الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
أيها الإخوة والأخوات، أسأل الله أن يجعل هذا المجلس خالصًا لوجهه الكريم، وأن يجعله مقربًا إليه وأن يجعله مباركًا ونافعًا، وأن يعيننا وإياكم على ذكره وشكره وحسن عبادته.
تكلمنا في بعض المناسبات عما يجري من عبث في اللباس[1]، كما تحدثنا أيضًا عن الغيرة على الأعراض[2]، وتحدثنا في مجلس آخر عن الحياء[3] الذي هو كساء يكسو الإنسان، فيحجزه عن كل ما لا يليق، ويحمله حملاً على فعل ما يليق بالمؤمن، وما يحفظ له كرامته، وإنسانيته ومروءته.
واليوم نتحدث عن هذه السورة الكريمة "سورة النور" ونحن بحاجة إلى حديث عنها، وإلى وقفات مع آياتها، كما أننا بحاجة -أيها الإخوان- إلى طرح مزيد من الموضوعات التي تنمي العفاف والسترة في نفوس أهل الإيمان؛ لأننا للأسف الشديد أصبحنا نعيش في سنوات عجاف أجلب علينا فيها عدو الله بخيله ورجليه، فتسلط فيها الكفار وأولياؤهم من أرباب الشهوات تسلطوا فيها على هذه الأمة، فصاروا يبثون عبر القنوات، وعبر ما يكتبون ويطلبون من المطالبات التي يريدون بها تمزيق العفاف، وتمريغ الفضيلة، وضياع الشرف، وانحدار الأخلاق، وهذه السورة -أعني سورة النور- تفسر تلك الآثار فتضمحل تلك الترهات التي يلقونها في عقول أبناء المسلمين فتذهب آثارها، وتفرك عقل المؤمن حتى يذهب ذلك الوسواس الذي خامر فكره وعقله فصارت نفسه لربما تشوش عليه، وتسول له أن يقارف شيئًا من تلك الشهوات، فيتمرغ عرضه، وتتدنس كرامته.
إن هذه السورة فيها الشفاء الكامل الكافي لأن تطير تلك الدعاوى والدعوات التي يدعو إليها أولئك من الكفار ومن أوليائهم؛ ليحطموا أخلاقنا، ومبادئنا، وعقائدنا، ويصير المجتمع بعد ذلك مجتمعًا بهيميًّا ليس له كرامة، ولا يعرف للفضيلة معنى، وإنما يتسافد الناس فيه تسافد الحيوانات، هكذا يريدون، والله -تبارك وتعالى- يريد أن يخفف عنا، ويريد أن يرفعنا بهذا الدين، وبهذا القرآن لنسموا إلى المستوى اللائق بالإنسان الذي كرمه الله فجعله في أحسن تقويم.
هذه السورة تتحدث عن قضايا متعددة، وقد اقتضى توزيع المجالس إلى أربعة، اقتضى ذلك أن نقسمها إلى أربعة أقسام، وإلا فإن من الممكن أن نقسمها إلى أكثر من ذلك، ونحن نسأل الله أن يبارك لنا في هذه المجالس فنأتي على قدر من مضامين هذه السورة وما حوته من الفضائل، والمكارم، والأخلاق، والهدايات المتنوعة، وعلى هذا التقسيم إلى أربعة أقسام يمكن أن نجعل قسمها الأول: وهو هذه الآيات العشر؛ إذا فيها تصدير السورة، ثم بعد ذلك ذكر الله فيها قضيتين اثنتين:
الأولى: وهي ما يتعلق بشناعة الزنا وحرمته، وما يتعلق بحكم من وقع في شيء من ذلك وقارفه، وذلك في الآية الثانية والثالثة من هذه السورة، وأما الجانب الآخر في هذه الآيات العشر فهو يتحدث عمّن رمى غيره بهذه الشناعة وألبسه هذا الثوب، واتهمه بهذه التهمة، وافترى عليه هذه الفرية فصار قاذفًا له في عرضه ومدنسًا لشرفه وكرامته، وذلك في الآيات من الرابعة إلى العاشرة.
وأما القسم الثاني من هذه السورة: وهو ما يتعلق بقصة الأفك؛ وذلك من الآية الحادي عشر إلى الآية السادسة والعشرين، وذلك يشمل أمورًا متعددة:
منها: وجوب حسن الظن بالمسلم، والدفع عن عرضه.
ومنها: العفو عن ذوي العثرات، وعدم قطع الإحسان عن المسيئين.
ومنها: عظم ذم من رمى بريئًا وافترى عليه فرية.
ومنها: تقرير قضية مهمة وهي المشاكلة بين الناس؛ أن الطيبات للطيبين، وأن الطيبين للطيبات، وأن الخبيثات للخبيثين، وأن الخبيثين للخبيثات.
وأما القسم الثالث: فيتحدث عن جملة من الآداب والأخلاق الوقائية التي من شأنها أن تحفظ المجتمع المسلم من مواقعة تلك الفواحش سواء كان ذلك بمعافستها ومقارفتها، أو كان ذلك برمي الناس واتهامهم بها، وذلك حينما يتحدث الله عن جملة من الآداب الاجتماعية التي تتعلق بالاستئذان، وأحكام النظر، والستر، وذلك من الآية السابعة والعشرين إلى الآية الرابعة والثلاثين، وذلك يشمل أحكام الاستئذان، وأحكام الحجاب والنظر، وإنكاح الأيامى، وهم الذين لم يتزوجوا من الرجال والنساء؛ كل ذلك سدًا لطريق وذرائع الفواحش.
وهكذا أيضًا ما جاء من الحث على العفاف حينما يكون الإنسان عاجزًا عن الزواج.
وهكذا ما جاء من الحث على مكاتبة الأرقاء الذين يطلبون ذلك إن عُلم فيهم الخير، وفيها أيضًا ينهى الله السيد المالك أن يُكره جواريه على الزنا والبغاء.
