مثل: التجارة في الحج، والغنيمة في الجهاد ونحو ذلك، هذا يجوز على سبيل التبع.
أصل الإفاضة جريان الشيء بسهولة، وفي الصحيحين عن أسامة بن زيد أنه سُئل كيف كان يسير رسول الله ﷺ حين دفع؟ قال: "كان يسير العَنَق -يعني: كان إذا دفع من عرفة يسير العنق- فإذا وجد فجوة نص"[35]. فالعنق: هو انبساط في السير، يعني: من غير إسراع، والنص: فوقه، يعني: أسرع منه، يعني: كان يسير سيرًا معتدلًا فإذا وجد فجوة أسرع قليلًا، أما هذا التهافت والإسراع الشديد، وحطم الناس بهذه الطريقة، وتعريض النفس والآخرين للخطر فهذا غير مشروع.
قوله تعالى:
عرفات هذا اسم مكان، يقول: "التنوين فيه في مقابلة النون في جمع المذكر لا تنوين صرف، فإن فيه التعريف والتأنيث" يعني: أنه ممنوع من الصرف لعلتان: التعريف والتأنيث، عالمية علم، وكذلك أيضًا مؤنث عرفات، والممنوع من الصرف لا يُنوّن فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فهنا نوّن فهنا يقول: "بأن هذا التنوين في مقابلة النون في جمع المذكر" يعني ليس بتنوين صرف، هكذا قال -رحمه الله- وهذا ليس محل اتفاق، فبعض أهل العلم يقول: بأن هذا التنوين تنوين صرف. أنه صُرف هذا اللفظ وإن كان علمًا على بقعة معينة، الحافظ ابن كثير -رحمه الله- يقول في علة صرفه مع أنه علم على مؤنث قال: "باعتبار أنه في الأصل جمع كمسلمات ومؤمنات سُمي به بقعة معينة فروعي فيه الأصل فصرف"[36]. يعني: صُرِف مراعاة للأصل، عرفات أنه جمع كمسلمات، ومسلمات مصروف، لكن سمي به فهذا علة الصرف والله أعلم.
المشعر الحرام قيل له ذلك من الشِعَار وهو العلامة والدعاء عنده من شعائر الحج، وقيل: له الحرام لحرمته، هكذا قال أبو جعفر بن جرير[37].
والمقصود بالمشعر الحرام هنا مزدلفة جميعًا لا يختص بمكان معين، كما جاء عن بعض السلف كابن عمر -ا- وجاء في رواية عنه: "أنه الجبل وما حوله"[38]، فالمشعر الحرام يطلق بإطلاقين: بإطلاق خاص وهو ما حول الجبل، يعني: الذي فيه المسجد الآن، ويطلق بإطلاق عام على المزدلفة، ولا شك أن المزدلفة يقال لها: المشعر الحرام، وأن الوقوف في أي موضع منها يجزئ ولا إشكال، وهذا مروي عن ابن عباس -ا- وسعيد بن جبير، وعكرمة، ومجاهد، والسدي، والربيع بن أنس، والحسن، وقتادة[39].
يقول: "والوقوف بها سنة" هنا سنة، بمعنى أنه مشروع وأنه عمله النبي ﷺ أو المقصود السنة عند الفقهاء، يعني: التي لا يؤاخذ تاركها، يؤجر من فعلها ولا يؤاخذ من تركها، عند المالكية والمؤلف مالكي، يقولون كما قال صاحب المراقي:
وسنة ما أحمد قد واظبا | عليه والظهور فيه وجبا[40] |
المالكية يفرقون بين المستحب والسنة والنافلة والرغيبة، فيجعلون كل إطلاق من هذه الإطلاقات يصدق على نوع من العبادة، فالسنة عندهم بهذا الاعتبار مقيدة بهذين القيدين: مواظبة النبي ﷺ عليه، والظهور فيه يعني أظهره أمام الناس، النبي ﷺ لم يحج إلا مرة واحدة يعني بعد فرض الحج، والمواظبة هنا ليست متحققة لكن الوقوف بالمزدلفة واجب ولكنه يسقط مع العجز.
