الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فمن الآيات التي قد يُستشكل فهمها الآية الأولى بعد المائة في سورة النساء، وهي قوله -تبارك وتعالى: وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا [النساء:101]، فظاهر هذه الآية لو بقينا معه وعملنا بمقتضاه فإن ذلك قد يُفهم منه أن قصر الصلاة إنما يجوز في هذه الحالة فقط، إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا [النساء:101]، يعني: في حال الخوف من هجوم الكفار على المسلمين وهم يصلون فيجوز لهم القصر في هذه الحال، فهل هذا هو المراد؟.
بمعنى أننا لو أعملنا مفهوم المخالفة، يعني: إن لم نخف أن يفتننا الذين كفروا فليس لنا أن نقصر الصلاة، هذا يسميه الأصوليون مفهوم المخالفة، إن خفتم جاز، يعني: وإن لم تخافوا لم يجز، ومفهوم المخالفة لا شك أنه حُجة، لكن هنا لا يُحتج به في هذا الموضع؛ لأن هناك نحو سبعة مواضع لا يحتج بها بمفهوم المخالفة، هذا مثال على واحد منها وهو أن تكون الآية أو النص قد جاء موافقاً لواقع معين، ما هو الواقع المعين؟ الناس كانوا بعد الهجرة في حال خوف، أعني المسلمين في حرب فكانوا يتخوفون الكفار، فنزلت هذه الآية على وفاق هذا الواقع، فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا [النساء:101]، يَعلى بن أُمية سأل عمر بن الخطاب عن هذه الآية: "كيف نقصر وقد أمِنّا؟ فقال: سألت عنها رسول الله ﷺ فقال: صدقة، تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته[1].
بمعنى أن قصر الصلاة في حال الأمن مشروع، وهو صدقة تصدق الله بها علينا، فليس من شرط قصر الصلاة في السفر أن يكون الإنسان في حال الخوف، إذاً لماذا ذكر الله فيها هذا القيد خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا؟ [النساء:101]، بناء على الواقع حينما نزلت هذه الآية، فإن سورة النساء من السور النازلة في المدينة، وكان الجهاد قد شُرع في المدينة، وكان الناس في حال حرب، فنزلت على وفاق ذلك الواقع، ولهذا فإن النبي ﷺ بعدما أمن وفتح مكة قصر الصلاة في مكة، وقصرها في مِنى، ويقول ابن عمر : "رأيت رسول الله ﷺ فذكر قصر النبي ﷺ الصلاة"، هذه واحدة.
والآية الأخرى أيضاً في سورة النساء وهي قوله -تبارك وتعالى- عن المنافقين: الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا [النساء:141]، هذا الجزء هو الذي أريد أن أتحدث عنه، وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا [النساء:141]، يتساءل كثير من الناس يقولون: الكفار الآن قد تسلطوا على المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، وأصبح المسلمون كلأً مباحاً يعبث بهم أراذل الخلق، أحط الخلق، وأردى الخلق، وأرذل الخلق هم اليهود، ومع ذلك يستعرضون قوتهم، ويضربون ما شاءوا، ويتوعدون ما شاءوا، ويفعلون كل ما يريدون، يخطفون ثمانية وزراء في ليلة واحدة، مُنتهى التبجح، ويفسدون ويضربون الجسور، ويضربون المطار في لبنان، وفعلوا كل ما فعلوا، وفي غير لبنان، فضلاً عمن هم أعظم من اليهود، وأكبر فتكاً وقوة وشرًّا يفسدون في مشارق الأرض ومغاربها، والمسلمون تُحمل جثثهم بالأكوام، لا ترى إلا الدماء والأشلاء والعجائز يرفعن أيديهن إلى السماء يدعون الله الخلاص من هذا الظلم والاضطهاد، فكيف قال الله : وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا؟ [النساء:141].
من أهل العلم من قال: المراد لن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً شرعاً، فتسلطهم على المسلمين حرام لا يجوز شرعاً، أمّا قدَراً فلا يحصل في الكون تحريكة ولا تسكينة إلا بإرادة الله ، هذا معنى هذا الكلام، وهو قول قال به طائفة من السلف .
