الثلاثاء 17 / جمادى الأولى / 1446 - 19 / نوفمبر 2024
[1] من قول الله تعالى: {المص} الآية 1 إلى قوله تعالى: {وَمَا كُنَّا غَآئِبِينَ} الآية 7.
تاريخ النشر: ٢٩ / ربيع الأوّل / ١٤٢٧
التحميل: 2997
مرات الإستماع: 10773

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

قال المفسر -رحمه الله تعالى:

تفسير سورة الأعراف، وهي مكية.

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ۝ المص ۝ كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلاَ يَكُن فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ ۝ اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ [سورة الأعراف:1-3].

قد تقدم الكلام في أول سورة البقرة على ما يتعلق بالحروف.

كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ [سورة الأعراف:2] أي: هذا كتاب أنزل إليك أي من ربك فَلاَ يَكُن فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ قال مجاهد وقتادة والسدي: شك منه، وقيل: لا تتحرج به في إبلاغه والإنذار به فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ [سورة الأحقاف:35] ولهذا قال: لِتُنذِرَ بِهِ أي: أنزلناه إليك لتنذر به الكافرين وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ [سورة الأعراف:2].

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فالكلام على الحروف المقطعة سبق في أول سورة البقرة بشيء من التفصيل، وسبق بيان القول الذي قد يكون أقرب الأقوال، وذلك أن هذه الحروف هي من حروف المعجم -حروف التهجي- وأنها ليس لها معنى في نفسها وأنها تشير إلى الإعجاز بالقرآن، فكأنه يقول: هذا القرآن مركب من هذه الحروف التي تركبون منها الكلام فأتوا بمثله، ولذلك لا تكاد تذكر هذه الحروف إلا ويذكر القرآن أو الوحي بعدها، كما في قوله هنا: كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ [سورة الأعراف:2] وذكرنا أن الحروف المقطعة تمثل نصف الحروف الهجائية وأنها تمثل من الحروف الهجائية أشرفها، وبالنسبة لما عدا ما ذكرنا في معناها فقد ذكر بعض أهل العلم عشرات الأقوال في تفسيرها ولا حاجة إلى التطويل في هذا.

وقوله -تبارك وتعالى: فَلاَ يَكُن فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ [سورة الأعراف:2] يقول الحافظ: "قال مجاهد وقتادة والسدي: شك منه" وعلى هذا تكون هذه الآية كقوله -تبارك وتعالى: الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ [سورة البقرة:147] والممتري هو الشاكّ.

يقول: "وقيل: لا تتحرج في إبلاغه والإنذار به" أي: لا تتحرج مخافة التكذيب والإيذاء والمخالفة والكفر بما جئت به، كما قال ﷺ في الحديث الذي أخرجه مسلم في صحيحه: إذن يفلقوا رأسي فيجعلوه خبزةً[1]، فالنبي ﷺ كان يتحرج من تكذيبهم حتى أنزل الله عليه مثل هذه الآية.

أو يكون المعنى لا يضِق صدرك لعدم استجابتهم وإيمانهم كما قال الله : فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا [سورة الكهف:6] فقوله: بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أي: مهلكٌ نفسك، كقوله تعالى: فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَآئِقٌ بِهِ صَدْرُكَ [سورة هود:12] وكقوله تعالى: وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ [سورة الحجر:97] فهذا تفسير للحرج بالضيق، ويدل على أن الحرج يأتي بمعنى الضيق الآية التي سبقت في سورة الأنعام وهي قوله تعالى: يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا [سورة الأنعام:125] وقوله تعالى في سورة الحج: وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [سورة الحـج:78] يعني ما جعل عليكم من ضيق، وإنما وسع عليكم بتيسير هذه الشريعة.

الخلاصة أن المعنى الأول لقوله: فَلاَ يَكُن فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ [سورة الأعراف:2] يعني لا يكن في صدرك شك منه، والمعنى الثاني لا يكن في صدرك ضيق مما يقع بسبب تكذيب المكذبين.

والحافظ ابن كثير -رحمه الله- هنا ذكر القول الأول، فإن كان المختصر دقق في نقل عبارة ابن كثير حيث ذكر القول الآخر بـ قيل، أي إن كان كذلك في الأصل فمعنى ذلك أن الحافظ -رحمه الله- يرجح القول بأنه الشك.

وبالنسبة لكبير المفسرين ابن جرير -رحمه الله- فقد جمع بين المعنيين، وهذا وجه حسن من التفسير، وذلك أن القرآن يعبر به بالألفاظ القليلة الدالة على المعاني الكثيرة، فقد تكون الكلمة في الآية تحتمل معنيين وكل معنىً من هذه المعاني يشهد له آيٌ من القرآن وفي هذه الحال تحمل الآية على ذلك جميعاً، ولذلك يقال في قوله تعالى: فَلاَ يَكُن فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ [سورة الأعراف:2] أي: لا يكن فيه شك ولا ضيق.

