الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا، إلى يوم الدين، أما بعد:
فاللهم ارزقنا العلم النافع، والعمل الصالح.
قال المصنف -رحمه الله تعالى-:
"قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ؛ أمرٌ بتبليغ جميع ما أوحي إليه على الاستيفاء والكمال؛ لأنه كان قد بلغ، وإنما أُمِرَ هنا ألا يتوقف عن شيء مخافة أحد.
وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ [في رواية ورش: رسالاته] هذا وعيد على تقدير عدم التبليغ، وفي ارتباط هذا الشرط مع جوابه قولان:
أحدهما: أن المعنى إن تركت منه شيئًا فكأنك لم تبلغ شيئًا، وصار ما بلغت به لا يعتد به، فمعنى إِنْ لَمْ تَفْعَلْ إن لم تستوف التبليغ على الكمال.
والآخر: أن المعنى إن لم تبلغ الرسالة وجب عليك عقاب من كتمها، ووضع السبب موضع المسبب".
"إن لم تبلغ الرسالة وجب عليك عقاب" وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ فالسبب على هذا هو عدم تبليغ الرسالة، فهذا سببٌ للعقاب، فيكون وضع السبب موضع المسبب، يعني فإن لم تفعل وقع عليك أو وجب عليك العقاب، وعلى كل حال فالقاعدة: أن التعليق بالشرط لا يقتضي الوقوع.
جاء في هذا من الروايات: كما عند أحمد أن عائشة -ا- كانت تحدث أن رسول الله ﷺ سهر ذات ليلة، وهي إلى جنبه، قالت: فقلتُ: ما شأنك يا رسول الله؟ قال: ليت رجلاً صالحًا من أصحابي يحرسني الليلة قالت: فبين أنا على ذلك إذا سمعت صوت السلاح، فقال: من هذا؟ فقال: أنا سعد بن مالك، فقال: ما جاء بك؟ قال: جئت لأحرسك يا رسول الله، قالت: فسمعت غطيط رسول الله ﷺ في نومه، هذا مخرج في الصحيحين[2].
وفي لفظ: سهر رسول الله ﷺ ذات ليلة مقدمه المدينة[3]، يعني أول ما قدم المدينة، بعد دخوله لعائشة -ا-، وهذا كان كما يقول ابن كثير: في السنة الثانية من الهجرة[4].
وجاء عنها -ا- عند ابن أبي حاتم[5]: كان النبي ﷺ يُحرس، حتى نزلت هذه الآية، قالت: فأخرج النبي ﷺ رأسه من القبة وقال: يا أيها الناس انصرفوا، فقد عصمني الله [6]، قال الترمذي: حديثٌ غريب[7]، وقال الحاكم: صحيح الإسناد، ولم يخرجاه[8]، وهذا قال عنه بعض أهل العلم: حسن لغيره.
"قوله تعالى: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ... الآية، أي: لستم على دين يعتد به فيُسمى شيئًا.
حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ ومن إقامتها الإيمان بمحمد -صلّى الله تعالى عليه وعلى آله وسلّم-".
يقول: "حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ ومن إقامتها الإيمان بمحمد -صلّى الله تعالى عليه وعلى آله وسلّم-" وكذلك الأمر باتباعه، حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ ومعنى ذلك: توفية حقوق الكتابين، بالعلم والعمل، فيدخل فيه ما أُمروا به من الإيمان بالنبي -صلى الله عليه وآله وسلم-، وما أُنزل إليه.
وهذا اختيار ابن جرير -رحمه الله-[10]، باعتبار أن التأسيس مقدم على التوكيد، فالكتب التي أنزلت عليهم هي التوراة والإنجيل، ثم قوله: وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وهذا خارج عنها، وزائد عليها، فقال هنا: يعني القرآن.
وفي تمامه فأنزل الله: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ إلى قوله: فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ فهذا جاء عن ابن عباس -ا-، لكنه لا يصح.
هنا في قوله: "(وَالصَّابُونَ) قراءة السبعة بالواو، وهي مشكلة" يعني أن وَالصَّابِئُونَ جاءت مرفوعةً بين منصوبات، وهي: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا... فلم يقل: والصابئين اسم (إن)، وإنما قال: وَالصَّابِئُونَ وعلى القراءة الأخرى: (وَالصَّابُونَ) من غير همز.
