بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
قال المفسر -رحمه الله تعالى- في تفسير قوله تعالى: وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ كُلُواْ وَاشْرَبُواْ مِن رِّزْقِ اللَّهِ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ [سورة البقرة:60] "يقول تعالى: واذكروا نعمتي عليكم في إجابتي لنبيكم موسى حين استسقاني لكم، وتيسيري لكم الماء وإخراجه لكم من حجر معكم، وتفجيري الماء لكم منه من اثنتي عشرة عيناً، لكل سبط من أسباطكم عين قد عرفوها، فكلوا من المن والسلوى، واشربوا من هذا الماء الذي أنبعته لكم بلا سعي منكم ولا كد"
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فقوله تعالى: وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى: إذ منصوب بفعل تقديره واذكروا إذ، فقول الحافظ ابن كثير -رحمه الله- هنا: وإخراجه -يعني الماء- لكم من حجر معكم: هذا بناءً أن (أل) للعهد لقوله: اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ [سورة البقرة:60]، فتكون (أل) عهدية، أي اضرب حجراً معهوداً، ويعني به حجراً معيناً يعرفه موسى ﷺ وكانوا ينقلونه معهم ويحملونه في أسفارهم فيخرج منه الماء، فهو حجر معين وليس أي حجر.
وكثير من السلف المفسرين يقولون: إنه حجر غير محدد وعلى هذا تكون (أل) في قوله: اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ للجنس، اضرب أي حجر، ولربما كان هذا أبلغ في الإنعام وفي المعجزة.
وعلى كل حال لا يوجد دليل يدل على أنه حجر معين، وإنما المقصود على كل الأحوال أن الحافظ ابن كثير -رحمه الله- عبر بهذه العبارة -من حجر معكم- بناءً على هذا المعنى.
"فكلوا من المن والسلوى واشربوا من هذا الماء الذي أنبعته لكم بلا سعي منكم ولا كد، واعبدوا الذي سخر لكم ذلك.
وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ [سورة البقرة:60] ولا تقابلوا النعم بالعصيان فتسلبوها، وقد بسطه المفسرون في كلامهم كما قال ابن عباس -ا: وجعل بين ظهرانيهم حجر مربع وأمر موسى فضربه بعصاه، فانفجرت منه اثنتا عشرة عيناً في كل ناحية منه ثلاث عيون، وأعلم كل سبط عينهم يشربون منها لا يرتحلون من منقلة إلا وجدوا ذلك معهم بالمكان الذي كان منهم بالمنزل الأول".
الأسباط هؤلاء المشهور أنهم من تناسل من أولاد يعقوب فهم بمنزلة القبائل من غير بني إسرائيل، فكل سبط أشبه ما يكون بالقبيلة يرجعون إلى ولد من أولاد يعقوب -عليه الصلاة والسلام، وبعضهم يقول غير هذا القول، لكن هذا هو المشهور.
هذه وجوه الفرق يذكرها العلماء في الكتب التي تُعنى بالمتشابه اللفظي الذي يلتمسون له بعض المحامل من جهة المعنى، وكذلك يذكرها بعض المفسرون الذين يعنون بالجوانب البلاغية أحياناً، كما ذكر ابن عاشور مثلاً في الفروقات بين قوله تعالى في سورة الأنعام في الوصايا العشر: قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا [سورة الأنعام:151]، وفي سورة الإسراء: وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ [سورة الإسراء:23] حيث يقول: الآية التي في سورة الأنعام خطاب للمشركين وهم بعداء غير داخلين في دين الله فهو يناديهم: قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ.
وفي سورة الإسراء الخطاب في ظاهره موجه للنبي ﷺ وهو موجه للأمة؛ لأنها خوطبت بشخص قدوته -عليه الصلاة والسلام وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ أي حكم ووصى ألا تعبدوا إلا إياه، وهكذا يذكر بقية الفروقات في القضايا الأخرى، وهذا تجده في مثل هذه الكتب كثيراً، حيث يقارنون بين مقطع ومقطع، أو بين آية وآية.
وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نَّصْبِرَ عَلَىَ طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنبِتُ الأَرْضُ مِن بَقْلِهَا وَقِثَّآئِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُواْ مِصْراً فَإِنَّ لَكُم مَّا سَأَلْتُمْ [سورة البقرة:61].
يقول تعالى: واذكروا نعمتي عليكم في إنزالي عليكم المن والسلوى طعاماً طيباً نافعاً هنيئاً سهلاً، واذكروا دبركم وضجركم مما رزقناكم وسؤالكم موسى استبدال ذلك بالأطعمة الدنيئة من البقول ونحوها مما سألتم.
قوله: واذكروا دبركم وضجركم: الدبر شبيه بالضجر، ويمكن أن يفسر بمعنى النفور من الشيء والكراهية له، أو البعد عنه أو بأقرب ما يمكن أن يفسر به، وإنما يكون ذلك عادة أو غالباً بسبب الضجر منه، فالمعنى واذكروا دبركم وضجركم مما رزقتكم.
قالوا: لَن نَّصْبِرَ عَلَىَ طَعَامٍ وَاحِدٍ الذي هو المن والسلوى، ولا يخفى أن المن والسلوى طعام متعدد وليس بطعام واحد، لكن صح أن يعبر عنه بأنه طعام واحد؛ لأن الشيء الذي يتكرر دائماً ولا يتغير وإن كان متنوعاً يقال له: هذا طعام واحد.
وكذلك الشيء الذي يكون على مائدة واحدة يصح أن يقال عنه بأنه طعام واحد، إذ يكون المقصود به مجموع ما على المائدة، أي ما تتكون منه المائدة، يقال له: طعام واحد، بخلاف ما لو فرق فأعطي بعضه في هذا اليوم والبعض الآخر في يوم آخر وهكذا فهذا طعام متعدد.
والمراد في الآية أنهم ملوا المن والسلوى؛ إذ هذا هو المراد الذي لا يخفى، ملوا المن والسلوى لعتوهم وتمردهم، وهذا له ارتباط أيضاً بطبيعة النفس التي من شأنها الظلم والجهل، فكما فعل قوم سبأ لما أنعم الله عليهم بما أنعم عليهم به حيث جعل بينهم وبين القرى التي بارك فيها والتي هي قرى الشام -وقيل غير ذلك- جعل قرى ظاهرة، بحيث صارت المسافات متقاربة كما قال سبحانه: وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ [سورة سبأ:18].
