بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال المفسر -رحمه الله تعالى- في تفسير قوله تعالى:
وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُم بِمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يِظْلِمُونَ [سورة الأعراف:8-9].
يقول تعالى: وَالْوَزْنُ أي: للأعمال يوم القيامة الْحَقُّ أي: لا يظلم تعالى أحداً، كقوله: وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ [سورة الأنبياء:47] وقال تعالى: إِنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا [سورة النساء:40] وقال تعالى: فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ نَارٌ حَامِيَةٌ [سورة القارعة:5-11] وقال تعالى: فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءلُونَ فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ [سورة المؤمنون:101-103].
فصل:
والذي يوضع في الميزان يوم القيامة قيل: الأعمال وإن كانت أعراضاً إلا أن الله تعالى يقلبها يوم القيامة أجساماً، قال البغوي: يروى نحو هذا عن ابن عباس -ا- كما جاء في الصحيح من أن البقرة وآل عمران يأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان أو غيايتان أو فرقان من طير صوافّ[1].
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فقوله -تبارك وتعالى: فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ [سورة الأعراف:8] فسره بعض السلف بالحسنات، أي: فمن ثقلت حسناته، وبعضهم يقول: فمن ثقلت موازينه أي ما يوضع في الموازين فيرجح بالميزان، وهذا بمعنى القول الأول في الواقع -فهو من اختلاف التنوع- أي: هي الحسنات.
وبعضهم يقول: فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ [سورة الأعراف:8] أي: رجحت كفة على كفة، فهو ميزان حقيقي له كفتان، وهذا أيضاً لا ينافي ما قبله، فإذا وضعت الحسنات والأعمال الصالحة وكانت مرجحة لإحدى الكفتين فإن العبد يكون ناجياً.
ولا شك أن الأعمال توضع في ميزان حقيقي له كفتان، وهذا الذي عليه عامة أهل العلم من السلف وهو الذي اختاره ابن جرير -رحمه الله- عند تفسير هذه الآية، والمسألة معروفة في كتب العقائد، وقد دلت الأدلة على أن هذا الميزان ميزانٌ حقيقي، فقد جاء في الحديث: ما وضع في الميزان شيء أثقل من حسن الخلق[2] وجاء في الحديث أيضاً: يؤتى يوم القيامة بالرجل السمين فلا يزن عند الله جناح بعوضة[3].
وجاء كذلك حديث السجلات المليء بالأعمال السيئة المشهور بحديث البطاقة، حيث توضع في كفة الحسنات تلك البطاقة المكتوبٌ عليها "لا إله إلا الله" فترجح، وتطيش الكفة التي فيها السجلات التي دونت فيها تلك السيئات.
والمقصود أن الميزان هو ميزان حقيقي توضع فيه الأعمال، وأما قول من قال: إن الله لا حاجة به إلى ذلك، وإنما يزن من لا يعرف مقادير الأشياء على حقيقتها، فهذا قولٌ معارضٌ للنصوص؛ فالله -تبارك وتعالى- لا شك أنه قد أحصى كل شيء عداً وقدراً، ولكن من كمال عدله ومن حكمته البالغة أن جعل الأعمال توزن بالميزان، كما جعل الإنسان ناطقاً شاهداً على نفسه بما عمل مع أن الله قد أحصى عمله، كما جعل أيضاً الأرض شاهدةً عليه، وجعل الجوارح والجلود تشهد على أصحابها، فالله -تبارك وتعالى- حكمٌ عدلٌ حكيم، يفعل ما يشاء لا معقب لحكمه، لكن مثل هذه الأمور إذا ثبتت عن الشارع فإنه يجب التسليم لها دون معارضتها بالعقول، مع أن ذلك لا ينافي مقتضى العقول بل هو موافقٌ لها غاية الموافقة.
ويبقى النظر في الشيء الذي يوضع في الميزان هل هي الحسنات والسيئات؟ أم هي السجلات التي تكتب بها الأعمال كما في حديث البطاقة، أم أن الذي يوزن هم الناس للحديث الذي سبق: يؤتى يوم القيامة بالرجل السمين فلا يزن عند الله جناح بعوضة؟[4].
إذا جمعت النصوص وحكمت بمقتضاها قلت: إن ذلك كله واقع؛ لأنه ثابتٌ عن رسول الله ﷺ فالإنسان يوضع في الميزان، وسجلات الأعمال توضع في الميزان، وتوضع في هذا الميزان الحسنات والسيئات، والله تعالى أعلم.
أورد -رحمه الله- هذا الحديث ليرد على من يقول: إن الأعمال -الحسنات والسيئات- أعراض وليست جواهر؛ وهذه من عبارات أهل المنطق حيث يقولون: الإنسان جوهر، والضحك عرض، والكلام عرض، والسرور والانشراح عرض، والحزن عرض، والخوف عرض، فهذه الأشياء ليست متشخصةً في الخارج فهم يسمونها أعراض.