وَالصَّابِئُونَ مضى الكلام في البقرة على المراد بهم، وأن لفظ الصابئ أو الصابئة يطلق على عدة طوائف؛ فيُطلق على عبدة الكواكب، ويُطلق أيضًا على طوائف أخرى غير هؤلاء، ومما يُمكن أن يكون مرادًا هنا؛ لأنه وعدهم بالجزاء، كما في سورة البقرة أنهم قومٌ باقون على الفطرة، ليس لهم دين محدد، ولا نبي، كما قال مجاهد، ووهب بن منبه، وابن زيد[13]، وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية[14]، والحافظ ابن القيم[15]، وابن كثير[16]، أنه في مثل هذا في مقامات الوعد أنهم قومٌ على الفطرة من غير إشراك، ويسمونهم الصابئة الحنفاء، ويحتمل أنهم طائفة من النصارى يقال لهم: الصابئة، يعني كانوا على التوحيد.
وما ذكره من قول عائشة -ا- أن هذا من لحن كتَّاب المصحف، فمثل هذا لا يخلو من إشكال ونكارة، ومعلوم أن المصاحف كتبها الصحابة الحفاظ المتقنون مع غاية التثبت، وهم أربعة، منهم زيد بن ثابت الذي كتب الصحف لأبي بكر، وشهد العرضة الأخيرة، وتلقى ذلك الصحابة جميعًا ، وتلقته عنهم الأمة، فلا يقال هذا إطلاقًا.
يقول: "وإعرابها عند أهل البصرة" يعني كلمة (الصابئون) وخبره محذوف تقديره: والصابئون كذلك" يقول: "وهو مقدم في نية التأخير" يعني إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا... وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَالصَّابِئُونَ كذلك، أو إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا... مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى كذلك، كما قال الخليل بن أحمد وسيبويه[17]، والأصل في الكلام الترتيب، لكن هذا توجيه للرفع "والصابئون كذلك" لأنه جاء مع منصوبات، وأحسن من هذا -والله أعلم- ما تدل عليه قاعدة وهي: أن العرب إذا استطالت صفة الواحد في المدح أو الذم، فإنها تعطف بالرفع تارةً، وبالنصب تارة، وهذا بمعنى قول ابن كثير: بأنه لما طال الفصل حسن العطف بالرفع[18].
وشيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- يقول: إن النصارى أفضل من الصابئين، فلما قُدِّمَ عليهم يعني قُدِّم الصابئون نصب لفظ الصابئين[19]، ولكن الصابئون أقدم في الزمان، فقدموا ها هنا؛ لتقدم زمنهم، ورُفِعَ اللفظ، يعني نُصِب في آية البقرة إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ فأخرهم لتأخر مرتبتهم، وقدمهم في آية المائدة لتقدم زمانهم على النصارى، فلما قدمهم على النصارى، والنصارى أفضل منهم، رُفع اللفظ؛ ليكون ذلك عطفًا على المحل، يقول: فإن المعطوف على المحل مرتبته التأخير؛ ليُشعر أنهم مُؤخرون في المرتبة، وإن قُدموا في الزمن واللفظ[20]، عطفًا على محل إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا يعني لو حذفت هنا (إن) يكون الَّذِينَ آمَنُوا بموضع رفع مبتدأ، هذا أصله، فلما دخلت عليه (إن) صار اسمًا لها فنُصب، فيكون وَالصَّابِئُونَ من قبيل العطف على المحل، هكذا قال شيخ الإسلام -رحمه الله-.
سؤال:...
الصابون هنا باعتبار ما يقرأ به المؤلف -رحمه الله-؛ بتسهيل الهمزة، (وَالصَّابُونَ) لا إشكال، فالكلام هنا ليس في الصابون أو الصابئون، وإنما الكلام في الواو، والصابئون جاءت مرفوعة بين منصوبات، فأنا تعمدت أذكرها بالهمز؛ لأنها هي القراءة التي نقرأ بها، فالسؤال وارد سواءً كانت بتسهيل الهمزة أو بالهمزة، لماذا جاءت بالرفع؟ يقول: "وهو مقدم في نية التأخير" وبينتُ وجه هذا.
"وأجاز بعض الكوفيين أن يكون معطوفًا على موضع اسم (إن)" وهذا الذي ذكره شيخ الإسلام؛ لأنه قبل دخولها مرفوع بالابتداء، وهو هذا القول الذي ذكره هنا لبعض الكوفيين.
سؤال:...
