بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال المفسر -رحمه الله تعالى: فَأَنجَيْنَاكُمْ [سورة البقرة:50] أي خلصناكم منهم وحجزنا بينكم وبينهم وأغرقناهم وأنتم تنظرون؛ ليكون ذلك أشفى لصدروكم وأبلغت في إهانة عدوكم.
وقد ورد أن هذا اليوم كان يوم عاشوراء كما روى الإمام أحمد عن ابن عباس -ا- قال: "قدم رسول الله ﷺ المدينة فرأى اليهود يصومون يوم عاشوراء، فقال: ما هذا اليوم الذي تصومون؟ قالوا: هذا يوم صالح، هذا يوم نجى الله فيه بني إسرائيل من عدوهم فصامه موسى ، فقال رسول ﷺ: أنا أحق بموسى منكم فصامه رسول الله ﷺ وأمر بصومه" [وروى هذا الحديث البخاري ومسلم والنسائي وابن ماجه][1].
وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِن بَعْدِهِ وَأَنتُمْ ظَالِمُونَ ثُمَّ عَفَوْنَا عَنكُمِ مِّن بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [سورة البقرة:51-53]، يقول تعالى: واذكروا نعمتي عليكم في عفوي عنكم لما عبدتم العجل بعد ذهاب موسى لميقات ربه عند انقضاء أمد المواعدة، وكانت أربعين يوماً، وهي المذكورة في الأعراف في قوله تعالى: وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاَثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ [سورة الأعراف:142]، قيل: إنها ذو القعدة بكماله وعشر من ذي الحجة، وكان ذلك بعد خلاصهم من فرعون وإنجائهم من البحر.
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فقوله -تبارك وتعالى: وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ [سورة البقرة:50] هذا لا شك أنه من مزيد إنعام الله وإفضاله عليهم، وذلك أنه أدْعى للتشفي؛ فإن إهلاك عدوهم وهم ينظرون إليه أشفى لصدورهم مما لو هلك فجاءهم خبره.
وقوله -تبارك وتعالى- هنا: وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِن بَعْدِهِ في قوله: وَإِذْ وَاعَدْنَا قراءتان متواترتان، فهذه التي نقرأ بها هي قراءة الجمهور، والقراءة الأخرى هي قراءة أبي عمرو، (وإذ وعدنا موسى)، وهذه القراءة الثانية يختارها بعض من تكلم في التفسير وفي معاني القرآن؛ وذلك أنهم استشكلوا قوله تعالى: وَإِذْ وَاعَدْنَاوذلك أن المواعدة –المفاعلة- إنما تكون بين اثنين، أو بين طرفين، ويقولون: إن الله لا يتأتى معه هذا، وإنما الوعد يكون من جهته فقط، فاختاروا قراءة (وعدنا)، وجاؤوا في مثل هذا الموضع بالآيات الأخرى التي فيها ذكر الوعد كقوله مثلاً: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ [سورة النــور:55] وما أشبه ذلك.
والذي يظهر -والله تعالى أعلم- أن هذا الذي ذكروه غير متجه، والله أعلم؛ لأن قوله: وَإِذْ وَاعَدْنَا المواعدة بمعنى الموافاة، ولا يمنع ذلك أن يكون بين الله وبين أحد من خلقه، فالله أخبر موسى ﷺ بالميعاد، وموسى -عليه الصلاة والسلام- قبِل ذلك، فذلك مواعدة بينه وبين الله، وليس في ذلك أي محذور في هذا المعنى بالنسبة لما يقال في حق الله تبارك وتعالى، وأما الوعد الذي جاؤوا به في الآيات الأخرى فإنه يختلف عما هاهنا، فالوعد هناك هو الوعد بالجزاء وليس من المواعدة التي تكون للتوقيت.