ويقولون: الفرس جوهر، والمسجد جوهر، واللذة عرض، وهكذا، ومن هنا فهم يقولون: إن الأعمال أعراض، والأشخاص الذين يعملون جواهر، والأعراض لا توزن، هكذا زعموا، وهذا الكلام غير صحيح؛ لأنه ثبت في الحديث أن القرآن يأتي يحاجّ عن صاحبه بصورة معينة، وثبت أن البقرة وآل عمران تأتيان كأنهما غمامتان أو غيايتان أو فرقان من طير صواف، والله على كل شيء قدير، لا يعجزه أن يزن الأعراض ولا يعجزه أن يقلب الأعراض إلى جواهر، ومثل هذه الفلسفات إنما نشأت عن أهل الكلام ومَن شابههم ووافقهم فهم يعترضون على النصوص بمثل هذه الآراء والأفكار التي أنتجتها عقولهم والله المستعان.
وفي حديث البراء في قصة سؤال القبر: فيأتي المؤمنَ شابٌّ حسن اللون طيب الريح فيقول: من أنت؟ فيقول: أنا عملك الصالح وذكر عكسه في شأن الكافر والمنافق[6].
وقيل يوزن كتاب الأعمال كما جاء في حديث البطاقة في الرجل الذي يؤتى به ويوضع له في كفة تسعة وتسعون سجلاً كل سجل مدّ البصر ثم يؤتى بتلك البطاقة فيها "لا إله إلا الله" فيقول: يا رب وما هذه البطاقة مع هذه السجلات؟ فيقول الله تعالى: إنك لا تظلم، فتوضع تلك البطاقة في كفة الميزان، قال رسول الله ﷺ: فطاشت السجلات وثقلت البطاقة[7] رواه الترمذي بنحو من هذا وصححه.
وقيل يوزن صاحب العمل كما في الحديث: يؤتى يوم القيامة بالرجل السمين فلا يزن عند الله جناح بعوضة[8] ثم قرأ: فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا [سورة الكهف:105].
وفي مناقب عبد الله بن مسعود أن النبي ﷺ قال: أتعجبون من دقة ساقيه، والذي نفسي بيده لهما في الميزان أثقل من أحد[9].
وقد يمكن الجمع بين هذه الآثار بأن يكون ذلك كله صحيحاً، فتارةً توزن الأعمال وتارة توزن محالها، وتارة يوزن فاعلها، والله أعلم.
هذا هو الجمع الصحيح وهو الذي قرره الشيخ محمد الأمين الشنقيطي -رحمه الله- وهو قول عامة المحققين، وهو الحكم بمقتضى هذه النصوص جميعاً فلا يرد شيء، وهذا من كمال عدل الله .
قال تعالى: فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُم بِمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يِظْلِمُونَ [سورة الأعراف:8، 9] أي: من رجحت حسناته على سيئاته فهذا هو المفلح الذي ينجو عند الله ، والفلاح هو إدراك المطلوب، والنجاة من المرهوب، والعبرة برجحان الحسنات على السيئات، فهو بحسب ما غلب عليه.
ومن رجحت سيئاته على حسناته فإنه يكون تحت مشيئة الله إن كان محققاً للإيمان الواجب، فالله -تبارك وتعالى- يغفر له إن شاء، وقد لا يدخل النار بشفاعة، وقد يدخل النار ثم يخرج منها بعد ذلك بشفاعة أو برحمة أرحم الراحمين، وأما من لم يحقق الإيمان الواجب ممن وقع في الشرك الأكبر أو نحو ذلك فإن هؤلاء يدخلون النار ولا يخرجون منها أبداً.
ومن تساوت حسناتهم وسيئاتهم فكثيرٌ من أهل العلم قالوا إن هؤلاء هم أصحاب الأعراف الذين يوقفون كما سيأتي في قوله -تبارك وتعالى: وَعَلَى الأَعْرَافِ رِجَالٌ [سورة الأعراف:46] مع أن الآية فيها أقوالٌ غير هذا، فالله تعالى أعلم.
يقول تعالى: وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُم بِمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يِظْلِمُونَ [سورة الأعراف:9] في قوله: بِمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يِظْلِمُونَ الباء للسببية، أي بسبب ظلمهم لآيات الله وهذا الظلم يكون بالتكذيب والرد والمعارضة وما أشبه ذلك، فهذه الآية يؤخذ من عمومها أن الكفار توزن أعمالهم أيضاً، أي أن الوزن ليس لأهل الإيمان فقط بل حتى الكفار توضع أعمالهم في الميزان، وليس لهم حسنات عند الله ؛ لأنه يعجل لهم ذلك في الدنيا حتى إذا جاءوا عند الله جاءوا ليس لهم حسنة، لكن عموم هذه الآية في ظاهرها يدخل فيه الكفار بهذه الصفة أي أنهم خسروا أنفسهم بظلمهم بآيات الله -تبارك وتعالى- ثم بعد ذلك تنشر الصحف وتوزع الكتب على أصحابها فآخذٌ كتابه بشماله وآخذٌ كتابه بيمينه.
