الخميس 24 / جمادى الآخرة / 1446 - 26 / ديسمبر 2024
(011-أ) من قوله تعالى (ما كان الله ليذر المؤمنين..) الآية 179 – إلى قوله تعالى (ولله ملك السموات والأرض..) الآية 189
تاريخ النشر: ٢٣ / ربيع الأوّل / ١٤٣٨
التحميل: 1327
مرات الإستماع: 1539

الحمد لله الذي هدانا للإسلام، وعلمنا الحكمة والقرآن، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحابته الطيبين الطاهرين، اللهم اغفر لنا ولوالدينا ولشيخنا والحاضرين والمستمعين، أما بعد:

فيقول الإمام بن جُزي عند قوله تعالى:

 ما كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ [آل عمران:179] الآية خطابٌ للمؤمنين، والمعنى ما كان الله ليدع المؤمنين مختلطين بالمنافقين، ولكنه ميّز هؤلاء من هؤلاء بما ظهر في غزوة أُحُد من الأقوال والأفعال التي تدل على الإيمان أو على النفاق.

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله أما بعد:

فقوله -تبارك وتعالى-: مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ، يقول: "الآية خطابٌ للمؤمنين" وهذا ظاهر اختيار الحافظ ابن كثير -رحمه الله-[1]، وقبله قال به أبو جعفر بن جرير[2]، مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ، وقال بعضهم: بأن الخطاب للمنافقين والكُفار، يعني: ما كان ليذرهم على ما أنتم عليه من الكفر والنفاق، مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ أيها الكفار وأهل النفاق عَلَيْهِ من الكفر والنفاق، لكن هذا كما ترون بعيد، يعني: ما كان الله ليذرهم على الكفر.

 وهكذا قال بعضهم بأن هذا الخطاب للمؤمنين والمنافقين، مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ، الذي حمل القائلين بأن هذا الخطاب للكفار والمنافقين قالوا: إنه يتحدث عن المؤمنين بطريق الغيبة، ومُوجه الخطاب بطريق الخطاب، مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ، فكأن الخطاب لغير المؤمنين، هكذا فهموا من ظاهر السياق، ولكن مثل هذا لا يمنع من أن يكون الخطاب مُوجهًا للمؤمنين، كأنه يقول: ما كان الله ليذركم على ما أنتم عليه، وتلوين الخطاب مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ، من المخاطب بهذا؟ على القول الأول اختاره ابن جرير وابن كثير أن الخطاب للمؤمنين كما قال ابن جُزي -رحمه الله- مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ، فصرّف الخطاب هذا التصريف وهو للمؤمنين، يعني: بمعنى أنه لابد من أن يُقدّر الله ويُقيض من الابتلاء ما يحصل به الميز والتمحيص، فيتميز أهل الإيمان من أهل النفاق، فالشدائد هي التي يحصل بها كشف الحقائق، ولو بقي الحال على نصرٍ وعزٍ وتمكين من أول وهلة لتتابع الناس على الدخول الإيمان أو إظهار الإيمان لما يحصل لهم بسبب ذلك من عرض الدنيا، النصر والغنيمة ونحو هذا، فهذه من مطالب النفوس، لكن حينما تحصل الهزيمة مرة والنصر مرة، ويحصل الابتلاء، فهنا يتمحّص أهل الإيمان ويتميّز الناس وينكشف النفاق وأهله، وهذا في زمن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- وفي كل زمان، فإذا رأيت بأوقات الشدة من يتلوّنون ويُبدلون ويُغيرون فلا غرابة، فذلك مقصودٌ للشارع، فبه تنكشف الحقائق وتظهر مُخبآت النفوس ويتساقط من لا يستحق أن ينتسب إلى هذه الثُلة التي يحصل على يدها النصر والتمكين.

وانظروا إلى ما قصّه الله -تبارك وتعالى- من خبر طالوت، فقد تتابع التساقط مرةً بعد مرة حتى بقيت الفئة القليلة، وهي التي تحقق على يدها النصر، أما أولئك الذين تساقطوا فغير مأسوفٍ عليهم، فلا تحزن على ساقط ومنتكس ومتراجع، وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ [الأنفال:23]، لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ [التوبة:47]، وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ [التوبة:46]، فهذا تقديره -تبارك وتعالى- المبني على علمه وحكمته، فلا تحزن حينما ترى مثل ذلك، فهذه سنة الله -تبارك وتعالى- في الخلق، تميز الصف سواء كان ذلك في ميدان الجهاد، أو كان في ميدان الدعوة، ولو بقي الناس على حالٍ من العافية لما ذهب الخبث وإنما يذهب ذلك بفتنه على النار، فذلك الذي يُزيل خبثه ويبقى خالصه، فهذا خطابٌ للمؤمنين، والله تعالى أعلم.

يقول: "ولكنه ميّز هؤلاء من هؤلاء بما ظهر في غزوة أُحُد من الأقوال والأفعال التي تدل على الإيمان أو على النفاق".

وَما كانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ [آل عمران:179] أي: ما كان الله ليطلعكم على ما في القلوب من الإيمان والنفاق، أو ما كان الله ليطلعكم على أنكم تَغلِبُون أو تُغلَبُون.