ثم إن بعضهم قال على قراءة الجمهور: وَإِذْ وَاعَدْنَا عند من فسرها أنها من جهة الله فحسب، قالوا: هذا مثال من أمثلة ورود المفاعلة وتكون من طرف واحد، وهذا وإن كان في أصله صحيحاً ولكنه لا محذور هنا أن يقال: وَإِذْ وَاعَدْنَا أن الله أخبر موسى بالميعاد، وأن موسى ﷺ قبِل ذلك، فكانت بمعنى المواعدة على ظاهرها ولا إشكال في هذا إطلاقاً، وإن كان لا يمتنع أن تأتي المواعدة من طرف واحد، كما تقول مثلاً: عالجت الجرح أو عاقبت المجرم، أو نحو ذلك، فأنت حينما قلت: عاقبته، فالمعاقبة هنا لم تقع بين طرفين، وإنما هي صادرة من طرف واحد، كما أن المعالجة صادرة من طرف واحد، والله تعالى أعلم.
وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً اسم موسى -عليه الصلاة والسلام- اسم أعجمي كما هو معروف، ويقولون: إن اسم موسى مركب من شيئين (مو) و(سى)، ويقولون إن ذلك لغة قبطية، مع أن المعروف أنه اسم عبراني.
ويقولون أصله (مو) (شى) و(مو) بمعنى ماء، و(شى) بمعنى شجر، والمعنى كما يقولون: إنه لما ألقته أمه في نهر النيل حمله الماء حتى أخذه إلى موضع فيه ماء وشجر، فلما وجده أولئك الجواري من قوم فرعون سمي باسم المكان الذي وجد فيه، والله أعلم.
وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً يعني تمام أربعين ليلة، على رأس الأربعين ليلة يكون الميعاد، وهذه الليالي جاءت في سورة الأعراف: ثَلاَثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ، ويذكر المفسرون هناك تفصيلات في هذا المقام، وأن أصلها كانت الثلاثين، ثم أتم الله بعد ذلك بعشر لأمور يذكرونها هناك.
وعلى كل حال ذكر الله هنا الليالي، وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وذلك باعتبار أن الليلة تكون سابقة لليوم، والعرب تعبر بالليالي وتقصد معها الأيام، وهذا كثير جداً في كلامهم.
في قوله هنا: وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ ذكر الله الكتاب ولا شك أنه التوراة، ونقل بعض أهل العلم الإجماع أن الكتاب هنا هو التوراة، ثم عطف عليه بعد ذلك الفرقان، وظاهره أن العطف يقتضي المغايرة، ولهذا فهم بعض أهل العلم أن الفرقان ليس المراد به التوراة، بل هو شيء آخر، واختلفوا في تفسيره وفي بيان المراد به.
فبعضهم قال: آتينا موسى الكتاب، وآتينا محمداً الفرقان، وهؤلاء التبس عليهم هذا، وذلك أن الله سمى هذا القرآن بالفرقان كما في سورة الفرقان: تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ [سورة الفرقان:1]، ولا يمتنع أن يسمي الله القرآن بالفرقان، وأن يصف التوراة بأنها فرقان، كما قال: وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ [سورة الأنبياء:48]، والمراد بذلك التوراة قطعاً.
وبعضهم يقول: الفرقان المراد به ما حصل من الفرق بينهم أي: الفصل والحكم بينهم وبين فرعون وقومه، وبعضهم يقول: المراد به انفراق البحر، وهذا بعيد جداً، عن ظاهر القرآن، بل هو في غاية البعد، والله تعالى أعلم.
وبعضهم يقول المراد بالفرقان: الحجة والبرهان الذي أعطاه الله لموسى من الآيات كالعصا واليد وما أشبه ذلك.