هو من جهة الإسناد صححوه، لكن من جهة المتن منكر، وأجاب العلماء على مثل هذا، بأن هذا لا يمكن أن يُقال في المصاحف، والنظر ليس فقط في الأسانيد، فالنكارة أحيانًا تكون في المتن.
يعني أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ فـتَكُونَ هنا فعل مضارع تام، بمعنى: تقع، يعني أنها ليست ناقصة، فلا ترفع المبتدأ اسمًا لها، وتنصب الخبر، وإنما بمعنى: تقع وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ يعني ألا تقع فتنة، قال: "أي: بلاء واختبار" يعني باعتبار أنهم أحباء الله، فظنوا ألا يترتب على نقضهم المواثيق، وتكذيبهم الرسل، وقتلهم للأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- شر ولا عقوبة تنزل بهم، فتمادوا بغيهم، لما ظنوا هذا الظن السيء، أدى إلى الإيغال والتمادي والاستمرار على هذه الأعمال القبيحة، كما يقول ابن جرير -رحمه الله-[21].
وابن كثير -رحمه الله- يقول: الذي ترتب على هذا وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا هو أن هذا الظن ترتب عليه أنهم عموا عن الحق، وصموا[22].
"بالرفع على أن (أن) مخففة من الثقيلة" واسمها: ضمير الشأن محذوف، تقديره: "أنه" و(لا) هذه نافية و(تكونُ) مضارع مرفوع تام، بمعنى: تقع فتنةٌ، ففتنة تكون هي الفاعل، وبناءً على ذلك فإن (حسب) هنا تكون لليقين وليست للظن؛ لأن (أن) المخففة من الثقيلة لا تأتي مع أفعال الشك، وعلى الأول فهي للشك؛ لأن (أن) الناصبة للفعل لا تأتي مع (علمت) وما في معناها.
فيقول: "وبالنصب على أنها مصدرية" فيكون حسبان بمعنى اليقين والعلم، وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فـتَكُونَ" يكون منصوب بها.
وهذه القراءة بالرفع (أَلَّا تَكُونُ) هي قراءة أبي عمرو وحمزة والكسائي، وبالنصب قرأ بها غيرهم[23].
"قوله تعالى: فَعَمُوا وَصَمُّوا عبارةٌ عن تماديهم على المخالفة والعصيان.
ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قيل: إن هذه التوبة ردُّ ملكهم، ورجوعهم إلى بيت المقدس بعد خروجهم منه، ثم أُخرجوا المرة الثانية، فلم ينجبر حالهم أبدًا، وقيل: التوبة بعث عيسى ، وقيل: بعث محمد ﷺ.
كَثِيرٌ مِنْهُمْ بدلٌ من الضمير، أو فاعلٌ على لغة: أكلوني البراغيث، والبدل أرجح، وأفصح".
يعني بدل من الواو، عموا كثيرٌ منهم، يكون من قبيل بدل البعض من الكل.
"قوله: وَقالَ الْمَسِيحُ... الآية، ردٌّ على النصارى، وتكذيبٌ لهم.
وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ يحتمل أن يكون من كلام المسيح، أو من كلام الله".
وهذا الذي يسمونه الموصول لفظًا، المفصول معنى، الموصول لفظًا يعني أن ظاهره أنه من كلام متكلمٍ واحد، وهو لمتكلمين، إذا قلنا: إن بعضه من كلام المسيح، والبعض من كلام الله ، فإذا كان من كلام الله يكون انتهى كلام المسيح ويكون ذلك تعقيبًا من الله وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ انتهى كلام المسيح هنا على هذا الاعتبار، وقوله: وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ يكون من كلام الله ، والأصل: أن الكلام على وجهه لمتكلمٍ واحد، إلا لقرينة، فهذه المواضع منها ما يتضح أنه لمتكلمين، ومنها ما يبقى موضع احتمال، والله أعلم.
"قوله تعالى: مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ... الآية، رد على من جعله إلهًا.
وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ بناء مبالغة من الصدق، أو من التصديق، ووصفها بهذه الصفة دون النبوءة، يدفع قول من قال: إنها نبيئة".
يعني باعتبار أن أعلى ما وصفت به هو الصديقية، فلا يمكن أن تكون بهذا الاعتبار نبية، والله يقول: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ [النساء:69] فذكرهم بعد النبيين، وذكرت في بعض المناسبات أن الصديق هو من كَمُلَ في صدقه وتصديقه، فهذا الصديق، فهي صيغة مبالغة.