هذا يحتمل، وهو مما يدخل في الغيب، والحافظ ابن كثير -رحمه الله- يقول: "أي أنتم لا تعلمون غيب الله في خلقه حتى يُميّز لكم المؤمن من المنافق لولا ما يعقده من الأسباب الكاشفة عن ذلك"[3]، وهذا جيد في المعنى، وبه قال أبو جعفر بن جرير -رحمه الله-[4].

وَما كانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ، لا تطّلعون على حقائق الأمور وخبايا النفوس ومُخبأت الضمائر، وليس يُكتب على جبين كل إنسان في الدنيا أنه مؤمن أو منافق أو كافر حتى يقرأه كل أحد، وإنما يُقيض من الأسباب ما يظهر به من حقائق النفوس ما حق بها، ويقر في القلوب مما لا يطلع عليه إلا الله -تبارك وتعالى- فتكشفه هذه المقادير، هذا هو الأقرب والله تعالى أعلم.

وبعضهم يقول: وَما كانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ يعني: فيمن يستحق النبوة حتى يكون الوحي باختياركم، لكن هذا بعيد؛ لأن الآية تتحدث عن الابتلاء.

إذن وَما كانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ العلة حتى يميز الخبيث من الطيب، وَما كانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وإنما تعرفون ذلك بما يُظهره الله -تبارك وتعالى- كما في قوله: وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا [الأحزاب:12]، فانكشف هذا وظهر في الشدة، وأما أهل الإيمان: وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا [الأحزاب:22]، واختيار الحافظ ابن كثير في المعنى هنا أن المقصود الشدة والابتلاء التي يعقبها النصر والتمكين[5]، وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ يعني: من الشدة والابتلاء الذي يعقبه النصر، لكن السياق يُبيّن المراد والراجح من هذه الأقوال.

وَلكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي [آل عمران:179] أي: يختار من رسله من يشاء فيطلعهم على ما شاء من غيبه.

كأن هذا هو الذي حمل بعضهم على القول بأن المقصود بذلك الاختيار في النبوة، يعني: ليس لكم التخيُّر في هذا وإنما الله -تبارك وتعالى- هو الذي يختار ويصطفي من عباده ما شاء، فكأنهم نظروا إلى هذا: وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ، فكأنها قرينة عندهم على هذا المعنى.

وقوله -تبارك وتعالى-: وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ كقوله: عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا ۝ إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ [الجن:26-27].

الَّذِينَ يَبْخَلُونَ [آل عمران:180] يمنعون الزكاة وغيرها.

يقول: "يمنعون الزكاة وغيرها" يعني: من الصدقات والحقوق الواجبة والمُستحبة، وأدخل فيه بعضهم ما هو أعم من ذلك، كالذي يبخل بعلمه، أو يبخل بجاهه من ذوي الجاه، وأهل الكتاب بخلوا بما عندهم من علمٍ وكتموا شهادةً فيما يتصل بصفة النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-.

وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، هذه قرينة سَيُطَوَّقُونَ، على أن المراد بالبُخل هنا البخل بالنفقة والمال من الزكاة، سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا، ولهذا فإن حمل ذلك على الزكاة وما يجب في المال تدل عليه هذه القرينة، سَيُطَوَّقُونَ، لكن لو إنه بخل بالصدقة فإنه لا يدخل في ذلك.

وهل يُقال: إن البخل بالعلم يحصل به هذا الجزاء، سَيُطَوَّقُونَ، وكذلك البخل في الجاه؟ النبي ﷺ يقول: من كتم علمًا ألجمه الله بلجامٍ من نار[6]، ما قال يُطوق بذلك، لكنه ذكر التطويق فيمن غصب أو اقتطع شبرًا من الأرض من ظلم قيد شبر من الأرض، طوقه من سبع أرضين[7].

فمن نظر إلى العموم هنا: بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ، فيدخل فيه المال والعلم والجاه ونحو ذلك، الرأي والعقل بدل المشورة والنصيحة، ولكن قوله: سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فهذه قرينة على أن المراد المال والنفقات الواجبة من الزكاة ونحوها، والله أعلم.

هُوَ خَيْرًا [آل عمران:180] هُوَ فصلٌ، وخَيْرًا مفعولٌ ثان، والأول محذوف تقديره: لا يحسبن البخل خيرا لهم.

قوله: "هُوَ خَيْرًا، هُوَ فصلٌ" يعني: هو ضمير فصلٍ، يعني لو قال هكذا: وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِخَيْرًا لَهُم، نهيٌ عن ذلك، بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ، فـ هُوَ ضمير فصل يدخل بين طرفي الكلام، المبتدأ والخبر مثلًا؛ لتقويته، تقول: هذا خيرٌ لك، تقول: هذا هو خيرٌ لك، ما الفرق؟ هذا لتقوية الكلام، تقول: هذا كريم، هذا هو الكريم، هذا لتقوية النسبة بين طرفي الكلام، فهذا معنى يقول: "هُوَ خَيْرًا، هُوَ فصلٌ" يعني ضمير فصل.

خَيْرًا مفعولٌ ثان، والأول محذوف تقديره: لا يحسبن البخل" هذا المفعول الأول، خَيْرًا هذا المفعول الثاني.

سَيُطَوَّقُونَ [آل عمران:180] أي: يلزمون إثم ما بخلوا به، وقيل: يجعل ما بخلوا -وفي النسخة الخطية: ما بخلوا به- حيةً يُطوّقها في عنقه يوم القيامة.