وأما القسم الرابع: فهو يتحدث عن قضايا متعددة؛ يتحدث عن النور الذي هو اسم من أسماء الله ، ويتحدث عن النور الذي هو صفة من صفات الله -تبارك وتعالى-، ويتحدث عن نور الله في قلب المؤمن، ويتحدث عن ما ينتج عن ذلك من الفضائل والمكارم والأخلاق العالية الحسنة الرفيعة، ويتحدث عن أوصاف أهل الإيمان الذين استمدوا ذلك من نور الله ، ويتحدث عن أصحاب الظلمات من الكافرين المشاقين لله ولرسوله ﷺ، ويتحدث عن المنافقين وعن صفاتهم القبيحة، ويتحدث عن طاعة الله، وطاعة رسوله ﷺ، ويتحدث عن بعض آداب الاستئذان، إلى غير ذلك مما سنعرض له في موضعه -إن شاء الله تعالى-.
وبعد هذا الإجمال في بيان أقسام هذه السورة الكريمة سورة النور نبدأ في الوقفات التي تتعلق بهذه الآيات العشر في صدر هذه السورة سورة النور:
فالوقفة الأولى: تتحدث عن مقصود هذه السورة؛ سور القرآن قد تتحدث عن موضوع واحد تشترك فيها من أولها إلى آخرها، كما هو الشأن في سورة الإخلاص مثلاً، فإنها تتحدث عن صفة المعبود ، وعن وحدانيته -تبارك وتعالى-، وأنه ليس له كفؤ، ولا نظير، ولا ند، ولا ولد، ولا والد، إنها تتحدث عن قضية التوحيد فهذا موضوع واحد، وقد تتحدث السورة عن موضوعات كثيرة كما هو الشأن في سورة البقرة مثلاً، وفي كثير من سور القرآن.
أما هذه السورة وهي سورة النور فإذا أردنا أن نقول: إنها تتحدث عن موضوع واحد فيمكن أن نقول: إنها تتحدث عن قضية التربية، تتحدث عن قضية تربية النفس، وتربية المجتمع، وتربية الأمة بكاملها على الفضائل، وعلى تعبيد النفوس لله ، وعلى تربيتها على الأخلاق الفاضلة، وعلى تربية العفاف في نفوس أبنائها، إنها تربيها على أمساك الألسن من الوقوع في الأعراض؛ لئلا تتدنس، وهي تتحدث أيضًا عن تربية الأمة على إمساك الجوارح من مقارفة ما لا يليق، هذه التربية تشتد في بعض مواضع السورة حتى تصل إلى إقامة الحدود، وفي بعض المواضع ترق إلى حد أنها تكون كاللمسات الحانية الرقيقة الرفيقة التي تصل إلى القلب وتصله بنور الله -تبارك وتعالى-، وبآياته المبثوثة في تضاعيف الكون وفي ثنايا الحياة.
فالحاصل أنها تدور حول هدف واحد سواء كان ذلك في مواضع التي تشتد فيها بزواجرها، وبذكر الحدود الشرعية التي تكف من سولت له نفسه، وتردعه عن مقارفة ما لا يليق، أو كان ذلك بتلك اللمسات الرقيقة التي أشرنا إليها؛ كل ذلك يدور حول تربية النفوس على الفضيلة والعفاف والستر والأخلاق الكاملة، وجل ذلك بل كله يدور حول تعبيد النفس لله -تبارك وتعالى- فلا تكون تابعة للأهواء، والشهوات، وسبل الشيطان، وطرائقه، ومغرياته، هذا هو الموضوع الكبير الذي تدور حوله سورة النور.
الوقفة الثانية: مع قوله -تبارك وتعالى- في صدرها ومطلعها في آيتها الأولى: سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَّعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [النــور:1]، فانظروا إلى هذا التصدير: سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا معلوم أن جميع سور القرآن أنزلها الله ، وليس ذلك مختصًا بسورة النور فلماذا خصها الله بهذا التصدير سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا؟ ثم انظر إلى ما ذكر قبله من قوله: سُورَةٌ، ثم انظر ما ذكر بعده أيضا من قوله: وَفَرَضْنَاهَا ثم انظر إلى تكرير الإنزال بقوله: وَأَنزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَّعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [النــور:1].
فما الذي نفهمه؟ وما الذي أراده الله -تبارك تعالى- من ذكر هذه القضايا مجتمعة في تصدير هذه السورة العظيمة؟
معلوم أن التنكير يدل أحيانًا على التعظيم: وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ [آل عمران:133]، إلى مغفرة عظيمة لا يقادر قدرها، ولا يحاط بوصفها، وهنا يقول الله : سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَ} أي: هذه سورة عظيمة أنزلناها، وعلى القراءة الثانية المتواترة: سُورَةً أَنزَلْنَاهَا، أي: أتلوا سورة أنزلناها.
والمقصود بذلك تعظيمها وتضخيم شأنها لما اشتملت عليه من الحدود والفرائض والآداب والأخلاق والأحكام كما سنعرف في ثناياها بإذن الله ؛ فعظمها الله في أول كلمة أفتتحها فيها وهي قوله: سُورَةٌ إنها سورة عظيمة، سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا الله أنزل جميع القرآن وخص هذه السورة بالإنزال تشريفًا لها، وتعظيم لشأنها وتفخيمًا لأمرها.
وانظروا إلى صيغة الجمع في قوله: أَنزَلْنَاهَا ما قال الله : "سورة أنزلتها" ومعلوم أن الجمع أو أن صيغة الجمع إذا تكلم بها الواحد فإن ذلك يدل على أنه قصد تفخيم نفسه أَنزَلْنَاهَا، فالله هو أعظم عظيم، وهو أكبر كبير ، لا أحد أكبر من الله ، ولا أحد أعظم من الله ، فعظم نفسه -تبارك وتعالى- حينما تحدث عن إنزاله لهذه السورة مما يدل على عظم شأنها، وجلالة قدرها، وفخامة أمرها، سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا.
ثم إن ذِكر التنزيل هنا مع أن الله أنزل جميع القرآن فيه ما ذكرته آنفًا أنه اعتنى بها عناية خاصة، وإلا فكل سور القرآن منزلة، ثم انظر إلى قوله -تبارك وتعالى-: وَفَرَضْنَاهَا وفي القراءة الأخرى المتواترة: وفرّضناها، فرضناها: أي فرضنا عليكم الإيمان بها أنها من الله، وأنها حق، وهذا لا شك فيه توطئة لما سيأتي في مضامين هذه السورة من الحدود، والأحكام، والأخلاق، والآداب.