في قوله تعالى: وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الأَرْضِ [سورة الأعراف:10] أي جعلناكم متمكنين.
وقوله تعالى: وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ [سورة الأعراف:10] كقوله -تبارك وتعالى: فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاء صَبًّا ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبًّا وَعِنَبًا وَقَضْبًا وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا [سورة عبس:24-29] إلى آخر ما ذكر الله فهذا من المعايش التي أشارت إليها هذه الآية، وكما قال تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاء إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنفُسُهُمْ [سورة السجدة:27] وما شابه ذلك من الآيات التي توضح هذا المعنى، وهو كيف جعل الله لنا في هذه الأرض معايش.
قراءة (معائش) بالهمز هي قراءة سبعية وليست قراءة عبد الرحمن بن هرمز فقط، لكن القراءة التي عليها عامة السبعة بالياء، والقراءة سنةٌ متبعة كما هو معلوم فإذا ثبتت فالقاعدة أنه لا يجوز محاكمتها إلى قاعدةٍ لغوية أو نحوية وإن كانت مائة قاعدة، وهل تؤخذ القواعد أصلاً إلا من القرآن وسنة النبي ﷺ؟ بل أخذ اللغات والقواعد من القرآن والسنة أفضل وأكمل آلاف المرات من أخذها من قول شاعرٍ مجهول لا يدرى من هو ممن يحتجون بقوله على صحة لغةٍ من اللغات.
فاستثقلت الكسرة على الياء فنقلت إلى العين فصارت مَعِيشة، فلما جمعت رجعت الحركة إلى الياء لزوال الاستثقال، فقيل معايش ووزنه مفاعل؛ لأن الياء أصلية في الكلمة بخلاف مدائن وصحائف وبصائر جمع مدينة وصحيفة وبصيرة من مدنَ وصحفَ وأبصرَ، فإن الياء فيها زائدة، ولهذا تجمع على فعائل وتهمز لذلك، والله أعلم.
وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلآئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ [سورة الأعراف:11] ينبه تعالى بني آدم في هذا المقام على شرف أبيهم آدم، ويبين لهم عداوة عدوهم إبليس، وما هو منطوٍ عليه من الحسد لهم ولأبيهم آدم ليحذروه ولا يتبعوا طرائقه فقال تعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلآئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ [سورة الأعراف:11] وهذا كقوله تعالى: وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِّن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ [سورة الحجر:28-29] وذلك أنه تعالى لما خلق آدم بيده من طين لازب وصوَّره بشراً سوياً ونفخ فيه من روحه أمر الملائكة بالسجود له تعظيماً لشأن الرب تعالى وجلاله، فسمعوا كلهم وأطاعوا إلا إبليس لم يكن من الساجدين.
وقد تقدم الكلام على إبليس في أول تفسير سورة البقرة، فدلَّ على أن المراد بذلك آدم، وإنما قيل ذلك بالجمع؛ لأنه أبو البشر، كما يقول الله تعالى لبني إسرائيل الذين كانوا في زمن النبي ﷺ: وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى [سورة البقرة:57] والمراد آباؤهم الذين كانوا في زمن موسى ولكن لما كان ذلك منَّةً على الآباء الذين هم أصلٌ صار كأنه واقع على الأبناء.
يعني أن الخطاب في قوله تعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ [سورة الأعراف:11] جاء بصيغة الجمع فهل المقصود به آدم ﷺ أم جميع الناس؟
الخلق والتصوير لا شك أنه واقع لجميع الناس، فالله خلقهم ثم صورهم، وقد تمدَّح -تبارك وتعالى- بأنه هو الخالق البارئ المصور لكن في الآية قرينة تدل على أن المراد بهذا الخطاب الذي جاء بصيغة الجمع هو آدم ﷺ؛ لأنه عقبه بقوله: ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلآئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ [سورة الأعراف:11] أي: خلقنا أباكم آدم ﷺ وصورناه بعد الخلق ثم قلنا للملائكة اسجدوا له، ويوضح هذا الآيةُ التي ذكرها الحافظ ابن كثير -رحمه الله- وهي قوله –تبارك وتعالى: وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِّن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ [سورة الحجر:29] هذا معنى وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ [سورة الأعراف:11].