بمعنى أنها مسافات قليلة قصيرة إذا خرج من هذه القرية تتراءى له القرية الثانية فلا يحتاجون إلى حمل الأزواد ولا يخافون؛ لأنه لا توجد بينهم وبين ما يهدفون الوصول إليه أرض شاسعة مهلكة مخوفة، ومع ذلك قالوا: رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ [سورة سبأ:19] فأرادوا الأسفار البعيدة.
ومثل هذا الظلم يحصل عند بعض الناس حيث تجده لا يحب السفر المريح القريب الهنيء الذي يكون بوسائل مريحة، وإنما يريد السفر البعيد الذي تحصل فيه مشقة، ولذلك ترى بعض الناس يتعمد الذهاب على الأقدام أو على دراجة أو على وسائل بدائية.
وبعض الناس تجده يترك العيش الرغيد والأشياء الطيبة ويبحث عن الأشياء القديمة التي كان الناس لا يتعاطونها إلا بسبب الحاجة والفقر؛ حيث لا يجدون ما يأكلون أو ما يلبسون أو ما يجلسون عليه، فبدأ الناس يراجعون هذه الأشياء؛ لأنهم ملوا ألوان النعيم والرغد الذي يتقلبون فيها، وأصبحوا يبحثون عن الأشياء القديمة من المطعومات ويرجعون إليه.
وأصبحوا لربما يتفاخرون بمثل هذه الأشياء، وترى من الألوان ما تزدريه العين أحياناً، كل ذلك تشبثاً بالقديم، ويتركون الصناعات التي هي في غاية الحذق والإتقان والجمال كأنهم لا يجدون شيئاً، ولربما رأيت شيئاً من ذلك في اللباس لا سيما عند بعض النساء، فلربما لبست المرأة الإزار أو ما يشبه الإزار بحيث إذا رأيتها تظن أن هذه المرأة فقيرة مسكينة ليس عندها شيء، بينما هي ترى أنها بهذا قد جاءت بما لم يأت به أحد، والله المستعان، فهذا الذي حصل عند بني إسرائيل وعند أهل سبأ قد يكون له تعلق بمثل هذا المعنى، والله المستعان.
يقول: فالبقول والقثاء والعدس والبصل كلها معروفة: البقول هي النباتات التي لا ساق لها، وهي الأشياء المعروفة مثل الكراث والنعناع والبقدونس والجرجير وغيرها من الأشياء هذه التي يسمونها (الخضرة) فهذا كله داخل في هذه البقول.
وأما القثاء فهو نوع من الخيار لكنه طويل، وهو موجود إلى الآن ومعروف، هذا هو القثاء، وبعض الناس لا زالوا يسمونه قثَّاء، وبعضهم يسميه بغير هذا، فالمقصود أنه موجود يعرفه الناس وهو نوع من الخيار.
على هذا القول تكون التسمية هنا من قبيل ما تصنعه العرب كثيراً في كلامها حيث تبدل حرفاً مكان حرف، وهذا موجود وكثير جداً، وله نظائر في أشعارهم وفي كلامهم المنثور، ولا إشكال فيه، تقول: الفوم والثوم، وهذا باعتبار أن الفوم هو الثوم المعروف، وهذا قول مشهور قال به كثير من السلف فمن بعدهم.
والقول بأن الفوم بمعنى الحنطة أيضاً هو قول مشهور وإن كان لا يبلغ ما يبلغه القول الأول من كثرة القائل به، وكونه هو المتبادر إلى الذهن، فبعضهم يقول: هو الحنطة، ومن فسره بأنه الخبز فإن ذلك لا يخرج عن قول من قال بأنه الحنطة، باعتبار أن الخبز إنما يصنع من الحنطة، فهكذا يوجه قول من قال بأن فومها المقصود به ما يخبز، وهذا كما سبق في قوله -تبارك وتعالى: وَقُولُواْ حِطَّةٌ [سورة البقرة:58].
فعلى قول من قال: إن المعنى قولوا: لا إله إلا الله، فإنه يمكن أن يوجه باعتبار أن قول لا إله إلا الله تحط به الخطايا، وهذا كله مما يذكر في مقام توجيه الأقوال المنقولة عن السلف في التفسير، فعلى هذا الاعتبار أن الفوم هو الثوم يكون هذا من قبيل ما تستبدل به العرب الحرف مكان الحرف وهو مشهور معروف.
وهذا القول قول له وجه ولربما كان هو المتبادر المشهور، ولكن القول الآخر له وجاهته أيضاً وقد قال به كثيرون، ويوجد ما يدل عليه من كلام العرب إذ إن العرب تعبر بالفوم وتريد به الحنطة، وأما ما قيل من غير هذا في تفسيره فإنها أقوال لا تخلو من بُعد، والله تعالى أعلم.
قوله: فإن كان ذلك صحيحاً فإنه من الحروف المبدلة: يعني إن كان القول بأن الفوم بمعنى الثوم صحيحاً فهو من باب إبدال الحرف مكان الحرف.
كقولهم: وقعوا في عاثور شر وعافور شر، وأثافي وأثاثي ومغافير ومغاثير وأشباه ذلك مما تقلب الفاء ثاء والثاء فاء لتقارب مخرجيهما، والله أعلم.
وقال آخرون: الفوم الحنطة وهو البر الذي يعمل منه الخبز، قال البخاري: وقال بعضهم الحبوب التي تؤكل كلها فوم.
من قال بأن الفوم هنا بمعنى الثوم المعروف احتجوا أولاً بأنه هو المتبادر والمشهور، وأن ذلك أشهر عند إطلاقه في دلالته على أنه ثوم من دلالته على أن المراد به الحنطة، والقرآن يحمل على المشهور المتبادر الظاهر إلا لدليل يجب الرجوع إليه، وقد يحتج لذلك أيضاً بأن الله ذكره مع البصل، وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا [سورة البقرة:61] فالله تعالى أعلم.
والحقيقة أن تحديد هذا بعينه أمر لا طائل تحته ولا نستفيد منه شيئاً، فهذا كما قال عمر حينما تساءل ما معنى الأب الذي في قوله تعالى: وَفَاكِهَةً وَأَبًّا [سورة عبس:31] ثم رجع إلى نفسه، وقال: "إن هذا لهو التكلف يا عمر" مع أنه كان يدرك تماماً دون شك أن الأب هو نوع من النبات، وإن شئت أن تقول: هو نوع من النبات تأكله الماشية، لكن ما تحديده بالذات؟
هذا أمر لا طائل تحته ولا نستفيد من معرفته شيئاً، فالله يمتن على الناس بأنه أخرج لهم من الأرض الفواكه وغيرها مما يأكلون منه وما تأكل منه دوابهم، لكن تحديد هذا بعينه قد لا يكون مفيداً، فهذا مثل ما ذاك، والله أعلم.