فينبغي على الناس جميعًا أن ينقادوا له انقيادًا كاملاً؛ لأنه منزل، إنها قضايا ليست من بنات أفكار البشر، ليست هذه القضايا تخضع للاجتهادات والتخرصات بحيث تختلف فيها الأنظار، وكل إنسان يدلي بوجهة نظره، ويقول: من حقي أن أتكلم، ومن حقي أن أطرح ما أراه، والحرية تكفل لي أن أقول ما أشاء فيما يتعلق بالاختلاط، وفيما يتعلق بلباس المرآة، وفيما يتعلق بخروج المرأة من بيتها، وقرارها، وموضع حشمتها، ليس لأحد أن يعترض على حدود الله باعتبار أنها قضايا شخصية تتعلق بحرية الإنسان الخاصة، وأن ذلك لا يجوز أن يُحجر عليه ما لم يكن فيه تعدي ظاهر إلى الآخرين.
سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا فنحن نتحدث عن وحي، نحن نتحدث عن قضايا محكمة، لا نتحدث عن قضايا خاضعة لآراء الناس وأذواقهم وأمزجتهم بحيث يتاح لهم المجال أن يدلي كل أحد منهم بدلوه، إن الآداب التي يربينا الله - تبارك وتعالى- عليها هي آداب سماوية، هي وحي من الله لا يقبل الاعتراض، ولا يقبل الاستدراك، ولا يمكن لأحد أن يقدح فيه؛ وإلا كان كافرًا خارجًا من ملة الإسلام بإجماع المسلمين، وإن تسمى بزيدٍ ومحمدٍ وخالدٍ وصالحٍ، وغير ذلك، مهما تسمى بأسماء إسلامية فإن ذلك لا يغني عنه شيئًا إذا كان منكرًا لوحي الله ولإحكامه المقررة في كتابه الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا فرضنا عليكم الإيمان بها، فرضنا عليكم التسليم والانقياد لإحكامها، فرضنا عليكم العمل بما فيها من أحكام وفرائض وأخلاق وآداب، فرضنا عليكم التحاكم إليها، فرضنا عليكم إذاعة هذه الأخلاق في مجتمعاتكم، وأن تربوا الجيل على مضامينها، وفرضنا عليكم أن تسموا بما ذكر الله فيها من المُثل، والمكارم، والأخلاق العالية، كل ذلك مما فرضه الله علينا، وهكذا في القراءة الأخرى التي أشرت إليها: وفرّضناها فإن زيادة اللفظ تدل على زيادة المعنى.
فيكون المعنى على هذه القراءة: فرّضناها أي: أن الله ذكر فيها كثير من الأحكام والآداب والأخلاق والعقائد والحدود والأحكام، فذكر هذه الصيغة: فرّضناها؛ ليدلل على هذا المعنى.
ثم أعاد الإنزال مرة ثانية: وَأَنزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَّعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ، وَأَنزَلْنَا فِيهَا تشريفًا لها، ولما فيها من هذه الآيات، أعاد الإنزال مرة ثانية:وَأَنزَلْنَا فِيهَا وبصيغة الجمع: وَأَنزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ آيات واضحات لا لبس فيها ولا غموض، إنها أخلاق ناصعة، وأحكام واضحة لا تجعل في الحق لبسًا، تجليه وتوضحه وتكشف الحق من الباطل، وليس بعد ذلك إلا أن يختار الإنسان أن يتبع هذه الآيات، أو أن يولي ذلك ظهره، ويستنكف من التأدب بهذه الآداب، والإيمان بهذه الأحكام، والعمل بهذه الشرائع، فيكون بذلك خارجًا عن تأديب الله -تبارك وتعالى-، وعن هذه التربية الحقيقية الكاملة التي يجب أن تُربى عليها النفوس، هذا كله يدل على هذه المعاني بهذا الآية التي ابتدأت بها هذه السورة، ولا غرابة فالقرآن يعبر به بالألفاظ القليلة الدالة على المعاني الكثيرة، آية قصيرة تشتمل على معاني كالجبال.
فينبغي لنا أن نُعنى بكتاب الله ، وأن نتدارسه، وأن نجعله منهاجًا نسير عليه في هذا الوقت الذي عصفت فيه العواصف، وكثر فيه الدعاة إلى نار جهنم كما أخبرنا النبي ﷺ[4].
فهذا المطلع يؤكد علينا هذه القضية، يؤكد علينا أننا كما أن الواجب أن نؤمن بالحدود، وأن نقيمها، وأن الله أفترض ذلك علينا، كذلك افترض الله علينا غض الأبصار، والاستئذان عند دخول البيوت التي ليست بملك لنا، كما أن ذلك أيضًا يوجب علينا كلما ذكره الله في هذه السورة، إنها لم تفرق حينما ذكرت فرض هذه الأحكام والآداب فرضناها جميعًا بما فيها من الحدود والشرائع والعقائد والأحكام، فليس لنا أن نتخير من هذه الأمور فنؤمن ببعض، ونكفر ببعض كما يحلو لنا اتباعًا لأهوائنا وأذواقنا ومواجيدنا.
الوقفة الثالثة: مع قوله الله -تبارك وتعالى-: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ [النــور:2].
الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي نحن في هذه الوقفة نشير إلى قضية لربما يتساءل عنها البعض في هذه الآية: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي لماذا قدم الله ذكر الزانية، وأخر الزاني بينما في السارق والسارقة قدم ذكر السارق وهو الرجل على ذكر السارقة في قوله: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [لمائدة:38] فلماذا قدم هنا ذكر الزانية؟
بعض العلماء يقولون: لأن الزنا في ذلك الوقت في النساء أكثر؛ فقدم المرأة، وهذا فيه نظر.