والذي يظهر والله تعالى أعلم أن الفرقان المراد به التوراة، وهو الكتاب الذي سبق ذكره قبله، آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ ويكون ذلك من قبيل عطف الأوصاف والموصوف واحد، كما في قوله تعالى: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى [سورة الأعلى:1-4]، فالأوصاف تأتي تارة متتابعة، وتارة تأتي بالعطف بالواو مع أن الموصوف واحد، ومن ذلك قول الشاعر يمدح ملكاً:
هو الملك القرم وابن الهُمام | وليث الكتيبة في المزدحم |
الموصوف هنا واحد، فوصفه تارة بالتتابع فقال: هو الملك القرم، وتارة بالواو فقال: وابن الهمام، وليث الكتيبة... إلى آخره.
وقوله: إن هذه الأربعين ليلة هي شهر ذي القعدة وعشر من ذي الحجة فهذا عليه عامة المفسرين، والله تعالى أعلم.
وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُواْ إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ عِندَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [سورة البقرة:54] هذه صفَةُ توبته تعالى على بني إسرائيل من عبادة العجل.
قال الحسن البصري -رحمه الله تعالى- في قوله تعالى: وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ [سورة البقرة:54] فقال: ذلك حين وقع في قلوبهم من شأن عبادتهم العجل ما وقع حتى قال تعالى: وَلَمَّا سُقِطَ فَي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْاْ أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّواْ قَالُواْ لَئِن لَّمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا الآية [سورة الأعراف:149].
قال: فذلك حين يقول موسى: يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ وقال أبو العالية وسعيد بن جبير والربيع بن أنس: فَتُوبُواْ إِلَى بَارِئِكُمْأي: إلى خالقكم.
قلت: وفي قوله هاهنا: إِلَى بَارِئِكُمْ تنبيه على عظم جرمهم، أي: فتوبوا إلى الذي خلقكم وقد عبدتم معه غيره.
لهذا يقال: إن الشرك هو أعظم ذنب؛ لأنه وضع للعبادة في غير من خلق، ولذلك تجد في الآيات التي يقرر الله فيها المشركين، يذكر الخلق ويلزمهم بذلك بتوحيد الإلهية.
في قوله تعالى: وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [سورة البقرة:53] يقول ابن كثير: "وكان ذلك أيضاً بعد خروجهم من البحر؛ كما دل عليه سياق الكلام في سورة الأعراف، ولقوله تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِن بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ [سورة القصص:43]": الذي في سورة التوراة ظاهر أن ذلك كان بعد إنجائهم من فرعون؛ لأن الله لما ذكر انفلاق البحر وإنجاء هؤلاء من فرعون وقومه، ذكر أنهم مروا على قوم يعكفون على أصنام لهم قَالُواْ يَا مُوسَى اجْعَل لَّنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ [سورة الأعراف:138].
ثم بعد ذلك ذكر ما حصل منهم من عبادة العجل، فكان ذلك بعد إنجائهم، والحلي التي آخذوها إنما كانت معهم من قوم فرعون كما ذكر بعضهم بأن نساء بني إسرائيل قد استعرن تلك الحلي، فلما خرجوا هذا الخروج السريع لم يمكنهم إرجاع هذه المصوغات من الحلي، فكان السامريّ هو الذي اقترح عليهم أن يجمعوها وحصل ما حصل، وكان ذلك بعد خروجهم من البحر وإنجائهم من فرعون.
وفي قوله: وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُواْ إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ عِندَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ [سورة البقرة:54]، هذه توبتهم والمقصود بهذا ليس أن يقتل الإنسان نفسه، ولم يذكر هذا أحد من أهل العلم فيما أعلم، وإنما فَاقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ أي فليقتل بعضكم بعضاً، ولهذا نظائر، فإن الأمة الواحدة المجتمعة على شيء ينزلون منزلة النفس الواحدة، ولهذا أمثلة من القرآن كقوله -تبارك وتعالى: وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ [سورة البقرة:188].
وكقوله في سورة النور على أحد الوجهين المشهورين في تفسير الآية: لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا [سورة النــور:12]، فظنوا بأنفسهم، أي: ظنوا بإخوانهم.