ويؤيد هذا أيضاً القاعدة المعروفة وهي: أن الخطاب يكون متوجهاً للأبناء فيما وقع للآباء؛ لأن المنة على الآباء متوجهةٌ للأبناء، كما أن المذمة الواقعة على الآباء متوجهةٌ للأبناء إن كانوا على طريقتهم، كما في قوله تعالى: وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى [سورة البقرة:57] مع أن ذلك إنما وقع لأجدادهم كما قال تعالى: وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نَّصْبِرَ عَلَىَ طَعَامٍ وَاحِدٍ [سورة البقرة:61] وكما قال: وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً [سورة البقرة:55] فهذا إنما وقع من الأجداد، فلما كانوا على طريقتهم صاروا في حكمهم، فصارت هذه المذمة لاحقةً لهم وواقعةً عليهم، وهنا يمتن الله على الناس فيقول: وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلآئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ [سورة الأعراف:11] فهذا تفضيل لآدم، وهذا التفضيل يلحق ذريته.
قوله: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ [سورة المؤمنون:12] يعني باعتبار الأصل، فإن المراد منه آدم المخلوق من السلالة وأما الذرية فمن النطف.
ومن أهل العلم من يقول: إن معنى قوله: وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ [سورة الأعراف:11] أي: نطفاً ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ يعني بعد ذلك، لكن هذا القول يأباه قوله بعده: ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلآئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ [سورة الأعراف:11] فإن "ثُمَّ" تدل على التعقيب والتراخي في أصل معناها.
وبعضهم يقول: خَلَقْنَاكُمْ أي خلقنا آدم من تراب ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ يعني في ظهره.
وبعضهم يقول: إن "ثم" في الآية بمعنى الواو، يعني ولقد خلقناكم ثم صورناكم وقلنا للملائكة اسجدوا لآدم، أي أنها ليست للتعقيب وعلى هذا يكون الخلق والتصوير لعموم الخلق ولا يختص ذلك بآدم في الآية، يعني أن الله ذكر جملةً من الأمور التي يمتن بها على الناس فقال: ولقد خلقناكم ثم صورناكم وقلنا للملائكة اسجدوا لآدم، لكن هذا خلاف الأصل ولا حاجة إليه؛ لأن "ثم" في أصل معناها تفيد التراخي والتعقيب.
وبعضهم يقول: خَلَقْنَاكُمْ يعني من ظهر آدم ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ أي حينما استخرجناكم من صلبه كأمثال الذر، وأخذنا عليكم الميثاق، لكن يقال: وماذا عن قوله: ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلآئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ؟ [سورة الأعراف:11]، لذلك نقول: لا حاجة لمثل هذا التكلف.
وبعضهم يقول: خَلَقْنَاكُمْ أي: خلقنا الأرواح ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ أي: الأشباح، يعني أعطي كل إنسان قالباً وجسماً وصورةً تكون فيها هذه الروح.
وبعضهم يقول: خَلَقْنَاكُمْ في أصلاب الآباء ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ يعني في الأرحام؛ فالتصوير يكون في الأرحام.
وبعضهم يقول: خلقهم في ظهر آدم، ثم صُوروا في الأرحام، والفرق بين هذا القول والذي قبله أن الأول معناه أنهم خُلقوا في ظهور الآباء ثم صُوروا في أرحام الأمهات، والثاني أنهم خُلقوا في ظهر آدم ثم كان تصويرهم في أرحام الأمهات، وهذا كله لا حاجة إليه، وإنما يقال: وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ [سورة الأعراف:11] أي: خلقنا آدم ﷺ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ آدم -عليه الصلاة والسلام، ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلآئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ [سورة الأعراف:11]، والله أعلم.
قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ [سورة الأعراف:12].
قوله تعالى: مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ [سورة الأعراف:12] تقديره ما أحرجك وألزمك واضطرك ألا تسجد إذ أمرتك ونحو هذا، قاله ابن جرير، وهذا القول قوي حسن، والله أعلم.
الحافظ ابن كثير وابن جرير –رحمهما الله- فسرا مَنَعَكَ بمعنى أحرجك واضطرك، وبهذا الاعتبار لا إشكال في الآية، لكن إذا نظرت إلى لفظة "منع" و"اللام" التي تدل على النفي فإن ذلك قد يكون مشكلاً، وذلك أن المتبادر أن يقال: ما منعك أن تسجد، أو ما منعك من السجود، وهنا قال: قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ [سورة الأعراف:12] "ألا" مكونة من "أن" و"لا" أي ما منعك أن لا تسجد، فلفظة "منع" واجتماعها مع "لا" هذا موضع الإشكال، فالكلام بهذا التركيب لا يخلو من إشكال، ولذلك فإن بعض أهل العلم قال: إن "لا" زائدة إعراباً، لكن من حيث المعاني لا يوجد في القرآن شيء زائد، فقالوا: جيء بها للتأكيد وتقوية الكلام؛ بدليل أن الله قال في الموضع الآخر: مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ [سورة ص:75] بدون "لا" فقالوا: إن قوله: مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ [سورة الأعراف:12] يفسره قوله تعالى في الآية الأخرى: مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ [سورة ص:75]
وهذا كما في قوله -تبارك وتعالى- أيضاً: لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ [سورة الحديد:29] فالمعنى "ليعلم" وذلك أنه ذكر هذا من أجل أن يعلموا، ولهذا نظائر قالوا فيها ذلك، ففي سورة الأنعام مرَّ بنا قوله تعالى: وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءتْ لاَ يُؤْمِنُونَ [سورة الأنعام:109] وذكرنا في بعض توجيهاته قول من قال: وما يشعركم أنها إذا جاءت يؤمنون، وسبق الكلام على هذا وعلى القراءتين وذكرنا أن هذا التوجيه يقال على قراءة فتح همزة "أنّ" وأما على قراءة الكسر فلا إشكال.