لاحظ المعنى الأول: "يلزمون إثم ما بخلوا به" يعني: أنه ليس ثمة تطويق حقيقةً، هذا معنى التفسير الأول، القول الثاني: "يُجعل ما بخلوا به حية يُطوّقها في عنقه يوم القيامة" حية هذا يحتاج إلى دليل، ما الدليل؟ جاء في الصحيح في البخاري: من أتاه الله مالًا فلم يؤدِ زكاته مُثل له ماله شُجاعًا أقرع له زبيبتان يُطوّقه يوم القيامة، يأخذ بلازمتيه، -يعني بشدقيه- يقول: أنا مالك، أنا كنزك ثم تلى هذه الآية: وَلا يَحْسَبَنَّ[8]، قال تعالى: وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ۝ يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ [التوبة:34-35]، فهذا الحديث صريح وواضح بأن هذا المال الذي لم تُؤدَ زكاته أنه يُمثّل له بهذه الصفة، يكون شجاعًا أقرع، الشجاع معروف: الحية الثعبان، بعضهم يقول: العظيم أو الذكر من الثعابين، أقرع لكثرة السم يقولون: يتساقط عنه شعر الرأس.

وفي هذا الحديث قيّده بقوله: لم يؤدِ زكاته، وفي الآية: وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ، فلا يكون هذا الوعيد على ترك المستحب، وهذا التطويق يُفسّر بهذا الحديث؛ لأن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- ذكر الآية فيه، والحديث النبوي -التفسير النبوي- إذا ذُكر معه الآية وصحّ سنده فإنه لا يُتجاوز إلى غيره، يعني: هذا لا يدخله اجتهاد المُفسر، كون المفسر ربط بين حديث لم يتطرق فيه النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- إلى الآية، لكن فهم المفسر أن الحديث يتعلق بالآية، هذا قد يُصيب المفسر في الربط وقد يُخطئ، لكن إذا ذكر النبي ﷺ الآية كما في هذا الحديث فهذا تفسيرٌ لها، فيكون هذا هو المعنى، والله أعلم.

وبعضهم يقول: يكون طوقًا، سَيُطَوَّقُونَ يعني: يكون هذا المال طوقًا، هذا الذي اختاره ابن جرير[9]، وأبعد من قال بأن المراد يعني: من الطاقة، أي سيُحمّلون عقابه، وبعضهم يقول: يُلزمون أعمالهم لزوم الطوق للعُنق، هذه أقوال بعيدة، والحديث نص في بيان المُراد، والله أعلم.

لكن الآية تدل على هذا المعنى الذي دل عليه الحديث، وأصل الطوق ما يُجعل في العُنق، وكلما استدار بشيء فهو طوق.

لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ [آل عمران:181] الآية، لما نزلت: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ [البقرة:245]، قال بعض اليهود وهو فنحاص، أو حُيَي بن أخطب أو غيرهما: إنما يستقرض الفقير من الغني، فالله فقير ونحن أغنياء، فنزلت هذه الآية، وكان ذلك القول اعتراضًا على القرآن أوجبه قلة فهمهم أو تحريفهم للمعاني، فإن كانوا قالوه باعتقادٍ فهو كفر، وإن كانوا قالوه بغير اعتقاد فهو استخفاف وعناد.

هو كُفر سواء قالوه استخفافًا أو قالوه كما يقول هنا اعتراضًا على القرآن باعتقادٍ، ففي كل الحالات الذي يقول: إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ لا شك أن هذا من أعظم الكُفر في كل الحالات، أيًا كان الباعث على هذا القول هو الاعتقاد، يعتقد أن الله فقير فعلًا، أو أنه يقول ذلك على سبيل الاستخفاف والاستهزاء، كيف يطلب منّا القرض، مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا، قبّحهم الله.

هذا الذي ذكره في سبب النزول جاء من حديث ابن عباس -ا- قال: "قال أبو بكر لفنحاص، وكان من علماء اليهود وأحبارهم: اتقِ الله وأسلم، فوالله إنك لتعلم أن رسول الله ﷺ من عند الله، جاءكم بالحق من عنده، تجدونه مكتوبًا عندكم في التوراة والإنجيل، فقال فنحاص: يا أبا بكر والله ما بنا إلى الله من فقر وإنه إلينا ليفتقر، وما نتضرع إليه كما يتضرع إلينا وإنا عنه لأغنياء، ولو كان عنّا غنيًا لما استقرضنا أموالنا كما يزعم صاحبكم، ينهاكم عن الربا ويُعطيناه"، يعني بمضاعفته، يعني: فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً، يقول: "ولو كان عنّا غنيًا ما أعطانا الربا"، يعني: بمضاعفة الثواب على الصدقة، "فغضب أبو بكر فضرب وجه فنحاص، فأخبر فنحاص رسول الله ﷺ فقال رسول الله ﷺ لأبي بكر: ما حملك على ما صنعت؟، فأخبره، فجحد ذلك فنحاص، فقال: ما قلت ذلك، فأنزل الله : لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ"[10]، هذا أخرجه ابن جرير والطحاوي في مُشكل الآثار، وابن أبي حاتم في التفسير، وحسّن إسناده الحافظ ابن حجر وجوّد إسناده الشيخ أحمد شاكر، وبعضهم يُضعّف هذه الرواية.