والجمهور من المفسرين يفسرون الحرج بالضيق، وكأن الشيخ محمد الأمين الشنقيطي -رحمه الله- يميل إلى تفسيره بالضيق أيضاً.

يقول ابن كثير: "ولهذا قال: لِتُنذِرَ بِهِ [سورة الأعراف:2]" أي: أنزلناه إليك لتنذر به الكافرين، كما قال الله : وَتُنذِرَ بِهِ قَوْمًا لُّدًّا [سورة مريم:97] وقوله تعالى: فَأَنذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى [سورة الليل:14].

قال تعالى: لِتُنذِرَ بِهِ [سورة الأعراف:2] ولم يذكر المنذَر ولا المنذَر منه أي لم يذكر المفعول الأول ولا المفعول الثاني، لكن المراد معلوم أي لتنذر به هؤلاء الكافرين الذين يخاصمون خصومةً شديدة في الحق ويردونه مع وضوح دلائله، وتنذرهم من عذاب النار كما قال تعالى: فَأَنذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى [سورة الليل:14] وكما قال: لِّيُنذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِن لَّدُنْهُ [سورة الكهف:2].

وعلى كل حال الإنذار في القرآن يأتي عاماً كما في قوله تعالى: لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ [سورة الأنعام:19] فالنبي ﷺ منذرٌ بهذا القرآن لجميع الناس سواء الأبيض أو الأحمر أو الأسود.

ويأتي الإنذار أيضاً بمعنىً خاص وهو إنذار المكذبين، وأما أهل الإيمان والتصديق والانقياد فإنه يبشرهم، وبهذا الاعتبار يكون القرآن منذراً لقومٍ ومبشراً لآخرين كما قال الله : فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنذِرَ بِهِ قَوْمًا لُّدًّا [سورة مريم:97] فهذا بالنظر إلى الإطلاق الثاني للإنذار وهو أنه يأتي للمكذبين خاصة.

ومن الإنذار العام قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ ۝ قُمْ فَأَنذِرْ [سورة المدثر:1-2] يعني أنذر جميع الناس.

وأصل الإنذار في كلام العرب هو إعلامٌ خاص، فهو الإعلام المقترن بتهديد، وبهذا الاعتبار يكون الإنذار إعلاماً خاصاً، فكل إنذار إعلام وليس كل إعلامٍ إنذاراً، فحينما تخبر إنساناً بقولك: جاء زيد فهذا إعلام وليس إنذاراً، وحينما تقول لإنسان: الموت قريب والساعة حق، والله قد أعد النار للمكذبين، فهذا كله من الإعلام لكنه إعلامٌ خاص، وحينما تقول لإنسان: سترى مغبة فعلك وعاقبة جريرتك، فهذا كله إعلامٌ يقال له إنذار؛ لأنه إعلام مقترن بالوعيد والتهديد.

وعلى كل حال فإن قوله -تبارك وتعالى- في هذه الآية: فَلاَ يَكُن فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ أي: لا يكن فيه شكٌ ولا ريب ولا ضيق من تبليغ الناس به وما تضمنه.

وقوله: لِتُنذِرَ بِهِ [سورة الأعراف:2] أي: من أجل الإنذار.

وإذا قلنا: إن الحرج بمعنى الشك فيكون ذلك متوجهاً إلى الأمة بحيث لا يقع من أحد شك في هذا القرآن بحال من الأحوال، ومن آمن ببعض القرآن وكفر ببعض فإنه يكون في صدره شيء من الحرج بقدر ما رد منه وكذّب، كما يقول الحافظ ابن القيم -رحمه الله: من لم يؤمن بأسماء الله وصفاته ففي صدره حرجٌ منه؛ لأن القرآن دل على هذه الأشياء، ومن لم يرض بالقرآن حاكماً يتحاكم إليه، فإنه قد وقع في صدره حرجٌ منه، ومن شك في أخباره فقد وقع في صدره حرجٌ منه، والناس يتفاوتون في ذلك.

ثم قال تعالى مخاطباً للعالم اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ [سورة الأعراف:3] أي اقتفوا آثار النبي الأمي الذي جاءكم بكتاب أنزل إليكم من رب كل شيء ومليكه وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء [سورة الأعراف:3] أي لا تخرجوا عما جاءكم به الرسول إلى غيره فتكونوا قد عدلتم عن حكم الله إلى حكم غيره.

هذه الآية وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء [سورة الأعراف:3] تدل على أن كل من لم يتبع القرآن فهو متبعٌ لأولياء من دونه، فليس هناك إلا اتباع القرآن واتباع الرسول ﷺ أو اتباع الأولياء، فليس هناك شيء وسط بين هذا وهذا.

قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ [سورة الأعراف:3] كقوله: وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ [سورة يوسف:103] وقوله: وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللّهِ الآية [سورة الأنعام:116] وقوله: وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ [سورة يوسف:106].

وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ ۝ فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا إِلاَّ أَن قَالُواْ إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ ۝ فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ ۝ فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَآئِبِينَ [سورة الأعراف:4-7].

يقول تعالى: وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أي: بمخالفة رسلنا وتكذيبهم، فأعقبهم ذلك خزي الدنيا موصولاً بذلّ الآخرة، كما قال تعالى: وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُواْ مِنْهُم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ [سورة الأنعام:10] وكقوله: فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ [سورة الحـج:45] وقال تعالى: وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَن مِّن بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ [سورة القصص:58].

وقوله: فَجَاءهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ [سورة الأعراف:4] أي: فكان منهم من جاءه أمر الله وبأسه ونقمته بَيَاتًا أي: ليلاً.

أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ من القيلولة وهي الاستراحة وسط النهار، وكلا الوقتين وقت غفلة ولهو كما قال: أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَآئِمُونَ ۝ أَوَ أَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ [سورة الأعراف:97-98] وقال: أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُواْ السَّيِّئَاتِ أَن يَخْسِفَ اللّهُ بِهِمُ الأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ ۝ أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُم بِمُعْجِزِينَ ۝ أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرءُوفٌ رَّحِيمٌ [سورة النحل:45-47].

وقوله: فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا إِلاَّ أَن قَالُواْ إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ [سورة الأعراف:5] أي: فما كان قولهم عند مجيء العذاب إلا أن اعترفوا بذنوبهم وأنهم حقيقون بهذا.

قوله تعالى: فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ [سورة الأعراف:5] فسره بعض أهل العلم بالدعاء كما قال الله : دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ [سورة يونس:10] أي: دعاؤهم، وفسره آخرون بالادعاء، يعني أنهم اعترفوا وأقروا بأنهم كانوا على باطل وأن المعبودات التي كانوا يعبدونها من دون الله لا حقيقة لها ولا نصيب لها في الإلهية، وأقروا على أنفسهم أنهم كانوا على ظلمٍ وباطلٍ.

وهذا المعنى في قوله: قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ [سورة الأنبياء:14] بينه الله في الآيات الأخرى، كقوله: وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ ۝ فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُم مِّنْهَا يَرْكُضُونَ ۝ لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ ۝ قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ ۝ فَمَا زَالَت تِّلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ [سورة الأنبياء:11-15] فهذه هي دعواهم، وأخذ من هذا بعض أهل العلم أن الله قد بعث لجميع الأمم رسلاً فلم يعذبهم حتى جاءهم الرسل -عليهم الصلاة والسلام- لأنهم أقروا على أنفسهم بالظلم ولم يحتجوا فيقولوا: ما جاءنا من رسول وإنما قالوا: إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ [سورة الأنبياء:14] بمعنى أنه قد بلغهم ما تقوم عليهم به الحجة، ولم يعذبهم حتى بعث إليهم رسولاً فكذبوه.

كقوله تعالى: وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً [سورة الأنبياء:11] إلى قوله: خَامِدِينَ [سورة الأنبياء:15].

وقوله: فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمَْ الآية [سورة الأعراف:6] كقوله: وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ [سورة القصص:65].

هذا سؤال متوجه للمرسل إليهم: ماذا أجبتم المرسلين؟ وهذا من النماذج والأمثلة الواضحة جداً في تفسير القرآن بالقرآن، وقد ذكرنا مراراً أن تفسير القرآن بالقرآن يدخله اجتهاد المفسر وبالتالي قد يصيب وقد يخطئ، لكن توجد أمثلة تكون في غاية الوضوح، فقوله: فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ [سورة الأعراف:6] أي: مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ [سورة القصص:65].

وقوله: وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ [سورة الأعراف:6] أي يُسأل الرسل -عليهم الصلاة والسلام- عن البلاغ، إلا أن هذا السؤال ليس سؤال استثبات واستعلام؛ لأن الله لا تخفى عليه خافية، وإنما المقصود بذلك معنىً آخر، وحينما يقال لهؤلاء: مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ [سورة القصص:65] فهذا سؤال تقريع، كما قال الله : وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ [سورة الصافات:24] وهكذا يقال في مواضع متعددة من القرآن كقوله: مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ [سورة المدثر:42] يعني ما الذي أدخلكم النار؟ فهذه أسئلة تقريع لا أسئلة استثبات واستعلام.