وبعضهم يقولون: لأن الغريزة المتوقدة لدى المرآة في هذا الباب أعظم مما يوجد لدى الرجل، وهذا غير صحيح، ولو كان ذلك صحيحًا لما ساغ للرجل الواحد أن يتزوج أربع نسوة، فغريزة الرجل أقوى وأظهر كما لا يخفى.
وبعض العلماء يقولون: إنه قدم الزانية؛ لأن الزنا في المرأة أشد، ولأن معرته في حقها أعظم، فالمرأة إذا زنت ليست كالرجل، يحرم على الرجل والمرأة أن يقارف شيئًا من ذلك، ولكن المرأة حينما تزني تكون الفضيحة العظيمة، تفتضح ويفتضح الزوج إن كانت ذات زوج، وتفتضح الأسرة التي تنتمي إليها هذه المرأة، بل تفتضح القبيلة والعشيرة برمتها، إنها تدنس فراش زوجها، وتقذره، ويحصل من جراء ذلك من اختلاط الأنساب ما لا يخفى، فالزنا في حق المرأة أشد وأعظم وأنكى؛ فقدمت لهذا المعنى، وهذا وجه حسن.
وهناك وجه آخر ذكره بعض أهل العلم: وهو وجه جيد، -والله تعالى أعلم-، وهو أن الزنا إنما يُبتدأ عادة من المرأة الرجل قد لا يجترئ على المرأة المحتشمة المصونة التي غمرت نفسها بالحجاب، وبالآداب، والأخلاق الفاضلة التي يجب أن تتحلى بها المرأة المسلمة، فهي محتشمة مستترة في عباءتها مغطية لوجهها لا يرى منها شيء، ولا تلتفت، ولا تشير، ولا تتغنج في كلامها مع الرجال الأجانب، ولا تتكسر في مشيتها، ولا تمشي في وسط الطريق، ولا تكون خرّاجة ولاجة، ولكن إذا كانت المرأة على خلاف ذلك تُبدي زينتها، وتظهر مفاتنها أمام الرجال، وتلتفت وتنظر بعيون كالحراب قد زينها الكحل، تنظر إلى هذا، وتشير إلى هذا، وتضاحك هذا، وتزين القول للبائع ولغيره؛ فعند إذن يحصل ما ذكر الله : فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَّعْرُوفًا [الأحزاب:32]، إذا تكسرت المرأة في قولها فإن القلوب المريضة، والنفوس المعتلة تمتد إليها، وتتطلع لأشرف شيء عندها؛ إنه عفافها، وعرضها، أنهم يريدون مقارفة أمرًا معها وصفه الله : إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً [الإسراء:32]، هذه هي النتيجة، وإلا لماذا تعمد المرأة إلى بعض التصرفات غير اللائقة لتجتذب فيها نفوس الضعفاء من الرجال؟
فالابتداء يكون من المرأة؛ لأنها هي التي تعطي الضوء الأخضر للرجل؛ ليعرف أن هذه المرأة مواتية له، وأنها توافقه، ولهذا قال الله : فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ [الأحزاب:32]، ومعلوم أن الطمع غير الأُمنية تقول: الإنسان الفقير المعدم يتمنى أن يكون يملك المليارات، أُمنية ولكن الواقع لا يساعد عليه بعيدة المنال بالنسبة إليه، وهكذا من خبطه الشيب حينما يقول:
ألا ليت الشباب يعود يومًا | ..................[5] |
وهل يعود الشباب؟ إنها أمنية، وأما الشيء الذي يطمع فيه فهو قريب الحصول قريب المنال، تقول: أطمعت فلان فطمع، فالمرأة إذا أرخت الستر وأرخت القول أدرك مريض القلب أنها قريبة المنال، يمكن أن يحصلها، فامتدت نفسه نحوها، واستشرف إليها، وعند إذن يقع ما لا يليق: فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ؛ لأنه أدرك أنها مواتية، وأن أخذها ميسور وسهل، وهذا من دقة القرآن عبر بالطمع هنا، فالحاصل أن الله يقول: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي قدم الزانية ربما لأنها هي التي تعطي الرجل الإشارة والضوء لمقارفة ما لا يليق معها، أو لأن وقوع ذلك منها أشنع؛ ولا مانع من اجتماع المعنيين: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي، وأما في السارق فإن السرقة تحتاج إلى جراءة، والجراءة في الرجال من هذه الحيثية لا شك أنها أقوى من النساء، ولذلك قُدّم: السارق كما قال بعض أهل العلم، -والله تعالى أعلم-.
الوقفة الرابعة: تأمل قوله -تبارك وتعالى-: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ [النــور:2]، هذه الآية ظاهرها العموم: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي أي: كل زانٍ وزانية فإنه يجلد مائة جلدة، وهل هذا العموم على ظاهره إذا كان الذي زنا من الأرقاء فهل يجلد مئة جلدة؟
الجواب: لا، لقول الله في سورة النساء عن الإيماء الرقيقة العبدة: فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ [النساء:25]، يعني الحرائر فالحرة إذا زنت مائة جلدة، والأمة على النصف خمسين جلدة، فإذن هذه الآية مخصصة بآية النساء فأخرجت الأمة إذا زنت تُجلد خمسين جلدة، وهي مخصصة أيضًا بالقياس، وذلك أن الرقيق الذكر العبد المملوك إذا زنا فإنه يجلد خمسين جلدة؛ إلحاقًا له بالأمة بنفي الفارق، ما الفرق بين الرقيق والرقيقة إذا وقع منه ذلك؟
فإذا خرج منها الرقيق بالقياس، وخرج منها الأمة الرقيقة بالنص في سورة النساء، وهل يخرج منها أيضًا المحصن، الله يقول: الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالاً من الله[6]، هذه الآية كانت في القرآن ونسخ لفظها وبقي حكمها، ذكر الله فيها الرجم، ولم يذكر الجلد، والنبي ﷺ قال: خذوا عني خذوا عني قد جعل الله لهم سبيلاً البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم[7]، فهذا يدل على أن المحصن يجلد ويرجم، وهذا الذي ذهب إليه علي فإنه قد جلد امرأة في يوم الخميس، ورجمها في يوم الجمعة، وقال: "جلدتها بكتاب الله، ورجمتها بسنة رسول الله ﷺ"[8].