ووردت روايات نحوها لا تخلو من ضعف، هذا الذي يُشير إليه ابن جُزي -رحمه الله- هنا في سبب النزول، أنها نزلت بسبب فنحاص.

سَنَكْتُبُ ما قالُوا [آل عمران:181] أي تكتبه الملائكة في الصحف، وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ [آل عمران:181] أي: قتل آبائهم للأنبياء، وأُسند إليهم؛ لأنهم راضون به، ومتبعون لمن فعله من آبائهم.

ذكرنا في بعض المناسبات قاعدة وهي أن فعل الآباء أو ما صدر عن الآباء، أو القبائح أو المذمة التي تلحق الآباء تلحق الأبناء إذا كانوا على طريقتهم، وهذا كثير في القرآن، وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً [البقرة:55]، الذين قالوا هذا هم أجدادهم وليسوا الذين عاصروا النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا [البقرة:72]، قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ [البقرة:91]، الذين قتلوهم هم أسلافهم، فالمذمّة التي تلحق الآباء تكون لاحقةً للأبناء إذا كانوا على طريقتهم، كما أن المنّة على الآباء تكون واصلةً للأبناء، ولهذا يمتنّ الله عليهم يقول: وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ [البقرة:50]، والذين أنجاهم الله وفرق بهم البحر هم أسلافهم وليسوا المعاصرين للنبي ﷺ وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى [البقرة:57]، وذلك كان لأسلافهم، فهكذا المنن على الآباء تلحق الأبناء، وهذا ليس في بني إسرائيل فقط، تجده في القرآن في الامتنان على بني آدم في خلقهم وتصويرهم وما إلى ذلك وإسجاد الملائكة ونحو هذا.

الَّذِينَ قالُوا [آل عمران:183] صفةٌ للذين، وليس صفةً للعبيد.

يعني في قوله: وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ ۝ ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ۝ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ [آل عمران:181-183]، يقول: "الَّذِينَ قالُوا صفةٌ للذين، وليس صفةً للعبيد" يعني ليس ذلك مُتعلقًا بما قبله من قوله: وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ۝ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا هذا ليس مرادًا، الَّذِينَ قالُوا ليس بصفةٍ للعبيد قطعًا.

يقول: "صفة للذين" المراد بـــ الَّذِينَ في قوله: لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ، اليهود، سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ ۝ ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ.

ثم ذكر صفةً أخرى لهم -يعني غير ما سبق- من قولهم: إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ، قال: الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ، هذا من قول اليهود، فهو صفة للذين في قوله: لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ.

حَتَّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ [آل عمران:183] كانوا إذا أرادوا أن يعرفوا قبول الله لصدقةٍ أو غيرها جعلوه في مكانٍ، فتنزل نارٌ من السماء فتحرقه، وإن لم تنزل فليس بمقبول، فزعموا أن الله جعل لهم ذلك علامةً على صدق الرسل.

أصل القُربان ما يُتقرّب به من ذبحٍ أو غيره، هذا أصل القربان، لكن المقصود هنا حَتَّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ قربان خاص له علامة، وهو ما ذُكر: تَأْكُلُهُ النَّارُ، فيُعرف أن ذلك علامة ودليل على صدقه، فطالبوا بهذه الآية، طبعًا هم ما طلبوا أن يكون هذا لكل أحد من الناس أن يُعرف قبول الصدقة بنزول هذه النار على القرابين ونحو ذلك، وإنما أرادوا أن يكون ذلك دليلًا على صدق دعوى النبوة.

قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ [آل عمران:183] الآية رد ٌعليهم بأن الرسل قد جاءتهم -وفي النسخة الخطية: جاؤوهم- بمعجزاتٍ توجب الإيمان بهم، وجاؤوهم أيضا بالقربان الذي تأكله النار، ومع ذلك كذّبوهم وقتلوهم، فذلك يدل عل أن كفرهم عنادٌ، فإنهم كذبوا في قولهم: إِنَّ اللهَ عَهِدَ إِليْنَا.

يعني أن هذه الآية التي طلبوها قد أُوجد مثلها من قبل وحصل التكذيب، الله يقول: وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً، مُبْصِرَةً: يعني آية مُبصرة واضحة لا خفاء فيها، لكن كانت النتيجة فَظَلَمُوا بِهَا [الإسراء:59]، فهؤلاء الذين يتخيّرون الآيات والبراهين الدالّة على صدق نبيّهم ويُحددونها، يُطالبون بها، ليس ذلك يعني أنه لم يأتِ بآية، هو جاءهم بآيات، لكن هم قصدوا الآيات التي يقترحونها، فالله -تبارك وتعالى- أخبر أن من عادة هؤلاء المُكذّبين أن حصول هذه الآيات لا يحملهم على الإيمان والتصديق والإذعان والإقرار بما جاء به رسولهم، هكذا كانوا، وعندئذٍ تنزل بهم العقوبة.

فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ [آل عمران:184] الآية، تسليةٌ للنبي ﷺ بالتأسّي بغيره.

فَمَنْ زُحْزِحَ [آل عمران:185] أي: نحي وأبعد.

لَتُبْلَوُنَّ [آل عمران:186] الآية خطابٌ للمسلمين، والبلاء في الأنفس بالموت والأمراض، وفي الأموال بالمصائب والإنفاق.