وهكذا أيضاً في مثل قوله -تبارك وتعالى: وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ [سورة الأنبياء:95] أي: وحرامٌ على قريةٍ أهلكناها أنهم يرجعون، وهكذا.
وبعضهم يفسر "منع" هنا بمعنى "قال" ويجعلون "ما" بمعنى "مَن" أي: من قال لك لا تسجد؟ وهذا فيه بُعد، وبعضهم يقول: يعني ما دعاك ألا تسجد، وهذا يشبه قول ابن كثير وابن جرير -رحمهما الله.
وبعضهم يقول: فيه تقدير محذوف، أي: ما منعك من الطاعة وأحوجك ألا تسجد؟ لكن نقول: الأصل عدم التقدير.
ولذلك لعل أحسن الأقوال وأوضحها قول ابن كثير وابن جرير –رحمهما الله- أي ما حجزك وأحرجك واضطرك، ويليه القول بأنها زائدة إعراباً بدليل الآية الأخرى في سورة ص: مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ [سورة ص:75] فالقرآن يفسر بعضه بعضاً، والله أعلم.
وقول إبليس -لعنه الله: أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ [سورة الأعراف:12] من العذر الذي هو أكبر من الذنب؛ كأنه امتنع من الطاعة؛ لأنه لا يؤمر الفاضل بالسجود للمفضول، يعني -لعنه الله- وأنا خير منه فكيف تأمرني بالسجود له؟
ثم بين أنه خير منه بأنه خُلق من نار، والنار أشرف مما خلقته منه وهو الطين، فنظر اللعين إلى أصل العنصر ولم ينظر إلى التشريف العظيم وهو أن الله تعالى خلق آدم بيده ونفخ فيه من روحه، وقاس قياساً فاسداً في مقابلة نص قوله تعالى: فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ [سورة الحجر:29].
لما سأله ما منعك من السجود؟ قال: أنا خيرٌ منه، مع أن الذي منعه حقيقةً هو الكبر، كما قال تعالى: وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ [سورة البقرة:34] والحامل له على هذا الكبر هو اعتقاده الفاسد أنه أفضل من آدم، فهو عرف أن هذا السجود للتفضيل والتكريم فقال ما قال، وأجاب بهذا الجواب حيث ذكر سبب علة الامتناع وهو اعتقاده الفاسد الذي أورثه هذا التعاظم، وأما العلة فهي الكبر.
وهذا الموضع يتكلم فيه العلماء كثيراً على القياس الفاسد المصادم للنصوص، والذي يسمونه بـ"فاسد الاعتبار" فكل قياس خالف النص يقال له فاسد الاعتبار، أي: قياس باطل لا حقيقة له ولا صحة له بحالٍ من الأحوال، ولهذا يقولون: أول من قاس قياساً فاسداً مقابل النص هو إبليس، وذلك أن الله تعالى قال له: اسجد، فرد هذا الأمر بهذا القياس، فهو أول من عارض النص بالرأي والنظر الباطل، وكل من قاس قياساً باطلاً فاسداً فله نصيبٌ من هذه الصفة، وقد تكلم على هذه المسألة كثير من العلماء منهم الحافظ ابن القيم -رحمه الله- في إعلام الموقعين.
والشيخ محمد الأمين الشنقيطي -رحمه الله- أطال في الكلام على هذه الآية في دروسه التي كانت في المسجد النبوي، ففي درس كامل تكلم على القياس والرد على ابن حزم في القياس بكلامٍ رصينٍ متين حتى إنه لما كتب وعرض عليه -رحمه الله- قال: لو لم أسمع هذا بصوتي لما صدقت أني قلته في الدرس، فالله فتح عليه بأشياء كثيرة، ولذلك يحسن مراجعة ذلك.
والعلماء -رحمهم الله- ردوا على إبليس –لعنه الله- وممن ردَّ عليه ابن القيم وابن كثير والشنقيطي وغيرهم –رحمهم الله- وقد ردوا عليه من وجوه كثيرة.