وقوله تعالى: قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ [سورة البقرة:61] فيه تقريع لهم وتوبيخ على ما سألوه من هذه الأطعمة الدنيئة مع ما هم فيه من العيش الرغيد والطعام الهنيء الطيب النافع.
وقوله تعالى: اهْبِطُواْ مِصْراً [سورة البقرة:61] قال ابن عباس -ا: "مصراً من الأمصار".
وروى ابن جرير عن أبي العالية والربيع بن أنس أنهما فسرا ذلك بمصر فرعون، والحق أن المراد مصر من الأمصار كما روي عن ابن عباس -ا-وغيره، والمعنى على ذلك؛ لأن موسى يقول لهم: هذا الذي سألتم ليس بأمر عزيز، بل هو كثير في أي بلد دخلتموها وجدتموه، فليس يساوي مع دناءته وكثرته في الأمصار أن أسأل الله فيه، ولهذا قال: أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُواْ مِصْراً فَإِنَّ لَكُم مَّا سَأَلْتُمْ [سورة البقرة:61] أي ما طلبتم، ولما كان سؤالهم هذا من باب البطر والأشر ولا ضرورة فيه لم يجابوا إليه والله أعلم.
على هذا يكون ابن كثير -رحمه الله- قد مشى على أن موسى ﷺ لم يدع لهم، فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنبِتُ الأَرْضُ مِن بَقْلِهَا وَقِثَّآئِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا [سورة البقرة:61]، فيقول: إنه قال لهم: اهبطوا مصراً من الأمصار، يعني إن هذا لا يحتاج إلى أن نسأل الله أن ينزله؛ إذ كيف ترغبون عن المن والسلوى وتطلبون الفوم والبصل؟ فهذا تجدونه ميسوراً مبذولاً لكل أحد في أي مصر من هذه الأمصار إذا دخلتموها فإن ذلك مما يزرع في القرى، فعلى هذا يكون موسى ﷺ لم يجبهم إلى سؤال الله أن ينزل عليهم شيئاً من ذلك.
وبعض أهل العلم يقولون: إنه سأل ربه أن يرزقهم هذا، ثم وجههم إلى أن يهبطوا أي: يقصدوا ويتوجهوا إلى تلك الجهة، فالهبوط هنا بمعنى القصد والتوجه، تقول: هبط إلى أرض كذا بمعنى أوى إليها وقصدها وتوجه إليها.
ويلاحظ أن مصراً هنا منكرة وجاءت منونة فلربما ظن من سمعها أن ذلك أدل على أن المقصود بها قرية من القرى بمعنى أنها أي بلد من البلدان باعتبار أنه نكرها، وأما مصر المعروفة فلو قصدت لقال: مصرَ، مصرَ –بدون تنوين- باعتبار المنع من الصرف تكون ممنوعة من الصرف لعلتين هما العلمية والعجمة.
لكن هذا فيه نظر؛ لأن مصر ثلاثية، ومعلوم أن الثلاثي وإن كان أعجمياً لكنه جاء ساكن الوسط، فإنه يُصرف، وهذا له نظائر تجده في أسماء الأنبياء، مثل نوح -عليه الصلاة والسلام- تجده يكتب نوحٌ ونوحاً، مع أنه أعجمي؛ لأنه ساكن الوسط، وأما هود فصرف باعتبار أنه عربي، مع أنه ساكن الوسط، لكن على فرض أنه أعجمي إلا أنه أيضاً ساكن الوسط، ومعنى هذا الكلام أن قول من قال: إن قوله تعالى: اهْبِطُواْ مِصْراً [سورة البقرة:61] يقصد به البلد المعروف اليوم -مصر- غير ممتنع من جهة اللغة، يعني لا يحتج في رده باعتبار أنها جاءت مصروفة هكذا، اهْبِطُواْ مِصْراً.
لكن القول الآخر لربما كان هو الأقرب والله تعالى أعلم- وهو أن قوله: اهْبِطُواْ مِصْراً أي مصراً من الأمصا؛ لأن ذلك الذي يدل عليه السياق، فهم لم يطلبوا شيئاً يختص بمصر المعروفة، وإنما طلبوا أشياء متوفر في أي قرية دخلوها.
وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَآؤُوْاْ بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ [سورة البقرة:61].
يقول تعالى: وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ أي وضعت عليهم وألزموا بها شرعاً وقدراً، أي: لا يزالون مستذلين من وجدهم استذلهم وأهانهم وضرب عليهم الصغار، وهم مع ذلك في أنفسهم أذلاء متمسكنون.
ضرب عليهم ذلك أي: ألزموا به فلا فكاك ولا مخرج ولا خيار فيه، وهذا كما يقال مثلاً: ضرب الأمير بعثاً فالمعنى أنه ألزم هذا البعث أو الجيش بالخروج إلى ما وجههم إليه، بمعنى صدر قرار بإلزامهم بهذا الأمر، وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُأي: ألزموا به، فصار ذلك الشيء ملازماً لهم، وحتماً في حقهم لا فكاك ولا خلاص منه.
وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ أي أنها لا تفارقهم، فهم أذلاء وإن ملكوا الأموال الطائلة، وفيهم مسكنة وإن حصلوا ما حصلوه من أسباب القوة فإنك تجد ذلك لا يفارق وجوههم، فهذا هو الأصل فيهم وإن وجد من بعضهم خلاف ذلك فإن القليل والنادر في وقت من الأوقات أو في بعض الأفراد لا حكم له ولا يخرج عن صحة الحكم على المجموع بأنه كذا، وكذا، وليس تحصيل العز وما إلى ذلك مما يلحق بمعناه، ليس تحصيله بكثرة المال والقوة المادية، فإن الذل والصغار والمهانة والمسكنة أمور تتعلق بالنفس، ولذلك تجد من الناس من يملك الكثير ومع ذلك هو أشبه ما يكون بالفقراء، بل هو فقير؛ لأن الفقر في قلبه، ولذلك لربما لجأ إلى سؤال الناس مع كثرة ما يملك، فإذا كان الفقر في القلب فإن حال هذا الإنسان هي حال الفقراء وإن كان الذي في يده كثيراً.