والجمهور من أهل العلم على أنه لا يجمع للثيب بين الرجم والجلد، ويستدلون على هذا بأدلة، منها: قول النبي ﷺ في قصة العسيف الذي زنا بامرأة الرجل قال: أغدو يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها[9]، ولم يذكر الجلد، وكذلك رجم النبي ﷺ ماعزًا[10]، والغامدية[11]، ولم يذكر أنه جلدهما.
وكذلك أيضًا رجم النبي ﷺ اليهودي واليهودية عند باب المسجد[12]، ولم ينقل أنه جلدهما.
وهكذا رجم النبي ﷺ الجهنية[13]، ولم ينقل أنه جلدها، وليس من شأننا في هذه المجالس ذكر الخلاف والوقوف عند ذلك فهذا يُطلب في كتب الفقه، وإنما أردت لفت النظر إلى هذا العموم في هذه الآية: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ [النــور:2].
قد يرد هنا سؤال وهو أن يقال: ما الحكمة من التفريق بين حد البكر وبين حد الثيب؟
الثيب: وهو من سبق له التزوج بعقد صحيح مع المواقعة أي الوطء، والبكر: من لم يسبق له الوطء بعقد صحيح، فلماذا فرق الله في الحكم بين البكر وبين الثيب؟ البكر جلد مائة وتغريب عام، يغرب يسفر عن البلد لينسى الناس مشكلته، ولا يتذكر أحد إذا رءاه الفاحشة، إلى هذا الحد سنة كاملة يعزل عن الناس يبعد عن البلد؛ لئلا يذكروا تلك الفاحشة، حتى الذي يقع على البهيمة -أعزكم الله ومن يسمع- فقد ذهب جمع من أهل العلم، وقد صح ذلك من حديث ابن عباس: أنه يقتل وتقتل البهيمة معه[14]، وعلل ذلك الفقهاء: أن الناس إذا رأوا البهيمة مع أنه لا ذنب لها، إذا رأوها تذكروا هذه الفعلة الشنيعة، إلى هذا الحد، فإذا تأملت هذه الملاحظ مع ما ذكره أهل العلم في تعليل نسخ لفظ قوله تعالى: والشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة.
قال بعض العلماء: لشناعة هذا الفعل الذي تصتك له الأسماع فنسخ اللفظ وبقي الحكم ثابتًا، إلى هذا الحد، إذا تأملنا هذا المعنى أين نحن مما تقذفه بعض الفضائيات من المجون من مقارفة ما لا يليق؟ أين نحن مما يُعرض هذه الأيام من فعل أولئك الأخدان الذين لم يتربوا على هذه المثل والأخلاق في هذه البرامج الهابطة، ما يسمى بستار أكاديمي، أو ما يسمى بالرئيس، أو غير ذلك مما يبث على أمتنا؛ ليحطم أخلاقها؟!
أقول: تأملوا هذه المعاني، وتأملوا واقع أولئك، وما يبثونه في وسائلهم المرئية والمقروءة والمسموعة.
فلماذا فرق الله بين حكم الثيب، وبين حكم البكر؟
يمكن أن يقال - والله تعالى أعلم - بأن البكر يختلف عن الثيب في هذا المجال اختلافًا كليًّا، مع أنه لا يسوغ له بحال من الأحوال أن يواقع هذه الأمور، لكن لماذا كانت الطريقة التي يقتل بها الثيب بهذه الشناعة؛ يجعل كوم من الحصى، ويجتمع الناس، ويحفر له إلى منتصفه، والمرأة لربما إلى صدرها، ثم ينهال الجميع عليه بالحجارة حتى ينزف ويموت، لا يتوقفون من الرجم حتى يموت في حفرته؟ منظر لربما يتساقط عدد من الحضور مُغمًا عليهم لهذا المشهد حينما يتخبط ويتلبط في دمائه والحجارة تنهال عليه، وبغير رحمة: وَلَا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ [النــور:2]، ومن غير ستر كما سيأتي: وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ [النــور:2]، لماذا، وبهذه الطريقة التي هي كفيلة تمامًا بأن تجعل الذين شاهدوها لا يستسيغون الطعام شهرًا كاملاً، ولا يطيب لهم الفراش؟ فضلاً عن أن يقارف أو يخطر في بالهم أن يقارفوا هذا الفعل الشنيع، فهذه السورة تغسل كل الدرن الذي يخالط النفس ويجذبها إلى مقارفة هذه الفواحش.
والثيب هو ذلك الإنسان العاقل البالغ الذي حصل له نكاح صحيح مع الوطء، فهو قد عرف الطريق النظيف، ثم بعد ذلك تخطاه وحاد عنه وانحرف، فاختار طريقًا قذرة، فذلك يدل على دنس في نفسه، وفساد في طويته، فيحتاج إلى عقوبة رادعة، وهي الرجم، ثم أن هذا المحصن قد جرب، وذاق هذا الفعل، وما فيه من لذة تستهوي النفوس، بخلاف ذلك البكر الغر الغُفل الذي استدرج فوقع، مع أن ذلك لا يبرر له بأي حال من الأحوال.
فالمقصود أن هذا الإنسان الذي اعتاد النساء وهو الثيب كما قال طائفة من أهل العلم: لا يصبر عنهن إلا بعقوبة قاسية تردعه عن الوقوع في مثل هذا المعنى، ومن ثم فلا يختار غير ما أحل الله له إلى ما حرم عليه، ولهذا تجدون أولئك الذين يقعون في هذه الفاحشة من المتزوجين فيما نقرأه ونسمعه مما يذكره العاملون في الحسبة زادهم الله توفيقًا ورفعة.
أقول: ترى الرجل يواقع امرأة لا تداني زوجته في الحسن والجمال هي دونها، وترى المرأة تواقع رجلاً أي رجل يعرض لها في الطريق لربما ركبت معه، ولربما يكون لزوجها من المكانة والوضاءة والمنزلة والمرتبة الاجتماعية ما لا تحلم بمثله في المواقعة مع هؤلاء المنحرفين، فكثيرًا ما يكون الجواب: إنها لذة الحرام.