وكقوله أيضاً في سورة البقرة: ثُمَّ أَنتُمْ هَؤُلاء تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ [سورة البقرة:85]، تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ يعني تقتلون إخوانكم، فإنه يحرم على الإسرائيلي أن يقتل إسرائيلياً مثله، ثم هم بعد ذلك يقتل بعضهم بعضاً، فكانت توبتهم كما قيل: إنهم ألقيت عليهم ظلمة، وقيل: ألقي عليهم الغمام فصار الرجل لا يميز من أمامه، فقتل منهم مقتلة عظيمة في ذلك اليوم، فكان الرجل يقتل أقرب الناس إليه، يقتل أباه وآخاه، حتى تاب الله عليهم ورفع ذلك البلاء عنهم، ولهذا قال: فَتَابَ عَلَيْكُمْ [سورة البقرة:54] أي رجع عليكم بالتوبة والمغفرة.
وقد روى النسائي وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس -ا- قال: فقال الله تعالى: إن توبتهم أن يقتل كل واحد منهم كل من لقي من والد وولد فيقتله بالسيف ولا يبالي من قتل في ذلك الموطن، فتاب أولئك الذين كانوا خفي على موسى وهارون ما اطلع الله من ذنوبهم فاعترفوا بها وفعلوا ما أمروا به فغفر الله للقاتل والمقتول.
وروى ابن جرير عن ابن عباس -ا- قال: قال موسى لقومه: فَتُوبُواْ إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ عِندَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [سورة البقرة:54] قال: أمر موسى قومه عن أمر ربه أن يقتلوا أنفسهم، قال: وأخبر الذين عبدوا العجل فجلسوا، وقام الذين لم يعكفوا على العجل فأخذوا الخناجر بأيديهم وأصابتهم ظُلَّة شديدة فجعل يقتل بعضهم بعضاً، فانجلت الظلَّة عنهم وقد جلوا عن سبعين ألف قتيل، كل من قتل منهم كانت له توبة، وكل من بقي كانت له توبة.
بعض أهل العلم من المفسرين ينقلون الإجماع على أن المقصود فَاقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ أي: فليقتل بعضكم بعضاً.
قوله تعالى: وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ أي: لما سمعوا الله يناجي موسى ﷺ طمعوا في رؤيته فقالوا: لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً [سورة البقرة:55]، وكثير من المفسرين يقولون: إن هؤلاء الذين طلبوا هذا الطلب هم السبعون الذين اصطفاهم موسى ﷺ كما في قوله: وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِّمِيقَاتِنَا [سورة الأعراف:155]، وهم صفوة القوم وخيارهم، أبوا أن يؤمنوا حتى يروا الله جهرة فأصابتهم هذه الصاعقة.
والصاعقة -والله تعالى أعلم- تأتي بمعنى الشيء الهائل العظيم، الذي إذا عاينه الإنسان أو رآه فإنه يموت لهوله أو يحترق، أو يفقد شيئاً من حواسه، أو يفقد عقله، أو يفقد بعض أعضائه، المقصود أنه يلحقه عطب تام أو يلحقه بعض العطب من شدة هولها، فتارة تكون بنار محرقة، وتارة تكون بصوت هائل، أو غير ذلك مما يمكن أن يقع، والصاعقة في العصر الحديث تطلق على ما يسمونها بالشحنة الكهربائية العالية التي إذا ضربت الإنسان فإنه يحترق وتكون النتيجة التفحم.
المقصود أن هؤلاء أخذتهم هذه الصاعقة بسبب ما قالوا وكانت نتيجة ذلك الموت الحقيقي -على أرجح القولين في هذا الصعق- فالصعق تارة يكون بالموت، وتارة يكون بما دونه كالإغماء.
فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ [سورة البقرة:55] بمعنى أنهم رأوا مقدم ذلك ثم بعد ذلك ماتوا، وعلى كل حال فإن معنى فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ أنهم ماتوا موتاً حقيقياً، ولهذا قال الله بعده: ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ [سورة البقرة:56]، فهذا دليل على أن ما أصابهم إنما هو موت حقيقي وليس من قبيل الإغماء؛ فظاهر القرآن يدل على هذا، ولا يجوز العدول عن ظاهر القرآن، إلا بدليل يجب الرجوع إليه.
كما قال ابن جريج، قال ابن عباس -ا- في هذه الآية: وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً [سورة البقرة:55] قال: علانية، أي: حتى نرى الله.
وقال عروة بن رويم في قوله: الصَّاعِقَةُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ [سورة البقرة:55] قال: فصعق بعضهم وبعض ينظرون، ثم بعث هؤلاء وصعق هؤلاء.
وقال السدي: فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ فماتوا، فقام موسى يبكي ويدعو الله، ويقول: رب ماذا أقول لبني إسرائيل إذا أتيتهم وقد أهلكت خيارهم لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مِّن قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاء مِنَّا [سورة الأعراف:155]؟ فأوحى الله إلى موسى أن هؤلاء السبعين ممن اتخذوا العجل، ثم إن الله أحياهم فقاموا وعاش رجلٌ رجلٌ ينظر بعضهم إلى بعض: كيف يحيون؟ قال: فذلك قوله تعالى: ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [سورة البقرة:56].
وقال الربيع بن أنس: كان موتهم عقوبة لهم، فبعثوا من بعد الموت ليستوفوا آجالهم، وكذا قال قتادة.
هذا أحد المواضع في سورة البقرة التي تدل على قدرة الله على البعث، وهي خمسة مواضع.
قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في تفسير هذه الآية: قال لهم موسى لما رجع من عند ربه بالألواح قد كتب فيها التوراة، فوجدهم يعبدون العجل، فأمرهم بقتل أنفسهم ففعلوا، فتاب الله عليهم، فقال: إن هذه الألواح فيها كتاب الله، فيه أمركم الذي أمركم به ونهيكم الذي نهاكم عنه، فقالوا: ومن يأخذه بقولك أنت؟ لا والله حتى نرى الله جهرة، حتى يطلع الله علينا فيقول: هذا كتابي فخذوه، فما له لا يكلمنا كما يكلمك أنت يا موسى؟! وقرأ قول الله: لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً [سورة البقرة:55] قال: فجاءت غضبة من الله، فجاءتهم صاعقة بعد التوبة فصعقتهم فماتوا أجمعون.
قال: ثم أحياهم الله من بعد موتهم، وقرأ قول الله: ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [سورة البقرة:56] فقال لهم موسى: خذوا كتاب الله، فقالوا: لا فقال: أي شيء أصابكم؟ فقالوا: أصابنا أنا متنا ثم أحيينا، قال: خذوا كتاب الله. قالوا: لا، فبعث الله ملائكة فنتقت الجبل فوقهم.
وهذا السياق يدل على أنهم كلفوا بعد ما أحيوا، وقد حكى الماوردي في ذلك قولين: أحدهما: أنه سقط التكليف عنهم لمعاينتهم الأمر جهرة حتى صاروا مضطرين إلى التصديق، والثاني: أنهم مكلفون؛ لئلا يخلو عاقل من تكليف، قال القرطبي: وهذا هو الصحيح؛ لأن معاينتهم للأمور الفظيعة لا تمنع تكليفهم؛ لأن بني إسرائيل قد شاهدوا أمورًا عظامًا من خوارق العادات، وهم في ذلك مكلفون، وهذا واضح، والله أعلم.
- أخرجه البخاري في كتاب: الصوم – باب: صيام يوم عاشوراء (1900) (ج 2 /ص 704) ومسلم في كتاب: الصيام - باب: صوم يوم عاشوراء (11130) (ج 2 / ص 795).