الآية خطابٌ للمسلمين، لَتُبْلَوُنَّ، وهذا قسم، والله لتُبلَوُنَّ قسمٌ مُضمر، قال: "والبلاء في الأنفس بالموت والأمراض، وفي الأموال بالمصائب والإنفاق" حصول المكاره في هذه، في الأنفس والأموال، كل ذلك من الابتلاء فيها.

وَلَتَسْمَعُنَّ [آل عمران:186] الآية سببها قول اليهود: إِنَّ اللهِ فَقِيرٌ، وسبُّهم للنبي ﷺ وللمسلمين.

يقول: "وَلَتَسْمَعُنَّ سببها قول اليهود: إِنَّ اللهِ فَقِيرٌ، وسبُّهم للنبي ﷺ وللمسلمين" جاء من حديث كعب بن مالك أن كعب بن الأشرف كان شاعرًا وكان يهجو النبي ﷺويُحرّض عليه كُفّار قُريش، في سياقٍ الذي ذُكر فيه قتله، قتل كعب بن الأشرف، وفي آخره: "فأمر الله نبيه ﷺ بالصبر على ذلك"، قال: "وفيهم أنزل الله: وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ[11]، فهذا السياق من حيث الصيغة ليس بصريح بأنه سبب النزول كما هو معلوم، فيحتمل أن المقصود بذلك التفسير، يعني هذا مما يدخل فيه قول اليهود هؤلاء أو ما ذكره الله عنهم من إسماع الأذى لأهل الإيمان، فيدخل فيه ما وقع من كعب بن الأشرف من هِجاء النبي ﷺ المسلمين، وكان يُشبب بأزواج النبي ﷺ.

هذه الرواية لا تدل على سبب النزول صراحةً فيحتمل.

وجاء من حديث أسامة بن زيد في صحيح البخاري، أن رسول الله ﷺالحديث المعروف في سياقه الطويل، أن أردف أسامة ويعود سعد بن عبادة في الطريق مرّ على نفر، على مجلس، على جمع فيهم مسلمون ومشركون، وكان معهم عبد الله بن أُبي، وقال مقالته: "لا تغبّروا علينا"، ووضع رداءه وطرف كمه على أنفه، فنزل النبي ﷺ ووقف وذكّرهم ووعظهم ودعاهم إلى الله، فكان رده ذلك الرد القبيح، وقال: يا هذا -يعني يقول للنبي ﷺ: "امكث في رحلك فمن أتاك.."- يعني كلمه وعِظه، يقول: "ولا تغشنا في مجالسنا"، وكان في القوم ابن رواحة فردّ عليه قوله وقال: "بل يا رسول الله اغشنا في مجالسنا"، فتثاور القوم وصار بينهم كلام، إلى آخره.

فهذا الحديث معروف ومشهور وفيه: "وكان النبيﷺ وأصحابه يعفون عن المشركين وأهل الكتاب كما أمرهم الله ويصطبرون على الأذى، قال الله : وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا، وقال الله: وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنفُسِهِمْ [البقرة:109][12]، لاحظ هذه الصيغة الآن بهذا النص: "ويصطبرون على الأذى، قال الله : وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ، هل هذا سبب نزول؟ سبب صريح من حيث اللفظ؟

الجواب: لا، فمثل هذا قد يكون من قبيل الاستشهاد بالآية والتفسير، وقد عرفنا أن الصيغة الصريحة في سبب النزول أن يذكر واقعة أو سؤال ثم يقول: "فأنزل الله" ونحو هذا، أما نزلت هذه الآية في كذا، أو يقرأ الآية عند ذكر أمرٍ معين أو نحو ذلك، فليس ذلك بسببٍ صريحٍ في النزول، هذا واضح، فتبيّن من هذا أن ما صح من هذه الروايات ليس بصريحٍ بأنه سبب النزول، وأما الروايات الأخرى الضعيفة فلا تُذكر في هذا السياق، والله أعلم.

لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ [آل عمران:187]، قال ابن عباس: هي لليهود أُخذ عليهم العهد في أمر محمد ﷺ فكتموه، وهي عامةٌ في كل من علمه الله علما.

هنا: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ، ظاهر أنها توبيخ لأهل الكتاب، وهذا الذي ذكره أبو جعفر بن جرير[13]، والحافظ ابن كثير[14]، حيث أخذ الله عليهم العهد على ألسنة الأنبياء أن يؤمنوا بمحمد ﷺ ويُنوهوا بذكره في الناس من أجل أن تتهيأ النفوس لاتباعه والدخول في الإسلام، لكنهم ما فعلوا بل فعلوا عكس ذلك، وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ، يقول: "قال ابن عباس: هي لليهود أُخذ عليهم العهد في أمر محمد ﷺ فكتموه، وهي عامةٌ في كل من علمه الله علما" هذا يؤخذ من عموم المعنى، وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ، هذه في خصوص أهل الكتاب، لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ، هذا من حيث المعنى عام؛ لأن النصوص جاءت دالّة على ذلك، كقوله ﷺ: من سُئل عن علمٍ فكتمه ألجمه الله بلجامٍ من نار يوم القيامة[15]، فهذا يدل على أنه لا يجوز كتمان العلم، والله يقول: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى [البقرة:159]، فهذا عام.

الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا [آل عمران:188] الآية، قال ابن عباس: نزلت في أهل الكتاب، سألهم النبي ﷺ عن شيء فكتموه إياه وأخبروه بغيره، فخرجوا وقد أروه أن قد أخبروه بما سألهم عنه، واستحمدوا إليه بذلك وفرحوا بما أوتوا -وفي النسخة الخطية: بما أتوا- من كتمانهم إياه ما سألهم عنه، وقال أبو سعيد الخُدري: نزلت في المنافقين، كانوا إذا خرج النبي ﷺ إلى الغزو تخلفوا عنه، وفرحوا بمقعدهم خلاف رسول الله، وإذا قدِم النبي ﷺ اعتذروا إليه، وأحبوا أن يُحمدوا بما لم يفعلوا.

هنا قوله –تبارك وتعالى: لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ، قال: "الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا قال ابن عباس: نزلت في أهل الكتاب، سألهم النبي ﷺ عن شيء فكتموه إياه" إلى آخره، هذه حملها ابن جرير -رحمه الله- على الذين كتموا أمر النبي ﷺ[16]، لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ، لكن القول بأنها في الذين كتموا أمر النبي ﷺ قد لا يخلو من إشكال، بخلاف قول ابن عباس -ا- بأن النبي ﷺ سألهم عن شيءٍ "فكتموه إياه وأخبروه بغيره، فخرجوا وقد أروه أن قد أخبروه بما سألهم عنه، واستحمدوا إليه بذلك وفرحوا بما أوتوا أو أتوا، من كتمانهم إياه ما سألهم عنه" هذه الرواية عن ابن عباس -ا- في آخرها، وهو مهم جدًا لا يُسقط من الرواية اختصارًا، قال: "ثم قرأ ابن عباس: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ ۝ لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوا الآية"[17]، قرأها ابن عباس، فهذا ليس بسبب نزول، يعني ابن عباس قرأ ذلك من باب الاستشهاد وليس ذكر سبب النزول، ليس من قبيل سبب النزول الصريح باعتبار أن قوله في أولها: "نزلت في أهل الكتاب سألهم النبي ﷺ" يعني: أن ذلك مما يدخل في المعنى، ويحتمل أنه من قبيل سبب النزول.

وحملها ابن كثير على المرائين المتكثرين بما لم يُعطوا[18]، الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا، ولا شك أن المُرائين بهذه الصفة المذكورة أنهم يدخلون فيها، وعمّمها بعض أهل العلم، يعني بكل من كان كذلك، يدخل فيه أهل الكتاب والمراؤون، وهذا الذي اختاره بعض المتأخرين مثل الشوكاني[19]، ولا شك أن من اتصف بمثل هذه الصفة أنه مُتوعَّد بالعقوبة.

يقول هنا: "وقال أبو سعيد الخُدري: نزلت في المنافقين، كانوا إذا خرج النبي ﷺ إلى الغزو تخلفوا عنه، وفرحوا بمقعدهم خلاف رسول الله، وإذا قدِم النبي ﷺ اعتذروا إليه، وأحبوا أن يُحمدوا بما لم يفعلوا"، هنا جزء من الرواية مهم جدًا لا يُمكن أن يُسقط، "فنزلت: لا تَحْسَبَنَّ الآية"[20]، هذه الرواية هذا صريح في أنه سبب النزول، "فنزلت"، وهذه الرواية من حديث أبي سعيد مُخرّج في الصحيحين.

وكذلك أيضًا قول ابن عباس -ا- هو في الصحيحين، لكنه ليس بصريحٍ في سبب النزول، فإذا وُجد هذا وهذا، يعني الصريح وغير الصريح وكلاهما صحيح، ذكرنا في القاعدة في تعدد المرويات في أسباب النزول أنه يُنظر أولًا إلى الثبوت فيُختار الصحيح.

ثم العبارة فيُختار الصريح، هنا حديث أبي سعيد الخُدري صريح في سبب النزول، فيكون هو سبب النزول، وما ذكره ابن عباس -ا- يحتمل أن يكون من قبيل التفسير، يعني مما يدخل في الآية، مما يؤيد القول بأن الآية تعمُّ ذلك جميعًا من جهة المعنى، أن كل من حصل منه مثل هذا المسلك المشين فهو مُتوعَّدٌ بالعقوبة، لكن تكون الآية نزلت في المنافقين كما جاء هنا كما ذكره ابن جُزي -رحمه الله- فهي صريحة في ذلك.

وجاء في الحديث ما يدل على العموم في المعنى واللفظ أيضًا، بل اللفظ عام جاء في حديث: ومن ادّعى دعوة كاذبة ليتكثّر بها لم يزده الله إلا قلة[21]، الحديث مُخرّج في صحيح مُسلم، والحديث الآخر: المُتشبع بما لم يُعطَ كلابس ثوبي زور[22]، فهؤلاء تشبّعوا بما لم يُعطوا واستحمدوا، طلبوا الحمد، وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ.

والرواية المشهورة في سؤال مروان لابن عباس لما أرسل بوّابه لابن عباس -ا- يسأله عن هذه الآية: "إن كان كل من أحب أن يُحمد بما لم يفعل مُعذبًا لنعذبن أجمعين"، فقال ابن عباس : "فمالك ولهذه الآية"، وذكر ما سبق من أنها نزلت في أهل الكتاب[23]، لكن الواقع أن ذلك يصدق على أهل الكتاب كما سبق، ويصدق على من شابههم بهذا الفعل.