وبالنسبة للمواضع التي نفى فيها السؤال كقوله: فَيَوْمَئِذٍ لَّا يُسْأَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلَا جَانٌّ [سورة الرحمن:39] فالمعنى: أنه لا يسأل سؤال استعلام واستثبات، لكن لا ينفي ذلك أنه يسأل سؤال تبكيت، كما أنه لا يسأل سؤال استعتاب من أجل أن يذكر عذره فيقبل منه، لا، وإنما يسأل لتبكيته، فإن من وقع في ورطة ثم قيل له على سبيل التبكيت: ما الذي أوقعك في هذا؟ ألم نقل لك كذا؟ ما الذي أدخلك في هذا؟ فإن هذا يكون فيه مزيداً في ألمه وعذابه.

وقوله: يَوْمَ يَجْمَعُ اللّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُواْ لاَ عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ [سورة المائدة:109].

هذا سؤال للمرسلين مَاذَا أُجِبْتُمْ [سورة المائدة:109] يعني ماذا أجابكم قومكم؟ كما أنه يسألهم عن البلاغ.

فيسأل الله الأمم يوم القيامة عما أجابوا رسله فيما أرسلهم به، ويسأل الرسل أيضاً عن إبلاغ رسالاته.

هذا كقوله -تبارك وتعالى: لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَن صِدْقِهِمْ [سورة الأحزاب:8] فيدخل فيه الرسل -عليهم الصلاة والسلام- هل بلغوا قومهم؟ وماذا بلغوهم؟

والنبي ﷺ أخبر في الموقف الأكبر يوم عرفة أننا مسئولون عنه، فقال: ماذا أنتم قائلون؟ فقالوا له -عليه الصلاة والسلام: نشهد أنك قد بلغت الرسالة وأديت الأمانة، وكان ﷺ يقول: ألا هل بلغت؟ قالوا: نعم، نشهد أنك قد بلغت، فكان يشير بأصبعه إليهم ويرفعها إلى السماء يقول اللهم اشهد، فالناس يُسألون عن الإجابة، والرسل -عليهم الصلاة والسلام- عن البلاغ.

ويدخل في قوله: لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَن صِدْقِهِمْ [سورة الأحزاب:8] سؤال أتباع الرسل من الدعاة إلى الله عن الإيمان وعمَّا يتعلق ببلاغ الناس ودعوتهم وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر.

ولهذا قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس -ا- في تفسير هذه الآية: فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ [سورة الأعراف:6] قال: عمَّا بلغوا.

وقال ابن عباس -ا- في قوله: فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَآئِبِينَ [سورة الأعراف:7] يوضع الكتاب يوم القيامة فيتكلم بما كانوا يعملون.

وَمَا كُنَّا غَآئِبِينَ [سورة الأعراف:7] يعني أنه تعالى يخبر عباده يوم القيامة بما قالوا وبما عملوا من قليل وكثير وجليل وحقير؛ لأنه تعالى الشهيد على كل شيء لا يغيب عنه شيء ولا يغفل عن شيء، بل هو العالم بخائنة الأعين وما تخفي الصدور، وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ [سورة الأنعام:59].

قوله تعالى: فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم بِعِلْمٍ يعني نخبر بما وقع منهم، فالله قد أحصى ذلك جميعاً وكتبه كما قال سبحانه: وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ [سورة الكهف:49] فهو يخبر الناس بما عملوا ويحاسب كل إنسان -عملت كذا وعملت كذا وعملت كذا- وهذا هو العرض، فإذا نوقش الحساب عذب، وهذا يدل على أن السؤال في قوله: فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ [سورة الأعراف:6] ليس سؤال استعلام واستثبات وإنما هو سؤال تقريع؛ لأن الله يعلم ما عملوا وما حصل منهم، ولذلك قال بعده: فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم بِعِلْمٍ [سورة الأعراف:7].

وهناك جملة من الآيات التي جاء السؤال فيها للتقريع والتبكيت، منها قوله تعالى: مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ [سورة المدثر:42] وقوله تعالى: أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ [سورة المؤمنون:105] وقوله تعالى: أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُم بِالْبَيِّنَاتِ [سورة غافر:50] فهذا كله للتبكيت، أما سؤال الأمم عن بلاغ الرسل فهذا بالنسبة للمؤمنين ليس سؤال تبكيت، وكذلك حينما أخبر النبي ﷺ أنهم مسئولون عن البلاغ فهذا ليس سؤال تبكيت، لكن حينما يسأل الكفار ويقال لهم مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ ۝ فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنبَاء يَوْمَئِذٍ [سورة القصص:66] فهذا سؤال تبكيت.

والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم، والحمد لله رب العالمين.

  1. أخرجه مسلم في كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها - باب الصفات التي يعرف بها في الدنيا أهل الجنة وأهل النار (2865) (ج 4 / ص 2197).

مواد ذات صلة