وهذا الجواب المختصر يدل على فساد في النفس وانحراف في السلوك يجب أن يقوّم وتقويمه بالرجم، بهذه الطريقة ولا زلت أذكر حادثة وواقعة لرجل كان يقف في طريق النساء بعد غروب الشمس حينما يبدأ الظلام، يقف ويتعرض للمارة من النساء عند مكان خرب في طرف البلد، وكان النساء يأتينا في آخر النهار هذه تحتطب، وهذه قد جاءت بماء على رأسها، ونحو ذلك؛ فمن وافقته دخل معها في هذا المكان الخرب، وقارف معها ما لا يليق فتسامع الناس بذلك، وهي واقعة قريبة حصلت في بعض النواحي وهي معروفة، فلما تسامع الناس بهذا وقفت له امرأته تنكرت ومرت به فأشار إليه، فدخلت معه في هذا المكان الخرب، في هذه الظلمة، ليس هناك فراش، وليس هناك مكان تنبسط له النفس، وإنما هي مواقعة الحرام -أعزكم الله- ولو في دورات المياه، في أقذر الأماكن حينما تنحدر النفس وتنحط إلى البهيمية، فلما قارف معها وكان من عادته أن يترك المرأة تخرج قبله؛ لئلا ينكشف أمرها فخرجت المرأة وهو لم يعرفها متنكرة؛ فلما سبقته إلى البيت، ورجع إلى بيته، قالت: أين كنت يا فلان؟
قال: كنت مع صواحبي، قالت: بل كنت في مكان آخر فأخبرني، فغضب وزجرها، وقال لها: أنت دائمًا تتهميني وتسيئين الظن بي، المقصود أنها قالت له: من المرأة التي دخلت معك في مكان كذا وكذا؟ فبهت فأخبرته: أنها هي التي فعلت ذلك، فتعجب من تزين الشيطان له هذه المرأة مع أنها زوجته، وكيف التذ بذلك؟!! فكان ذلك سببًا لتوبته، وقال قصيدة طويلة يذكر فيها توبته، وكيف زين له الشيطان هذا الفعل؟
بينما آخر قد ذكر بعض أهل العلم خبره في بعض مصنفاتهم أن امرأته لما فعلت معه ذلك ثم أخبرته، قال: قبحك الله، ما أطيبك حرامًا، وما أقبحك حلالاً.
وقرأت مرة في ترجمة بعض الخلفاء والملوك أنه كان يفجر ببعض الجواري وببعض النساء من غير مماليكه، وعنده العشرات من الروميات وغيرهن، وفيهن من الوضاءة والحسن ما لا يقادر قدره، ومع ذلك كان يسارق الفاحشة مع بعض النساء، فلما ذكر له ذلك، أما يكفيك هؤلاء؟
قال: كيف بلذة الحرام ومسارقته، يقول: أنه يلتذ إذا كان ذلك حرامًا، وإذا كان خلسة من دون الناس.
فهذا الجواب: هذا التصرف إنسان عنده جواري كُثر في غاية الجمال، وله عدة زوجات، ثم يلتذ لأن هذا من الحرام هذا يدل على انتكاس الفطرة.
فالمقصود أن هذا الإنسان قد فسدت فطرته، وتدنست، فلابد من ردع، وبهذه الطريقة التي يقتل فيها رميًا بالحجارة.
الوقفة الخامسة: مع قوله -تبارك وتعالى-: فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ [النــور:2]، لماذا قال الله : فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا؟ لماذا لم يقل الله -تبارك وتعالى- فاجلدوهما مائة جلدة؟
الجواب: هو أنه لو قال ذلك لربما توهم متوهم أن الحد منصف؛ فاجلدوهما مائة، للرجل النصف، وللمرأة النصف، ولكن قال: اجلدوا كل واحد منهما؛ ليرفع هذا التوهم تمامًا، فكل واحد منهما يستحق هذا العدد: فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ فالله لما قال ذلك، ونهى عن الرأفة بهما كما سيأتي كل ذلك إبعادًا للمجتمع عن الرذيلة، وعن تدنيس وتقذير الفرش، واختلاط الأنساب؛ إنه حفظ للمجتمع، وليس ذلك إمعانًا في كبت الغرائز كما يحلو لبعض الناس أن يصوروه، وأن الإسلام يحارب الدوافع الفطرية المغروزة في النفس البشرية، ليس ذلك مقصودًا إطلاقًا، الإسلام حينما يضع هذه العقوبات الصارمة لهذه الأفعال الشنيعة ليس معنى ذلك أنه يغفل الدوافع الفطرية والغرائز الكامنة في نفوس الناس، الإسلام يدرك جيدًا أن البشر يحتاجون إلى تصريف هذه الطاقات وهذه الميول، ولذلك لم يقصد الإسلام قتلها، ونهى عن هذا، بأن يتعاطى الإنسان دواءً من شأنه أن يقطع شهوته، والذين استأذنوا النبي ﷺ في ذلك نهاهم[15]، فليس لدينا شيء من الرهبانية التي ابتدعها من قبلنا وما رعوها حق رعايتها.
الإسلام يوجه هذه الغرائز والدوافع، الإسلام يدرك جيدًا أنها جزء من ناموس هذا الكون في امتداد الحياة وبقاء الأجيال، وامتداد النسل، وبقاء الذرية، وبالتالي تحصل عمارة الأرض، ويحصل فيها الاستخلاف، يخلف بعضهم بعضًا؛ لأن الله جعلهم كذلك خلائف في الأرض، الإسلام إنما قصد محاربة الحيوانية، وليس محاربة الغريزة، محاربة الحيوانية التي لا تفرق بين جسد وجسد، ولا قيمة ولا خلق ولا حلال ولا حرامًا، الحيوانية التي غايتها تلبية النزوة دون أن تهدف إلى إقامة بيت، وبناء عُش، وإنشاء حياة مشتركة؛ لتمتد ولا تنتهي عند حد معاقرة ذلك الفعل، إن الإسلام يهدف إلى إقامة علاقة كريمة شريفة على أساس من المشاعر الإنسانية الراقية التي تجعل من هذا الالتقاء تجعل منه كيانًا يفرّخ أبطالاً وصناعًا وعمارًا للحياة يعبدون الله ، ويقيمون شرعه، ويعمرون أرضه.