وذكر الحافظ ابن القيم -رحمه الله- بأنها بمعنى كمال الإيمان بما جاء به النبي ﷺ علمًا وتصديقًا وقيامًا، فهي راجعة إلى نفس العلم، فكل من كان أعلم بما جاء به الرسول ﷺ، وأكمل تصديقًا له، كان أتم صديقية.
يقول: فالصديقية شجرة أصولها العلم، وفروعها التصديق، وثمرتها العمل[24].
وفسرها غيره كالشيخ عبد الرحمن السعدي -رحمه الله- بأنها العلم النافع المثمر لليقين، والعمل الصالح[25].
فإذا قيل: بأنه من كمل في صدقه وتصديقه، فإن ذلك يؤدي المعنى، والله أعلم، وهذا بمعنى قول: من لم يكذب قط يقال له: صديق.
لكن هذه العبارة "صفات الحدوث" يستعملها المتكلمون، وهي من العبارات المجملة، وأحيانًا يقصدون بها معانٍ غير صحيحة، فمثلاً حين ينفون الصفات الاختيارية، وكذلك أيضًا حينما ينفون الصفات الذاتية غير المعنوية، يعللون ذلك بتنزيه الله عن صفات الحدوث، وهذا لا شك أنه غير صحيح؛ ولذلك فإن إطلاق العبارات المجملة التي تحتمل الحق والباطل مما لم يرد في الكتاب ولا في السنة غير صحيح، وأن الواجب أن يُعبر بعبارات صحيحة غير محتملة للحق والباطل.
يعني باعتبار اللازم؛ فإذا أكل الطعام فهو بحاجة إلى الخلاء، لكن ظاهر اللفظ يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ فهذا يدل على الافتقار، والمفتقر لا يكون إلهًا.
"قال: ولا ضرورة تدعو إلى إخراج اللفظ عن ظاهره؛ لأن الحجة قائمة بالوجهين.
قوله تعالى: ثُمَّ انْظُرْ دخلت (ثم) لتفاوت الأمرين، ولقصد التعجيب من كفرهم بعد بيان الأدلة".
يعني كأن ثُمَّ انْظُرْ ليست للترتيب في الزمان، وإنما في الرتبة.
يحتمل أن يكون مختصًّا بالنصارى، كما يقول ابن جرير -رحمه الله-[26]، كما خصَّ قوله تعالى: وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا باليهود[27]، لكن هذا -والله تعالى أعلم- أولاً ليس محل اتفاق، حتى في قوله: أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا ولذلك ابن كثير -رحمه الله- حمله على عمومه[28]، فـقُلْ أَتَعْبُدُونَ لا يختص بالنصارى، لكن السياق هنا في هذه الآية التي قبلها في الكلام على النصارى.
هذا على اختيار ابن جرير[29]، وبهذا قال أيضًا جماعة من أهل العلم كشيخ الإسلام ابن تيمية[30]، والحافظ ابن القيم[31]، ومن المعاصرين: الشيخ عبد الرحمن السعدي[32]، ولكن من أهل العلم من عممه فقال: إن قوله: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ يدخل فيه اليهود والنصارى، ومما قال بذلك: ابن كثير[33]، والطاهر بن عاشور[34].
لا ليس هكذا، يعني إما أن يُقال: وسبب ذلك مثلاً كُفْر النصارى، إذا ضبطنها بهذا فلا إشكال في هذه النسخة التي بين أيدينا.
وإلا ففي نسخة أخرى خطية: "وبسبب ذلك كَفَرَ النصارى" وهذا أوضح.
"قوله تعالى: وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قيل: هم أئمتهم في دين النصرانية، كانوا على ضلالٍ في عيسى، وأضلوا كثيرًا من الناس، ثم ضلوا بكفرهم بمحمدٍ ﷺ، وقيل: هم اليهود، والأول: أرجح؛ لوجهين:
أحدهما: أن الضلال وصفٌ لازمٌ للنصارى، ألا ترى قوله تعالى: وَلَا الضَّالِّينَ [الفاتحة:7].
والآخر: أنه يبعد نهي النصارى عن اتباع اليهود، مع ما بينهم من الخلاف والشقاق".