وإذا كان الذل في القلب فمهما أوتي الإنسان من العرض ومن أسباب القوة فإن ذلك لا يخرجه عن هذا الوصف، وهذا الذل والمهانة شيء مشاهد فيهم، فمن خلط هؤلاء الناس وعرف حالهم، ووصفهم وجد ذلك منطبقاً تمام الانطباق عليهم.
وقد ذكر بعض أهل العلم أشياء من هذا كثيرة، وكان ذلك من شأن هؤلاء وعادتهم، وإن كانت عندهم الأموال الطائلة والذهب، فإنه يظهر بخلاف ذلك، لا يظهر عليه ما يظهر على غيره ممن يعطيهم الله الغنى والسعة، فتجده ذليلاً إما خوفاً من الجزية، وإما خوفاً من أن يسطى على ذلك، أو يطالب بشيء من الإتاوات أو الضرائب أو نحو هذا.
والحال تشهد بهذا حيث تجد أنه يهاجر مئات الألوف بسبب الهلع والفزع والخوف الشديد بسبب صاروخ -لا أدري ما تأثيره- يسقط على مدينة من هذه المدن المستحدثة، ولذلك إذا حصل أدنى ما يحصل من الخوف تهافت هؤلاء بالطوابير يجمعون الكمامات، ويجمعون الأزواد والأقوات، بصورة لا تكاد توصف، وإذا نظرت إلى حال جنودهم الذين إذا رأيتهم ظننت لأول وهلة أنهم بنات لحداثة سنهم وعنايتهم بأجسادهم وإذا نظرت إليهم وهم يبكون حينما يجرح أو يقتل واحد من زملائهم ظننت أنك في مجمع من النسوة، وليس في جيش قوي يمكن أن يقاتل ويصد الأعداء وما أشبه ذلك.
لكن الحقائق قد لا تنكشف لأول وهلة، ولكن لو جاءت المواجهة الحقيقة ترى من العوار الذي يخفونه عشرات السنين، ويوهمون الناس بخلافه، تجد ذلك ظاهراً بيناً لكل أحد، ومن نظر في أحوال هؤلاء ومن شابههم وجد هذا ظاهراً فصار قتلهم أهون ما يكون بعد أن كان الناس يظنون أنهم قوة لا يمكن أن تقهر، ولا يمكن أن يقتل هذا الجندي، ولا يمكن أن تسقط طائرة لهم؛ وذلك لأن عندهم من الاحتياطات والقوة والمنعة وكذا ما لا يمكن أن يحصل معه هزيمة، فإذا جرب الناس مرة ثم مرة وجدوا شيئاً آخر، لكنهم زرعوا المهابة في نفوس الناس، وصورا لأنفسهم شيئاً ليس بحقيقي، وعند الجد يذهب ذلك جميعاً، ولا تبقى إلا الحقائق.
على كل حال الفقر في قلوبهم، ولو قرأتم لعلمتم أن بعض الجنود الإسرائيليين الآن يقومون بالسرقة، وبعضهم يصطفون بالطوابير ليأخذوا القوت، ليس من الجهة التي تعطيهم أقواتهم، بل عند الأماكن التي تبذل الصدقات، يصطفون بالطوابير ليأخذوا الصدقة! وهكذا من كان فقره في قلبه فإنه لا يمكن أن يتغير.
قوله تعالى: وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ المسكنة الفاقة، وقال عطية العوفي: الخراج، يعني ما يؤخذ من أرضهم التي فتحها المسلمون فصارت أرضاً خراجية، لكن لا تفسر الآية إلا أنه هنا يريد أن يربط بينها.
وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ الذل معروف أنه يعني الصغار، والمسكنة قال عطية العوفي: الخراج، فهو يريد أن يقول: هو شيء آخر فرض عليهم شرعاً وقدراً فقال الخراج أو الجزية.
والله قال: حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ [سورة التوبة:29] فهؤلاء ملزمون بالذل سواء كان ذلك بطريق الجزية، أو كان ذلك الوصف الذي أوقعه الله فيهم فصار وصفاًَ لا يفارقهم.
قوله: ولقد أدركتهم هذه الأمة وإن المجوس لتجبيهم الجزية: أقول: هذا هو الأصل في حالهم، وهو الاستذلال والاستضعاف والقتل والتشريد إلى آخره، وكان ذلك على مدى هذه القرون المتطاولة، حيث لم يقم لهم ملك ولم ترفع لهم راية، وإنما كانوا يستذلون ويستضعفون ويقهرون حتى إلى عهد قريب جداً، ففي أوروبا كانوا لربما نودي عليهم في بعض البلدان أن يقتلوا جميعاً، واقرؤوا في التاريخ المعاصر ستجدون ذلك جلياً.
فالمقصود أن الشيء المؤقت الذي يحصل في سنوات أو سنيات لا ينبغي أن يكون خارجاً عن الحكم والوصف العام فهذه قضية مهمة.
المقصود أن من قاس هذه الأمور بعمر الإنسان فإنه قد يستشكل مثل هذه المعاني، ومن قاسها بعمر الأمم فإن ذلك يظهر له واضحاً، فإذا كان هؤلاء اليهود يستذلهم الرومان منذ عهد قسطنطين وقتلوهم في أنحاء المملكة القسطنطينية أو الرومانية وفعلوا بهم ما هو معروف في التاريخ واستمر ذلك ثم جاء المسلمون وفعلوا بهم ما هو معروف، فلو فرضنا أنهم قامت لهم دولة في القرن الخامس الهجري لمدة خمسين سنة أو سبعين سنة أو ثمانين سنة، ثم بعد ذلك انتهت وأحرقوا في داخلها، فإن هذا لا يخرجهم عن الحكم والوصف العام في خط التاريخ الطويل.
وهذا مثل ما قال النبي ﷺ: لا يأتي عليكم زمان إلا الذي بعده شر منه حتى تلقوا ربكم[1] فإذا وجدت حالة من الارتفاع خلال فترة قصيرة من فترات الانحدار فإن هذا لا يعد في القياس والحساب أنه ارتفاع وانقلاب للحكم وتغير فيه بل هو جزء من هذا الانحدار وإن وجد فيه هذا النتوء اليسير، وهكذا اليهود هم بهذه الطريقة، فلو حصلت لهم قوة في وقت من الأوقات فإن مثل هذا لا يكون ذلك رفعة في حقهم، ولا تغيراً في حكمهم، بل يبقى الحكم العام في حقهم فهو الغالب.