يدخل فيه الهدايتان: كَمَا هَدَاكُمْ هداية الإرشاد، علمكم شرائع الإسلام، ومناسك الحج ومواقفه، وكذلك هداكم بمعنى وقفكم للزوم الحق واتباعه والعمل به ومن ذلك النسك الحج، فهذا توفيق من الله لمن حصل له ذلك وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ فتكون الكاف للتعليل يعني لكونه هداكم فاذكروه بألسنتكم وقلوبكم وجوارحكم، وبعض أهل العلم حمله على أن الكاف للتشبيه كَمَا هَدَاكُمْ يعني ذكرًا على الوجه المشروع الذي أرشدكم إليه من غير زيادة ولا نقصان وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ يعني على الوجه والصفة التي هداكم إليها بمعنى أن لا يبتدع ويأتي بعبادات لم يشرعها الله -تبارك وتعالى- أن يكون العمل على الوجه المشروع كَمَا هَدَاكُمْ فتكون الكاف للتشبيه تأتي بالعبادة على الوجه الذي شرعه الله فلا تكون كالتعليل وإنما للتشبيه، والمشهور أنها للتعليل، لكن القرآن يُعبر به بالألفاظ القليلة الدالة على المعاني الكثيرة وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ لكونه هداكم فتكون للتعليل، وكذلك على الوجه الذي شرعه لكم.
لَمِنَ الضَّالِّينَ دخلت اللام في خبرها بهذا الاعتبار.
وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ قبل الهدى يعني من قبل هذا الهدى، أو قبل القرآن، أو قبل الرسول ﷺ كل هذه العبارات ترجع إلى شيء واحد، فالهدى في القرآن قد جاء على يد الرسول ﷺ حيث أرسله الله به، فهذا كله متقارب ومتلازم وصحيح ولا إشكال في هذا، كما ذكر الحافظ ابن كثير -رحمه الله- وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ قبل الهدى، قبل القرآن، قبل النبي ﷺ.
قوله: ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ فيه قولان:
أحدهما: أنه أمر للحُمس، وهم قريش ومن تبعهم كانوا يقفون بالمزدلفة لأنها حرم، ولا يقفون بعرفة مع سائر الناس لأنها حل، ويقولون: نحن أهل الحرم لا نقف إلا بالحرم، فأمرهم الله تعالى أن يقفوا بعرفة مع الناس ويفيضوا منها، وقد كان النبي ﷺ قبل ذلك يقف مع الناس بعرفة توفيقًا من الله تعالى له.
والقول الثاني: أنها خطاب لجميع الناس، ومعناها: أفيضوا من المزدلفة إلى منى، فـ (ثم) على هذا القول على بابها من الترتيب، وأما على القول الأول فليست للترتيب، بل للعطف خاصة، قال الزمخشري: هي كقولك: أحسن إلى الناس، ثم لا تحسن إلى غير كريم، فإنما معناها التفاوت بين ما قبلها وما بعدها وأن ما بعدها آكد[41].
يقول: ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وذكر القولين؛ الأول: أنه أمر للحُمس. المقصود بالحُمس قريش ومن ولدت، وكنانة، وجديلة بن قيس سموا بذلك قيل: لأنهم كانوا يتحمسون في دينهم، وقيل: نسبة إلى الكعبة لكونها حمساء باعتبار لون الأحجار، أحجار الكعبة تميل إلى السواد فنسبوا إليها، هكذا قال بعض أهل العلم والله أعلم، لكن يقال لهم الحمس وكانوا يقفون بالمزدلفة؛ لأنها حرم ولا يقفون مع سائر الناس، قال: ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ لاحظ قبله قال: فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ فهذه الإفاضة صريحة في أن المقصود من عرفة إلى مزدلفة، لكن الذي وقع فيه الخلاف هي الإفاضة الأخرى قال: ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ فـ "ثم" هذه تحتمل أن يكون ذلك باعتبار التراخي في الزمان، وعلى هذا يكون المقصود الإفاضة من مزدلفة إلى منى؛ لأنها تأتي بعد الإفاضة من عرفة إلى مزدلفة، فهم أفاضوا، أمرهم بذلك قال: فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ يعني: مزدلفة، ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ يعني: إلى منى، فسماه إفاضة، وهذا هو القول الثاني الذي ذكره: أنه خطاب لجميع الناس بهذا الاعتبار من المزدلفة إلى منى، خطاب لجميع الناس.