قوله: "فشذَّ من بين الملائكة" لا يفهم منه أن إبليس من الملائكة فهو إنما كان من الجن كما قال الله في سورة الكهف: وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ [سورة الكهف:50] ثم إنه ذكر أصله هنا فقال: خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ [سورة الأعراف:12] والملائكة خلقوا من النور كما في الحديث الصحيح[10].
هذا وجه تسميته بهذا الاسم حيث قيل: إنه مأخوذٌ من الإبلاس وهو بمعنى القنوط واليأس من رحمة الله .
هذا من وجوه رد الحافظ على إبليس في قياسه الفاسد، ومعناه أن إبليس كان فهمه خطأ واحتجاجه خطأ، فهو يقول: أنا أشرف منه لأني خلقت من نار وخلق آدم من الطين، فابن كثير -رحمه الله- يقول هذا كلام غير صحيح أيضاً إذا جئنا لمناقشته، وذلك أنه إضافة إلى كونه اعترض على الأمر الذي يفترض مقابلته بالتسليم والانقياد والإذعان فإن قوله هذا الكلام غير صحيح؛ فليست النار أفضل من الطين بل الطين أفضل من النار؛ لأن الطين من شأنه الرزانة والحلم والأناة والتثبت، وليس المقصود بهذا الكلام أن الحلم صفة أصل الطين وإنما المقصود أن المخلوق من الطين هو الذي من شأنه الحلم والأناة والتثبت خلافاً للذين خلقوا من النار.
ولهذا ذكر شيخ الإسلام مثلاً في بعض المناسبات أن من صفة الجن الخفة والطيش حيث خلقوا من مارج من نار، يعني حتى المسلمين من الجن يوجد فيهم الكذب والظلم والخفة والطيش أكثر من وجوده في المسلمين من الإنس ولذلك تجد الواحد منهم مسلما وربما يزعم أنه من أهل العلم ومع ذلك يتلبس بالإنسان ويؤذيه غاية الأذية بحجج تافهة كأن يقول: إنه جلس في هذا المكان وما سمّى، أو جلس عليَّ أو نحو ذلك!!
هذه كلها من وجوه تفضيل الطين على النار.
كذلك يمكن أن يقال: إن الطين أطول بقاءً من النار، فالنار تبقى بقدر ما فيها من الوقود، ثم تتلاشى وتذهب، أما الطين فهو أبقى منها وأطول، وهو موجود في الجنة، وأما النار فلم يذكر لها وجود في الجنة، بل هي عذاب، والطين ليس بعذاب، والنار أيضاً تحتاج إلى مكان تتحيز فيه، والطين مسجد وطهور، والنار لا مسجد ولا طهور، ومن شأنها الإتلاف بخلاف الطين.
ويمكن أن نرد على إبليس من وجه آخر فنقول: الملائكة خلقوا من نور والنور أشرف من النار ومع ذلك سجدوا، وأنت من نار فحتى لو فرضنا أن النار أفضل من الطين فالملائكة ما اعترضوا بهذا الاعتراض وهم أشرف منك قطعاً، وأنت دونهم حيث خلقت من نار فلماذا تعترض هذا الاعتراض؟
هذا يدل على كبر في نفسه، ظهر حينما أُمر آدم بالسجود، فكانت علة خفية يعلمها الله ظهرت في هذا المقام، ولهذا فإن الإنسان قد يكون فيه دين وعبادة، أو يكون من أهل العلم، لكن لا تظهر كوامن النفس وما فيها من العلل إلا إذا وجد المحرِّك لذلك، نسأل الله العافية، ولذلك الإنسان دائماً يستعيذ: اللهم إنا نعوذ بك من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا.
فإبليس حسد آدم على هذا التكريم والتفضيل وظهر هذا الحسد حينما أمر الملائكة بالسجود لآدم فامتنع من السجود، وهكذا الإنسان قد يكون في دين وصلاح لكن ما يظهر ما فيه من علة إلا إذا وجد المحرك لها، وهذه مداخل دقيقة جداً في النفس قد لا يعرفها الإنسان من نفسه ولكنها تظهر بعدُ بوجود محركها، وهذا له صور كثيرة جداً، فلو نظرت إلى المنتسبين إلى العلم فقط الذين يفترض أن يكونوا أشرف وأكمل من غيرهم فإنك تجد عند بعضهم من هذه الأمور الخطيرة، وإذا نظرت إلى العلل الكامنة في نفوس كثير من الناس -إلا من وفقه الله وجاهد نفسه وأصلحها وتنبه لعللها وفتش عنها- تجد من العلل أشياء كثيرة، فالرجل يُثنَى عليه ويُذكر بأوصاف من الكمالات والعلم والعمل والتحقيق والعبادة، فتبدأ تتحرك بعض النفوس التحرك السلبي ويبدأ الحسد، وربما يلتمس بعض الحاسدين ما يعيب هذا الإنسان وينقصه، وربما يفرح إذا سمع كلمة حفظها إنسان مما يحط من مرتبته، فلو قال قائل: سمعته يقول كذا وحصل منه مرةً كذا، فإن هذا الحاسد يتنفس من هذا التنقص.