ولذلك لما ذكر للحسن البصري -رحمه الله- في قول النبي ﷺ: لا يأتي على الناس زمان قالوا: فما القول في زمان عمر بن عبد العزيز الذي هو أفضل من زمن الحجاج مع أنه بعده، فقال: لا بد للناس من تنفيس.
فإذا نظرت إلى حال الأمة من عهد الصحابة إلى يومك هذا وجدت أن القضية في نزول، لذلك فوجود عهد مثل عهد عمر بن عبد العزيز في فترة من الفترات لا يغير الحكم العام، والله أعلم.
تقول: باءَ أصله من المباءة، والمباءة هي المكان الذي يرجع إليه الناس بعد تفرقهم وانتشارهم، ومعنى بَآؤُوْاْ بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ أي: رجعوا فيه.
ولا يقال: باء إلا موصولاً إما بخير وإما بشر، يقال منه: باء فلان بذنبه يبوء به بوءاً وبواء، ومنه قوله تعالى: إِنِّي أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ [سورة المائدة:29] يعني تنصرف متحملهما وترجع بهما قد صارا عليك دوني، فمعنى الكلام إذاً رجعوا منصرفين متحملين غضب الله قد صار عليهم من الله غضب ووجب عليهم من الله سخط.
وقوله تعالى: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ [سورة البقرة:61] يقول تعالى: هذا الذي جازيناهم من الذلة والمسكنة وإحلال الغضب بهم من الذلة بسبب استكبارهم عن اتباع الحق وكفرهم بآيات الله وإهانتهم حملة الشرع، وهم الأنبياء وأتباعهم، فانتقصوهم إلى أن أفضى بهم الحال إلى أن قتلوهم، فلا كفر أعظم من هذا، إنهم كفروا بآيات الله وقتلوا أنبياء الله بغير الحق.
وهذا كما يصلح أن يكون مثالاً لما سبق مما ذكرته وهو أن الحكم الخاص قد يعقب بما هو أعم منه، ليدلل بذلك على أن كل من عمل بهذا العمل فإنه قد يناله مثل هذا العقاب، فهم لماذا ضربت عليهم الذلة والمسكنة؟ لكفرهم بآيات الله، وقتلهم الأنبياء، فذلك لا يختص بهم بل إن من فعل فعلهم فإنه يستحق مثل هذه العقوبة، وهذا كثير في القرآن، وتارة يذكر هذا بإبراز العمل الذي حصل فيه دون التعقيب عليه بمثل هذا.
وقوله -تبارك وتعالى- هنا: وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ [سورة البقرة:61] هنا سؤال يرد وهو هل يعتبر مفهوم المخالفة هنا بحيث إن قتل النبيين يمكن أن يكون بحق؟
لا يمكن أن يكون كذلك؛ وإنما قيده هنا هذا التقييد ليسجل عليهم عظم جرمهم، وعلى كل حال هذا أسلوب عربي معروف، فيكون قوله: بِغَيْرِ الْحَقِّ من قبيل الوصف الكاشف للحقيقة الواقعة دون أن يكون مقيداً؛ لأن هذا القيد لا مكان له؛ إذ إن قتل النبيين لا يمكن أن يكون بحق إطلاقاً كما قال الله : وَمَن يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ [سورة المؤمنون:117] هل يمكن أن يدعو الإنسان إلهاً آخر له به برهان؟
لا يمكن ذلك، وإنما تكون هذه من قبيل الصفة الكاشفة لبيان الحقيقة الواقعة، دون أن يكون ذلك قيداً، وإنما يكون هذا الأسلوب قيداً فيما لو كان النوع الآخر أو المثال الآخر أو الصورة الأخرى يمكن أن تقع، مثل لو قلت: الذي يقتل الناس بغير الحق فإنه متوعد بكذا وكذا، طبعاً الصورة الأخرى هي أنه يمكن أن يكون قتل الناس بحق، أما هنا لا يمكن أن يقع قتل الأنبياء بحق أبداً، فيكون ذلك من قبيل التسجيل عليهم شناعة جرمهم، كأنه ينادي عليهم بذلك ويكون ذلك من باب التأكيد، ومثل هذا قوله -تبارك وتعالى: وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم [سورة الأنعام: 38] والطائر إنما يطير بجناحيه.
وقوله: يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ [سورة البقرة:79] والكتابة إنما تكون بالأيدي، لا بالأرجل.
وقوله أيضاً: يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم [سورة آل عمران:167] والإنسان إنما يتكلم بفمه.
وهذا كما تقول: مشيت إليه برجلك؟ كل هذا من باب التأكيد، والله تعالى أعلم.
ولهذا جاء في الحديث المتفق على صحته أن رسول الله ﷺ قال: الكبر بطر الحق وغمط الناس[2].
وقد روى الإمام أحمد عن عبد الله يعني ابن مسعود أن رسول الله ﷺ قال: أشد الناس عذاباً يوم القيامة رجل قتله نبي أو قتل نبياً، وإمام ضلالة، وممثل من الممثلين[3]
الممثلون يقصد بهم أصحاب التصاوير..
وقوله تعالى:ذَلِكَ بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ [سورة البقرة:61] وهذه علة أخرى في مجازاتهم بما جوزوا به أنهم كانوا يعصون ويعتدون، فالعصيان فعل المناهي، والاعتداء المجاوزة في حد المأذون فيه والمأمور به، والله أعلم.
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ [سورة البقرة:62].
لما بيَّن تعالى حال من خالف أوامره وارتكب زواجره وتعدى في فعل ما لا إذن فيه وانتهك المحارم وما أحل بهم من النكال، نبه تعالى على أن من أحسن من الأمم السالفة وأطاع فإن له جزاءً الحسنى، وكذلك الأمر إلى قيام الساعة، كل من اتبع الرسول النبي الأمي فله السعادة الأبدية، ولا خوف عليهم فيما يستقبلونه ولا هم يحزنون على ما يتركونه ويخلفونه كما قال تعالى: أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ [سورة يونس:62]، وكما تقول الملائكة للمؤمنين عند الاحتضار في قوله: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ [سورة فصلت:30].
قوله: أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا هذا باعتبار أن الخوف والغم من أمر مستقبل متوقع، والحزن هو الغم من أمر فائت، فنفى عنهم هذا وهذا.
وهذه الآية: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ [سورة البقرة:62] هي قطعاً في الأمم التي كانت قبل مبعث النبي ﷺ، نعم فإن الله قد أرسل الرسل وأنزل الكتب فمن تبع الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- وقبل دعوتهم واستجاب له فإن الله وعده بالرحمة والجنة، وأما بعد مبعث النبي ﷺ فإنه لا يقبل من أحد سوى الإسلام، وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ [سورة آل عمران:85] والنبي ﷺ قال: والذي نفسي محمد بيده، لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار[4].