الإسلام يريد التقاء إنسانين وليس التقاء حيوانين يريد التقاء إنسانين تربط بينهم مشاعر مشتركة تربط بينهما المودة العميقة المستمرة، وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً[الروم:21] تربط بينهما الآلام المشتركة، والمستقبل المشترك الذي يهدف إلى إيجاد الذرية الصالحة المرتقبة، ويكون الوالدان حارسين لهؤلاء الأشبال الصغار حتى يترعرع الواحد منهم ويشتد ساعده، ثم يقوم بدوره من جديد في هذه الحياة.
ومن هنا نقول: إن الإسلام شدد في هذه القضية؛ لأنها نكسة حيوانية خروج عن الإنسانية، إن هذا الفعل الشنيع يذهب بتلك المعاني التي ذكرتها جميعًا أي جيل؟! وأي أخلاق؟! وأي كرامة؟! وأي إنسانية؟! وأي شرف؟! وأي عرض؟؟ وأي عمارة للأرض بهذه المعافسات؟!، أنها ترد الإنسان إلى مسخ في صورة إنسان وهو في الواقع يحمل بين جنبيه نفس بهيمية، لا يفرق بين أنثى وأنثى، وتلك لا تفرق بين ذكر وذكر، كل الهم منصب على إرواء اللحم والدم، إرواء هذا الجسد في لحظة عابرة يحصل فيها مطلوبة، ثم يفارق كما يفارق العير أنثاه، ليس هناك بناء للحياة من وراء هذه اللذة، ليس هناك عمارة للأرض، ليس هناك نتاج، ولا إرادة نتاج، بل ولا عواطف حقيقية، إنها عواطف مؤقتة تطير وتتبخر عند تحصيل مطلوبات النفوس الحيوانية من هذا الفعل القبيح، فهو إذن انفعال حيواني يتزيّ بزي العاطفة الإنسانية، والواقع أنه منقشع منها كل الانقشاع.
فالإسلام لا يستقذر المواقعة المشروعة أو المباحة، والله يقول: وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ [البقرة:187]، نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ [البقرة:223]، الإسلام ينظم هذه العلاقات، ويرفعها من المستوى الحيواني، يرفعها من الدركات إلى الدرجات والرتب السامقة التي تليق بنا كآدميين: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ[التين:4]، في صورته الظاهرة، في تعاطيه، وفي كل أفعاله وتصرفاته هذا الذي قصده الإسلام ودعا إليه، وأما ما يخالفه من البغاء ومواقعة الرذيلة فإنه يحطم كل فضيلة، ويقتل كل معنى من هذه المعاني التي أشرنا إليها، هذا فضلاً عما يقع من الأضرار الاجتماعية والنفسية التي يذكرها العلماء في موطنها المجتمع الذي ينتشر فيه هذه الفواحش كيف يكون شأنه؟ ما قيمته؟ ما قوته؟ كأس وغانية يفعلان بالمسلمين أكثر من ألف مدفع، مجتمع محطم مجتمع منهار، مجتمع مفكك، مجتمع بهيمي، وأما الأولاد والجيل فلا تسأل عن قلتهم وعن تشردهم هذا لا يثق بولده، وهذا الولد لا يعرف له أب، وهذه البنت مشردة، وهذه المرأة تلوذ بنفسها عند الرجال؛ لتجد من يحميها، ولربما أنفقت عليه من أجل أن تجد حماية وظهرًا ولو كان ذلك الرجل ذئبًا ينهشها، ويقتل الفضيلة في نفسها، ويسلب أجل وأعز ما عندها.
فالإسلام حينما يحارب هذه الأمور، ويوقع الحدود، إنما يراعي هذه المعاني، ولم يكتف الإسلام بهذا فقط بل قبل أن يشرع الحدود منع كل الذرائع التي من شأنها أن توقع في هذه الفواحش، منع من النظر الحرام، ومنع من اللمس، أو مصافحة المرأة الأجنبية، ومنع من الخضوع بالقول، ومنع من تبرج النساء، ومنع من الاختلاط، وأخبر أن العين تزني وزناها النظر، وأن الأذن تزني وزناها السماع[16]، ونهى المرأة أن تضرب برجلها ليعرف الرجل ما تخفي من زينتها[17]، وأخبر أن المرأة إذا خرجت متعطرة أنها تكون زانية[18]، إلى غير ذلك مما حرمه الله مما يوقع بهذه الفواحش.
أضف إلى ذلك أمرًا آخر وهو أن الإسلام أمر بالعفاف وحث على الزواج: وَأَنكِحُوا الْأَيَامَى مِنكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ [النــور:32]، الأيامى من الأحرار غير المتزوجين رجالاً ونساء تكثير الزواج: يا معشر الشباب من استطاع منكم الباء فليتزوج،....
وأرشد من لم يستطع الصوم إلى العفاف: وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا [النــور:33]، لا يقدرون على الزواج حَتَّى يُغْنِيَهُمْ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ [النــور:33] ما يسافر يمنة ويسرى يبحث هنا وهناك يتلهف على تلبية نزواته لا من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم، فإنه له وجاء[19]، يضعف هذه النزوات والشهوات إلى أجل حتى يتمكن بعد ذلك من تفريغها بالطريقة المباحة.
وكذلك أيضًا حينما شرع الله هذه الحدود لم يأخذ الناس بها هكذا، فالذي كان يجهل أن هذا من الحرام فلا يقع عليه الحد، والذي يقع في مثل هذه الأفعال ولكن ذلك لم يثبت عليه بشهادة أربعة يشهدون يشهدون أنهم رأوا ذلك منه كالميل في المكحلة، شهادة دقيقة جدًا من يطيقها فلا يؤخذ الناس هكذا، هذا يرجم وهذا يجلد بالظن.