وبعضهم قد يكون فيه من ضعف الدين وخفة العقل ما يجعله لا يتمالك فينطلق لسانه بالعيب والذم والثلب وأمور ربما يلفق معها أشياء من الأكاذيب لينتقص هذا الإنسان، وكل ذلك من الحسد، لكن بعضهم قد يكون فيه ذكاء وعقل فيصل إلى هذا بطرق خفية، وبعضهم يكون فيه دين وخوف من الله فيبقى هذا في النفس لكنه يحبسه كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله: "ما خلا جسد من حسد، ولكن الكريم يخفيه واللئيم يبديه"[11] فهذه مشاعر إذا وجدت في النفس وما خرجت بقولٍ أو فعلٍ أو غير ذلك مما يصدر من الإنسان فلا يؤاخذ الإنسان عليها، وعليه أن يدافع هذا وينزه قلبه قدر المستطاع، وما يغلب عليه لا يؤاخذ عليه ما لم يصدر منه شيء، فالإنسان يحتاج إلى معرفة مثل هذا، وإلى النظر في نفسه، وعليه أن يفتش في عيوبه، وما أشبه ذلك.
تجد بعض الناس أحياناً قد يدعى إلى مناسبة، ويرى أناسا يقدّمون وربما يكون لهم شيء من الكلمة أو نحو ذلك، وهو يرى أنه أولى منهم أو لا يقل عنهم، ثم ينتهي هذا الحفل أو هذا البرنامج من أوله إلى آخره وما طُلب منه شيء، فإذا خرج بدأ يذكر بعض المثالب والعيوب والملاحظات، ولو قيل له: تكلم، لخرج وهو يثني، والسرور يلوح في وجهه! فالذي جعله يخرج وهو يذكر العيوب -إن كانت هناك عيوب حقيقية- هي شرور النفس حيث ظهرت بعد أن تحركت في نفسه لما رأى غيره يقدم عليه، وكان يظن أنه هو المقدم، وما نفعه العلم إن كان من أهل العلم حقيقةً، وقد لا يكون من أهل العلم أيضاً لكنه يلبس زيهم، فهذه بلوى ابتلى الله الناس بها، وهذه أمور تحتاج إلى معالجة، فهذا إبليس امتنع وتحركت نفسه بسبب هذا التكريم والتفضيل لآدم.
وهذا لا يختص بأهل العبادة وأهل العلم بل حتى الطلاب الصغار إذا رأوا الأستاذ يعامل أحدهم معاملة طيبة تسلطوا عليه وكرهوه وحسدوه وذموه ولاموه، وهكذا.
تجد الرجل يشتط ويجتهد في الدعوة إلى الله ويحصل على يده خير كثير، ثم يقدَّم غيره عليه أو يكرم إنسان آخر ويعطى درعاً أو نحو ذلك، فتبدأ تتحرك نفس هذا وربما ينقطع من العمل بالكلية، وإذا تساءلت وبحثت لماذا؟ وما الذي حصل له؟ وجدت أنه يرى أنه يعمل وأن الذي يكرّم غيره، وتحولت المعاني الجميلة التي يدعو إليها، والإخلاص والكلام والصدق وكذا تحولت إلى لا شيء، فالله المستعان.
المارج من النار هو اللهب الذي لا دخان فيه، وبعضهم فسره بطرفها الأعلى، وهذا لا شك أنه أخف النار، وليس معنى هذا أن شياطين الجن أو أن الجن عموماً هم نار تتحرك بل هم مثل بني آدم حيث خلقوا من طين فنحن أصلنا من الطين، وهم أصلهم من النار، ومع ذلك يعذبون بالنار في الآخرة وقد يحترقون بها في الدنيا، فلا يلزم أن يكون هذا الاحتراق بالنار المحرقة هذه؛ لأنها قد لا تضرهم، والله تعالى أعلم، وهذا مشاهد في أن الإنسان الذي يتلبسون به قد يأكل الجمر، أعني أولئك الذين يبحثون عن اللهو والطرب ممن تركبهم الشياطين يشاهد أنهم يأكلون الجمر.
وكذلك من تركبهم الشياطين ممن يتعاطون السحر والشعوذة والدجل على الناس يأكلون الجمر والنار تخرج من أفواههم ولا يحترقون، ويمشي الواحد منهم على النار فمثل هؤلاء قد لا يحترقون بالنار لكن قد يحترقون بشيء آخر كالرقية، والمقصود أن كونهم خلقوا من النار لا يمنع أن يعذبوا في نار جهنم فالإنسان المخلوق من الطين إذا ضرب بلبنة من الطين فإنه قد يموت أو على الأقل يشج رأسه، بمعنى أن الطين يضره ويؤذيه، فكذلك هؤلاء خلقوا من نار ثم يعذبهم الله فيها، والله تعالى أعلم.