وكذلك أيضاً النصوص الكثيرة الواردة في مثل هذا المعنى، وبالتالي فإنه لا يجوز لأحد أن يفتري على الله ويقول بأن هؤلاء اليهود أو النصارى أو أمم الكفر من البوذيين وغيرهم أنهم على شيء، وأنهم تحصل لهم النجاة أو أنهم أهل إيمان، أو أنه يتوقف في أمرهم أو نحو ذلك فهذا محادة لله وتكذيب للنبي ﷺ وللقرآن، وهو كفر مخرج من الملة؛ إذ لا يجوز لأحد أن يتوقف في أمر هؤلاء، فالنصوص واضحة ومتضافرة على أنهم كفار، وأنهم مخلدون في النار، النصوص في ذلك كثيرة جداً.
وهذه الآية تحمل على من حصل لهم الإيمان في الوقت الذي جاءهم فيه الرسل -عليهم الصلاة والسلام- يعني إبان بعثة الرسل -عليهم الصلاة والسلام- لهم، ففي زمن موسى ﷺ مثلاً من آمن به دخل الجنة، ومن كذبه وكفر به دخل النار، وكذلك لما جاء عيسى -عليه الصلاة والسلام- لبني إسرائيل فالذين آمنوا به واتبعوه هم أهل النجاة، والذين كذبوا به لا ينفعهم البقاء على ما كانوا عليه قبل بعث عيسى ﷺ، ولما بعث النبي ﷺ فإنه لا يقبل من أحد سوى دين الإسلام، والقرآن واضح وصريح في هذا.
هذه الآية نظير الآية التي في سورة المائدة إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالصَّابِؤُونَ وَالنَّصَارَى [سورة المائدة:69] إي نعم، وقد جاء في سورة الحج ذكر المجوس، ولكنه في ذلك المقام ذكر الفصل بينهم والحكم، وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا [سورة الحـج:17].
فالحاصل أن تلك الآية ليست في هذا الموضوع الذي تحدثت عنه آية البقرة وآية المائدة، بل تلك في الفصل بين الأمم، أي بين الطوائف، وهذا في وعد المستجيبين لله بالجنة والرحمة.
يقول: واليهود من الهوادة وهي المودة، بمعنى أنه يود بعضهم بعضاً، فهذه المودة موجودة بينهم والله قد فرض ذلك عليهم كما هي الموالاة بين أهل الإيمان، وقد حرم الله على اليهودي أن يقتل اليهودي أو أن يأسره، كما دل على ذلك قوله -تبارك وتعالى: ثُمَّ أَنتُمْ هَؤُلاء تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِّنكُم مِّن دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِم بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِن يَأتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ [سورة البقرة:85] أي أنه يحرم على اليهودي أن يخرج اليهودي من بلده أو أن يقتله أو يعين على قتله، فالله فرض عليهم هذا وألزمهم بهذه المودة.
فبعضهم يقول: الهوادة هي من المودة، وبعضهم يقول: هي من النسب، نسبة إلى جد لهم وهو ابن يعقوب -عليه الصلاة والسلام- فأحد أولاد يعقوب اسمه يهوذا، والعرب أبدلت الذال دالاً كما يجري ذلك في لغاتها من إبدال الحرف مكان الحرف لا سيما الأعجمي، فإن القاعدة في ذلك كما قيل: أعجمي فالعب به، فالعرب لا تبالي حينما تنقل وتغير وتبدل الأسماء الأعجمية أو الأوصاف أو غير ذلك مما هو في كلام الأعاجم بما يتناسب مع ألسنتها وفطرتها اللغوية دون أن تلوي اللسان بمثل هذه الكلمات كما يلوي الأعجمي لسانه، وكما يفعل بعض الناس اليوم ويظن أن ذلك لوناً من المهارة، والحذق، وما علم أن ذلك من ألوان القططية -إن صح التعبير.
المقصود أن قوله: إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ [سورة الأعراف:156] يمكن أن يحمل على معنى ثالث مشهور ولربما كان هو المتبادر، ولربما كان هو أشهر هذه الأقوال، أنه من هاد يهود، أي رجع، هُدْنَا إِلَيْكَ بمعنى تبنا إليك، ورجعنا إليك، إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْأي رجعوا إلى الله وتابوا إليه، أي: قيل لهم يهود بهذا الاعتبار، وهذا مثل قولك: يا صاحب الذنب هد هد، يعني ارجع ارجع، والله أعلم.
قوله: وقيل: لنسبتهم إلى يهودا أكبر أولاد يعقوب: مع أن من ناحية النسب ليس كل اليهود ينتسبون إلى يهوذا وإنما أحد الأسباط هو الذين ينتسبون إليه فقط.
هذا معنى رابع وهو بمعنى يتحركون ويهتزون عند قراءة التوراة، وهذا التحرك والاهتزاز يفعله بعض الناس عند قراءة القرآن، لذلك يقول بعضهم: هذه عادة يهودية، لا يجوز للمسلم أن يفعلها؛ لأنها من قبيل التشبه باليهود عند قراءة التوراة، وجاء في هذا بعض الإسرائيليات وبعض الأخبار، وبعض الآثار أيضاً، فالله تعالى أعلم.
إما أنهم نزلوا أرضاً يقال لها: ناصرة، أو أن هذه البلدة التي يقال لها: الناصرة في الشام هي قرية المسيح -عليه الصلاة والسلام، فنسبوا إليها، وكل ذلك لا يوجد ما يدل عليه، لا في تسمية اليهود، ولا في تسمية النصارى، لكن لربما كان المتبادر أن النصارى قيل لهم ذلك؛ لأن الحواريون منهم قالوا: نحن أنصار الله، والله تعالى أعلم.
أي يقال: نصارى، ويقال: نصراني، فالياء تكون للنسبة وقد تأتي للمبالغة، وإلا فهو نصران، والنصارى جمع نصران، ومثله: نشوان وسكران، فتقول: نصارى ونشاوى وسكارى، وما أشبه ذلك
كل ما سبق ذكره يريد أن يصل به إلى هذه النتيجة، وهي أن هؤلاء الذين وعدهم الله بنفي الحزن والخوف عنهم أن هذا إنما كان لمن استجاب للأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- حينما دعوهم إلى دين الله، فلما جاء النبي ﷺ لا يقبل من أحد سوى الإسلام، وقد قال -عليه الصلاة والسلام: والذي نفسي بيده لو أن موسى ﷺ كان حياً ما وسعه إلا أن يتبعني[5] فلا يقبل من أحد ديناً سوى الإسلام.