ويحتمل أن المقصود بقوله: ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- فيكون من قبيل العام المراد به الخصوص، يعني لفظ (الناس) لفظ عام فقد يطلق العام ويراد به الخصوص، يمثلون لهذا دائمًا أو كثيرًا بقوله: الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ [آل عمران:173] قال لهم الناس، يقولون: نعيم بن مسعود، الذين قال لهم الناس فعبر بالناس عن واحد، والذين صيغة جمع الاسم الموصول، قالوا: المقول له واحد وهو أبو بكر الصديق إِنَّ النَّاسَ يعني أبا سفيان، فهذا من العام المراد به الخصوص، غير العام المخصوص، العام المخصوص: عام وجاء نص يخصصه وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ [البقرة:228] مخصص بقوله: وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ [الطلاق:4] ففرق بين العام المراد به الخصوص، والعام المخصوص، فهذا بهذا الاعتبار أن الناس ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ يعني إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وإذا فُسر بإبراهيم ﷺ فهذا يحتمل أن يكون المراد الإفاضة من عرفة إلى مزدلفة، يعني لا تفعلوا كما فعلت قريش أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ يعني إبراهيم ﷺ حيث أفاض من عرفة، أو عموم الناس يعني أفيضوا من حيث أفاض الناس فهذا يحتمل أيضًا أن يكون عموم الناس الذين يقفون من غير الحمس يقفون في عرفة، فأفيضوا من حيث أفاضوا، يعني: من عرفات، أو أنه عام مراد به الخصوص أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ يعني إبراهيم من عرفة، أو يبقى على عمومه مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ من عرفة أو من مزدلفة إلى منى، فسواء فُسر الناس بإبراهيم أو فُسر عموم الناس فهذا يحتمل المعنيين، لكن تفسيره بإبراهيم -عليه الصلاة والسلام- يكون المعنى فيه أقرب بأن المقصود الإفاضة من عرفة إلى مزدلفة، فيكون ذكر الإفاضتين في الآيتين يراد به إفاضة واحدة، الأول: فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ يعلمهم في إفاضتهم كيف يصنعون في مزدلفة، وفي الثاني: يكون ذلك من قبيل الأمر للحمس أن تكون إفاضتهم من حيث أفاض غيرهم من الحجيج، ابن جرير -رحمه الله-[42] اعتبر أن في الآية تقديمًا وتأخيرًا، والتقدير: فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ لكن ابن جرير في القول بالتقديم والتأخير يقول: فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ، ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [البقرة:199]، وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ -هكذا على هذا الترتيب- وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ يكون مؤخرًا، وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ [البقرة:197-198]، يعني ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس مؤخر ولكن هو مقدم في المعنى، يعني: أنه أمر لهم بالإفاضة من عرفة إلى مزدلفة ثم أعلمهم -تبارك وتعالى- أنهم ما يفعلوا من خير يعلمه الله وأمرهم بالتزود، لكن هذا خلاف الأصل؛ لأن الأصل في الكلام الترتيب، لكن كأنه أراد أن يخرج من هذا الإشكال فقال: فيه تقديم وتأخير. والأصل في الكلام الترتيب.
وعلى كل حال عرفنا القول الأول: ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ أنه أمر للحمس.
يقول: "وقد كان النبي ﷺ قبل ذلك يقف مع الناس بعرفة توفيقًا من الله تعالى" يعني: قبل أن يبعث عليه الصلاة والسلام، حج فشوهد يقف في عرفة، هذا القول: ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ أن المقصود به ما ذُكر: الإفاضة من عرفة وليس من مزدلفة، هذا الذي اختاره ابن جرير[43]، وابن كثير[44]، والشيخ محمد الأمين الشنقيطي[45] -رحمه الله الجميع- وذكر أنه بإجماع الحجة.
ابن جرير يقول: هذا بإجماع الحجة. مع أنه لا إجماع لكن نحن نعرف أن ابن جرير يطلق الإجماع ويريد به قول الأكثر، قول الجمهور.
ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ أمر للحُمس الإفاضة من عرفة إلى مزدلفة وليس من مزدلفة إلى منى، فبهذا الاعتبار ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ تكون لعطف خبر على خبر، وترتيبه عليه كما يقول الحافظ ابن كثير، يعني: ليست للترتيب في الزمن والمدة، وإنما يعطف الأخبار عطف خبر على خبر ليس فيه مهلة ومدة زمنية تقول مثلًا: أتيت المسجد ثم صليت ركعتين ثم صليت الفريضة. فهذا للترتيب في الزمن، صليت الصبح ثم الضحى ثم الظهر ثم العصر، هذا للترتيب في الزمن، لكن قد تأتي لمجرد عطف خبر على خبر يعني بمجرد عطف جملة على جملة وليس للترتيب، فكأنه أمر الواقف بعرفات أن يدفع إلى المزدلفة ليذكر الله عند المشعر الحرام وأمره أن يكون وقوفه مع جمهور الناس بعرفات، هكذا يكون الكلام، وهذا مروي عن ابن عباس، ومجاهد، وعطاء، وقتادة، والسدي[46]، وغير هؤلاء، كما ذكرنا من قول ابن جرير: بأنه إجماع الحجة[47]. يعني: قول الأكثر، ويدل لذلك ما في الصحيحين من حديث عائشة -ا- قالت: الحُمس هم الذين أنزل الله فيهم: ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ قالت: "كان الناس يفيضون من عرفات وكان الحمس يفيضون من المزدلفة، يقولون: لا نفيض إلا من الحرم"[48]، فلما نزلت: ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ رجعوا إلى عرفات.
فهذا واضح فيكون محمله الإفاضة من عرفة إلى مزدلفة، والإشكال الذي يرد في قوله: (ثم) أنها ليست للمهلة في المدة والزمن وإنما عطف خبر على خبر.
وذكر القول الثاني: أنها خطاب لجميع الناس: ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ، فيكون معناها: أفيضوا من المزدلفة إلى منى، خطاب لجميع الناس فيكون الناس: ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ، يحتمل أن يكون إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- لكن هذا يحتمل كما سبق، حتى على القول أنه إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- أن يكون الإفاضة من عرفة إلى مزدلفة.
يقول: "تكون الإضافة أفيضوا من المزدلفة إلى منى" هذا رواه البخاري عن ابن عباس -ا-[49]، واختاره من المعاصرين: الشيخ عبد الرحمن بن سعدي -رحمه الله-[50]، هؤلاء مشوا على أن (ثم) على بابها من الترتيب، يعني في الزمن ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ هذه الإفاضة الثانية من مزدلفة إلى منى.
يقول: "أما على القول الأول فليست للترتيب بل للعطف خاصة" كما قلنا عطف الجمل أو عطف الأخبار، ونقل عن صاحب الكشاف "قال: هي كقولك: أحسن إلى الناس ثم لا تحسن إلى غير كريم" فهذه ليست للترتيب في الزمن فإن معناها التفاوت بين ما قبلها وما بعدها وأن ما بعدها أوكد، فبهذا الاعتبار يكون الترتيب في الذكر لا في الزمان الواقع فيه من الأفعال، على كل حال هذا الذي ذكرته من أن الترتيب في الذكر لا في الزمان هذا توجيه للقول الأول وليس الثاني، على الثاني: أنها في الزمان.
وبعضهم يقول: قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ يعني الذبائح؛ لأن الذبائح يقال لها نسك، فالنسك يطلق بإطلاق خاص: نسيكة الذبيحة، ويطلق بإطلاق أوسع منه وهو عبادة خاصة وهي الحج والعمرة، ويطلق بإطلاق أوسع فالعبادة يقال لها: نسك. يقال: فلان متنسك. يعني متعبد، فالمقصود هنا بالمناسك يعني أعمال الحج.