وروى ابن جرير عن الحسن في قوله: خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ [سورة الأعراف:12] قال: "قاس إبليس وهو أول من قاس" إسناده صحيح.
وروى عن ابن سيرين قال: "أول من قاس إبليس وما عبدت الشمس والقمر إلا بالمقاييس" إسناد صحيح أيضاً.
المقصود بهذه الآثار المقاييس الباطلة الفاسدة وإلا فإن المقاييس الصحيحة لا إشكال فيها، والله قال: فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ [سورة الحشر:2] والاعتبار فيه معنى المقايسة، ولهذا فإن حقيقة الاعتبار أن تنتقل من حال هذا الإنسان المعتبر به إلى حالك أنت، فلا تقع فيما وقع فيه، فهو من العبور والمجاوزة حيث ينتقل من حاله إلى حالك ولهذا قيل: العبْرة هي انتقال بصورة من الصور، فهذه النصوص وغيرها مما ورد في ذم القياس المقصود به القياس الفاسد الذي تُعارَض به النصوص، أما القياس الصحيح فإن النبي ﷺ قال لعمر لما سأله عن القبلة للصائم: أرأيت لو مضمضت من الماء وأنت صائم[13] فالمضمضة أصل لا إشكال فيه، وليس عند عمر شبهة في المضمضة أنها لا تؤثر في الصوم، فالمضمضة ماء يدخل إلى الفم والقبلة للصائم مثلها.
وبعض أهل العلم قال: لما كانت المضمضة مقدمة للشرب فالقبلة مقدمة للجماع، ويمكن أن ينظر فيه إلى ملحظ آخر وهو أن القبلة أصلاً في الفم فيخالطه من الريق ما يخالطه وهذا لا يؤثر كما أن المضمضة لا تؤثر، فالقبلة فرع والمضمضة أصل والعلة الجامعة أن هذه مقدمة لمحظور في الصوم، سواء قلنا: مقدمة لمحظور هو ما يحصل في الفم من مخالطة الريق أو قلنا: مقدمة للجماع، فهي مقدمة لمحظور، والحكم هو الجواز والإباحة، فالمضمضة جائزة للصائم لا تؤثر على صومه وكذلك القبلة لا تؤثر وهذا هو الحكم الجامع، وهذا هو القياس، وأمثلة ذلك كثير، والله أعلم.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.
- أخرجه مسلم في كتاب صلاة المسافرين وقصرها -باب فضل قراءة القرآن وسورة البقرة (804) (ج 1 / ص 553).
- أخرجه البخاري في كتاب الأدب (270) (ج 1 / ص 103) والترمذي في كتاب البر والصلة عن رسول الله ﷺ باب ما جاء في حسن الخلق (2003) (ج 4 / ص 363) وصححه الألباني في صحيح الأدب المفرد (ج 1 / ص 122).
- أخرجه البخاري في كتاب التفسير – باب تفسير سورة الكهف (4452) (ج 4 / ص 1759) ومسلم في كتاب صفات المنافقين وأحكامهم (2785) (ج 4 / ص 2147).
- المصدر السابق.
- أخرجه ابن ماجه في كتاب الأدب - باب ثواب القرآن (3781) (ج 2 / ص 1242) وأحمد (23026) (ج 5 / ص 352) وقال شعيب الأرنؤوط: " إسناده حسن في المتابعات والشواهد ".
- أخرجه أحمد (18557) (ج 4 / ص 287).
- أخرجه الترمذي في كتاب الإيمان -باب ما جاء فيمن يموت وهو يشهد أن لا إله إلا الله (2639) (ج 5 / ص 24) وابن ماجه في كتاب الزهد -باب ما يرجى من رحمة الله يوم القيامة (4300) (ج 2 / ص 1437).
- سبق تخريجه.
- أخرجه البزار (ج 1 / ص 294) والطبراني في الكبير (8473) (ج 9 / ص 78).
- سيأتي تخريجه.
- مجموع الفتاوى (ج 10 / ص 125).
- أخرجه مسلم في كتاب الزهد والرقاق - باب في أحاديث متفرقة (2996) (ج 4 / ص 2294).
- أخرجه أبو داود في كتاب الصوم - باب القبلة للصائم (2387) (ج 2 / ص 284) والدارمي في كتاب الصوم - باب الرخصة في القبلة للصائم (1724) (ج 2 / ص 22) وأحمد (138) (ج 1 / ص 21) وصححه الألباني في صحيح أبي داود برقم (2385).