وهذه القضية نحتاج إلى تقريرها وتوضيحها للناس الآن مع أنها من البدهيات، فنحن في زمان تعقد فيه المؤتمرات للتقريب بين الأديان مما يدل على أن القضية أخطر مما يتصوره الكثيرون.
وهناك جهود أيضاً تبذل في هذا السبيل قد أعد لها من المنشئات والخطط ما الله به عليم، وإذا نظرت إلى التوصيات أو الخطط التي كتبت في هذا تجد أشياء عجيبة جداً، حيث تجد من أول من دعا إليها، ومتى دعي إليها، من الذي قام بهذه الدعوة، وماذا يريدون من ورائها، وأمور كثيرة ينبغي أن يعرف الناس بها في مثل هذه الأيام؛ لأن الدعوة تزداد، مع ما يحصل وما ترون تحت مسمى التقريب بين الأديان لتذويب المسلمين، وصدهم عن دينهم تحت هذه الخدعة الكبيرة.
ومن أكبر الدعاة لهذا الآن في هذا العصر (رجاء جارودي) الفيلسوف الفرنسي المعروف الذي قالوا عنه: إنه دخل في الإسلام، والواقع أنه لم يدخل في الإسلام وإنما دخل في لون من الزندقة، فهو زنديق على طريقة الفلاسفة وعنده من قضايا عقائد أهل وحدة الوجود، وأمور مخزية كثيرة، نعم فمثل هذا لا يفرح به، ولا يفتخر به، ولا يذكر في مقام، فهو له منظمة تتبنى هذه القضية، وعقد عدداً من المؤتمرات وشارك في كثير منها، وهو من أكبر الدعاة لهذا في هذا العصر.
إننا بحاجة إلى أن نطالبهم بما كتبه بابا الفاتيكان في فترة مضت -ليست بعيدة- حينما أقروا أن ما يقال عن المسيح إنما يعرف بما يقوله المسلمون، حيث أصدروا بياناً في هذا تبنى أن قضية المسيح إنما يسأل عنها المسلمون، وذلك بعد أن وجدوا بعض الأشياء في البحر الميت، حيث وجد بعض الرعاة قطعاً من التوراة أو الكتب القديمة، فلما قرئت وجد فيها التصريح ببعث النبي ﷺ وذكر فيها ما يحصل من تبديل اليهود وأن المسيح -عليه الصلاة والسلام- سيأتي ويغلون فيه النصارى ويجاوزون الحد فيه، ثم يأتي النبي الذي يصحح لهم هذا المسار وينفي هذا الغلو، ويدعوهم إلى الإسلام وما أشبه ذلك..الخ.
لما وجدوا هذا الكلام دعا بابا الفاتيكان إلى الاجتماع بالمسلمين، وبعد أن وجه هذه الدعوة وجد مقتولاً، ثم جاء الذي بعده فجمع النصارى ولم يجمع إليهم المسلمين ثم تشاوروا وتحدثوا عن مثل هذه الموجودات، وما يقال عن المسيح.
الحاصل أنهم أقروا وأصدروا وثيقة بهذا المعنى وأرسلوا صورة منها إلى الأزهر، وصورة منها إلى رابطة العالم الإسلامي، وفيها إدانة كبيرة لليهود والنصارى في العالم، وكان من ضمن التوصيات والقرارات التي ذكروها وصرحوا بها إيقاف التنصير في العالم الإسلامي، باعتبار أن دين الإسلام دين حق وصحيح، وأن حقيقة المسيح إنما تعرف بما يقوله المسلمون.
هذا الذي نحتاج أن نظهره وأن تكتب عنه الصحف وتأتي التعليقات عليه من قبل أهل الفكر، فهذه القضية هي قضية العصر فهي قضية كبيرة، ولكن للأسف الشديد أن الواقع الذي يعلن عنه ويدعى إليه خلاف ذلك، فالدعوة المعاصرة هي دعوة إلى التقريب بين الأديان فهذا الأمر وللأسف هو الذي يسمع عنه الناس اليوم.
والأعجب من ذلك أنك تجد بعضهم يتفلسف فيقول: ذهبنا لدعوتهم! مع أنه يعلم بل هو أول من يعلم أن المقام ليس مقام دعوة، وإنما المقام أن تجلس معهم، وفي أحسن أحوالك أن تجلس جلوس الند على طاولة مستديرة ليس فيها أحد في مجلس الرئيس أو في آخر الطاولة، فهي مستديرة يستوي فيها جميع الأطراف فيحصل التحاور في التقارب بين هذه الأديان والتعايش!.
وقد بنيت بعض المجمَّعات في بعض البلاد الشرقية وفي أوروبا حتى أدخلوا فيها بعد ذلك البوذية وما اقتصرت على اليهودية والنصرانية، فتجد معبداً يهودياً أو كنيسة أو مسجداً وترى فيه بعض الصور والرسومات بحيث تشير إلى وحدة الأديان، بل صارت تقام أحياناً مشاركة في صلوات في مناسبة من المناسبات وغير ذلك، وهذا كله داخل في هذا المعنى، فالمقصود أن مثل هذه الآية إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ قد يلبس فيها بعض الناس ويقولون: إن القرآن دل على هذا، والله المستعان.
ومن الآيات التي يخطئ بعض الناس في فهمها أو يلبس فيها أهل التلبيس قوله -تبارك وتعالى: لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ قَالُوَاْ إِنَّا نَصَارَى [سورة المائدة:82]، فهم يقرؤونها دون أن يكملونها ليلبسون فيها على الناس، وإنما الآية تعرف بما بعدها ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ وَمَا لَنَا لاَ نُؤْمِنُ بِاللّهِ وَمَا جَاءنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَن يُدْخِلَنَا رَبَّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ [سورة المائدة:82-84]، فهل هؤلاء يقولون مثل هذا الكلام؟
هذه نزلت في مثل النجاشي وعبد الله بن سلام ، نعم ولم تنزل في هؤلاء الذين يحاربون في الإسلام صباح مساء، فهؤلاء يلبسون بمثل هذه الآيات على الناس، وإلا فإن النصارى هؤلاء ليسوا أقرب مودة إلينا من اليهود بل هم مثل اليهود، وأشد من اليهود، ولا فرق بينهم وبين اليهود، وهم من المغضوب عليهم؛ فإن من عرف الحق وتركه، فإنه يكون من أهل الغضب، فهؤلاء جمعوا بين الغضب والضلال.