فهذه الآيات التي يُقال أنها نزلت في أهل الكتاب أو نحو ذلك تذمهم على عملٍ صدر عنهم، فذلك يكون أيضًا في حق من صدر عنه هذا العمل وإن لم يكن من أهل الكتاب، فذمهم الله عليه، فلا يكون من شابههم في هذا الفعل بمنأى عن الوعيد أو الذم؛ لأنه ليس من أهل الكتاب، بل كما سبق من قول بعضهم مما ذكره القرطبي -رحمه الله- في ذكر هذه المناسبة: "على قدر المقام يكون الملام"[24]، فإذا كان هذا الذم يلحق أهل الكتاب، فإن من صدر عنه مثل ذلك من هذه الأمة، وهم أشرف -يعني هذه الأمة- وأكمل، فالذم الذي يلحقهم والوعيد أعظم، فلا يُقال: إن من أحب أن يُحمد بما لم يفعل أنه بمنأى عن الذم أو الوعيد، وقول مروان بأن لا ينجو أحد، كل أحد يحب أن يُحمد بما لم يفعل، هذا غير صحيح أبدًا، فالمؤمن الصادق لا يُحب أن يُحمد بما لم يفعل، وإذا حمده الناس على ما لم يفعل أوقفهم وقال: عفوًا أنا لم أفعل هذا ولم يصدر عني ولا أستحق عليه الثناء، وإنما الذي يُثنى عليه هم من عملوا هذا العمل وقاموا به ولست أنا، ويعلم أن الذين يمدحون بما ليس فيه أنهم يُزورون عليه هذا المدح، ويمكن في أي لحظة أنهم ينقلبون ويُزورون عليه الباطل، هذا معروف، فهو لا يفرح بمدح هؤلاء وبذكره بما لم يفعل، فلا يُقال: إن هذا لا يسلم منه أحد وأننا سنُعذب جميعًا إذا كان ذلك، لا يُقال، ليس بصحيح، بل هذا مرض يحتاج إلى علاج، ولابد من السعي في معالجته والتخلُّص منه.

بعض العلماء يقولون: يمكن أن تكون الآية نزلت في أهل الكتاب والمنافقين، وهذا قاله القرطبي[25] والحافظ ابن حجر في "العُجاب في بيان الأسباب"[26]، لكن ما ذكرته من أن الصيغة في حديث ابن عباس غير صريحة يقتضي ترجيح حديث أبي سعيد أنه هو سبب النزول، ولا حاجة للقول أنها نزلت في الفريقين، لو كانت رواية ابن عباس صريحة لقيل ذلك، أنها نزلت في الفريقين، والله أعلم.

فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بالتاء وفتح الباء: خطابٌ للنبي ﷺ وبالياء وضم الباء: أسند الفعل للذين يفرحون، أي لا يحسبون أنفسهم بمفازةٍ من العذاب، ومن قرأ: لَا تَحْسَبَنَّ بالتاء فهو خطابٌ للنبي ﷺ و الَّذِينَ يَفْرَحُونَ مفعول به، وبِمَفَازَةٍ المفعول الثاني، وكرر فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ: للتأكيد، ومن قرأ: لَا يَحْسَبَنَّ بالياء من أسفل، فإنه حذف المفعولين لدلالة مفعولي لَا تَحْسَبَنَّهُمْ عليهما.

فيما يتعلق بالقراءات في هذا الموضع فهي على النحو الآتي، يعني على خمسة أوجه، إذا أردنا أن ندقق فتكون:

الوجه الأول: لَا يَحْسَبَنَّ في الأول، فَلا يَحْسَبُنَّهُمْ، قصد كلامي فقط الموضعين الذين فيهما اختلاف، القراءة من الآية: لَا يَحْسَبَنَّ، فَلا يَحْسَبُنَّهُمْ، هذه قراءة ابن كثير وأبي عمرو.

القراءة الثانية: لابن عامر: لَا يَحْسَبَنَّ، فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ، الأول بالياء والثاني بالتاء.

القراءة الثالثة: لَا يَحْسَبَنَّ، فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ، هذه قراءة نافع والكسائي.

القراءة الرابعة: لَا تَحْسَبَنَّ، فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ، الفروقات أحيانًا تكون بالحركة وأحيانًا تكون بالتاء أو الياء.

القراءة الخامسة: لَا يَحْسَبَنَّ، فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ، هذه قراءة عاصم، فصار عندنا خمس قراءات.

يقول: "ومن قرأ: لَا تَحْسَبَنَّ بالتاء فهو خطابٌ للنبي ﷺ و الَّذِينَ يَفْرَحُونَ"، يعني: لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ، "مفعول به، وبِمَفَازَةٍ المفعول الثاني، وكُرر فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ: للتأكيد" هذا يُذكر للربط بين أجزاء الكلام إذا طال؛ لئلا يحصل شرود الذهن لدى السامع.