هذا إذا قلنا بأن الآية في خصوص النصارى، فهو ينهاهم أن يتبعوا أهواء قومٍ قد ضلوا، فالقول الأول أنه ينهاهم عن اتباع أئمةٍ لهم في دين النصرانية، كانوا على ضلال في الاعتقاد في عيسى ، وهذا الذي اختاره الحافظ ابن كثير -رحمه الله-[35]، وهذا التعليل الذي ذكره المؤلف من وجهين وجيه، ألا يتبعوا أسلافًا لهم كانوا على ضلالة، والنصارى ما كانوا يتبعون أهواء اليهود، بل كانوا يعادونه، والقول الآخر بأنهم اليهود فهذا كما ذكرت اختيار ابن جرير -رحمه الله-[36]، وبه قال مجاهد من التابعين[37].
"قوله: عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ أي: في الزبور والإنجيل.
لَا يَتَنَاهَوْنَ أي: لا ينهى بعضهم بعضَا عَنْ مُنكَرٍ".
هذا المعنى هو المشهور، وهو اختيار الحافظ ابن كثير -رحمه الله-[38]، وتحتمل معنًى آخر، كما قال ابن جرير، وهو: أنهم لا ينتهون عن منكرٍ أتوه[39]، يعني ليس المقصود لا ينهى بعضهم بعضًا، وإنما لَا يَتَنَاهَوْنَ أنفسهم عن فعل المنكر، تقول: فلان لا يتناهى عن فعله، لا يتناهى عن غيه، بمعنى: أنه لا يتوقف ولا يرعوي، بمعنى أن المفاعلة أحينًا تكون بين اثنين فأكثر، هذا الأصل، لكنها تأتي أحيانًا مع فعل الواحد نفسه، مثلما تقول: (تثاءب) فلا يوجد طرف آخر، وكذلك (تثاقل) تحامل على نفسه، لكن تقول: (تقاتل) و(تخاصم)، ونحو ذلك، فهذه تكون بين طرفين، وذكرت في بعض المناسبات أمثلةً متنوعة أن المفاعلة لا يلزم أن تكون بين طرفين.
فهنا ابن جرير على تفسيره هذا يكون قد حمل التناهي على ما يكون من فعل الواحد، يعني على خلاف الأصل.
لكن الظاهر المتبادر الذي عليه الجمهور أن المقصود أنه لا ينهى بعضهم بعضًا، فهذا هو المعنى المشهور الذي يستدل به أهل العلم على وجوب الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وهذا فيما يكون مستطاعًا، وإلا فمعلومٌ أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يسقط مع العجز، والعجز: إما حقيقي أو حكمي، والحكمي بمعنى أنه يلحقه ضررٌ معتبرٌ شرعًا، فيسقط عنه الوجوب، ولا يُلام، ولا يثرب عليه.
هذا باعتبار أن المنكر إنما يجب إنكاره أثناء الوقوع، يعني عند حصوله، هذا الذي يذكره أهل العلم في ضبط النهي عن المنكر، فيقولون: نهيٌ عن منكر حال وقوعه، لكن بعد ما يقع، يكون انتهى، وقبل الوقوع هو لم يقع فلا يوجد منكر الآن هذا في ضابطه، ولكن هذا لا يعني أن يكون هناك مبادرة إذا قامت أمارات المنكر أن يُمنع وقوعه قبل أن يقع، وبعد الوقوع يكون المناصحة والتعليم، والتذكير وما أشبه ذلك؛ فعلى سبيل المثال إذا رأيت إنسانًا في المسجد قد حلق، فهذا أثر المنكر ليس هذا هو المنكر، المنكر هو نفس المباشرة الذي هو الحلق، فيتعين الإنكار، أما الأثر فهنا المناصحة والتعليم، ونحو ذلك.
ومن هنا أورد المؤلف -رحمه الله- هذا الإشكال، فقال: "فَعَلُوهُ عبر بالفعل الماضي، فلا يكون بعد الفعل، فما الجواب؟" أن المعنى لا يتناهون عن مثل منكرٍ فعلوه، أو عن منكر إن أرادوا"، يعني عبر بالماضي، وأراد المستقبل، يعني في منكرات متحققة الوقوع، وكما سبق أن ابن جرير حمل على أنهم لا ينتهون أصلاً عن منكرٍ أتوه في الماضي، فيستمرون عليه في المستقبل، وأن الآية ليست أصلاً في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهذه مواضع غريبة في اختيارات ابن جرير -رحمه الله-، ومثل ذلك مثلاً في قوله تعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:183] فالمعنى المشهور: أن الصوم شُرع لتحقيق التقوى، لكن ابن جرير يقول: لا، تتقون المفطرات من الأكل والشرب والجماع[40]، فذهب كل المعنى الكبير الذي يذكره أهل العلم في حكمة الصوم، ونحوه، ويوجد نظائر لهذا، كقوله: إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ [العنكبوت:45] قال: باعتبار أنه إذا اشتغل بالصلاة فهو منصرف عن المنكر أثناء الانشغال بالصلاة، فالنفس إن لم تشغلها بالطاعة شغلتك بالمعصية[41]، والمعنى المشهور: أن الصلاة تُؤثر، فتحجز الإنسان عن مقارفة ما لا يليق، وليس المقصود أنه أثناء الصلاة هو مشغول عن المنكر.