فالإسلام دين الرأفة والرحمة، ثم أيضًا تدرأ الحدود بالشبهات، ثم هذا الإنسان يقال له: لعلك قد باشرت، لعلك قد ألممت دون المواقعة، لعلك كذا، لعلك كذا، فإذا شهد عليه الشهود الأربعة أو اعترف دون مواربة فهنا لا بد من إقامة الحد، وحينما يقام الحد عليه أيضًا ليس ذلك للشماتة، وخالد لما لعن الغامدية لما انفطر عرق لما رجمت فأصابه من دمها قال: لعنك الله نهاه النبي ﷺ عن لعنها وأخبر أنها تابت توبة لو قسمت على أربعين من أهل المدينة لوسعتهم[20].
وفي بعض الروايات أكثر من هذا، والرجل الذي كان يجلد في الخمر قال رجل: لعنه الله، ما أكثر ما يؤتى به، يعني: يقام عليه الحد مرارًا وهو يقارف هذه الفعلة نهاهم النبي ﷺ أن يلعنوه فقال: لا تلعنوه فو الله ما علمت إلا أنه يحب الله ورسوله[21]، وفي لفظ قال: لا تقولوا هكذا لا تعينوا عليه الشيطان[22]، كل هذا مع إقامة الحد أليس هذا هو دين الرحمة، ودين الرأفة، ودين الإحسان، حينما تدرأ هذه الحدود بالشبهات، وحينما توضع هذه الإجراءات الكثيرة التي من شأنها أن تبعد الناس عن مقارفة هذه الفواحش.
ثم إذا قارفوها فبهذه الآداب يتأدب الذين يوقعون الحد، أو يشاهدونه، كما ذكرنا.
نسأل الله أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا.
- محاضرة بعنوان: (كفى عبثًا باللباس) على الرابط: http://cutt.us/SGXjt
- محاضرة بعنوان: (الغيرة على الأعراض) على الرابط: http://cutt.us/OXyA5.
- محاضرة بعنوان: (الحياء) على الرابط: http://cutt.us/DvTgR.
- أخرجه البخاري، كتاب الفتن، باب كيف الأمر إذا لم تكن جماعة، برقم (7084)، ومسلم، كتاب الإمارة، باب الأمر بلزوم الجماعة عند ظهور الفتن وتحذير الدعاة إلى الكفر، برقم (1847).
- انظر: نهاية الأرب في فنون الأدب (2/26)، والبيان والتبيين (3/56).
- أخرجه ابن ماجه، كتاب الحدود، باب الرجم، برقم (2553)، وأحمد في المسند، برقم (21207)، والحاكم في المستدرك، برقم (3611)، وقال: "هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه"، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة، برقم (2913).
- أخرجه مسلم، كتاب الحدود، باب حد الزنى، برقم (1690).
- أخرجه أحمد في المسند، برقم (716)، وقال محققوه: "حديث صحيح، رجاله ثقات رجال الشيخين من طريق سلمة- وهو ابن كهيل-، وأما مجالد- وهو ابن سعيد- فضعيف، روى له مسلم مقرونا وأصحاب السنن"، وأخرجه البخاري عن علي -رضي الله عنه- حين رجم المرأة يوم الجمعة، وقال: "قد رجمتها بسنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-"، كتاب الحدود، باب رجم المحصن، برقم (6812).
- أخرجه البخاري، كتاب الوكالة، باب الوكالة في الحدود، برقم (2314)، وبرقم (2724)، كتاب الشروط، باب الشروط التي لا تحل في الحدود، وأخرجه مسلم، كتاب الحدود، باب من اعترف على نفسه بالزنى، برقم (1697).
- أخرجه البخاري، كتاب المحاربين من أهل الكفر والردة، باب هل يقول الإمام للمقر لعلك لمست أو غمزت، برقم (6824)، ومسلم، كتاب الحدود، باب من اعترف على نفسه بالزنى، برقم (1692).
- أخرجه مسلم، كتاب الحدود، باب من اعترف على نفسه بالزنى، برقم (1695).
- أخرجه البخاري، كتاب الجنائز، باب الصلاة على الجنائز بالمصلى والمسجد، برقم (1329)، ومسلم، كتاب الحدود، باب رجم اليهود أهل الذمة في الزنى، برقم (1699).
- أخرجه مسلم، كتاب الحدود، باب من اعترف على نفسه بالزنى، برقم (1695).
- أخرجه أبو داود، كتاب الحدود، باب فيمن أتى بهيمة، برقم (4464)، والترمذي، أبواب الحدود عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، باب ما جاء فيمن يقع على البهيمة، برقم (1455)، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (6588).
- أخرجه مسلم، كتاب النكاح، باب استحباب النكاح لمن تاقت نفسه إليه، ووجد مؤنه، واشتغال من عجز عن المؤن بالصوم، برقم (1401).
- أخرجه البخاري، كتاب الاستئذان، باب زنا الجوارح دون الفرج، برقم (6243)، ومسلم، كتاب القدر، باب قدر على ابن آدم حظه من الزنا وغيره، برقم (2657).
- إشارة إلى قوله تعالى: {وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ} [النور:31].
- أخرجه النسائي عن أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((أيما امرأة استعطرت فمرت على قوم ليجدوا من ريحها فهي زانية))، كتاب الزينة، باب ما يكره للنساء من الطيب، برقم (5126)، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (323).
- أخرجه البخاري، كتاب النكاح، باب قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((من استطاع منكم الباءة فليتزوج، لأنه أغض للبصر وأحصن للفرج)) وهل يتزوج من لا أرب له في النكاح، برقم (5065)، ومسلم، كتاب النكاح، باب استحباب النكاح لمن تاقت نفسه إليه، ووجد مؤنه، واشتغال من عجز عن المؤن بالصوم، برقم (1400).
- أخرجه مسلم، كتاب الحدود، باب من اعترف على نفسه بالزنى، برقم (1696).
- أخرجه البخاري، كتاب الحدود، باب ما يكره من لعن شارب الخمر، وإنه ليس بخارج من الملة، برقم (6780).
- أخرجه البخاري، كتاب الحدود، باب ما يكره من لعن شارب الخمر، وإنه ليس بخارج من الملة، برقم (6781).