تأمل في قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى [سورة البقرة:62]، فمع أن الذين هادوا والنصارى حينما بعث إليهم موسى ﷺ آمن منهم من آمن، ومع ذلك خص الذين اتبعوا محمداً ﷺ بالإيمان والسبب في ذلك أنهم تميزوا بكمال إيمانهم سواءً من جهة الثبوت أو من جهة متعلقه بكثرة شرائع الإسلام، فالشريعة الإسلامية أوسع من غيرها، فيكون ذلك أكمل في الإيمان؛ لأن الإيمان قول وعمل، فالتميز بصفة من الصفات يكون سبباً للتسمية أحياناً،
ولهذا لما ذكر الله المؤمنين فقال الله : كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ [سورة آل عمران:110] قدم الأمر بالمعروف وأخر الإيمان، ولما ذكر أهل الكتاب قال: مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللّهِ آنَاء اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ [سورة آل عمران:113-114] فأخر الأمر بالمعروف وقدم الإيمان في حقهم، فيمكن أن يقال في هذا والله أعلم: إنه لما كانت هذه الأمة متميزة بهذا الأمر -الذي هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر- وإن كان موجوداً عند من قبلهم لكنه عند هذه الأمة أظهر قدم، وأخر في حق غيرهم، لربما يكون السبب هو ذلك والعلم عند الله .
وأما الصابئون فقد اختلف فيهم، فقال سفيان الثوري: عن ليث بن أبي سليم عن مجاهد قال: الصابئون قوم بين المجوس واليهود والنصارى، وليس لهم دين، وكذا رواه ابن أبي نجيح عنه وروي عن عطاء وسعيد بن جبير نحو ذلك.
قوله: قوم بين المجوس واليهود والنصارى يعني ليسو من المجوس ولا من اليهود ولا من النصارى، فليس دينهم مشترك، يعني ليسوا على دين المجوس ولا على دين النصارى ولا على دين اليهود.
وأصل الصابئ يقال لمن خرج من دين إلى دين، فمن خرج أو مال من دين يقال له: صابئ، والنبي ﷺ قالوا عنه صابئ، ويقولون عن من أسلم إنه صبأ فهو صابئ، بمعنى خرج عن دينه.
وبعضهم يقول: إنهم كانوا يقولون ذلك نسبة ينسبونهم فيها إلى الصابئة؛ لأنهم كانوا على غير دين من الأديان التي كانت موجودة آنذاك، أي: ليسوا على الإشراك، ولا على اليهودية، ولا على النصرانية، وإنما هم قوم على الفطرة.
والأقوال في معنى الصابئة كثيرة، والناس مختلفون في هذا، ولربما كان ذلك -والله تعالى أعلم- بسبب تعدد من يطلق عليهم بأنهم صابئة، فالصابئة تطلق على طائفة من طوائف النصارى، وتطلق على قوم من عبدة الكواكب حتى قيل: هم الذين مر بهم إبراهيم ﷺ وناظرهم المناظرة المعروفة في سورة الأنعام فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا.. الآيات [سورة الأنعام: 76]، وتطلق أيضاً الصابئة على قوم هم على الفطرة، ليسوا على شيء من الأديان التي كانت موجودة من اليهودية أو النصرانية أو الإشراك، وإنما بقوا على الفطرة فهذه الإطلاقات موجودة ومعروفة.
إذا أردنا هنا أن نفسر الصابئة فلا يصح أن تفسرها بعبدة الكواكب،ً وهم لا زالوا يوجدون في العراق إلى اليوم، وتسمى طائفة الصابئة، وهذا موجود في بعض الإحصاءات عن الديانات الموجودة في العراق، حيث يذكرون نسبة قليلة جداً، وعلى كل حال فهؤلاء لا يمكن أن تحمل عليهم الآية.
وما بقي إلا أن تحمل الآية على هذه الطائفة من النصارى، أو من أهل الكتاب عموماً حيث يقولون: هم يقرؤون الزبور فإن كانوا على التوحيد يمكن أن يفسر به، أو يقال -وهو الأشهر والأقرب والله تعالى أعلم- أنهم قوم على الفطرة ليسوا على دين من الأديان الموجودة -في ذلك الوقت وأما الآن فلا يقبل من أحد سوى الإسلام- فهؤلاء الذين كانوا على الفطرة ولم يقعوا في شيء من الإشراك وإنما يعبدون الله بحسب ما يتوصلون إليه، فمثل هؤلاء وعدهم الله بالمغفرة أو بنفي الخوف والحزن عنهم، بمعنى أنهم يدخلون الجنة وينجون من النار.
على كل حال كتبت كتابات خاصة في الصابئة، وكذلك في الكلام على الملل والنحل، ولما تقرأ ما كتبه الشهرستاني تجده تكلم كثيراً عن الصابئة وما يراد بهم، وغيرها من الطوائف، حيث تكلم بكلام طويل مفصل عن الصابئة.
وتوجد أيضاً رسائل خاصة للصابئة مطبوعة، وتوجد كتابات هنا وهناك تختص بهم ونشرت في بعض المجلات، كما كتب بعض الكتاب المصريين من طبقة أحمد تيمور باشا -رحمه الله- وأمثاله، حيث كتب رسالة صغيرة في الصابئة طبعت قديماً، والله أعلم.
قوله: الذين لم تبلغهم دعوة نبي: يمكن أن يقال: هؤلاء أهل الفترة، والله تعالى أعلم.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، والحمد لله رب العالمين.
- أخرجه البخاري في كتاب: الفتن - باب: لا يأتي زمان إلا الذي بعده شر منه (6657) (ج 6 / ص 2591).
- أخرجه مسلم في كتاب: الإيمان - باب: تحريم الكبر وبيانه (91) (ج 1 / ص 93).
- أخرجه أحمد (ج 1/ ص 407) والطبراني في الكبير (ج 10 / ص 211) وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (281).
- أخرجه مسلم في كتاب: الإيمان - باب: وجوب الإيمان برسالة نبينا محمد ﷺ إلى جميع الناس ونسخ الملل بملة (153) (ج 1 / ص 134).
- أخرجه أحمد (ج 3 / ص 387) وابن أبي شيبة (ج 5 / ص 312) والبيهقي في لشعب الإيمان (ج 1 / ص 199) وحسنه الألباني في المشكاة (177).