القول الآخر: وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا [النساء:141]، يعني: في الآخرة، وبهذا فسرها عليٌّ [2]، وابن عباس [3]، عليٌّ جاءه رجل وسأله عنها قال: وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا [النساء:141]، وهاهم الكفار قد ينالون من المسلمين؟، فقال: ادنهْ، فدنا، فقال: ادنهْ، فدنا، فقال: فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا [النساء:141]، يقول علي : إن أولها يفسر آخرها، فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا [النساء:141]، في الآخرة، يوم القيامة، وهذا الذي اختاره كبير المفسرين ابن جرير الطبري -رحمه الله[4]، ما معنى هذا الكلام؟
معنى هذا الكلام لن يجعل للكافرين حجة وبرهانًا وسلطانًا؛ لأن السلطان والسبيل هنا بمعنى الحجة، أي لا يكون لهم حجة يحتجون بها، الآية في المنافقين الذين يتربصون بكم، فلو أن المنافقين دخلوا الجنة لاحتج الكفار، وقالوا: على أي شيء دار القتال بيننا وبينكم والمفاصلة في الدنيا، ثم بعد ذلك دخول النار بالنسبة للكفار مع أن المنافقين يوافقونهم في الباطن فهم كفار مثلهم، فدخلوا الجنة، فيكون ذلك حجة للكفار، يقولون: هؤلاء كفار في الباطن -الذين هم المنافقون، فكيف دخلوا الجنة؟! ولماذا قامت الحرب بيننا وبينكم وهؤلاء كانت نهايتهم الجنة وهم كفار في باطن الأمر؟، فيكون ذلك حجة للكفار على المسلمين، فالله قال: "فالله يحكم بينكم يوم القيامة"، فيُدخل المنافقين كما قال: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ [النساء:145]، يُدخل المنافقين النار، ولن يجعل للكافرين على المؤمنين سبيلاً يحتجون به عليكم، هذا معنى كلام عليٍّ ، وابن عباس، وهو اختيار كبير المفسرين ابن جرير الطبري.
ولعل من الأقوال الجيدة في الآية ولعله أحسن من هذا كله، هو أن ذلك بالنسبة للمؤمنين حقًّا، "ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين"، يعني: المؤمنين حقيقة، ليس أي مؤمنين، فلا يدخل في هذا ضعفاء الإيمان، المترددون المتشككون، لا، المؤمنون حقًّا، وهذا قال عنه ابن العربي المالكي -رحمه الله- قال: "وهذا نفيس جدًّا"[5]، -يعني هذا القول، واختاره الحافظ ابن القيم -رحمه الله، وقال: "إن ذلك بحسب إيمانهم"[6].
وهذا صحيح، فالحكم المعلق على وصف يزيد بزيادته وينقص بنقصانه، بمعنى: وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا [النساء:141]، فهنا علقه بوصف الإيمان، فنفى أن يكون لهم سبيل عليهم بحسب إيمانهم، لا يكون للكافرين عليهم سبيل على حسب الإيمان، لن يجعل الله للكافرين على المؤمنين حقًّا -الكُمّل- لن يجعل الله عليهم سبيلاً في الدنيا فضلاً عن الآخرة.
وأما إذا ضيعوا أمر الله وتركوه وراء ظهورهم، وصاروا يُحسنون الظن بعدوهم، ويُسيئون الظن بإخوانهم فمثل هؤلاء طبيعي أن الله يعاقبهم إلا إن لطف بهم، هؤلاء يستحقون العقوبة، فهم مذنبون فيتسلط عليهم الكفار، ويرون منهم ما يكرهون.
فأسأل الله أن ينفعنا وإياكم بالقرآن العظيم، ويجعلنا وإياكم هداة مهتدين، وصلى الله على نبينا محمد،وعلى آله وصحبه.
- أخرجه مسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب صلاة المسافرين وقصرها، برقم (686).
- تفسير الطبري (7/ 609-610).
- المصدر السابق (7/ 610).
- المصدر السابق (7/ 606).
- أحكام القرآن لابن العربي ( 1/ 641).
- انظر: زاد المعاد في هدي خير العباد (3/ 7).