يقول: "ومن قرأ: لَا يَحْسَبَنَّ بالياء من أسفل، فإنه حذف المفعولين لدلالة مفعولي لَا تَحْسَبَنَّهُمْ عليهما" يعني إذا صار لا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ فيصير الَّذِينَ فاعل، بخلاف لَا تَحْسَبَنَّ أنت الَّذِينَ مفعول به، وهنا: لا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ، فـ الَّذِينَ صار فاعل الآن، فحُذف المفعولان، لا أريد أن أطيل في التفاصيل في أوجه القراءة، لكن يكفينا قراءة الياء والتاء، أما الباقي بكسر السين مثلًا والفتح فهذه لُغات لا تُؤثر في المعنى، فلسنا بحاجة إلى الوقوف مع كل وجه من الوجوه الخمسة، لكن يكفي على الوجهين بالياء والتاء:

فعلى قراءة: لَا تَحْسَبَنَّ، فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بالتاء، فالفعلان مُضافان إلى المُخاطَب، وهو النبي ﷺ وهو الفاعل، لَا تَحْسَبَنَّ أنت، الَّذِينَ يَفْرَحُونَ مفعول أول لـ تَحْسَبَنَّ، بعضهم يقول على هذه القراءة: حُذف المفعول الثاني، يعني ليس بِمَفَازَةٍ، يقول: "لدلالة ما بعده عليه وهو: بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ، الذي هو المفعول الثاني لـ تَحْسَبَنَّهُمْ، فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ، وقيل إن بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ هو المفعول الثاني كما سبق لقوله: لَا تَحْسَبَنَّ الأول على تقدير التقديم، فيكون المفعول الثاني لـ تَحْسَبَ محذوفًا، فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ، لدلالة الأول عليه تقديره: لَا تَحْسَبَنَّ يا محمد الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوا بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ، فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ، ثم حُذف الثاني، ويكون: فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ تأكيد لـ لَا تَحْسَبَنَّ بالتاء أيضًا أو بدل جاء مشوبًا بمعنى التأكيد لاتفاق الفاعلين والمفعولين، والفاء يقولون: إنها صلة لا تمنع من البدل.

على قراءة الياء: لَا يَحْسَبَنَّ، فَلا يَحْسَبَنَّهُمْ، فـ الَّذِينَ فاعل، ومفعولا لَا يَحْسَبَنَّ محذوفًا اكتفاءً بمفعولي فَلا يَحْسَبَنَّهُمْ؛ لأن الفاعل فيهما واحد، فالفعل الثاني تكرير للأول: فَلا يَحْسَبَنَّهُمْ، يقولون تأكيد لـ لَا يَحْسَبَنَّ، أو بدل جاء مشوبًا بمعنى التوكيد، إلى آخر ما يذكرون.

أما على قراءة: لَا يَحْسَبَنَّ بالياء، والثاني فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بالتاء، فالإعراب كما سبق في كل فعلٍ بحسبه، لكن لا يحسُن في الثاني التأكيد أو البدل لاختلاف الفاعلين، لكن يكون مفعولا الأول حُذفا لدلالة مفعولي الثاني عليهما، وقيل غير ذلك من الأوجه.

  1. تفسير ابن كثير (2/ 173).
  2. تفسير الطبري (6/ 262).
  3. تفسير ابن كثير (2/173).
  4. تفسير الطبري (6/ 265).
  5. انظر: تفسير ابن كثير (6/ 391-392).
  6. أخرجه أبو داود، كتاب العلم، باب كراهية منع العلم، برقم (3658)، والترمذي، أبواب العلم عن رسول الله -ﷺ، باب ما جاء في كتمان العلم، برقم (2649)، وقال: "حديث حسن"، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (6284).
  7. أخرجه البخاري، كتاب المظالم والغصب، باب إثم من ظلم شيئا من الأرض، برقم (2453)، وبرقم (3195)، كتاب بدء الخلق، باب ما جاء في سبع أرضين، ومسلم، كتاب المساقاة، باب تحريم الظلم وغصب الأرض وغيرها، برقم (1612).
  8. أخرجه البخاري، كتاب الزكاة، باب إثم مانع الزكاة، برقم (1403).
  9. تفسير الطبري (6/ 276).
  10. أخرجه الطحاوي في شرح مشكل الآثار (5/ 87)، برقم (1830)، وابن جرير الطبري في تفسيره (6/ 278).
  11. أخرجه أبو داود، كتاب الخراج والإمارة والفيء، باب كيف كان إخراج اليهود من المدينة؟، برقم (3000).
  12. أخرجه البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب {وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا}[آل عمران:186]، برقم (4566).
  13. تفسير الطبري (6/ 293).
  14. تفسير ابن كثير (1/ 6).
  15. سبق تخريجه.
  16. تفسير الطبري (6/ 303).
  17. تفسير الطبري (6/ 305).
  18. تفسير ابن كثير (2/181).
  19. فتح القدير للشوكاني (1/ 469).
  20. أخرجه البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب: {لَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا}، برقم (4567)، ومسلم، في أوائل كتاب صفات المنافقين وأحكامهم، برقم (2777).
  21. أخرجه مسلم، كتاب الإيمان، باب غلظ تحريم قتل الإنسان نفسه، وأن من قتل نفسه بشيء عذب به في النار، وأنه لا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة، برقم (110).
  22. أخرجه مسلم، كتاب اللباس والزينة، باب النهي عن التزوير في اللباس وغيره والتشبع بما لم يعط، برقم (2129).
  23. أخرجه البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب: {لَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا}، برقم (4568)، ومسلم، في أوائل كتاب صفات المنافقين وأحكامهم، برقم (2778).
  24. لم أقف عليه.
  25. تفسير القرطبي (4/ 306).
  26. العجاب في بيان الأسباب (2/ 812.

مواد ذات صلة