كما جاء عن ابن عباس -ا- قال: "كان أهل الجاهلية يقفون في الموسم فيقول الرجل منهم: كان أبي يطعم ويحمل الحمالات ويحمل الديات، ليس لهم ذكر غير فعال آبائهم فأنزل الله على محمد ﷺ: فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ، قيل لابن عباس في هذا، يعني: كذكركم آباءكم، قيل له: إن الرجل لا يأتي عليه اليوم وما يذكر أباه، فقال: إنه ليس بذاك، ولكن يقول: تغضب لله إذا عُصي أشد من غضبك إذا ذُكر والداك بسوء[51]، فحمله على معنى كهذا مع أن الظاهر اللهج بذلك، ولذلك جاء عن بعض السلف أنه يقول كما يقول الصبي: يا أبه، يا أمه، يعني: الصبي كثير اللهج بذلك، وخصه ابن جرير -رحمه الله- بالتكبير[52]، يعني هذا الذكر ما هو؟ التكبير، ووجه التشبيه بطلب الإكثار منه مع الاستكانة والتضرع كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ يكثر من ذكر الله -تبارك وتعالى- بالتكبير مع الاستكانة والتضرع.
- بداية المجتهد ونهاية المقتصد (2/90).
- انظر: الحاوي الكبير (4/28)، والمهذب في فقه الإمام الشافعي للشيرازي (1/367)، والبيان في مذهب الإمام الشافعي (2/166).
- أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (4/498).
- تفسير الطبري (3/447).
- المصدر السابق.
- المصدر السابق (3/448).
- تفسير الطبري (3/447).
- المصدر السابق (3/448).
- المصدر السابق.
- القوانين الفقهية (ص:87)، ومواهب الجليل في شرح مختصر خليل (3/17)، والنوادر والزيادات على ما في المدونة من غيرها من الأمهات (2/340)، والجامع لمسائل المدونة (4/382).
- تفسير ابن كثير ت سلامة (1/542).
- تفسير الطبري (3/446)، وتفسير ابن كثير (1/541).
- نشر البنود على مراقي السعود (1/234).
- تفسير ابن كثير ت سلامة (1/541).
- أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (4/498).
- تفسير ابن كثير ت سلامة (1/541).
- تفسير ابن كثير ت سلامة (1/541).
- تفسير ابن كثير ت سلامة (1/541)، وصحح إسناده.
- تفسير الطبري (3/456).
- انظر: تفسير الطبري (3/464-467)، وتفسير البغوي (1/226)، وتفسير ابن كثير ت سلامة (1/544).
- تفسير ابن كثير (1/544).
- تفسير الطبري (3/469).
- تفسير ابن كثير (1/544).
- انظر: تفسير ابن كثير (1/544).
- تفسير ابن كثير (1/545).
- تفسير الطبري (3/476).
- تفسير الطبري (3/473).
- تفسير الطبري (3/475).
- تفسير الطبري (3/476).
- أخرجه البخاري، كتاب المغازي، باب حجة الوداع، برقم (4406)، ومسلم، كتاب القسامة والمحاربين والقصاص والديات، باب تغليظ تحريم الدماء والأعراض والأموال، برقم (1679).
- انظر: تفسير ابن كثير (1/546).
- انظر: تفسير الطبري (3/476).
- انظر: تفسير الطبري (3/510)، وتفسير ابن كثير (1/549)، وتفسير البغوي (1/228)، وتفسير القرطبي (2/413).
- تفسير الطبري (3/509).
- أخرجه البخاري، كتاب الحج، باب السير إذا دفع من عرفة، برقم (1666)، ومسلم، كتاب الحج، باب الإفاضة من عرفات إلى المزدلفة واستحباب صلاتي المغرب والعشاء جميعا بالمزدلفة في هذه الليلة، برقم (1286).
- تفسير ابن كثير (1/551).
- تفسير الطبري (3/515).
- تفسير الطبري (3/515).
- انظر: تفسير ابن كثير (1/554).
- نشر البنود على مراقي السعود (1/39).
- تفسير الزمخشري (1/247).
- تفسير الطبري (3/529).
- تفسير الطبري (3/534).
- تفسير ابن كثير (1/556).
- أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (4/445).
- انظر: تفسير ابن كثير (1/555-556).
- انظر: تفسير ابن كثير (1/556).
- أخرجه مسلم، كتاب الحج، باب في الوقوف وقوله تعالى: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} [البقرة:199]، برقم (1219).
- أخرجه البخاري، كتاب الحج، باب الركوب والارتداف في الحج، برقم (1544).
- تفسير السعدي (ص:92).
- تفسير البغوي (1/231).
- تفسير الطبري (3/541).