وابن عطية ذكر الوجهين[42]، والمؤلف كما هو معروف يرجع إلى ابن عطية كثيرًا، ولكن ابن عطية زاد احتمالاً: أن يكون رؤية قلب للمعاصرين للنبي ﷺ، باعتبار أنه يراه من أمورهم ودلائل أحوالهم، فهو لا يشاهد هذا منه؛ لأنه لا يعيش بينهم، ولكن يرى منهم ما يدل على ذلك، فيكون رؤية قلب أيضًا بالنسبة للمعاصرين للنبي -صلى الله عليه وآله وسلم-، يعني ما ذُكر من أنه إن كان المراد من عاصر النبي ﷺ فهي رؤية عين، ابن عطية يقول: ليس بالضرورة، فيحتمل أيضًا أن تكون رؤية قلب باعتبار أنه ما شاهد ذلك بعينه؛ لأنه لا يعيش بينهم، وإنما رأى أمارات ذلك.
وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ يعني النبي ﷺ، وهذا الذي اختاره ابن كثير[43]، وأن ما أنزل إليه هو القرآن.
- أخرجه الترمذي ت شاكر في أبواب تفسير القرآن، باب ومن سورة المائدة، برقم: (3046) وحسنه الألباني.
- أخرجه البخاري في كتاب التمني، باب قوله ﷺ: ((ليت كذا وكذا)) برقم: (7231) ومسلم في كتاب فضائل الصحابة ، باب في فضل سعد بن أبي وقاص برقم: (2410).
- أخرجه مسلم في كتاب فضائل الصحابة ، باب في فضل سعد بن أبي وقاص برقم: (2410).
- تفسير ابن كثير ت سلامة (3/152).
- تفسير ابن أبي حاتم - محققا (4/1174).
- سبق تخريجه.
- سنن الترمذي ت شاكر (5/251)، (3046).
- المستدرك على الصحيحين للحاكم برقم: (3221).
- تفسير ابن عطية = المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (2/218).
- تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (7/500).
- تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (10/473) والبحر المحيط في التفسير (4/324).
- الدر المنثور في التفسير بالمأثور (2/744) عن عروة قال: سألت عائشة عن لحن القرآن {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ} [المائدة:69] {وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ ۚ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} [النساء:162]، و {إِنْ هَٰذَانِ لَسَاحِرَانِ} [طه:63] فقالت: يا ابن أختي هذا عمل الكتّاب أخطأوا في الكتاب.
- تفسير ابن كثير ت سلامة (1/286).
- الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح لابن تيمية (3/123) والرد على المنطقيين (ص:455).
- أحكام أهل الذمة (1/235).
- تفسير ابن كثير ت سلامة (1/287).
- التفسير الوسيط للواحدي (2/210) وتفسير ابن عطية = المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (2/219).
- تفسير ابن كثير ت سلامة (3/156).
- الصفدية (2/304).
- الصفدية (2/304).
- تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (10/478).
- تفسير ابن كثير ت سلامة (3/156).
- السبعة في القراءات (ص:247).
- مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة (1/80).
- تفسير السعدي = تيسير الكريم الرحمن (ص:240).
- تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (10/486).
- تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (10/487).
- تفسير ابن كثير ت سلامة (3/159).
- تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (10/487).
- اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم (1/78).
- التفسير القيم = تفسير القرآن الكريم لابن القيم (ص:15).
- تفسير السعدي = تيسير الكريم الرحمن (ص:241).
- تفسير ابن كثير ت سلامة (3/159).
- التحرير والتنوير (6/290).
- تفسير ابن كثير ت سلامة (3/159).
- تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (10/487).
- تفسير القرطبي (6/252).
- تفسير ابن كثير ت سلامة (3/160).
- تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (10/496).
- تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (3/413).
- تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (20/42).
- تفسير ابن عطية = المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (2/225).
- تفسير ابن كثير ت سلامة (3/165).